الفصل الثامن عشر

الاستثمار: البورصة

بالطبع لا توجد سوق مال (بورصة) من نوع واحد؛ فهناك العديد من أشكال السوق تحت مسمَّيات متشابهة، تتضمَّن جميعًا شكلًا من إجراءات المزايدة المفتوحة بشكل واضح على منتجات قابلة للتبادل، وكأنها بازار شرقي، وسوف ينطبق معظم ما سيرد في هذا الفصل عليها جميعًا تقريبًا، ولكن الافتراض الأساسي وراء كل شيء نقوله سيتمثَّل في كونها جميعًا تُدار بأمانة؛ إذا بَدَا بعضها يُدار على الحافة الخطرة للأمانة — وهو ما يُعَدُّ حتميًّا بالنظر إلى المغريات — فليكن. ولا ينبغي أن يكون لهذا الفصل أيُّ تأثير على رجال الأعمال الكبار أو كبار المسئولين السياسيين، الذين لديهم مدخل لمعلومات مربحة غير متاحة لبقيتنا. إن استخدام مثل هذه المعلومات يكون غير قانوني بشكل سافِر تارةً، وتارةً لا يكون سافِرًا لدرجة كبيرة، بل أحيانًا يكون قانونيًّا أيضًا، ولكن هذا ليس له صلة إطلاقًا بفن وعلم صنع القرار. إن هذه الفكرة تعيد للأذهان النصيحةَ المشهورة التي أسداها قس لرعيته؛ فقد كان يحثهم على أن يسيروا دائمًا على الخط المستقيم الضيق بين الخير والشر. ربما لم يكن يقدِّر قيمةَ ما كان يقوله، إلا أن تلك ربما تكون أفضلَ طريقة لتحقيق مكاسبَ تَفُوق متوسطات سوق المال، مع تجنُّب الوقوع في الجريمة.

السؤال الماثل أمامنا هو حول إذا ما كانت نظرية القرار تسدي أيَّ نفع يُذكَر في العثور على استراتيجيات مثالية للاستثمار. لقد اجتاحَتْ برامج الكمبيوتر البلادَ على مدار العقد السابق أو نحو ذلك، وكان من شأن هذا أن يزيد زيادةً جامحةً برامجَ الكمبيوتر الخاصة بتحليل الأسهم. من الواضح أن ثمة فكرة قد أُدرِكت، بشكل صحيح أو خاطئ، مفادها إمكانية إيجاد ربح في التحليل المحوسب لسوق البورصة؛ ولا شك أن الطابع الغوغائي الذي يصاحب بيع نفس البرامج واللوغاريتمات عدة مرات لمستثمرين مستقلين، يمكن أن يقوض التنوُّعَ اللازم للحفاظ على سوق عادلة ومستقرة؛ فحين يحوز الجميع نفس برنامج الكمبيوتر — سواء أكان جيدًا أم سيئًا — ويخبر هذا البرنامجُ الجميعَ بأن يبيعوا أو يشتروا الأسهمَ في نفس الوقت — سواء أكان ذلك صحيحًا أم خاطئًا — يمكن أن تكون النتيجة فوضوية؛ وهذا يحدث من آنٍ لآخَر، ويبدو أن الناس ينسون أن برنامج الكمبيوتر الذي يستخدمونه كُتِب بواسطة أشخاص غالبًا ما لا يكونون أكثر حكمةً ممَّا قد يكونون عليه هم أنفسهم، ويتمثَّل عملهم في بيع مثل هذه المنتجات. ولكن بمجرد أن تُطمَر المعرفة التقليدية في برنامج كمبيوتر وتصبح جزءًا لا يتجزأ منه، يصبح لها كيان مستقل خارج عن السيطرة. (وكل كاتب يعلم ذلك؛ فحين ترى كتابك أو مقالك في شكل مطبوع، يبدو موضع سلطة أكثر بكثيرٍ ممَّا كان يبدو عليه وهو مخطوط يدوي.)

ولعل المثال الكلاسيكي لسيكولوجية الغوغاء في الأسواق المالية كان متمثِّلًا في جنون التيوليب الرهيب الذي شاع في أوروبا في مطلع القرن السابع عشر. (يُعَدُّ الكتاب الممتع «أوهام شعبية استثنائية وجنون القطيع»، تأليف تشارلز ماكاي، مصدرًا رائعًا لهذا الحدث وأحداث أخرى مماثلة.) كان الاستثمار في التيوليب قد وصل إلى درجة أن الناس كانوا يدفعون ما يعادِل دخْلَ عامٍ كامل مقابل بصيلة واحدة، واثقين من أنهم مهما دفعوا، يمكنهم أن يبيعوها بمقابل أكبر خلال شهر أو نحو ذلك. كانت نوبة جنون انهارَتْ في النهاية من تلقاء نفسها، مثل أي برنامج لطرح شيكات من دون رصيد في السوق، أو للرسائل المسلسلة. وترد كلمة جنون التيوليب tulipomania، الآن في جميع القواميس الجيدة تقريبًا، ومع الاتصال الجماهيري الحديث، صرنا أكثر عرضةً من أيِّ وقت مضى لنوبات الذعر المالي.

