الفصل الخامس عشر

التقسيم

اشترطت إحدى التسويات الودية التي تسلَّلت إلى دستور الولايات المتحدة أن يتكوَّن الكونجرس من غرفتين تشريعيتين؛ مجلسٍ للشيوخ يضم أعدادًا متساوية من السيناتورات لكل ولاية، ومجلسٍ للنواب مقسَّم وفقًا لعدد سكان الولايات المختلفة. كان المجلس الأصلي يضم ستة وخمسين عضوًا، بحيث كان تمثيل كل ولاية محدَّدًا في الدستور ذاته. مع أول تعداد سكاني في عام ١٧٩٠، كان عدد سكان البلاد أقلَّ من ٤ ملايين نسمة؛ لذا كان كل نائب يمثِّل حوالي ستين ألف مواطن. لا يَعْبأ الدستور بتحديد الحجم الذي ينبغي أن يكون عليه مجلس النواب (عدا أول مرة)، إلا أنه يضع حدًّا أقصى؛ إذ يجب ألا يكون هناك أكثر من نائب واحد لكل ثلاثين ألف شخص. فيما عدا ذلك، لا توجد أي إشارة إلى كيفية توزيع العضوية في المجلس بين الولايات، بالنظر إلى كثافتها السكانية. هذا الفصل مكرَّس لذلك الموضوع السري، الذي يُعَدُّ تجسيدًا عمليًّا لعملية صنع القرار الحكومي.

كان الجزء الأكبر من النقاش الذي دار في الجمعية الدستورية المنعقدة عام ١٧٨٧ عن تقسيم السلطة بين الولايات الكبيرة والولايات الصغيرة. كانت هناك صراعات حتمية؛ فعلى الرغم من أنه كان في صالح الجميع إنشاء اتحادٍ أقوى من تحالفِ عام ١٧٨١، كانت الولايات الصغيرة قَلِقة (لسبب وجيه) بشأن تقاسُم السيادة والسلطة مع شقيقاتها الكبريات، وكانت الولايات الكبيرة قَلِقة (مرةً أخرى لسبب وجيه) بشأن استحواذ الولايات الأصغر بعددها الكبير على السيطرة؛ لذا دخل المفوضون في مساومات، وتوصَّلوا في النهاية لتسوية مُرضية لكلا الطرفين، مفادها إنشاء مجلسِ شيوخٍ يضم سيناتورين من كل ولاية، بغضِّ النظر عن حجمها، ومجلسٍ للنواب تتحدَّد عضويته وفقًا للكثافة السكانية للولاية، ولكن بحدٍّ أدنى نائب واحد لكل ولاية. زاد الدستور الأصلي من فصل مجلس الشيوخ عن عدد السكان من خلال النص على اختيار السيناتورات من قِبَل المجلس التشريعي للولاية، وليس بشكل مباشِر عن طريق مواطني الولاية، وقد تغيَّرَ ذلك لاحقًا بموجب التعديل السابع عشر، ولكن لم يحدث ذلك حتى عام ١٩١٣؛ أيْ بعد ما يزيد على قرن. ويقدِّم التنظيم الأصلي لمحةً متعمِّقة عن مدى ثقة الآباء المؤسسين في قدرة العامة على أن يحكموا أنفسهم؛ لقد كانوا يعتزون بالحرية، ولكنهم كانوا في شدة القلق والانشغال بشأن شراك الحكم الشعبي. وقد تحدَّثَ لينكولن في خطبة جيتسبرج، بعد ذلك بحوالي قرن، عن حكم الشعب للشعب بالشعب، ولكن الآباء المؤسسين كانوا قد تغاضوا عن الجزء الأخير.

كانت القضية الأساسية أمام الجمعية هي إيجاد تقسيمٍ للنفوذ وسلطة اتخاذ القرار يتيح للحكومة أداءَ عملِها، ودمج قوى الولايات المختلفة، بطريقةٍ ما، حين يكون ذلك ملائمًا للصالح العام (مثل محاربة عدو مشترك)، مع الحفاظ على هوياتها وسيادتها المحلية فيما يتعلَّق بالشئون الأخرى. وقد أُضِيفت ضمانات حقوق الإنسان خلال بضع سنوات، من خلال تعديلٍ أُدخِل على الدستور الأصلي؛ ومن بين الأغراض الستة الواردة بديباجة الدستور، فقد حلَّ بندَا توفيرِ ضمانات للرفاهية العامة وتأمين نعم الحرية في المركزين الخامس والسادس. أما تكوين اتحاد «أكثر مثاليةً»، وإقامة العدل، والاستقرار الداخلي، وتوفير سُبُل الدفاع المشترك، فقد حَلَّت في البداية؛ هكذا كان الحال في تلك الأيام.

