الفصل الرابع عشر

القرارات العامَّة

حين ينظم الأشخاص أنفسهم (أو يجري تنظيمهم بواسطة الآخرين) في مجموعات، أو نوادٍ، أو لجان، أو أحزاب سياسية، أو دول — كبيرةً كانت أم صغيرةً — فلا بد من السؤال عن كيفية اتخاذ القرارات نيابةً عن المجموعة. ينبغي، من حيث المبدأ، أن يكون الهدف هو أن يخدم القرار مصالح المعنيين به، لكن هذا المبدأ يحظى بالتأييد اللفظي الكاذب أكثر ممَّا يحظى بالاهتمام الفعلي؛ فعادةً ما تكون ماهية تلك المصالح أبعد ما تكون عن الوضوح؛ فهي تعتمد على ظروف خارجية؛ سواء أكانت هذه الظروف قاسية أم جيدة، بمعزل عن الناس أم اجتماعية، تكتنفها الصداقات أم العداوات، متجانسة أم متغايرة … إلخ. وعلى الرغم ممَّا نتعلمه في المدارس عن تفوُّق «الطريقة الأمريكية»، لا يوجد شكل «أمثل» للحكومة يناسب كل الأزمنة والأماكن، ومن الغرور البحت أن نعتقد أن الآخرين سوف يكونون دومًا أفضل حالًا إذا فعلوا ما نفعله نحن. موضوع هذا الفصل هو أن بنية عملية اتخاذ القرارات العامة (الحكومة) يمكن أن تتخذ أشكالًا مختلفة، اعتمادًا على الدور الذي يُتوقَّع منها أن تحققه؛ وأن القرارات، كما هو الحال دائمًا، ستؤتي ثمارها في الأغلب إذا اتُّخذت «بعدَ» أن يُحدَّد الهدف منها، وليس قبل ذلك.

في أحيان كثيرة، لا يكون للمحكومين رأي في «الكيفية» التي يُحكَمون بها، وتكون سلطةُ اتخاذ القرار داخل أي مجموعةٍ مملوكةً لمجموعة ثانوية من الأفراد، أو حزب سياسي، أو جيش، دون أن يكمن سبب وراء ذلك سوى مجرد الرغبة في الاستئثار بالسلطة. (تلك الرغبة الضاربة بجذورها في الطبيعة البشرية لها تاريخ طويل، ولن تُمحَى بشكل سحري عن طريق الوعظ والنصح.) وبمجرد أن تصبح السلطة في اليد، فإنه يمكن تبرير هذا الاستيلاء بأثر رجعي؛ فعادةً ما يعيد المنتصرون كتابة التاريخ. لكن هذا ليس موضوعنا هنا؛ بل كل ما نريده هو السؤال عن كيفية ارتباط توزيع سلطة اتخاذ القرار (فَلْتُسمِّها الحكومةَ إن شئتَ) بمشكلات المجتمع، الواقعية والمتصوَّرة على حد سواء.

إنها لَحقيقة بديهية أن جميع المجتمعات القائمة كانت تتخذ من البقاء هدفًا جوهريًّا — وتلك المجتمعات التي لم تُولِ اهتمامًا كافيًا لتلك الحاجة الأساسية لم يَعُدْ لها وجود — لكن المجتمعات الحديثة والغنية لديها دوافع أكثر تعقيدًا تضاف إلى هذا الدافع، وغالبًا ما يُعميها ذلك عن رؤية مدى ضعفها. تختلف الهياكل التنظيمية داخل الشركات عنها في العائلات، وتختلف الهياكل التنظيمية للعائلات عن الدول، والقبائل عن الدول، واللجان عن المجالس النيابية. وفي معظم الحالات، يتطوَّر الترتيب على مر السنوات أو القرون مع تذبذب السلطة بين التزايد والانحسار، دون التفكير في أي فلسفة كامنة أو منطق معروف وراء هذا الترتيب؛ هناك بالطبع استثناءات لهذه المبالغة، كما هو الحال في كتابات أفلاطون، وأرسطو، وتوماس هوبز، وجان جاك روسو، وجون لوك، ومونتسكيو، وتوم بين، إلا أن هؤلاء ليسوا سوى ينابيع صغيرة مقارَنةً بنهر التاريخ الإنساني العاتي. حتى في وقتنا الحالي، حين شرعتُ في كتابة هذا الفصل، سألتُ عددًا من الأصدقاء — بعضُهم أساتذة بارزون في العلوم السياسية — إن كانت هناك أي كتب حديثة جيدة عن الحكم المُقارَن، تقارن (من حيث الجوهر لا الشعارات) بين الطرق المختلفة لتنظيم أي مجتمع؛ وتبيَّنَ لي أنَّ هناك القليل للغاية من هذه الكتب، هذا إنْ وُجِد، وذلك لأسباب يسهل تخمينها. (قال فريد بروكس، عالِم الكمبيوتر البارز، إن أي مجال يحتاج لإضافة كلمة «عِلْم» إلى اسمه لا يكون علمًا على الأرجح.) هناك مئات الكتب عن كيفية تحسين ممارسة الديمقراطية، وكتبٌ أكثر عن عيوبها، لكن تلك الكتب موجَّهة لمشكلات آنيَّة، لا لمبادئ عامة. وكما ذكرنا آنفًا، لا تظهر كلمة «الديمقراطية» في الدستور الأمريكي أو في إعلان الاستقلال الأمريكي.

إن الشكل التاريخي للحكم، الذي يعود إلى العصور القديمة، يتمثَّل في وجود قائد أو ملك أو زعيم يتم اختياره بموجب أيٍّ من المعايير العديدة (الحجم، القوة، السن، الشراسة، حق المولد، الفحولة الجنسية، رسالة من الآلهة، أو أيِّ شيء يتطلبه الأمر لتبرير السلطة على الآخرين)، ويُمنَح مستوًى من السلطة (أو يستحوذ عليه) لاتخاذ القرارات نيابةً عن المجموعة. هذا النموذج واسع الانتشار — ولكنه ليس عامًّا — في مملكة الحيوانات الاجتماعية؛ فتميل جماعات من الكلاب لاتِّباع هذا النموذج، ولكن ليس القطط. وقد رأى هذا الكاتب ذات مرة قطيعًا من الظباء الأفريقية في أفريقيا، يتألف من ذكر واحد مسيطر يقود مجموعته المكونة من بضعة عشرات من الإناث، بينما يطوِّق المجموعةَ قطيعٌ من الذكور المستعبدين المجردين من الحقوق، ربما في انتظار أن يصيبه التعب. لا بد أن أحدهم يعلم لماذا طوَّرت الظباء الأفريقية هذا النمط للبقاء، ولكن السبب ليس واضحًا بداهةً. ولا يختلف البشر عن الحيوانات الأخرى مثلما نأمل في بعض الأحيان؛ ذات مرة، في رحلة إلى فرنسا، كان أحد المرشدين يقود مجموعة أمريكية في جولة حول متحف يحوي تذكارات ومقتنيات شارلمان، وتساءَلَ أحد أفراد المجموعة ببراءة عن عدد أبناء شارلمان. كانت الإجابة أن عددهم غير معروف أو غير قابل للمعرفة؛ إذ إنه أعطى لنفسه حقَّ مضاجعة زوجات النبلاء والأمراء في الليلة الأولى للزواج. وسواء أكان هذا حقيقيًّا أم لا، فقد استدعت القصة للأذهان الظباء الأفريقية.