الفرضية الأساسية التي تقوم عليها جميع عمليات التداول في البورصة هي أن سعر أي سهم (أو أيًّا ما يتم التداول عليه في عملية التداول تلك بالذات) محدد بشكل مُنصِف، من خلال المزايدة التنافسية المفتوحة من جانب المشترين المحتملين، والعروض التنافسية المفتوحة من جانب البائعين المحتملين. (حتى السعر المتَّفَق عليه، كما هو الحال بالنسبة إلى أزهار التيوليب، يمكن أن يكون بمنزلة مرشد سيئ للقيمة الحقيقية، ولكن من الضروري الاتفاق على سعرٍ ما قبل أن تكون هناك إمكانية لإتمام الصفقة.) ولما كانت الأسهم المعروضة للبيع، شأنها شأن الأوراق الدولارية، قابلةً تمامًا للتبادُل (فسهم عادي لشركةٍ ما له نفس قيمة أي سهم عادي لشركة أخرى؛ هذا هو معنى كلمة «مثيلة»)، فلا يوجد سبب يدفع المشتري لعدم الشراء بأقل سعر متاح، ولا يوجد سبب يدفع البائع لعدم أخذ أعلى عطاء. ودائمًا ما يوجد «بعض» المشترين و«بعض» البائعين مَن يمكن التوفيق بينهما من خلال عملية مفاوضة بسيطة، وتحسم الصفقة، ملايين المرات في اليوم الواحد؛ فالسوق لديها آليات متطوِّرة ولكنها غير مثالية لطمأنة المستثمرين (وأيضًا لطمأنة هيئة الأوراق المالية والتداولات) بأن هذه العلانية هي في الواقع في محلها، وأن السماسرة والوسطاء يحصلون على عمولات من كلٍّ من البائعين والمشترين لتوفير خدمة التداول. سيكون فقط علينا أن نفترض أن كل هذا يؤتي جدواه، على الرغم من وفرة الصفقات الخاصة بالطبع، والكثير منها قانوني تمامًا. ودائمًا ما تظهر الفضائح في مجال التداول كظهور طيور أبي الحناء والديدان في الربيع؛ والدافع موجود بالتأكيد.

تُعتبَر المنافسة من جانب كلٍّ من المشترين والبائعين أساسيةً لاستقرار المنظومة، مثلما هي في الجوانب الأخرى لأي اقتصاد سوقي؛ فإذا كان عدد المشترين الذين يزايد بعضهم على بعضٍ قليلًا، يمكن للمشترين أن يُرغِموا البائعين المتلهفين على خفض أسعارهم. أما إذا وُجِدت مجموعة كبيرة من المشترين والبائعين، فسوف يكون هناك دومًا مشترٍ «ما» على استعدادٍ لدفع سعر مقبول لبائعٍ «ما»؛ ومن ثَمَّ يتم الحفاظ على حركة السوق؛ وعليه ففي سوق تنافسية بحقٍّ، لا يوجد فيها تواطؤ بين البائعين أو المشترين، يتواجد التوازن عند مجموعةٍ من الأسعار مقبولةٍ بشكلٍّ تبادلي على الأقل «لبعض» أعضاء كل جانب، وفقًا لتقديراتهم الفردية لقيمة السهم قيد النظر. والاحتكار من جانب أيٍّ من الطرفين مدمِّر لأي سوق قائمة على المزايدة التنافسية، ولكن لا يمكن منعه إلا بالقانون وتطبيقه؛ فالتواطؤ يأتي بنتائج جيدة، ويُعَدُّ عاملَ جذبٍ قويًّا للاعبين الذين يعتقدون أن بإمكانهم الإفلات بفعلتهم؛ وكان هذا هو السبب وراء إنشاء هيئة الأوراق المالية والتداولات في عام ١٩٣٤، في ذروة الكساد العظيم.