وعلى الرغم من أن أغلبنا لم يسمع قطُّ بالتقسيم، فإنه يمكن قياس الأهمية التي أضفيت عليه من قِبَل الساسة من خلال البلاغة التي أغدقوا بها الموضوع على مدار السنين. كإجراء، أصبح الدستور ساريًا في مارس من عام ١٧٨٩، وبحلول سبتمبر من نفس العام، قدَّمَ الكونجرس بتشكيله النهائي اثني عشر تعديلًا، لم يحظَ أول تعديلين منها بالموافقة على الإطلاق (أما التعديلات العشرة الأخرى، فتُعرَف الآن بميثاق الحقوق). كان أحد التعديلين اللذين قُدِّمَا في نفس المجموعة المبدئية بمنزلة محاولة لتحديد الكيفية التي ينبغي إجراء عملية التقسيم بها بعد كل تعداد سكاني على نحو أدق. أما التعديل الثاني فكان من شأنه منع الكونجرس من منح نفسه زيادةً في الرواتب تسري قبل الانتخابات المقبلة؛ حتى في تلك الأيام الأولى، كانت تلك قضية حساسة. لم يجتَزْ أيٌّ من هذين التعديلين العمليةَ السياسية، إلا أن المشكلات التي كانَا معنيين بمواجهتها لا تزال قائمة حتى يومنا هذا؛ فلا يزال الدستور يترك مسألة التقسيم للساسة الأكثر تأثُّرًا به، في تعارض واضح مع المنطق السليم، ولا تزال رواتب أعضاء الكونجرس متروكة في أيدي المستفيدين، في تعارض واضح، مرة أخرى، مع المنطق السليم. مائتا عام ولا تقدُّم.

صدر أول فيتو على الإطلاق من رئيسٍ للولايات المتحدة بعد ذلك ببضع سنوات، حين عارض الرئيس جورج واشنطن قانونَ التقسيم الذي مرَّره الكونجرس بعد اعتماد نتائج التعداد السكاني لعام ١٧٩٠، معتبرًا إياه غيرَ عادل، وباءت محاولةُ إبطال اعتراضه — التي كانت أولَ محاولة من هذا النوع في تاريخ البلاد — بالفشل. لا يُعتبَر التقسيم بالموضوع الجديد، وكانت نتيجة ذلك النزاع في عام ١٧٩٢ أنْ تم تثبيت حجم مجلس النواب عند نائب واحد لكل ثلاثة وثلاثين ألف ناخب، وتقريب الكسور ببساطة؛ فلا يمكن أن يكون لدينا أنصافُ نوَّاب، وإن كان الأمر يبدو كذلك في بعض الأحيان؛ وبذلك صار مجلس النوَّاب أصغرَ من حجمه الدستوري الأقصى.

حسنًا، ازداد عدد السكان منذ ذلك الحين، وصار الآن أكبر ممَّا كان عليه في عام ١٧٩٠ بأكثر من ستة أضعاف؛ ما يعني أنه يتضاعف تقريبًا كلَّ جيل؛ ومن ثَمَّ لو كان مجلس النوَّاب الآن مقسَّمًا وفقًا للمعدل الأقصى المحدَّد في الدستور، أو حتى عند المستوى الأقل قليلًا الذي حدَّده القانون الصادر عام ١٧٩٢، لَوصل عدد أعضائه إلى حوالي عشرة آلاف عضو. ربما نعتقد أن لدينا الآن ارتباكًا وازدحامًا، ولكن تخيَّلْ ما كان سيبدو الأمر عليه! كان النوَّاب سيجتمعون في أحد الاستادات الرياضية؛ وكانت قاعة ماديسون سكوير جاردن في نيويورك، أو أومني في أتلانتا، ستفي بالغرض بشكل رائع، مع وجود مساحة صغيرة للمتفرجين. يمكن حتى أن تتخيَّل فتيات التشجيع وهنَّ يتقافزن في صخب على الخطوط الجانبية؛ لذا لإجهاض هذا الاتجاه، تَمَّ تجميد حجم مجلس النواب في عام ١٩١٠ (من جانب الكونجرس) عند حجمه الحالي البالغ ٤٣٥ عضوًا؛ ما يوفِّر في الوقت الحالي، في المتوسط، نائبًا واحدًا لما يزيد على نصف مليون شخص. ووفق تعدادٍ أُجرِي عام ١٩٩٠ كان هناك ثلاث ولايات مجموعُ عدد سكانها أصغرُ من حجم دائرة مؤتمرية «متوسطة».