غالبًا ما تضع صورةُ الحكم القائمة على نموذج القيادة التقليدية بعضَ القيود على القائد؛ فالقادة يميلون للتقلُّب، ولا بد أن يظل تركيزهم منصبًّا على القتال من أجل بقاء المجموعة ضد كلٍّ من الأعداء الطبيعيين وغير الطبيعيين. وحقائق التطور، على أيِّ حال، تستحيل مقاومتها من جانب المجتمعات مثلما تستحيل مقاومتها من جانب الأفراد. إن البقاء للأصلح تعريف وليس نظرية. حتى في أمريكا ما بعد الثورة، بكل هواجسها بشأن الاستبداد والطغيان، وَجد الآباء المؤسسون أن من الملائم أن يجعلوا الرئيس قائدًا عامًّا للقوات المسلحة (إنه تقليد قديم أن يُمنَح الملك دورَيِ القائد العسكري والسياسي). فثمة مجال محدود للاسترسال في المناقشات إذا كان هناك ما يهدِّد وجود الدولة، ووجودُ قيادة في أزمة — مهما كانت خرقاء (في حدود المعقول) — خير من عدم وجود قيادة من الأساس. وقد كانت بلادنا، من واقع الحقائق التاريخية، المفترِسَ أكثر منها الضحية في هذه القارة؛ لذا لم نُرغَم على التفكير بشأن البقاء منذ حرب عام ١٨١٢؛ وقد كانت الحرب الأهلية بسبب التحزُّب، لا بسبب البقاء. ولما لم يكن أيٌّ من الحروب التي اندلعت منذ عام ١٨١٢ قد شكَّل تهديدًا فعليًّا لبقائنا، فقد أصبحنا في حالة من اللامبالاة والتقاعس، ويومًا ما سندفع الثمن؛ فليس لدينا ترتيب قيادي يستحق الذكر من أجل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تضلِّلنا وتربكنا الآن؛ ومن ثَمَّ فهي مستمرة في التفاقم، محبطةٌ مَن هم داخل الحكومة وخارجها على حد سواء. وعلى مستوًى عالمي، لا يوجد تهديد للبقاء الإنساني أكبر من ذلك الذي تشكِّله الزيادة السكانية العالمية — وإن كان ذلك قد يبدو متناقضًا — ومن الواضح تمامًا أن عملية اتخاذ قرارٍ جماعي غيرُ ذات فاعلية في التعامل مع ذلك، غير أن وجود «حل» من نوعٍ ما هو أمر لا مناص منه، ومن المؤكد أنه سيكون صعبًا؛ والقول بعدم وجود قيادة عالمية واضحة في هذه المسألة البارزة هو استهانة بالقضية. والمتفائلون بشأن المشكلة السكانية لا يقيسون التقدم من واقع حدوث انخفاض في عدد السكان، أو حتى انخفاض في معدل الزيادة، ولكن من واقع حدوث انخفاض في معدل زيادة معدل الزيادة.

حين يتطور مجتمعٌ ما لدرجةٍ تمكِّنه من التسامي على الصراع البسيط من أجل البقاء (أو يعتقد أنه قد تجاوزه)، تكتسب قِيَمٌ أخرى تساهم في اتخاذ القرار مزيدًا من الأهمية. لقد جلب القرن الثامن عشر لأوروبا الغربية وللولايات المتحدة فكرةَ الحقوق الفردية كمبدأ استرشادي للحكومة، وإن كانت كلمة «حقوق» كلمة مطاطة في الواقع. وتحوي أعمالُ بعضٍ من الفلاسفة المذكورين أعلاه الرؤيةَ الأساسية (وغير القابلة للتحدِّي في رأي هذا الكاتب)، القائلة بأن جوهر الحكومة الشرعية هو عبارة عن مقايضة يمارسها الأفراد، نتنازل فيها عن جزءٍ ما من سيادتنا الفردية في مقابل منافع الحصول على استجابة منسَّقة للمشكلات التي تواجه مجتمعًا بأكمله (ويُسمَّى هذا برؤية العقد الاجتماعي للحكومة، وهو يشمل التخلِّي عن «حقك» في سلب حظيرة جارك كلما كان ذلك ملائمًا). وكان السيد الإقطاعي يفرض ضرائب ويجبر الناس على الخدمة في مقابل تقديم حماية مشتركة ضد الضواري (تذكَّرْ هذا حين نصل إلى قانون لانكستر بعد فصلين من الآن). ويذكر دستورنا بين أهدافه الأساسية ضمان الاستقرار الداخلي وتوفير سبل الدفاع المشترك؛ وهذا هو ما دفع الولايات للتخلي عن بعض سيادتها؛ فكانت قد أنهَتْ للتوِّ القتالَ مع البريطانيين، وكان واضحًا أنه ما من ولاية بإمكانها الوقوف بمفردها.

ولكن من أين جاءت حقوقنا الفردية التي نعتزُّ بها إذن؟ ينص إعلان الاستقلال على أن حقوقنا الفردية تشمل حق «الحياة، والحرية، والسعي وراء السعادة»، ويقول إنها حقوق لا يجوز التنازل عنها، ويؤكد أنها قد جاءت من الخالق (وهو ما يخالف مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة). ويُدرِج الإعلانُ الفرنسي المزامن لحقوق الإنسان «الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة القمع» بوصفها حقوقًا مخولة له. (صيغَ التعديلُ الثاني لدستورنا مع الوضع في الاعتبار المقاومةَ الشعبية للقمع، وإن كان هدفه الأساسي قد ضاع، على ما يبدو، وسط الجدل الحالي الدائر حول الحد من السلاح، والملاحقة، والجريمة.) ولم يُعطِ الفرنسيون أي عذر لتبرير قائمتهم الخاصة؛ فهو إعلان واضح، وكانوا فيما يبدو مترددين في الاعتماد على الخالق. ولعل جميع الفلاسفة الأوائل، وفي القلب منهم الفلاسفة الأمريكيون والفرنسيون، قد أَدرجوا ضمن حقوقنا الأساسية الحقَّ في التمرد ضد أي حكومة تُصنَّف كحكومة قمعية؛ وتلك هي الفكرة المحورية لإعلان الاستقلال. غير أنه في جميع الحكومات القائمة على تلك المبادئ، بما فيها حكومتنا، لا يُعَدُّ القيام بذلك قانونيًّا؛ ما يُعَدُّ نهايةً لهذا الحق؛ فما من حكومة قائمة بالفعل تود أن يُطاح بها. ويعتبر تعريف كلمة «حقوق» جزءًا قابلًا للتفاوض من العقد الاجتماعي؛ فلم يكن ميثاق الحقوق الخاص بنا جزءًا من الدستور الأصلي، ولم يُضَفْ إلا بعد التصديق على الدستور وسريانه. (تمَّ التصويت في الجمعية الدستورية على اقتراحٍ بوضع مثل هذه الأمور في النسخة الأصلية من الدستور لكن تمَّ رفضه.)

انتَزَعَ الباروناتُ الإنجليز وثيقةَ ماجنا كارتا، التي سبقت كل هذه الوثائق بأكثر من خمسمائة عام (١٢١٥م) من الملك جون، ووَرَدَ فيها: «بفضل الله، ملك إنجلترا، ولورد أيرلندا، ودوق نورماندي …» (على ما يبدو أن مصدر قوته لم يستطع حمايتَه من باروناته، أو لم يكن يكترث له وهو الاحتمال الأرجح). اشتملت ماجنا كارتا على قائمة شاملة تضم ستة وثلاثين حقًّا طالَبَ بها البارونات، من ضمنها حق الأرملة في العيش بمنزل زوجها لمدة أربعين يومًا بعد وفاته؛ وتوفِّر أيضًا ضمانات للأفراد، من بينها «عدم جواز اعتقال أو سَجْن شخص بناء على تظلُّمِ امرأةٍ لموت أي شخص عدا زوجها.» وكنقطة حاسمة نصَّتِ الوثيقة على أن «تظل المقاطعات وتقسيماتها … على نفس قيمتها الإيجارية دون زيادة …» إن وثيقة الماجنا كارتا تستحق القراءة؛ لأنها ببساطةٍ غنيةٌ بالتفاصيل وتقدِّم نظرة صحية على مدى التغير البالغ الذي يَلحق برؤيتنا للحقوق المخولة لنا باختلاف الزمان والمكان. وبالعودة للماضي إلى العصور الإنجيلية الأولى، نجد أن الوصية القائلة «لا تقتل» كانت تنطبق على أصدقائك وجيرانك؛ لكنها لم تكن موضع تطبيق عند التعامل مع العداوات القبلية، لا سيما حين كانت للقبائل الأخرى نزعات دينية مختلفة.

في ظل كل هذا التاريخ، المصمَّم لتعزيز التواضع لدى القارئ، كيف تعمل الحكومات كصناع قرار؟ ضَعْ في ذهنك — على امتداد هذا النقاش — نظرية آرو الواردة بالفصل الثاني عشر ومفادها: ما من طريقة لمشاركة المسئولية عن القرارات دون حدوث لبس وغموض. هذا منطق خالص، وليس تعقيبًا اجتماعيًّا على الأحداث.