ولكن في سوق عادلة، ما الذي يدخل ضمن التقديرات المتعدِّدة لقيمة سهمٍ ما؟ فالسهم في النهاية مجرد قطعة ورق، لا تصلح للأكل، ومن المحتمل (إن لم يكن دائمًا) أن تكون أَقْيَمَ من أن تحرقها في مدفأتك؛ ومع زحف الحوسبة سيصبح السهم عمَّا قريب، بلا شك، لا شيء سوى مجموعة من الإشارات الضوئية الإلكترونية في ذاكرة مغناطيسية أو بصرية على كمبيوتر في مكانٍ ما، دون أن تكون له قيمة كغذاء أو وقود؛ إنه يمثِّل جزءًا من ملكية شيءٍ ما يصاحبه احتمالٌ بكسبِ دخلٍ حاليٍّ ومستقبليٍّ، مع ملاحظة أن الأخير لا يكون مؤكدًا بشكل متزايد في ظلِّ سعي المستثمرين المحتملين لأخذ فترات مستقبلية أكبر وأكبر في اعتبارهم (مع خصم مناسب من القيمة بالطبع). ويكون على المستثمر أن يقارِن المنفعة المتوقعة لملكية السهم في مقابل الأدوات الاستثمارية المتاحة الأخرى، مثل: السندات، والحسابات البنكية، والعقارات، وحقوق امتياز مطاعم الوجبات السريعة أو أدوات السرقة.

بعض التوقعات الخاصة بالمستقبل لا تعتمد كثيرًا على السهم قيد النظر، وإنما على الحالة الصحية العامة والتوقعات الخاصة بالاقتصاد القومي أو العالمي، ومثل هذه الاعتبارات يمكن أن تدفع مجموعات الأسهم الكاملة لمستوًى أعلى أو أقل من حيث المرغوبية؛ ومن ثَمَّ القيمة؛ ومن ثَمَّ السعر، بصرف النظر عن المزايا الخاصة للأسهم الفردية؛ وهكذا تعتمد قيمة أي سهم على حزمة من العوامل المحددة وغير المحددة، وفنُّ وعلمُ تحديد علاقة السعر بالقيمة هما جوهر عملية الاستثمار. تميل أسهم الشركات المستقرة والموثوق فيها إلى أن تباع بأسعارٍ تفوق مكاسبها السنوية الحالية بمقدارٍ يتراوح بين خمس مرات وعشرين مرة، بحسب الظروف الخاصة، بينما استثمارات المضاربة — أسهم شركات تقدِّم احتمالَ تحقيقِ ربحٍ وفير في وقت قصير في المستقبل — قد تباع بسعر مرتفع حتى إن كانت الشركات التي تمثلها تخسر أموالًا بسرعة رهيبة.

إذن فتوقُّع تحقيق ربح مستقبلي يلعب دورًا مهمًّا — كانت النصوص التقليدية تصفه بالمحوري — في تحديد أسعار الأسهم، وتحليل مثل هذه التوقُّعات هو أساس صناعة عملاقة من العرَّافين والمحلِّلين؛ فهناك مَن يُسمَّون المحلِّلين الأساسيين، الذين يشغلون أنفسهم بالمكاسب المحتملة للشركات الفردية من خلال منتجات واعدة، أو إدارة جيدة، أو عمالة استثنائية، أو أي شيء يبشر بمستقبل واعد للشركة، وهناك آخرون يعرفون بالكاد اسمَ شركة واحدة (هناك مبالغة بسيطة في ذلك، سَمِّها ضرورةً شعريةً)، ولكنهم متخصِّصون في التنبؤ بالاتجاهات العريضة للاقتصاد، والتوقُّعات الخاصة بصناعات معينة، وأمور من هذا القبيل؛ أشياء تميل لدفع أسعار مجموعات الأسهم الكبيرة. وهناك ملايين المستثمرين بالمعنى الحرفي للكلمة يتبعون هذه التوصيات، بإخلاص وصدق قلَّ أو كَثُر. (هناك أيضًا المنجمون، والروحانيون، وقارئو أوراق التاروت، ومدَّعون آخرون أقل وضوحًا، ولكننا سنتجاهلهم هنا.)