كان للسؤال الخاص «بكيفية» تقسيم النوَّاب أهميةٌ خاصة للولايات الصغرى للغاية. إن الغرض من إجراء التعداد كلَّ عشر سنوات هو تحديد عدد سكان البلاد وسكان الولايات المتعددة، الذي يتيح بعد ذلك بدوره تحديدَ متوسط حجم الدائرة المؤتمرية؛ بعد ذلك نحاول تقسيم اﻟ ٤٣٥ نائبًا بشكل عادل بين الولايات، ولكن في ظل وصول حجم الدائرة المؤتمرية لأكثر من نصف مليون شخص، كان تمتُّع كلِّ ولاية بعدد سكان يمكن تقسيمه بشكلٍ متساوٍ إلى دوائر بهذا الحجم سيصير من المصادفات البعيدة؛ لذا ليس واضحًا بشكل مباشر كيفية إجراء التقسيم، وهنا تكمن مشكلة صنع القرار. إنها مشكلة عامة، لا تخضع للأساليب التحليلية البسيطة التي تحدَّثنا عنها فيما سبق، ويتخلَّلها العديدُ من صراعات المصالح. وما أصبح واضحًا في السنوات الأولى من هذا القرن أنه لا جدوى من أن تتوقَّع من كلِّ كونجرس جديد، بعد تعداد سكاني، أن يتوصَّلَ لاتفاقٍ على كيفية تقسيم الغنائم؛ فهم يحرصون بشدة على عدم فعل ذلك. وبعد تعداد ١٩٢٠، كان الكونجرس في غاية الانقسام، حتى إنهم لم يستطيعوا الاتفاقَ على لائحة لإعادة تقسيم الدوائر مطلقًا؛ لذا استمر تقسيم ١٩١٠ خلال حقبة العشرينيات، وكان من الممكن أن يستمر للأبد.

يوجد الآن (بناءً على تعداد ١٩٩٠) سبع ولايات لها نائب واحد فقط، وست ولايات أخرى ليس لها سوى نائبين؛ أي إن ثلاث عشرة ولاية، تشغل ربع عضوية مجلس الشيوخ، تسيطر على أقل من واحد على عشرين من عضوية مجلس النواب، وهذا أمر يمثِّل أهميةً بالنسبة إلى للولايات الصغيرة؛ فالولاية الكبرى (كاليفورنيا في وقت كتابة هذه السطور) لن تكترث كثيرًا بإضافة نائب واحد إلى هيئة مفوضيها البالغ عددهم اثنين وخمسين مفوضًا (علمًا بأنها حصلت على سبعة إضافيين عام ١٩٩٠)، بينما إذا حصلَتْ ولاية وايومينج (أقل الولايات من حيث عدد السكان) وست ولايات أخرى على نائب واحد آخَر إضافي، فمن شأنها أن تضاعِف هيئات مفوضيها. وفي مجلس النوَّاب، تتجاوز قوةُ نوَّاب كاليفورنيا التصويتية نوَّابَ إحدى وعشرين ولاية مجتمعين؛ أي حوالي نصف ولايات الاتحاد.

بخلاف تحديد الحجم الأدنى لدائرة انتخابية متوسطة، يلتزم الدستور الصمتَ التامَّ بشأن مسألة التقسيم؛ فهو يقضي بأن يكون حجمُ هيئة المندوبين محكومًا بكثافة الولاية السكانية، ويحدد اختيار النواب من جانب المواطنين (وإنْ كان لا يحدد الآلية). كذلك لا يذكر أي شيء عن كيفية تقسيم النوَّاب على المواطنين «داخل» أي ولاية؛ وقد جاءت هذه القيود بعد ذلك بكثير، في سياقٍ يتعلَّق بالحقوق المدنية، من خلال التأويلات المبتكرة للدستور من طرف المحكمة العليا.