السلطة

هذه النقطة سهلة؛ لأنها تمثِّل الاستثناءَ لنظرية آرو؛ فلا وجود لأي غموض إذا كان ثمة شخص واحد يتخذ القرارات للجميع. وبالنسبة إلى مَن يعيشون في عالم محفوف بالمخاطر، فإن لها الكثير من المميزات. بالطبع تكمن المشكلة في أن القِيَم التي تؤثِّر على قرارات رمز السلطة قد لا تكون نفس قِيَم بقية المجتمع، والتاريخ يعجُّ بأمثلة لحروب مدمِّرة تمَّ خوضها من أجل كرامة أحد الملوك، مثلما يزخر بقادة حرب احتفظوا بسيطرتهم لفترة طويلة بعد انقضاء الأزمة. إن مَن يتذوقون السلطة سرعان ما يكتسبون حبها، وغالبًا ما لا يتنازلون عنها بطيب نفس؛ ومن ثم تعكس قراراتهم هذا التعديل في القيم، لتفقد بذلك صلتها بمصالح المجموعة. (لاحظ الصراع الحالي الدائر في الكونجرس حول حدود مدة بقاء المسئول الحكومي في المناصب التي تُشغَل بالانتخاب؛ فمسألة إعادة الانتخاب تقفز سريعًا لمقدمةِ قائمة أولويات أي شخص سبق انتخابه لمنصبٍ من قبلُ.)

في وجود سلطة واحدة، يُحسَم الكثيرُ من المشكلات النظرية للحكومة تلقائيًّا؛ ولسوء الحظ — مثلما اتَّضَح لِأرسطو قبل أكثر من ألفَيْ عام — فالطريق من السلطة المعتدلة إلى الاستبداد قصير، ومستقيم، ومطروق من كل خفٍّ وحافر، غير أن هناك ظروفًا يكون فيها الاستبدادُ السبيلَ الأمثل للبقاء لمجتمعٍ ما، ولا يمكن أن يكون انتشاره الواسع في المجتمع الإنساني لزمن طويل من قبيل المصادفة. أما الديمقراطية بوصفها ضامنًا لبقاء المجتمع، فلا يزال عليها أن تُظهِر ذلك النوع من القدرة على البقاء، وقد ذكرنا من قبلُ أن أرسطو كان يعتقد أنها لا تستطيع ذلك. سوف يكون لدينا المزيد لذكره حول هذا الموضوع بعد قليل؛ بما أن له صلةً مباشِرةً بحديثنا؛ فالأمر يتعلَّق باتخاذ القرار؛ ومن ثَمَّ يتناسب وموضوع الكتاب.

من المشكلات التي تواجه السلطة المركزة الانتقالُ الحتمي للسلطة؛ فحتى الحكام المستبدون يموتون. بالتأكيد لا يتحقَّق البقاء لأي مجتمع بِنُشوب حرب أهلية في كل مرة ينتقل فيها ملك أو زعيم إلى العالم الآخر، والحل التقليدي لتلك المسألة يكون عن طريق الملكيات الوراثية، وهي عادة تمتد جذورها إلى العصور القديمة، وتُعَدُّ شكلًا بسيطًا وعمليًّا للخلافة، ما دامت الأسرة الملكية صامدةً وباقيةً، وهي عادة تَحُول دون اندلاع أي صراع في كل مرة يتغيَّر فيها حارس العرش، ويبدو أنها تنجح. إن ذلك لا يعني أن الشخص ذا المقومات الأفضل يحصل على السلطة، كل ما في الأمر أن عملية انتقال السلطة يمكن أن تتم دون إراقة دماء، وتلك هي المنظومة التي نستعين بها في الكونجرس (ولكن ليس في الرئاسة)، ولِنَفس السبب بالضبط. بالطبع لا تُعتبَر الخلافة في عضوية الكونجرس وراثيةً بحقٍّ (على الرغم من أنه كانت هناك استثناءات حتى في هذا)، ولكن نظام الأقدمية من حيث المنصب وتولِّي رئاسة اللجان هو المعادل الوظيفي لذلك؛ وما دام ذلك يُعَدُّ مقبولًا من قِبَل السيناتورات وأعضاء الكونجرس، فإنه يضمن انتقالًا سلميًّا نسبيًّا للسلطة حين تُرغِم أوجهُ الدمار الجسدي والذهني للسن مسئولًا مُسِنًّا على التنحِّي، أو حتى الموت. في بعض الأحيان يكون التغييرُ إجباريًّا بفعل خسارة الانتخابات، إلا أن ذلك لا يحدث كثيرًا.

إذن فالمشكلة الكبرى في عملية اتخاذ القرار التي تواجهها الحكومةُ بحكم السلطة هي صراع الأولويات بين منظومة قِيَم صانع القرار ومنظومة قِيَم المجتمع. وتاريخيًّا، إذا كان المجتمع هو الفائز في الصراع، لا يكون لذلك ثمنٌ سوى الصراع. حتى الملِك جون سرعان ما نقض بنودَ وثيقةِ ماجنا كارتا؛ فإذا أردتَ أن تجعل القرارات تُتَّخَذ بوضوح، وسرعة، وبلا لَبْس، ضَعْ شخصًا في موقع المسئولية؛ قد لا يُجدِي ذلك للأبد، ولكنه يمكن أن يُجدِي لفترة. ويعرف خبراء الإدارة في مجال الأعمال هذا، وكذلك تعرفه الجيوش، وهناك الكثير من الأدلة التاريخية على وجود عائلات مالكة طويلة ومستقرة في العالم القديم.

لاحِظْ أنه لم يكن هناك ذِكْر ﻟ «حقوق» الإنسان في هذا الطرح؛ فمثل هذه الأنظمة لا تميل نحو الحقوق الفردية.

الصالح العام

في منتصف القرن التاسع عشر كانت هناك دفقةُ حماس للنظرية (المرتبطة في الغالب باسم جيريمي بنتام) القائلة بأن الهدف الأسمى للحكومة هو ضمان أقصى درجات السعادة والخير لأكبر عدد من الناس، وهو ما يُعَدُّ شعارًا أخَّاذًا. كان بنتام نفسه يعتقد أن ذلك كان أمرًا قابلًا للقياس؛ أي إن هناك طريقة لقياس مقدار الفائض المجتمعي الإجمالي من اللذة على الألم (وهو تعريفه للخير الأعظم)؛ بحيث يستطيع الفرد أن يتخذ القرارات بغرض تعظيم صافي فارق اللذة/الألم. هناك بالطبع قدر هائل من الغموض؛ ومن ثَمَّ الجدل، بشأن مقومات وعناصر الصالح العام، فضلًا عن اللذة والألم، إلا أن نظرية أن هناك «شيئًا» يمكن تعظيمه — ليس بسيطًا كهامش اللذة بطبيعة الحال — ليست بعيدةً عن فكرة هذا الكتاب. وسواء أكان هذا الشيء هو الصالح العام، أم احتمال البقاء، أم تمجيد الأفضل والأذكى، أم حتى تمجيد الأقل صلاحيةً؛ تظلُّ مشكلات اتخاذ القرار المعتادة الخاصة بالأهدافِ والقياسِ والاستراتيجيةِ قائمةً؛ بإيجاز، دون تطبيق، تصبح النظرية الاجتماعية جوفاء.

ولا تحدِّد عقيدةُ النفع الأعظم لأكبر عدد من الناس معيارًا حقيقيًّا لكَمِّ التعاسة التي قد تُفرَض على الأقلية دعمًا للأغلبية؛ ففي نسخة مبالغة منها، يمكن الدفع بأنه بما أن التكاليف الطبية للمسنين تنتزع جزءًا كبيرًا من دخلنا القومي، مع وجود احتمالية محدودة للغاية لتحقيق اللذة أو حتى امتداد الحياة بشكل كبير لنفس هؤلاء المسنين، فإن الصالح المجتمعي الأعظم يمكن تحقيقه عن طريق إحالتهم للتقاعد (على سبيل التلطُّف في التعبير). بالطبع قليل من الأمريكيين هم المستعِدُّون للتمادي إلى هذا الحد اليوم، ولكن في بيئة ضاغطة قد يصبح الأمر مطروحًا للتفكير، بل جذابًّا أيضًا. دائمًا ما يتعارض الصالح العام مع القلق بشأن الأفراد، والتظاهر بغير ذلك لا يفيد عملية اتخاذ القرار بشكل عقلاني؛ فالصالح العام والحاجة العامة ليس لأحدهما صلة كبيرة بالآخر.