ونظرًا لأن المزايدة تكون تنافسية في أي سوق عادلة، فإن السعرَ المتفق عليه بين مجموعة متنوعة من المشترين ومجموعة متنوعة من البائعين على قدم المساواة — مع ملاحظة توافر نفس الحقائق لدى كلتا المجموعتين — إنما يمثِّل، بمعنًى سوف نوسِّع نطاقه لاحقًا، سعرًا «سوقيًّا» للسهم القائم؛ ومن المفترض أنه يمثِّل المعرفة المتوسطة لمجتمع المشترين والبائعين عن قيمة ذلك السهم، وأن يمثِّل القيمةَ التي كان من شأن أي فرد أن يصل إليها لو توافرت لديه كل المعلومات، ووزنها بإنصاف وعدل في تحليله. (كلمة متوسطة هنا بالمعنى الدقيق للكلمة لا يُقصَد بها معدل متوسط، بل تعني ما سوف يدفعه المشتري الأشد لهفةً للبائع الأشد لهفةً في أي وقت.) هذا هو ما يطلق عليه الخبراء «السوق ذات الكفاءة»، ولا يمكن لفرد أن «يحقِّق مكاسب» إلا بمعرفة أكثر مما يعرف المشاركون الآخرون في السوق ذات الكفاءة، أو بتحليله على نحوٍ أفضل أو أسرع منهم. والنسخة البسيطة من النظرية الكامنة وراء صورة السوق ذات الكفاءة هي أن هناك أشخاصًا كثيرين للغاية يقومون بمثل هذه التحليلات، لدرجة أن أي حقيقة قد يكون لها تأثير على قيمة سهم بعينه سرعان ما تصير معروفةً على نطاق واسع، وسرعان ما تُستوعَب في الوعي الجمعي، وسرعان ما يظهر تأثيرها واضحًا على سعر السهم. وسوف يعمل أحدهم على أساس هذه المعلومات؛ فبعض الناس يحصلون على مقابل جيد لمعرفة تلك المعلومات تحديدًا، وبالفعل تُظهِر بعض الاختبارات أن الأخبار والشائعات تنتقل بسرعة ضخمة في هذه البيئة؛ إذن فصورة السوق ذات الكفاءة تتمثَّل في أن من العبث أن تتمنَّى تحقيقَ مكاسب في السوق إذا لم يكن متوافِرًا لديك سوى المعلومات والأدوات التحليلية المتوافرة لمنافسيك وللآخرين جميعًا. البديل الوحيد لذلك هو أن يكون بوسعك أن تكون أكثر ذكاءً منهم، أو تجتهد أكثر، بالمعلومات المتاحة للجميع. حين يزدهر حال المستثمرين الفرديين عامًا بعد عام (مثل الأسطورة بيتر لينش مؤسِّس صندوق فيديليتي ماجلان، والمتقاعد حاليًّا)، فهذا يُعزَى إلى حد كبير إلى إنفاقهم وقتًا أكثر ممَّا ينفقه الغالبية في قراءة واستيعاب أعمال وشئون الشركات الفردية؛ ومن ثَمَّ يكتسبون معرفةً تفوق المنافسين. لا يوجد سبب يجعلنا نغضُّ الطرفَ عن أهمية الاجتهاد والمهارة، حتى في الاستثمار؛ بالطبع سوف يبلي أحدهم بلاءً حسنًا دون كدٍّ أو مهارةٍ في عامٍّ ما، ولكن كما أكدنا كثيرًا، يمكن أن يكون هذا نتاج الحظ لا أكثر؛ نوعًا من التذبذب بالمعنى المشار إليه في الفصل السابق. وخبير العام الواحد هو القاعدة أكثر منه الاستثناء في مجال الاستثمار.

ثمة طريق آخَر محتمل للثراء هو تحليل إحصاءات سوق الأسهم الإجمالية، على أمل تحديد الاتجاهات السائدة؛ سيكون ذلك على طريقة الفصل السابق، ويستطيع مثل هذا المحلِّل تجنُّبَ المرور بعذاب وشقاء عملية اختيار الأسهم الفردية. إن الصورة هنا أكثر ضبابيةً بعض الشيء وأكثر تعقيدًا، ولكننا سنحاول. وهذا النوع من الأمور يستوجب منا أن نعمل بمتوسطات، وليس بأسهم محدَّدة، وإنْ كنَّا سنعود إلى شيء في المنتصف بينهما في النهاية.

السؤال الأول والأهم هو: ما الذي يجعل متوسطات السوق تتغيَّر من يوم لآخر؟ أحيانًا تتفاعل السوق مع الأخبار، جيدة كانت أم سيئة، مما قد يكون له تأثير على التوقعات المستقبلية للاستثمار؛ فحين يقوم مجلس الاحتياطي الفيدرالي بتغيير معدلات الفائدة، تقفز البورصة، وإن لم يكن واضحًا دائمًا في أي اتجاه. (هذا يعتمد على إذا ما كان التغيير متوقَّعًا أم غير متوقَّع؛ وإذا كان متوقَّعًا، فسيعتمد على إذا ما كانت التخمينات مرتفعةً أم منخفضةً، وإذا ما كان المستثمرون يعتقدون أن ما حدث بالفعل كان في الواقع متوقَّعًا أم لا. فعندما يقوم الناس ببيع أو شراء أسهم أو سندات ترقُّبًا لتغيُّرٍ في سعر الفائدة، قد يصيبون أو يخطئون، ولكنهم دائمًا يساهمون في كفاءة السوق.) بالمثل، تؤثِّر أنباء الحرب والسلام والأحداث السياسية وما إلى ذلك على متوسطات السوق، ومن المربح أن تكون قادرًا على التكهُّن بتلك التأثيرات بشكل أفضل من المنافسين. والتذبذبات اليومية في المتوسطات مركبة من الكثير من العوامل الصغيرة وبعض العوامل الكبيرة؛ ممَّا يؤثِّر على الأسهم المختلفة والمستثمرين المختلفين، ويؤدِّي إلى شيء أشبه بالمسار العشوائي الذي عزوناه للشخص الثَّمِل في الفصل الخامس.