إذن ما الخيارات المتاحة؟ لكي نسهل المعادلة الحسابية، دعنا نتناول حالةً متطرفة، تتمثَّل في دولة خيالية بها ولايتان فقط، «القوية» و«الضعيفة»، يبلغ عدد سكانهما ١٥٠٠٠ و٤٨٠٠٠ نسمة على التوالي، وكونجرس ثابت به ستة مقاعد. (لا شك أننا قد قمنا بفبركة أرقامنا بدقة، من أجل توصيل الفكرة.) ولما كان القانون في هذه الدولة الخيالية هو نفس القانون الساري لدينا — أن يكون لكل ولاية مقعد واحد على الأقل — يبدو واضحًا تمامًا أن من بين المقاعد الخمسة الأولى، ينبغي أن يذهب واحد إلى الولاية «القوية» وأربعة للولاية «الضعيفة»؛ وعلى ذلك سوف يمثِّل النائب القادم من الولاية «القوية» ١٥٠٠٠ مواطن، بينما سيمثِّل كلُّ نائب من الولاية «الضعيفة» ١٢٠٠٠ مواطن. لا يمكنك أن تنتزع الحد الأدنى من النواب المكفول للولاية «القوية»، وهو نائب واحد، بينما سيَعني منحها نائبين أنَّ كلًّا من هذين النائبين سوف يمثِّل ٧٥٠٠ مواطن، تاركين نوَّابَ الولاية «الضعيفة» الثلاثة المتبقين ليمثِّل كلٌّ منهم ١٦٠٠٠ مواطن. سيكون ذلك ظلمًا صارخًا؛ ومن ثَمَّ فإن التوزيع الأكثر عدلًا للمقاعد الخمسة الأولى واضح تمامًا.

ولكن ماذا عن المقعد السادس؟ لمَن يجب أن يذهب؟ إذا منحته للولاية «القوية»، فسوف يعود نوَّابها مرةً أخرى مسئولين عن دائرة انتخابية قوامُ كلٍّ منها ٧٥٠٠ شخص، في مقابل دوائر الولاية «الضعيفة» المكوَّنة من ١٢٠٠٠ شخص، بينما إذا منحته للولاية «الضعيفة»، فسوف يكونون مسئولين عن دوائر مؤتمرية مؤلَّفة من ٩٦٠٠ شخص، مقارَنةً بالعدد الأصلي لأفراد دوائر الولاية «القوية»، الذي يساوي ١٥٠٠٠ شخص. ما العمل؟

حسنًا، توجد خيارات عديدة، لن نذكر منها سوى اثنين؛ الأول اسمه طريقة المتوسط التوافقي، ويعني ببساطة ضرورة أن تحاول بأقصى ما لديك مساواة أحجام الدوائر المؤتمرية في الولايتين. فإذا منحت المقعد السادس للولاية «القوية»، فسوف تكون أحجام الدوائر ٧٥٠٠ و١٢٠٠٠، بفارق ٤٥٠٠؛ وإذا منحته للولاية «الضعيفة»، فسوف تكون الأحجام ١٥٠٠٠ و٩٦٠٠، بفارق ٥٤٠٠؛ إذن سوف يذهب المقعد إلى الولاية «القوية»، الولاية الأصغر، إذا كنت تحاول ببساطة أن تقرب أحجامَ الدوائر المؤتمرية معًا بأقصى قدر ممكن.