تتجلَّى المشكلة بطرق عدة؛ قد يكون الترفُّق بالمجرمين الذين تشكَّلَتْ شخصياتهم في قالب من الطفولة البائسة شيئًا من قبيل الإنسانية، ولكنه يخلق احتماليةً لأذًى لاحق قد لا يرغب مجتمعٌ يُعلِي قيمةَ الصالح العام في التسامح معه؛ فأيًّا كان السبب المثير للشفقة الذي دفعهم لخوض حياة من الجريمة، يمثِّل المجرمون مشكلةً لبقية المجتمع، والمبررات التي تُساق لتفسير سلوكهم لا تفيد على الإطلاق. وفي مدارسنا اليومَ، يُغدَق قدرٌ كبير من الانتباه والشفقة على بطيئي التعلُّم (وقد حلَّ مصطلح «متحَدِّي الإعاقة الذهنية» محلَّ مصطلح «ذوي إعاقات التعلُّم»)، حتى إن الموهوبين نادرًا ما يتم تنمية قدراتهم وتطويرها للوصول إلى كامل إمكاناتهم؛ ممَّا يترتب عليه خسارة لإنتاجية المجتمع؛ ومن ثَمَّ لنا جميعًا. والانشغال بسعادةِ ونفسيةِ الطلاب أدَّى إلى تولُّد مقاوَمةٍ تجاه أي نوع من قياس التقدم التعليمي؛ ممَّا يسَرَّ بشكل أكبر تجاهُلَ الانحدار المخيف في المعايير التعليمية للدولة. لقد تحوَّلَ تركيزُ التعليم عن الإنجاز، وصار يركِّز على التقدير الذاتي لغير المنجزين؛ إذا كانت اللذةُ هي الهدف الواضح والصريح لذلك، فلا بأس، فلستَ مضطرًّا حقًّا أن تحقِّق أي شيء للشعور باللذة والزهو، عليك فقط أن «تعتقد» أنك تملكهما؛ ولكن هذه الرؤية قاتلة بالنسبة إلى تطلُّعات المجتمع، الذي يعتمد هامشُ سعادته ولذته بشكل حيوي على الإنجاز الحقيقي على المدى الطويل.

وبذا فإن الصراع القديم بين صالح الأفراد وصالح المجتمع يشكِّل إجراءات اتخاذ القرار؛ وقد حاوَلَ مؤسسو نظامنا الحكومي (وكثيرون غيرهم) ابتكارَ نظامٍ للتمثيل بعيدٍ عن حكومة صعاليك أرسطو، ولكنه يوفِّر حمايةً كافيةً ضد عبث الأفراد بالسلطة باسم الصالح العام؛ وهكذا نستطيع أن نقف على ناصية أحد الشوارع ونشجب الرئيس، ولكن لا نستطيع (في النموذج الكلاسيكي) أن نصيح قائلين «حريق!» في قاعة مكتظة بالبشر؛ يمكننا أن نتقبَّلَ حدوث أعمال شغب بصدر رحب، ولكنْ لا يمكننا أن نحرِّض على شغب. أحيانًا يصير الأمر سخيفًا ومنافيًا للعقل؛ فهناك حالات يُسمَح فيها لشخص بالتحرُّش بآخَر في المكتب، ولكن ليس في المنزل، أو يُسمَح بهذا من مسافةٍ تزيد على عشرين ياردة فقط. إن حرية التعبير مكفولة لنا، ولكن الحد الفاصل بين النقد الحماسي والتجريح لا يفهمه سوى المحامين، يليهم المتخصِّصون. وقد قام ناشر إنجليزي مؤخرًا بمقاضاة جمعية علمية أمريكية قامت بنشر بياناتٍ تبيَّنَ أن قليلًا جدًّا من الناس يقرءون ويستخدمون مطبوعات الناشر بشكل فعلي (خسر الناشر المتضرِّر القضيةَ؛ لأن التصريح كان صحيحًا. وفي بعض الأحيان يكون هذا مهمًّا حقًّا).

قد تبدو تلك أمثلة تافهة، ولكن من الصعب للغاية الحفاظ على توازن بين صالح الفرد والصالح العام؛ فالفاصل بينهما ضبابي وغامض. وفوق كل ذلك، من المحال أن تحمي الصالح العام باتخاذ قرارات قائمة بشكل تام على آراء أولئك الذين تحظى مصالحهم بالحماية؛ فقد كان الهدف الأصلي للديمقراطية منع أنواع محدَّدة من الشرِّ، وليس فعل الخير.

قبل مائة عام، في حدَثٍ غير معروف، تمَّ تقديم عريضة داخل مجلس إنديانا التشريعي تعتمد قيمةً خاطئةً تمامًا، ومنافيةً للعقل، لِباي ، وهي نسبةُ محيطِ الدائرة إلى قطرها، لتكون القيمةَ المستخدَمة في إنديانا (اقترح مقدِّمو العريضة أيضًا التصريحَ باستخدام تلك القيمة للآخرين، وامتلأَتِ المداولة التشريعية بمناقشة الفوائد التي ستجلبها لإنديانا). لو كانت هذه العريضة قد مُرِّرت (وقد تمَّ تمريرها بالفعل في القراءة الأولى، ولكنَّ عقولًا أكثر حكمةً فطنَتْ لما يحدث، ونجحَتْ في منعها)، وتمَّ تطبيقها، لَكان ذلك أحطَّ درجاتِ الفشل. إن التصويت ليس وسيلةً للإجابة على الأسئلة التقنية، وإنْ كان قد يمنح للمصوِّتين متعةً؛ وهذا الكاتب — بوصفه عالم فيزياء — كان سيكره إخضاع النظرية النسبية لتصويت. إذا بَدَا ذلك من قبيل النخبوية، فليكن؛ فثمة مبدأ غير شائع ولكنه صحيح يقضي بأنك ينبغي أن تعرف شيئًا عن أي موضوع قبل أن تكتسب الحقَّ في الإدلاء برأيٍ بشأنه. لكن المدارس الآن تدِّرس العكس؛ فرأيك «صحيح» كرأي أي شخص آخَر، مهما كانت قلة معرفتك؛ وهذا لا يشجِّع تقديرَ الذات فحسب، بل يكافئ الكسلَ والتراخيَ.
أقوى توضيح لهذه الفكرة يأتينا من جانب جيمس ماديسون، في الورقة العاشرة من «الأوراق الفيدرالية»، تلك المقالات التي كتبها بالاشتراك مع جون جاي وألكسندر هاميلتون، لإقناع مواطني نيويورك بالموافقة على الدستور المطروح:

من منطلق هذه الرؤية للموضوع يمكن استنتاج أن الديمقراطية المحضة — التي أعني بها مجتمعًا يتألَّف من عدد محدود من المواطنين، يجتمعون ويديرون أمورَ الحكم بشكل شخصي — لا يمكن أن توفِّر علاجًا شافيًا لمساوئ وأضرار التحزُّب. فثمة شغف مشترك أو مصلحة مشتركة سوف تُستشعَر، في كل حالة تقريبًا، من قِبَل الأغلبية؛ تواصُل وتوافُق ينتجان من شكل الحكم ذاته؛ ولا يوجد في تلك الديمقراطية أيُّ عائق يَحُول دون كبح الدوافع والإغراءات للتضحية بالحزب الأضعف أو بالفرد البغيض المشاغب. ومن ثَمَّ كانت مثل هذه الديمقراطيات مسرحًا للاضطراب والصراع، وظلت دائمًا غير منسجمة مع الأمن الفردي أو حقوق الملكية، وكانت بصورة عامة قصيرةَ الأجل، كما ظلَّتْ عنيفةً عند موتها. لقد افترض الساسةُ النظريون الذين ساندوا هذا الطرازَ من الحكم — خطأً — أنه بإخضاع البشرية جمعاء لمساواة كاملة في حقوقهم السياسية، سيكونون في الوقت ذاته متساوين تمامًا ومتماثِلين في حيازاتهم، وفي آرائهم ومشاعرهم.

ما لم يستطع ماديسون التنبؤ به هو التطوُّر الذي طرأ على وسائل الاتصال، التي تربط أعدادًا كبيرة من الناس معًا، وتزوِّدهم جميعًا بنفس المعلومات (والمعلومات الخاطئة)؛ ممَّا جعل من الممكن أن ينتهج الملايينُ نفسَ السلوك الذي تنتهجه المجموعاتُ الصغيرة التي كانت في ذهنه.