ولكن إلى أي مدًى تتَّسِم التذبذبات بالعشوائية في الواقع؟ في يوم عادي في بورصة نيويورك للأوراق المالية (اليوم الذي كتبتُ فيه هذه السطور) أحرز حوالي ألف سهم ربحًا، فيما مُنِي ألفٌ آخر بخسارة، وظلَّت سبعة آلاف سهم ثابتةً. لو أن التغييرات كانت عشوائية حقًّا بالمعنى التقليدي، وكان أداء السهم يسير بشكل مستقل، لَأمكننا تطبيق قاعدة الجذر التربيعي، وتوقُّع اختلاف عدد الأسهم الرابحة عن عدد الأسهم الخاسرة بمقدار ما يعادل الجذر التربيعي للألف تقريبًا، أو ما يقارب الثلاثين؛ وقد تبيَّنَ أن هذا هو الناتج (وقد أصبح اليومَ أربعين، وهو ما يُعَدُّ منطقيًّا)، وهكذا بواسطة هذا الاختبار البسيط، نجد أن الأسهم الفردية تترنح مثل ترنُّح صديقنا الثمل بالقرب من المنحدر. وفي تلك الصورة، يكون سلوك المتوسطات المركبة مثل نقطة المنتصف لجماعةٍ من السوقة مؤلَّفةٍ من بضعة آلاف من المخمورين.

أُجرِي هذا النوع من التحليل بمزيد من التفاصيل المعقَّدة إلى حد كبير عبر فترات طويلة من الزمن، وكان الرأي المجمع عليه (وإن لم يكن إجماعًا كاملًا؛ فليس هناك شيء محل إجماع تام في هذا المجال) هو أن التغيُّرات اليومية في متوسطات أسعار الأسهم تشبه بالفعل مشيًا عشوائيًّا، ويصعب وجود نمط محدود يمكن إدراكه. (يتسق ذلك مع صورة السوق ذات الكفاءة، التي تشير إلى أنه لو كان هناك أي نوع من الاستقرار القابل للاستغلال، لَكان قد وُجِد، ولَمارَسَ تأثيرًا كافيًا على هيكل الأسعار لتأكيد وجوده.) إذا تقبَّلت الصورة، فمن المحال أن تستخدم المتوسطات لإدراك النمط، مثلما هو محال أن تعرف الاتجاهَ الذي تنوي جماعةٌ من السوقة المغمورين اتخاذَه؛ وهذا على الرغم من المبالغ الكبيرة التي ينفقها المستثمرون، والتي يجمعها المتنبِّئون من أجل هذا النوع من التحليل. ولكن الأدلة ليست واضحة تمامًا، وسيظل الأمل موجودًا للأبد، ولذلك يزدهر وينجح الخبراء والأنواع الأخرى من روَّاد الأعمال المقامرين. (مؤخرًا أجرى بيتر لينش، المذكور أعلاه، حوارًا سارَعَ خلاله باستنكار نموذج المسار العشوائي لدرجة أنه أقنَعَ هذا الكاتب بأنه لا يفهمه تمامًا. ليس عليك أن تكون عليمًا بكل شيء لكي تنجح في استخدام ما تعرفه.)

لنفترض أننا أخذنا الخطوة التالية، وتساءلنا عن مقدار التفاوت اليومي في المتوسطات على مدار فترة أطول، الذي تسبِّبه الآثار التراكمية للمشي العشوائي. (تذكَّرْ أن متَّبِع نموذج المسار العشوائي يشرد بعيدًا عن النقطة التي يبدأ منها بمرور الوقت.) يمكن تحليل هذا بنفس الطريقة، باستخدام قانون الجذر التربيعي وأشقائه الأكثر تطورًا. مرة أخرى نجد الأدلة مقنعة، ولكنها ليست واضحة تمام الوضوح، على أن التغيرات اليومية والأسبوعية والشهرية في المتوسطات تُعزَى في أغلبها إلى التذبذبات العشوائية وغير المتناسقة في الأسهم الفردية التي تتألَّف منها السوق، لتكون نمطًا مثل انحراف السائر الثمل عن الطريق. من مغالطات الإدراك الإنساني أن نرى أنماطًا لا وجود لها، وأن نرى نظامًا حيثما لا يوجد أي نظام؛ إن الجمال والنظام يكونان في عينَيْ حامل الأسهم وحده. (في مسرحية أريستوفان «السُّحُب»، يحاول سقراط إقناع شخصية ستريبسياديس بأن الجوقة، التي ظهرت على خشبة المسرح للتوِّ، هي في الواقع مؤلَّفة من سُحُب؛ فيعترض ستريبسياديس على ذلك قائلًا إنهم يبدون بشرًا، ويقول إنه لم يشاهد من قبلُ سحابةً لها أنف، ولكن سقراط يتساءل إن كان قد رأى من قبلُ سُحُبًا تشبه الفهود أو الأسود. حسنًا، نعم … وسرعان ما اقتنع ستريبسياديس.) ولكن مرة أخرى تفتقر الأدلة الداعمة لنموذج المسار العشوائي للوضوح؛ فهي تفي بمعيار منطقي للحكم، ولكنها لا تكفي أن تقنع المشككين الذين يأخذون الأمر على نحو حرفي بشكل مبالغ. قد يكون المشكِّكون مخطئين، ولكن هذا لا يعني أن شكوكهم غير منطقية. (هذا التنويه يخصُّ المشكِّكين المستنيرين في نموذج المسار العشوائي، وليس المتنبئين الذين يحاولون محاكاةَ أي نموذج على نحو غير مستنير؛ فهؤلاء لهم الحرية في أن يكونوا مغالين ولا عقلانيين لأنهم لا يُحاسَبون على أفعالهم.)