ولكن انتظر، والكلام لساسة الولاية «الضعيفة» البائسين، ثمة طريقة أفضل لتنفيذ ذلك؛ إذا منحت المقعد السادس للولاية «القوية»، فإن كل ألف نسمة من سكانها سوف يكون لهم نصيب قدره ٠٫١٣٣ من أحد أعضاء الكونجرس، بينما كل ألف من مواطني ولايتنا سوف يكون نصيبهم ٠٫٠٨٣ فقط، وهو ما يبدو عادلًا بالكاد؛ أما إذا منحتنا نحن المقعد السادس، فسوف يحظى مواطنو ولايتهم ﺑ ٠٫٠٦٦٧ عضو كونجرس لكل ألف مواطن، بينما سيحظى مواطنونا ﺑ ٠٫١٠٤٢ لكل ألف، والفارق بهذه الطريقة ٠٫٠٣٧٥ فقط، بينما بالطريقة الأخرى سوف يكون الفارق ٠٫٠٥٠، وهو ما يُعَدُّ فارقًا أكبر بكثير. إذن، بالنظر إلى مبدأ أن كل مواطن لا بد أن يكون له نفس التمثيل في الكونجرس، يجب أن يكون المقعد السادس لنا في الولاية «الضعيفة». (تُعرَف هذه الطريقة باسمٍ راقٍ هو طريقة الكسور الأساسية، وكانت تُستخدَم في تاريخ بلادنا المبكر.)

إذن ها هي المشكلة: إذا أردتَ أن تجعل الدوائرَ أقرب ما يمكن لنفس الحجم، يذهب المقعد إلى الولاية «القوية»، ولكن إذا أردتَ أن تمنح كل مواطن تمثيلًا متساويًا في الكونجرس، لأقصى حد ممكن، يجب إذن أن تحصل الولاية «الضعيفة» على المقعد؛ تحابي طريقةُ المتوسط التوافقي الولاياتِ الصغيرةَ، بينما طريقةُ الكسور الأساسية تحابي الولاياتِ الكبيرةَ. وهناك طرق أخرى تحمل ميولًا وتفضيلات أخرى، ولا غرابة في أن الساسة كانوا يقاتلون من أجلها منذ البداية؛ فهناك الكثير على المحك. والدستور (في كلٍّ من هذه الدولة الخيالية وفي دولتنا) لا يقدِّم أي عون، أيًّا ما كان؛ ففي دولتنا الخيالية، يمكن لتمثيل الولاية «القوية» في مجلس النواب أن يكون إما الثلث وإما السدس، مع عدم وجود أي اختلاف في عدد السكان، فقط وفقًا لقاعدة التقسيم المختارة؛ فكلتا القاعدتين سوف تكون متوافقة مع الدستور، و«الساسة» هم مَن يختارون الأنسب لهم.

لا ننكر أننا قمنا بفبركة أرقام من شأنها أن تؤدِّي إلى المعضلة التي كنَّا نبحث عنها، ولكن مع الأرقام الحقيقية في الولايات المتحدة، عادة ما تترك عملية إعادة التقسيم التي تتم عقب كل تعدادٍ بعضَ الولايات على الحد الفاصل ما بين الحصول على نائب إضافي، وعدم الحصول عليه، تمامًا مثل الولاية «القوية» والولاية «الضعيفة»؛ فالنتيجة النهائية بالنسبة إليهما تتوقف على الطريقة المستخدَمة، وهي تصنع فارقًا كبيرًا. وتذكَّرْ — إلى جانب تأثير حجم هيئة المندوبين على التشريع القومي — يعتمد تشكيل الهيئة الانتخابية على عدد النواب المخصص لكل ولاية.

إذن ماذا بوسع أي دولة أن تفعل، حين يجد «شخصٌّ ما» نفسه أنه مضطر للقبول بأنه غير مُمثَّل؟ ولماذا لم يخبرنا مُعِدُّو الدستور كيف نفعل ذلك؟ ألَيس من المحتمل أن الرياضيات — على الرغم من شهاداتهم التعليمية الراقية — لم تكن مجالَ تميُّزهم؟ تذكَّرْ أن بنيامين فرانكلين كان موجودًا، ولكنه كان طاعنًا في السن حينذاك، وكان عالمًا، ولكنه لم يكن عالم رياضيات.

حسنًا، تلك ليست مشكلة رياضية بحتة، ولكنها مشكلة تتعلَّق مجدَّدًا بصنع القرار، يعتمد حلها على ما تود تحقيقه؛ فإذا أردتَ أن تتحيز للولايات الصغيرة، فَلْتتجه إلى طريقة المتوسط التوافقي، وإذا كنت تحب الولايات الكبيرة، فالكسور الأساسية هي ملجؤك؛ ولعل هذا يفسِّر عدم إمكانية حل القضية بالمنطق البحت. فمن الضروري للكونجرس أن يتوصَّل إلى اتفاق عن طريق المفاوضات والتسوية؛ فليس للمنطق دور كبير هنا.