باختصارٍ، يبدو الصالح العام — بوصفه معيارًا لاتخاذ القرار — معيارًا قويمًا، ولكنه ليس بسيطًا، ولا يمكن تطبيقه بسهولة، وبالتأكيد لا يصلح للتطبيق العام.

الالتزام الأخلاقي

يُعَدُّ مبدأ النفع الأعظم لأكبر عدد من الناس مبدأً جذَّابًا من الناحية العملية؛ حيث إن أي حكومة تعكس هذا الهدف باعتباره المبدأ الاسترشادي لها، غالبًا ما يُنظَر إليها بعين التقدير والاحترام من جانب عدد كبير من الناس؛ متلقِّي النفع. ولكن النسخة المتطرفة من هذا المبدأ من شأنها أن تؤدِّي إلى الاستبعاد الصامت لأعضاء المجتمع غير المنتجين، وسيجد معظمنا ذلك أمرًا بغيضًا أخلاقيًّا؛ وبهذا تدخل الأخلاق ساحة المناقشة.

سوف يَعتبر معظمنا أنه من المستهجن أخلاقيًّا أن نهاجم شخصًا أضعف منَّا، وفي الواقع إن الدفاع عن العُزَّل هو أحد التزاماتنا الأخلاقية. ولكن حاوِلْ أن تخمِّن كيف كنَّا سنتواجد هنا لو أن أسلافنا قد تخصَّصوا فقط في محاربة الأقوام الذين يفوقونهم قوةً. من غير المحتمل أنه كان سيصبح لنا وجود، وهم لم يفعلوا ذلك. لقد كان معظمنا ساخطًا قبل بضع سنوات حين هاجَمَ صدام حسين دولةَ الكويت العَزْلاء، مثلما كان يهدِّد لسنوات، غير أنه كان يفعل ما كان معتادًا في ذلك الجزء من العالم. أيضًا لم يكن الصراع بين الهنود الأمريكيين والغزاة الشرقيين صراعًا متكافئًا، وكانت نتيجته النهائية متوقَّعة، وخلال قروننا القليلة في مسيرة التاريخ استولينا على قطع كبيرة من أراضي جيراننا؛ إن أيادينا ليست بيضاء.

إذن فدعم الضعفاء يُعَدُّ رفاهيةً، وغالبًا ما يكون تطبيقُه تحت الضغط في الواقع العملي أقلَّ تقديرًا مما يُفترَض أن يكون عليه، غير أن الكثير منَّا (وربما معظمنا) يعتقد أنه أقرب لأن يكون التزامًا أخلاقيًّا حقيقيًّا؛ وهي أطروحة أساسية في العهد الجديد، وإن كانت ليست كذلك في كثيرٍ من النصوص الأخرى الحاوية للعقيدة الدينية، غير أنها فكرة أساسية من أفكار شريعة حمورابي، ذلك الملخص الرائع للقانون البابلي الذي سبق نصوص العهد القديم بأكثر من ألف عام (القرن الثامن عشر قبل الميلاد)، واعتمَدَ هو ذاته على مجموعةٍ أقدم من القوانين. إن لحماية الضعيف تاريخًا بوصفها التزامًا حتميًّا.

غير أننا نجد في الجزء المقتطَف من الأوراق الفيدرالية، المقتبَس أعلاه، أن ماديسون يذهب إلى أنه من المستحيل أن نحمي الضعفاءَ داخل شكل ديمقراطي للحكم؛ لأن أغلبيةً ذات نفوذ وسلطة سوف تجد إغراءً لا يُقاوَم في التضحية بصالح أقلية ضعيفة (أو فرد بغيض مشاغب، بحسب تعبيره) في سبيل تحقيق أهواء الأغلبية. لقد كان يقصد في الواقع أن الديمقراطية تتعارض مع الأخلاق؛ وعلى مدى المناقَشة التي دارَتْ في الجمعية الدستورية، وفي الأوراق الفيدرالية، ثمة فكرة متكرِّرة مفادها أن التطلُّعات للديمقراطية لا بد أن تخضع للالتزام الأخلاقي المتمثِّل في الحفاظ على حقوق الفرد؛ ومن ثَمَّ فهما قوتان متضادتان. وتلك هي عملية اتخاذ القرار على مستوًى عالٍ؛ فالقِيَم المتضاربة كانت واضحةً، وحُكِمَ بأنه من شأن حلٍّ وسط — تمثَّلَ في جمهورية تمثيلية، لا ديمقراطية — أن يضمن على الأرجح سعادةَ الناس بشكل معقول، مع الحفاظ على أمنهم. كان الالتزام الأخلاقي هو الحفاظ على الحقوق الممنوحة للناس من قِبَل الخالق، ما دام أنه لم يحمل تهديدًا لسلامة وتماسك الاتحاد، وليس واضحًا مَن الذي تحدَّثَ إلى الخالق بشأن ما يجب أن يأتي أولًا.

فرض الضرائب والتمثيل

تُعَدُّ الضرائب والعقاب على السلوك المنحرف أكبر سلطتين لأي حكومة، والغاية من ورائهما تعكس قِيَم تلك الحكومة؛ فجميع أطفال المدارس الأمريكيين يتعلَّمون أن الملك جورج كان يفرض ضرائب على الشاي الذي يستورده الأمريكيون (لتوصيل رسالةٍ، وفي نفس الوقت لتحصيل إيرادات)، وأن جماعة من البوسطنيين الغاضبين قد أَلْقَوا بحمولة منه من على متن السفينة في ميناء بوسطن، قبل عامين من اندلاع ثورة متكاملة الأركان ضد الحكم الإنجليزي (لم يكن البوسطنيون بالشجاعة التي أظهرناهم بها في أسطورتنا؛ فقد حاولوا إلقاء المسئولية على عاتق غيرهم بالتخفِّي في شكل هنود). ولكن فكرة أن الضريبة ينبغي أن تكون لصالح دافِعِيها تتفق مع نظرية العقد الاجتماعي للحكم، وضريبة الشاي كانت من أجل مصلحة الملك جورج وحده بشكل واضح؛ وقد كانت الماجنا كارتا ذاتها ردَّ فعلٍ على الضرائب الباهظة التي فرضها الملك جون على البارونات، وتُعَدُّ فكرة الاستياء من فرض الضرائب فكرةً متأصِّلة على مدار التاريخ؛ إذ توجد في جميع السجلات التاريخية.

والضريبة ليست مقابلًا مباشِرًا للسلع والخدمات، تُدفَع طوعًا، وفقط حين تكون الفوائد التي تشتريها تستحق السعر؛ مثل سعر الجبن، بل هي شيء إلزامي، لا تُدفَع وفق هوى دافِعِ الضرائب، وتُنفَق في أشياء قد لا يريدها أو يحتاج إليها دافِعُ الضرائب؛ مثل ثياب الإمبراطور وعربته. غير أن الفائدة الحقيقية لبعض الخدمات الحكومية الأساسية قد لا تكون واضحةً بشكل مباشر لدافع الضرائب، لا سيما حين تكون معقَّدةً، أو بعيدة من حيث الزمان أو المكان. يُعرَف عن الدول التي تعيش في حالة سِلْمٍ عزوفُها عن إنفاق الكثير من المال على الإعداد العسكري، كما لا يرغب الناس في دعم الأبحاث العلمية التي يكون عائدها المحتمل غير مؤكَّد أو غير مفهوم، ولا يظهر إلا في المستقبل؛ وفي هذه الأيام، وعلى الرغم من دعم الجميع لمفهوم التعليم الراقي للصغار، دائمًا ما تُهزَم اقتراحاتُ تخصيصِ نفقات إضافية لدعم هذا التعليم في استطلاعات الرأي. غير أن الحفر الموجودة على الطرق يتمُّ ردمها؛ لأنها تمثِّل مصدرَ إزعاجٍ واضح في الوقت الحالي، لكلٍّ من هؤلاء الذين سيدفعون مقابل الإصلاحات، وهؤلاء الذين لن يدفعوا.