يمكن للمرء أن يتخذ خطوة أخرى في فهم النتائج غير العشوائية للمشي العشوائي، مثلما كان صديقنا الثَّمِل في الفصل الخامس يقترب أكثر وأكثر من حافة المنحدر لأن عالمه كان مائلًا في هذا الاتجاه (في مثال الروليت، كانت الاحتمالات في غير صالح الشخص)، ثمة فارق بين القمة والقاع في أسعار الأسهم؛ فمن الممكن أن تتجاوز القمةَ ارتفاعًا، ولكن دون أن تخترق القاعَ انخفاضًا. والتشبيه الذي يَرِد إلى الذهن في هذا الصدد يتمثَّل في تعليقٍ ورَدَ على لسان مدرِّبة طيران قبل خمسين عامًا، حين كان هذا الكاتب يتعلم الطيران لأول مرة؛ فمن المحبط أن تكون في طائرة صغيرة تسير في تيار هواء منخفض شديد القوة، لدرجةٍ يستحيل معها أن تحافظ طائرةُ التدريب ذات القدرة المنخفضة على ارتفاعها، ويمكن أن يكون الأمر أكثر من محبط إذا حدث هذا بالقرب من الأرض. من الممكن أن يحدث هذا بسهولة في الجانب المحجوب عن الرياح من أحد المرتفعات، ليجد المرء نفسه ببساطة يفقد الارتفاع، مقتربًا من الأرض الصلبة، غير قادر على قلب الاتجاه. وقد كان التعليق المطمْئِن للمدرِّبة مفاده أنه لا يوجد حادث مسجَّل تسبَّبَ فيه تيار هواء منخفض في تحطُّم طائرة على الأرض. وقد كانت بالطبع محقة؛ فحتى الهواء لا يستطيع أن يخترق الأرض؛ ومن ثم فهناك قاع طبيعي للتيارات المنخفضة، والتي دائمًا ما تنعطف مع اقترابها من مستوى الأرض. (لا علاقة لهذا بانكسار الرياح بالقرب من الأرض، الذي يُعَدُّ مصدرَ خطرٍ حقيقيٍّ على كل الطائرات، الكبيرة والصغيرة، وغالبًا ما يتم الخلط بينه وبين التيار المنخفض في الصحافة الشعبية.)