علاوة على كل ذلك، تعاني بعض الطرق التي لم نذكرها مما يطلِق عليه الساسةُ مفارقاتٍ؛ وهي ليست بالمعنى الذي قابلناه في الفصل العاشر؛ فالمفارقة — بالنسبة إلى السياسي — تعكس نتيجة غير مرغوبة أو غير مستساغة لإجراءٍ ما، وليس تناقضًا واضحًا؛ فحين تعمل الرياضيات بطرق غير متوقعة — غير متوقعة من قِبَل الساسة — يُسمَّى هذا مفارقة. والمفارقتان اللتان عرقلتا المحاولات السابقة لابتكار نُظُم للتقسيم يُطلَق عليهما مفارقة ألاباما ومفارقة السكان. بإيجازٍ، تصيب مفارقة ألاباما أي مخطط للتقسيم إذا كان من الممكن لحجم هيئة مندوبي إحدى الولايات أن ينخفض مع زيادة حجم مجلس النوَّاب، وحينئذٍ يعاد تقسيمه (كاد أن يحدث ذلك ذات مرة لولاية ألاباما). أما مفارَقة السكان، فتحدث حين يمكن أن تؤدِّي زيادةٌ في إجمالي عدد السكان إلى انخفاض في حجم مجلس النوَّاب. (ليست أيٌّ من هاتين المفارقتين حقيقية في جوهرها، ولكنَّ كلًّا منهما يمكنها أن تخفض عدد النواب؛ ومن ثَمَّ لا تلقى قبولًا من جانب النواب؛ إذ قد يضطر بعضهم للتقاعد.) ويتم تفادي مفارقة السكان الآن بتثبيت حجم مجلس النواب عند ٤٣٥، حتى لا يكون هناك إمكانية لأن يتضاءل، بينما يتم تفادي مفارقة ألاباما عن طريق الوضع في الاعتبار طرقَ التقسيم التي تكون محصنةً ضد هذه المفارقة، دون غيرها من الطرق.

وعلى ذلك أصدر الكونجرس في عام ١٩٤١ قرارًا بأن تكون الطريقة المستخدمة هي «طريقة النِّسَب المتساوية»، وهو اسم وصفي غامض لا يعني الكثير لأي أحد على الأرجح، ولكن عند جمعها مع مجلس نوَّاب ذي حجم ثابت، نتجنَّب كلَّ المفارقات المزعومة، بينما لا نجد محاباةً صارخةً لأيٍّ من الولايات الكبيرة أو الصغيرة. مع هذه الطريقة، يمكنك أن تمضي فيها كما يلي: استخدمْ نتائج كل تعدادٍ لتنفيذ تقسيم أولي لعدد النوَّاب الذي سيُخصَّص لكل ولاية، وفقًا لعدد سكانها، بعدها خُذ نتيجة ذلك التقسيم المبدئي وقُمْ بتعديله بمقارنة حجم هيئة مندوبي كل ولاية مع حجم هيئة مندوبي كل ولاية أخرى، وفقًا لقاعدة أخرى غريبة. يتم في البداية حساب نسبة السكان إلى عدد المندوبين لكلٍّ من الولايتين اللتين ستعقد المقارنة بينهما، لإيجاد متوسط الحجم لأي دائرة انتخابية مقترحة لكل ولاية، بعد ذلك يتم حساب «نسبة» القيمة الأكبر إلى القيمة الأصغر؛ ما يُسفِر عن رقم أكبر من واحد، كمقياس لمدى كبر الدائرة الكبيرة عن الدائرة الصغيرة. (كان المعيارُ الذي اتخذتْه الطرق التي ذكرناها أعلاه فارِقَ أحجام الدوائر في الولايتين وفارِقَ تمثيلات الناخبين؛ أما هذه الطريقة فتتخذ النسبة معيارًا.) إذا أمكن خفض النسبة (أيْ تقريبها أكثر إلى النسبة العادلة) من خلال نقل مندوب واحد من الولاية ذات التمثيل الزائد إلى الأخرى، فينبغي تنفيذ ذلك. أما حين لا يعود بالإمكان خفض هذه النسبة بنقل مندوبين بين الولايات، تكتمل العملية وتنتهي عملية التقسيم. هذا هو القانون، والمبرر ببساطة أنه بين الطرق الخمس الأكثر نجاحًا التي اقتُرِحت على مرِّ السنين، والتي «أمكن» استخدام كلٍّ منها، تُعتبَر هذه الطريقة هي الوسطى فيما يتعلَّق بالتفضيلات، سواء للولايات الكبيرة أم الصغيرة. ذاك هو السبب «الوحيد» المعلن لاختيار هذه الطريقة؛ فالاختيار اعتمد على التسوية، مثلما كان الحال بالنسبة إلى جزء كبير من الدستور الأصلي، ومن ثَمَّ لا ينبغي تحليله في إطار المبادئ أو المنطق الرياضي.