وبينما يُعَدُّ شعار «فرض الضرائب بلا تمثيل استبداد» شعارًا معروفًا على نطاق واسع، ويُعامَل كشيء بديهي في المدارس، فإن قرارات المستبدين بشأن كيفية استغلال الضرائب لا تكون دائمًا ذات آثارٍ سيئةٍ لمجتمع دافعي الضرائب على المدى الطويل؛ فحتى المستبِدُّ يرغب في أن يُكتَب لبلاده البقاء، وأحيانًا ما تكون وسائله لتحقيق ذلك ملتوية. يُفترَض بأي نظام تمثيلي كنظامنا أن يقيم حالةً من التوازن عن طريق وضع طبقة إضافية بين حاجة دافع الضرائب لعوائد واضحة من وراء ضرائبه، وحاجة الحكومة لدعم تلك الالتزامات العامة التي تتشكَّل أيُّ حكومة من أجلها، والتي قد لا تكون فوائدُها واضحةً تمامًا. ولا أحد يعلم كيف نجعل الحكومة مسئولةً بشكلٍّ مباشِر أمام دافعي الضرائب، وفي الوقت ذاته تستغلُّ أموال الضرائب من أجل الصالح العام، حتى عندما لا يكون هناك دعمٌ من جانب دافعي الضرائب. تؤرِّق هذه المشكلةُ الصعبة جميعَ الحكومات الديمقراطية تقريبًا، وتتفاقم الأزمة بدرجة أكبر في زمن الاتصال الجماهيري، الذي يتجاوز فيه تعقيدُ العديدِ من المشكلات ببساطةٍ القدراتِ الفرديةَ لدافعي الضرائب (فضلًا عن قدرات المشرعين) على إصدار أحكام مدروسة، وتحوِّل فيه وسائلُ الاتصال كلَّ الموضوعات إلى رسوم كاريكاتورية ومقاطع صوتية؛ وحينئذٍ يصبح الاختيارُ المدروس وَهْمًا يستحيل أن يتحقَّق. (لعل من قبيل الهرطقة أن نقول ذلك، ولكن الأمانة تقتضي أن يقال.) وعادة ما يكون الحل الذي يُذكَر حين يُثار هذا الموضوع وسط رفقة مهذَّبة هو أننا لا بد أن نكافح دائمًا من أجل خلق مواطنين مثقفين، ولكن لا يمكن أن نكون خبراء في كل شيء، ومن الوهم المستحيل أيضًا أن نعتقد أننا سنكون كذلك؛ إضافة إلى ذلك، نِصف الناس يحظَون بتعليم وذكاء أقل من المتوسط، وسيظل هذا دائمًا أمرًا واقعًا؛ إنه حقيقة بديهية.

التمثيل بلا ضرائب

ولكن تلك المشكلة لا تُقارَن بنظيرتها المضادة؛ أَلَا وهي التمثيل بلا ضرائب؛ تلك المشكلة هي كعب أخيل للديمقراطيات الغربية الحديثة، وقد تُحيل الديمقراطية إلى محض فكرة تاريخية كادت أن تنجح. تظهر المشكلة في المبدأ الأول من مبادئ عملية اتخاذ القرار الفعَّالة؛ ألا وهو أن صانع القرار لا بد أن يكون له نصيبٌ في كلٍّ من تكاليف القرار وفوائده؛ فمن دون ذلك، لا يكون هناك دافِعٌ مُغْرٍ لاتخاذ قرارات مسئولة، ويكون الفشل محتومًا ومتوقَّعًا، وهذا أمر لا يضاهيه شيء في الأهمية.

كان الآباء المؤسِّسون الأصليون يعرفون هذا، وتركوا مسألةَ حقوق التصويت في أيدي الولايات، متعمدين في ذلك عدم اتباع التقليد القديم المتمثِّل في ترك التصويت لأرباب الأملاك فقط. كانت هناك مناقشة مثيرة حول هذه النقطة في الجمعية الدستورية، علَّقَ خلالها أحدُ المندوبين المؤيدين لشرط حيازة الأملاك، بأنه لو أراد شخص أن يصوِّت لصالح أمور ضارة، فكلُّ ما عليه أن يشتري عقارًا ما. لم يغلب هذا الرأي، ولكن من الواضح أنه كان يوجد قلق بشأن مَنْح سلطةٍ ماليةٍ — مهما كانت ستُستخدم عن بُعْدٍ — للمصوِّتين دون أن يمتلكوا مسئوليةً ماليةً، وقد كان النوَّاب يَعرفون تمام المعرفة (بينما نسي الكثير من ساستنا الحاليين) أن من المبالغة أن تتوقَّع من الناس أن يتحرَّوا الحرصَ والتعقُّل في استخدام موارد الآخرين.

بعد ذلك بمائتَيْ عام صرنا على هذا الطريق الوردي الذي قد ينتهي بفاجعة؛ فحوالي ٦٠ بالمائة من ضرائب الدخل الفيدرالية التي يتم دفعها لمصلحة الضرائب تأتي من ١٠ بالمائة من دافعي الضرائب، بل إن عدد المصوِّتين أكبر من عدد دافعي الضرائب؛ لذا فإن سلطة اتخاذ القرار على إنفاق الأموال العامة في بلادنا تتركز بشكل طاغٍ في أيدي هؤلاء الذين لن يدفعوا ثمنًا للقرارات التي يتخذونها؛ ممَّا يمهِّد الطريق للدَّين القومي الضخم (والمتنامي)، والعجز المساوي له في الضخامة الذي تعمل به حكومتنا كلَّ عام (وهو خيار أنكَرَ حقَّنا كأفراد)، والزيادة المتعذر إيقافها فيما يُسمَّى برامج الاستحقاق؛ فحين لا يكون المستفيدون من البرامج هم الدافعين، يصير الأمر غيرَ طبيعي. لا يوجد شيء يمكن فعله حيال ذلك داخل منظومتنا؛ إذ إن أي سياسي يَعِدُنا بمزيد من المزايا والفوائد، التي تُدفَع من قِبَل آخَرين مجهولين، يكون له ميزة عن آخَر يطلب منَّا أن نقوم باختيارات صعبة وسط أهداف مرغوبة، وهو شيء نفعله كل يوم في حياتنا الخاصة. ومن ثَمَّ، كان المواطنون في ولاية كاليفورنيا — مسقط رأس الكاتب — سعداءَ بتمرير مبادرة تُلزِم شركاتِ التأمين بردِّ ٢٠ بالمائة من الأقساط التي يتمُّ جمعها؛ وبالنظر إلى تفوُّق عددِ دافعي الأقساط على عدد شركات التأمين، فإن حيثيات الأمر تكاد لا تهمُّ. في بعض الأجزاء السيئة السمعة من الولاية، يسعد المصوِّتون بوضع ضوابط إيجارية صارمة؛ وبالنظر إلى تفوُّق عدد المستأجرين على أصحاب العقارات، فإن حيثيات الأمر تكاد لا تهم. في الهند، أكبر ديمقراطية في العالم، يجهل نصف المصوِّتين، على الأقل، القراءةَ والكتابةَ، ومع ذلك يحدِّدون السياسةَ الحكومية في أكثر الأمور تعقيدًا وتحدِّيًا، لكن في بلادنا لا يجرؤ أحدٌ على اقتراحِ إجراءِ اختباراتٍ في القراءة والكتابة للمصوِّتين، وهكذا.