كذلك لا تستطيع أسعار الأسهم أن تخترق القاعَ انخفاضًا — فلا أحد سيدفع لَكَ لِكَي تأخذ منه سهمًا — ومن ثَمَّ يوجد حاجز طبيعي يصنع فارقًا بين القمة والقاع، تمامًا مثل حافة المنحدر بالنسبة إلى المخمور؛ فيما عدا أنه في هذه الحالة — مثل الأرض بالنسبة إلى الطائرة — يكون التفضيل للقمة، وليس للقاع. وفي النهاية، يعني هذا أن تغيُّرات الأسعار تكون أغلب الظن لأعلى وليس لأسفل؛ وهذا يعني على المستوى التقني، بالنسبة إلى ذوي المعرفة في هذا المجال (وعلى الآخرين جميعًا تخطِّي بقية الجملة) أن توزيع تغيُّرات أسعار الأسهم متباينٌ، ويوحي بأنه قد يكون من الأفضل أن يتم تقريبه على صورة توزيعٍ ملتوٍ من النوع المعروف باسم التوزيع الطبيعي اللوغاريتمي، المائل لأعلى؛ من تقريبه على صورة توزيع عادي. إذا حدث هذا فعليًّا، فسوف تكون التغيُّرات نسبيةً أكثر منها مطلقةً؛ فلا يتمثَّل الأمر في وجود فرص متساوية للصعود أو الهبوط عشر نقاط، بل فرص متشابهة للصعود أو الهبوط بنسبة ١٠ بالمائة. فإذا حدث وارتفع أحد الأسهم بنسبة ١٠ بالمائة، فستكون اﻟ ١٠ بالمائة التالية أكبر ممَّا لو كان قد انخفض؛ وهذا يؤدِّي إلى مكاسب على المدى الطويل. وهكذا فإن مشيًا عشوائيًّا من هذا النوع يكون مماثلًا للمسار العشوائي لصديقنا الثَّمِل، ولكنه يميل نحو متوسطات أعلى. لقد أصبحت حافة المنحدر حائطًا صخريًّا. وهناك أدلة ضخمة على أن هذا النوع من المسار العشوائي المتحيِّز مسئول عن جزء من الاتجاه الطويل المدى المتصاعد في متوسطات سوق الأسهم، ولكنه ليس مسئولًا عنه كله بأي حال من الأحوال؛ فمع كتابة هذه السطور صارت السوق المنتعشة التي استمرت في التصاعد على مدى عشرين عامًا في طريقها للهرم والشيخوخة وفي حالة من اللهاث، ولكنها لا تزال تتنفس. (في الواقع، كانت هناك دراسات إحصائية موسَّعة عن السلوك الطويل المدى لمتوسطات أسعار الأسهم، واختلف الخبراء بشأن مدى اختلافها — إنْ كان هناك اختلاف من الأساس — عن توزيع طبيعي لوغاريتمي حقيقي. ولعل أهم الاختلافات أن التغيُّرات الكبيرة في المتوسطات، سواء صعودًا أم هبوطًا، تحدث فيما يبدو على نحو أكثر تكرارًا نوعًا ما، ممَّا قد يشير إليه توزيع طبيعي لوغاريتمي؛ وهذا يعني — لمَن يحبون الكلمات المعقدة — أن توزيع التغيرات في المتوسطات يظهر تفرطحًا ضعيفًا. وهذا الموضوع، وتأويلاته الخيالية، خارج نطاق طموحاتنا الرياضية هنا.)

حتى هذه النقطة كنَّا نتحدث وكأنَّ سعر كل سهم يتخذ اتجاهه الخاص، متجاهِلًا سلوكَ الأسهم الأخرى؛ وقد كان هذا الافتراض في صميم استخدامنا لقانون الجذر التربيعي أعلاه. بالطبع هذا ليس صحيحًا كليًّا، وقد أشرنا مسبقًا للقوى الأكثر عالميةً التي تؤثِّر على أسعار الأسهم: الشائعات، الحقائق، التحرك أو التراخي الحكومي، التنبؤات الاقتصادية، الحروب، القصص الإخبارية في وول ستريت جورنال، خبراء التليفزيون المزيفين، وما إلى ذلك. تميل هذه القوى إلى التأثير على العديد من الأسهم المختلفة بنفس الطريقة إلى حدٍّ كبير، ومن الخطأ المحض أن ندَّعِي العكس. وتتباين الأسهم فيما بينها؛ والبعض منها مرغم على أن يكون أكثر حساسيةً لقوى السوق من البعض الآخَر؛ فكيف يمكن قياس ذلك؟

حسنًا، ولا غرابة في ذلك، هناك صناعة أخرى صغيرة تقوم بذلك النوع من التحليل، رابطةً التغيُّرات في أسعار الأسهم الفردية بالتغيُّرات في متوسطات سوق الأوراق المالية. يُجرَى هذا التحليل بشكل عام من خلال تحليل الانحدار، من ذلك النوع الذي ذكرناه في الفصل السابق؛ حيث يدرج على مخطط بياني (أو بديل حوسبي مناسب) تغيُّرات الأسعار في سهم معين في مقابل تغيُّرات الأسعار في السوق ككلٍّ. ونسبة هاتين الاثنتين، التي تقاس بوضع خط مستقيم على البيانات الممثلة على الرسم البياني، يُطلَق عليها قيمة بيتا (الحرف الثاني في الأبجدية اليونانية ) الخاصة بالسهم؛ فإذا كانت قيمة بيتا لسهمٍ ما تساوي اثنين، فهذا يعني أن تغيُّرًا نسبته ١ بالمائة في متوسطات أسعار الأسهم سوف يؤدِّي — مرة أخرى في المتوسط — إلى تغيُّرٍ بنسبة ٢ بالمائة في سعر هذا السهم تحديدًا. (بالطبع بما أن المتوسطات ليست سوى متوسطات مجموعة كبيرة من الأسهم، فلا بد أن يكون متوسطُ قيمة بيتا لجميع الأسهم قريبًا من الرقم واحد. ليس بالضرورة أن يكون مساويًا لواحد بالضبط، وهذا يُعزَى بشكل جزئي إلى أن المقياس المستخدَم لحساب قيمة بيتا، وهو مؤشِّر ستاندرد آند بورز ٥٠٠، لا يمثِّل جميعَ الأسهم. حتى بالنسبة إلى أسهم المؤشِّر، إذا لم تُقيَّم بشكل صحيح، فلن تساوي بيتا واحدًا بالضبط؛ فالأسهم المرتفعة السعر تميل للتذبذب بشكل أقل من الأسهم المنخفضة السعر؛ ممَّا يؤثِّر على متوسط قيمة بيتا.) ويمكن للسماسرة وآخَرين غيرهم توفير جداول قيمة بيتا لجميع الأسهم تقريبًا، بل للصناديق التعاونية أيضًا، التي يتبع بعضها سياسات استثمار قائمة على المضاربة (ومن ثَمَّ محافظ استثمارية تتَّسِم بالصفة نفسها) بدرجة أكبر من الصناديق الأخرى. تُسمَّى قيمة بيتا أحيانًا باسم «التقلُّب».