في الواقع، ليس ضروريًّا أن تخوض هذا الإجراء المطول لتنفيذ الطريقة، فمن السهل أن تبين (ثِقْ بالكاتب) أن كلَّ ما يلزم هو حساب متوسط حجم دائرة انتخابية إلى كل عدد ممكن من النواب، لكل ولاية، ثم تصنيف الولايات بالترتيب، مُستخدِمًا — كمؤشر للتصنيف — «ناتج» حجم أي دائرة مقترحة وحجمها لو تمَّتْ زيادة هيئة المندوبين بمعدل مندوب واحد. ويمكن تطبيق ذلك على كل الأحجام المقترحة لهيئة المندوبين، حينئذٍ يكون كل ما يلزم هو ترتيب الولايات وتمثيلاتها المقترحة، وتوزيع النواب إلى أن يصل الإجمالي ٤٣٥. يبدو الأمر معقَّدًا، ولكنه ليس كذلك؛ لا سيما في عصر الكمبيوتر.

كيف تطبق الطريقة المعتمدة على الحالة الافتراضية أعلاه؟ ستحصل الولاية الأكبر — «الضعيفة» — على الموافقة بهامش صغير للغاية؛ هكذا تجري الأمور.

تلك هي القاعدة الحالية السارية منذ الربع الأخير من تاريخنا كأُمَّة. وإذا امتلكَتِ الولاياتُ الأكبر أو الأصغر سيطرةً كافيةً على العملية بما يكفل لها تغييرَ القانون لصالحها، فلا شيء يسدُّ الطريق، ولا يوجد سبب تاريخي للاعتقاد بأنها لن تنقضُّ على الفرصة؛ ففي مسقط رأس هذا الكاتب، وفي الكثير من الولايات الأخرى في بلادنا وفي تاريخنا، لا يتردَّد الحزب المسيطر على المجلس التشريعي للولاية في وقت إعادة التقسيم للحظةٍ في الاعتناء بمصالحه، بطريقة أو بأخرى؛ إنها حالة من عدم الاستقرار لم يوفر الآباء المؤسسون أيَّ حمايةٍ في مواجهتها.

في العالم الواقعي، لو كان الحد (الاعتباطي تمامًا) المفروض على حجم مجلس النواب قد تحدَّدَ ﺑ ٤٣٦ بدلًا من ٤٣٥ في عام ١٩١٠، لَكانت الولاية التالية التي ستحصل على مقعد في وقت إجراء تعداد ١٩٩٠ هي ماساتشوستس، بفارق صغير ولكنه واضح على المنافس التالي، نيوجيرسي. وفي المركز التالي تأتي مدينة نيويورك، بعد القادة بفارق كبير (إن كلمة «قائد» في هذه الحالة تعني أنها الولاية الأولى التي فقدَتِ الفرصة). كانت ماساتشوستس ستنتقل من عشرة مقاعد إلى أحد عشر مقعدًا، وهي زيادة غير هينة في التمثيل بنسبة ١٠٪، وصوت إضافي في الهيئة الانتخابية. على الجانب الآخر، لو كان نظام التقسيم المستخدَم في الجزء الأول من هذا القرن قد استخدم بدلًا من النظام الحالي، لَحصلت ماساتشوستس على مقعدها الإضافي على أي حال، على حساب أوكلاهوما. لا أحد يحب أن يهدر فرصة إحراز الفوز، وهذا هو ما جعل هذه المشكلة الغامضة المتعلِّقة بصنع القرار تشغل عقول الساسة لزمن طويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