هذا المرض يمسُّ ما هو أكثر من استغلال الضرائب؛ فهو يؤثِّر على كل الأمور التي يُتَّخَذ فيها القرار نيابةً عنَّا جميعًا بواسطة أشخاص جهلاء أو أشخاص لا يمسهم شيء من جرَّائها. ثمة مثال جلي بشكل خاص على ذلك في الولايات المتحدة يتمثَّل في الدور التنظيمي المتزايد للحكومة؛ فمع تحوُّل البلاد إلى المدنِيَّة والتحضُّر بشكل أكبر، نجد أن أغلبية الناخبين الحضريين يزدادون رغبةً واستعدادًا لفرض أعباء على ما تبقَّى من الحياة الريفية. قد يكون حدُّ السرعة البالغُ خمسة وخمسين ميلًا في الساعة منطقيًّا نوعًا ما في الأجزاء الأكثر ازدحامًا من البلاد، إلا أنه فُرِض على الجميع، وظلَّ محلَّ تجاهُل على نطاق واسع إلى أن أُلغِي في عام ١٩٩٥ (بعد استمرارٍ دام عشرين عامًا). والتشريعات الحماسية ضد حمل السلاح تستهدف في الأساس مشكلات المدن الكبرى، إلا أنها تُفرَض فرضًا على الجزء الريفي من أمريكا، الذي اعتاد التسلُّح، وفي أغلب الأحيان لا يجد غضاضة حيال ذلك. إننا نزداد استعدادًا لتنظيم الطريقة التي يعيش بها الآخَرون حياتَهم، إذا ما كان ذلك يتم دون تكلفة لمعظمنا. في كاليفورنيا، عُرِض خمسة وعشرون تعديلًا مقترحًا على دستور الولاية على الناخبين، على أساس الموافقة عليها أو رفضها، دون إمكانية للتفاوض أو إدخال تعديل ولو طفيفًا، ولكن صاحَبَ ذلك حملاتٌ دعائية ضخمة، غالبًا ما كانت تتبع أسلوبَ التضليل بشكل صارخ؛ فالترويج لتعديل دستوري في كاليفورنيا يُعامَل، إلى حدٍّ كبير، مثل الترويج لمسكنات الألم أو حبوب الإفطار. كان معروفًا أن أيَّ اقتراحٍ لا يرفع الضرائب العامة، ومُعَدٍّ بشكل جيد، ويَعِدُ بعدم إلحاق أي ضرر إلا بأقلية من الناس؛ يكون لديه فرصة جيدة لأن يُمرَّر، وبمجرد قبوله يصبح هذا التعديل جزءًا من دستور الولاية، ولا يمكن تغييره إلا عبر تصويت آخَر للناخبين يشمل جميعَ أنحاء الولاية. من بين التعديلات الخمسة والعشرين المقترحة، تمَّ تمرير حوالي الثلث، وأيًّا كان ما يمكن قوله عن العملية التشريعية غير العملية، فإنها تسمح بالنقاش والتعديل الملائم لعيوب التشريع المقترح. والتشريع، على عكس التعديلات الدستورية، عرضة لتعديل لاحق إذا ما أسفَرَ عن نتائج غير متوقَّعة.

كثير من الديمقراطيات الغربية خطت خطوات أبعد منَّا على هذا الطريق بعينه، وتواجه في الوقت الحالي مأزقًا سياسيًّا واقتصاديًّا بالغًا؛ فالعملية تَنتهك المبدأ الأول من مبادئ اتخاذ القرار، من خلال فصل التكاليف عن الفوائد؛ وهو ما يجعل عمليةَ اتخاذ قراراتٍ قائمةٍ على التوازن بين الأمرين شيئًا مستحيلًا. لقد وضع الآباء المؤسسون ثقتَهم في الحكومة التمثيلية، ولكن من الواضح أنهم لم يستطيعوا التنبُّؤَ بالتطوُّرات التقنية التي أتاحت عصرًا من الاتصال الجماهيري الفوري. إن هذا الكاتب يجفل من فكرة إجراء استفتاء للتصديق على جدول الضرب؛ فقد خسرنا بالفعل معركةَ مطالَبةِ الأطفال بتعلُّمه.

سوف يكون لدينا لاحقًا فصلٌ لموضوعٍ ذي صلة؛ أَلَا وهو اتخاذ القرار في النظام القضائي، وسوف يتحدث ذلك الفصل عن تلك القضية المؤلمة الخاصة بالاختيار المتعمد لهيئات المحلفين؛ بحيث يكون أعضاؤها بلا اهتمامٍ بالموضوع محل القضية المنظورة، ولا معرفةٍ به أيضًا.

تتجاوز ميزانيتنا الفيدرالية، بالطبع، التريليون دولار سنويًّا، وليس لدينا شرط يُلزِم أيَّ عضو من أعضاء الكونجرس (أو الرئيس) بأن يكون لديه أي خبرة أو معرفة بالإدارة المالية، أو أي شيء على الإطلاق؛ أما المرشحون القلائل الذين يتباهون بخبرتهم الاقتصادية فلا يجدون فيها مزيةً مغريةً للترويج لأنفسهم.

التعقيد

إن المعرفة والخبرة اللازمَتين لقيام واضعي القوانين وغيرهم من المسئولين الحكوميين بمهامهم تتزايد أهميتهما؛ إذ أصبح مجتمعنا أكثر تعقيدًا وصعوبة في الفهم، وأصبحت عواقب القرارات الحكومية أقل وضوحًا. لقد كرَّسنا هذا الفصلَ بأكمله تقريبًا لأهداف القرارات الحكومية — مَن يقرِّر ماذا؟ وما فوائده؟ ولمصلحة مَن؟ — ولكنَّ هناك بُعْدًا للمشكلات الاجتماعية تتخلَّله ريبة في وجود الإخلاص والأمانة، وقد يفتقد فيه الشخصُ أو المنظومة القائمان على صنع القرار ببساطةٍ القدرةَ على اتخاذ قرارات رشيدة، حتى في وجود كل مخزونِ العالم من حسن النية.

دائمًا ما يكون هذا هو الحال هذه الأيام بالنسبة إلى الأمور الفنية والاقتصادية المتخصصة. كان الأمر مختلفًا حين تمَّ تنظيم البلاد للمرة الأولى؛ فقد كنَّا مزارعين بالأساس وأصحابَ متاجر صغارًا، وكان العلم والتكنولوجيا يلعبان أدوارًا صغيرة، والإدارة المركزية للاقتصاد القومي على مستوًى قومي كانت مجرد فكرة للمستقبل البعيد. كانت المشكلات التي يضطر صناع القرار السياسي لمواجهتها أقرب لخبرتهم ومعرفتهم، وكان نطاقها أكثر محدوديةً؛ ربما يكونون قد ارتكبوا أخطاء، ولكنهم على الأقل كانوا يظنون أنهم يعرفون ما يفعلون لمعظم الوقت. لم يكن الشك واللايقين كأسلوب حياة هما القاعدة. وهناك صراع فطري بين احتياجات صانع القرار للحسم — إذ «لا بد» ببساطة من اتخاذ القرار — والأدوات والخبرات المحدودة المتاحة لتوجيه القرارات؛ وكلُّ المشكلات الأخرى المتعلقة بصنع القرارات الحكومية ترتكن إلى هذه المشكلة الجديدة.

على سبيل المثال، غالبًا ما يتعيَّن على الكونجرس اتخاذ قرار برفع أو خفض الضرائب (علمًا بأن الأخيرة قلَّما ما تحدث)، وسط آراء متضاربة وحماسية لاقتصاديين متخصِّصين بشأن التأثير النهائي للقرار على الاقتصاد القومي، أو في أغلب الأحيان وسط شكوك بشأن التأثير على الانتخابات المقبلة. نحن نرى مؤشرات البورصة تتحطم، لورود أنباء سارة عن الاقتصاد؛ أو تصعد بشكل فجائي في بعض الأحيان، اعتمادًا على إذا ما كان التغيير في حدود التوقعات أم لا. توقُّعات مَن؟ هذه التأثيرات المتناقضة فيما يبدو تتأتى من شكوك حقيقية، ولم تكن تسمية الاقتصاد بعلم الكآبة من فراغ، ولكن يظلُّ لزامًا أن يتم اتخاذ القرارات.

يزداد الأمر سوءًا بالنسبة إلى الأمور الفنية المتخصِّصة، حتى لو كان السبب الوحيد أن معظم واضعي القوانين يظنون أنفسهم خبراء في القانون والاقتصاد، ولكنَّ قليلين منهم يعتبرون أنفسهم علماء أو مهندسين قديرين (بل إنك تراهم يتباهون بجهلهم بلا مبرر؛ فتجد الواحد منهم يقول: «أنا لا أعرف شيئًا عن الرياضيات» بكل فخر). غير أن القرارات الحكومية التي تتضمن مواضع عدم يقين من الناحية الفنية يمكن أن تكون ذات أهمية، والرياضيات هي لغةُ كلٍّ من التكنولوجيا والاقتصاد (لن نستفيض في هذه النقاط هنا؛ لأننا قمنا بالفعل بتأليف كتاب كامل عنها). وحتى كتابة هذه السطور، أهدرَتْ وزارة الطاقة عشرات المليارات من الدولارات (ومئات المليارات في الطريق) على مخططات غير ملائمة تمامًا لتحقيق المستحيل في الإصلاح البيئي. إن كون الهدف هدفًا وجيهًا لا يبرر القصور والحماقة في السعي وراءه، أو حتى في اتخاذ القرار بشأن السعي فيه من عدمه.

من المعتاد في مثل هذه الأمور استدعاء فِرَق من العلماء أو الاقتصاديين الذين يُعِدُّون — بالنظر إلى طبيعة المشكلات — تقاريرَ محمَّلة بالعبارات المطاطة، ولا تُجدِي الكثير من النفع للمسئولين الذين يحتاجون حقًّا لمَن يقودهم نحو القرارات. والجهد الشاق الذي يُبذَل في اتخاذ القرارات دائمًا ما يأتي (كما أكَّدنا على مدى الكتاب) «بَعد» حيازة الحقائق. عادة ما يقول العلماء إن مهمتهم هي توفير الحقائق، تاركين القرارات لصناع القرار، ولكن صناع القرار يبحثون عن المساعدة في اتخاذ أي قرار؛ فالمعرفة الموسوعية ليست غايتهم. إن الحقائق تحتل أهمية ثانوية، وعدم اليقين — مهما كان حقيقيًّا — يُنظَر إليه كنقطة ضعف، وشبه هدام؛ ومن ثم نُقل عن السيناتور السابق إدموند موسكي قوله إن الأمة بحاجة إلى مزيد من العلماء ذوي الجانب الواحد، حتى لا يستطيعوا الإجابةَ على الأسئلة الفنية بالقول بأن ذلك قد يكون صحيحًا من جانب، أما على الجانب الآخَر فقد يكون ذاك هو الصحيح.

لقد صار عدم اليقين يُؤخَذ بقدرٍ ما في الاعتبار في مجتمعنا بالفعل خلال العقود الأخيرة، حتى إنِ اقتصَرَ ذلك على توقعات الطقس فقط؛ فقَلَّما يشكو أحد الآن إذا قال خبراء الأرصاد إن هناك فرصة لسقوط أمطار غدًا بنسبة ٣٠٪؛ فتجد الناس يمضون في التخطيط لنزهاتهم واضعين ذلك في اعتبارهم، ويفرحون إذا لم تمطر، بينما يتذمَّرون لو أمطرت، ولكن نادرًا ما يلقون باللائمة على خبير الأرصاد لعدم تحرِّيه مزيدًا من الدقة في توقُّعاته؛ فهم يعرفون، بطريقةٍ ما، أن من الصعب التكهُّن بأحوال الطقس.

ولكن إذا كان الثمن أفدح، يكون الناس أقل تسامحًا، ويطالبون باليقين سواء أكان حقيقيًّا أم تخيليًّا؛ فنحن نسأل إن كانت بنايةٌ ما آمنةً، لا عن احتمالات سقوطها، ونسأل إن كان من الممكن أن ينتقل الإيدز عبر قبلة، لا عن احتمال حدوث ذلك؛ ولا نقبل عبارة «مستبعد للغاية» كإجابة. والعملية السياسية، كما نراها في الولايات المتحدة، لا تتساهل مع الشك وعدم اليقين؛ ومن ثَمَّ تُجبِر الساسةَ (وبعض الخبراء) على الكذب، لمجرد أن يُصغَى لهم. وتنتقل تلك الميزة إلى المسئول أو السياسي الواثق من نفسه، حتى حين يكون مخطئًا؛ فحين نكافئ الغش والخداع، ندفع الثمن جميعًا، إن لم يكن الآن، فلاحقًا.

وقت كتابة هذه السطور، وقع حدث لم يحظَ باهتمام الكثيرين في اليابان يوضِّح هذه المعضلة بشكل جيد للغاية. تقع اليابان، كما يعرف غالبيتنا، في جزء نَشِط زلزاليًّا من العالم؛ فهذه الجزر تدين بوجودها للقوى الزلزالية. يمكن أن تسبِّب الزلازل دمارًا واسع النطاق؛ لذا تعمل معظم الدول في مناطق الزلازل بكدٍّ لتحسين علم التنبؤ بالزلازل، فإذا ما أمكن توفير تحذير في وقت مناسب، يمكن اتخاذ خطوات للحد من الدمار المحتمل لزلزالٍ ما، ولو كان فقط من خلال تمارين الاستعداد؛ لذا أنشأت الحكومةُ اليابانية لجنةً استشارية للزلازل، كانت مهمتها تقديم تحذير مسبق من أي زلازل وشيكة بأسرع وقت ممكن. لا أحد يعرف كيفيةَ التكهُّن بالزلازل بشكل دقيق؛ فمن قبيل الحلم في الوقت الحالي أن تعتقد بأن شخصًا يمكنه القول بأن زلزالًا بقوة سبع درجات على مقياس ريختر سوف يقع يوم الخميس ظهرًا؛ لذا ظل رئيس اللجنة يجادل لسنوات بأن التقرير ينبغي أن يُصاغ بمصطلحات احتمالية (مثل توقُّعات الطقس)؛ ومن ثَمَّ يستطيع المرء أن يقول إن هناك احتمالًا بنسبة ٣٠٪ بوقوع زلزال الشهر المقبل. رفض المسئولون الحكوميون الحجة؛ لأنهم بحاجة لاتخاذ قرارات بشأن الإجراءات الواجب اتخاذها، إنْ كان هناك أي إجراءات تُتَّخذ، في الوقت الحالي. إنهم يريدون أن يقال لهم إنْ كان هناك زلزال سيقع أم لا، وليس مدى احتمال وقوعه؛ إن حاجتهم حقيقية؛ ومن ثَمَّ فإن حقيقة أن من المستحيل القيام بذلك بأمانة في ظلِّ الوضع العلمي الحالي، ليس لها صلة بمشكلاتهم. واحتجاجًا على ذلك تقدَّمَ رئيس تلك اللجنة باستقالته، دون أن يحذوَ أيُّ أعضاءٍ آخرين حَذْوَه.

لهذا الكاتب صديق كان مسئولًا مرموقًا في وكالة ناسا الفضائية خلال سنوات مجد مشروع أبوللو، وقال الصديق إنه لم يكن لديه أي اهتمام باحتمالية نجاح عملية الإطلاق؛ فلم يكن يمكنه التوجُّه إلى رائد فضاء ويقول له إن الإطلاق سيتم لأن «لديك فرصةً بنسبة ٨٠٪ للنجاة بحياتك»، أو الذهاب للرئيس وإخباره بأن الإطلاق قد أُلغِي لأنه كان هناك احتمال بنسبة ٢٠٪ أن يفشل. لم يكن أيٌّ منهما ليتفهَّم ما يعنيه هذا؛ لذا ظلت ناسا على مدى سنوات تُفَبْرك الأرقام، وتتحدَّث وتتصرَّف كما لو كان لا يوجد أي خطر على الإطلاق، إلى أن وصلَتِ الإدارة العليا لدرجة التصديق بأن ذلك صحيح حقًّا. وقد دفعنا جميعًا ثمنَ ذلك في عام ١٩٨٦ مع كارثة مكوك الفضاء تشالنجر. وحتى بعد ذلك الحدث، كانت ناسا تجادِل بأن فرصة الفشل كانت طفيفةً، ولا يزال ملحق فاينمان لتقرير لجنة روجرز عن الحادث مادةً جيدة للقراءة.

نحن لم نلمس بحقٍّ القضايا الصعبةَ الخاصة بظاهرة الاحتباس الحراري، والفشل الواضح لمنظومتنا التعليمية، والمستقبل الاقتصادي لبلادنا، وأمن البلاد في عالم يزداد عدائيةً، وما إلى ذلك. تلك مشكلات صعبة، وتتطلب أقصى ما لدينا، ولكنها لا تحظى إلا باهتمام عابر. إن مؤلف هذا الكتاب أحد المؤيدين لتطبيق الحد الأدنى من شروط معرفة القراءة والكتابة على الأقل من أجل التصويت، قد يبدو تصويت الأميين من قبيل الديمقراطية المثالية، إلا أنه يؤدِّي إلى قرارات سيئة، وقد أُطلقَ عليه ألقاب غير مستحبة نتيجة لذلك؛ ولكن ما لم نضفِ بعضَ المهارات على عملية صنع القرارات الحكومية، فسوف نرتكب أخطاءً بَشِعة وفادحة الثمن. إن العالم الذي نحيا فيه ليس بعالم بسيط، وبقاؤنا كأُمَّةٍ أو مجتمع ليس مضمونًا بموجب أي قانون طبيعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