ويمثِّل هذا أهميةً للمستثمرين لسبب أساسي؛ ألا وهو أن قيمة بيتا تُعتبَر من قِبَل كثيرين مقياسًا مهمًّا للمخاطرة المرتبطة بسهم معين، والمبرر لذلك ببساطة هو أن أي مستثمر يُفترَض أنه ينفر تمامًا من خسارة كل شيء، والاستثمارُ في سهم يمكن أن ينخفض بنسبة ٥٠ بالمائة حين يكون انخفاض السوق لا يتجاوز ١٠ بالمائة؛ يُعَدُّ صفقةً سيئة (وإنْ كنَّا سنرى بعد لحظات لماذا قد لا تكون سيئةً للدرجة). لذلك، إلى المدى الذي «تُتصور» به قيمة بيتا بوصفها مقياسًا للمخاطرة (والتصور له نفس أهمية الحقائق بالنسبة إلى العديد من المستثمرين؛ ومن ثَمَّ سعر أي سهم)، من المتوقَّع أن تتسبَّب قيمة بيتا (المخاطرة) المرتفعة في خفض سعر السهم إلى مستوًى أقل ممَّا قد تبرره قيمتها الأصلية. ولكن التكلفة الأقل تعني مكسبًا متوقعًا أكبر؛ لذا يكون هناك تصوُّر عام بأن المستثمرين سوف يقايضون المخاطرة بالمكسب المحتمل في شراء أسهم المضاربة (ذات قيمة بيتا المرتفعة). وبلغة صنع القرار — موضوع هذا الكتاب — تقلُّ منفعة السهم بفعل خطورته؛ لذا لا بد أن يخفض السعر على نحو مماثلٍ من أجل إصدار قرار بالشراء. والمحافظ الاستثمارية المضاربة تحمل مخاطرةً كبيرةً إلى جانب ما تحمله من احتمالِ جلبِ مكسبٍ كبير.

ثمة حقيقة إضافية نحتاج إليها؛ فمثلما يميل سهم بعينه لاتباع المسار العشوائي لمتوسطات السوق، إلى المدى المقاس بقيمة بيتا الخاصة به، تكون الأسهم الفردية عرضةً أيضًا لتأثيرات عشوائية خاصة بها؛ فهناك مديرون يستقيلون أو يجري تعيينهم، ومنتجات يُعلَن عنها، وتقارير ربع سنوية تصدر، وشائعات تنتشر، وحوادث تقع، وإضرابات يُهدَّد بالقيام بها؛ كل هذه الأمور قد تؤثِّر على سهم بعينه دون أن تخلِّف تأثيرًا كبيرًا على متوسطات السوق. وهكذا تتبع الأسهم الفردية مسارًا عشوائيًّا خاصًّا بها، بالإضافة إلى نصيبها من مسار السوق العشوائي الذي تحدِّده قيمة بيتا. يبدو الأمر كما لو كان صديقنا الثَّمِل الخيالي، الذي يمثِّل السوق، يمسك باللجام الطويل الخاص بكلبه الثَّمِل أيضًا — والذي يمثِّل سهمًا معينًا — والذي يهيم على نحو عشوائي بعيدًا عن الموقع العشوائي لصديقنا الثمل. ويعتمد مدى حدوث ذلك على السهم (أو الكلب)، ولا توجد قاعدة عامة، ولكن العشوائية التي يتسم بها الكثير من الأسهم كبيرة، شأنها شأن عشوائية متوسطات السوق بشكل عام. مرة أخرى، هناك محلِّلون يمكنهم توفير مثل هذه النوعية من المعلومات، بحسب قيمتها (أو ربما بأكثر من قيمتها؛ إذ سنرى كيف نقلِّل من تأثيرها من خلال التنويع).

يلعب التبايُن بين المكاسب والخسائر المذكور أعلاه، دورًا أكبر ممَّا أدلينا به؛ فكما في المثال الوارد في الفصل الرابع، لو كانت هناك فرصة متساوية لخسارة رهاناتك أو مضاعفتها، يجب أن تتوقَّع أن تجني مكسبًا خلال الصفقة. (إذا قمتَ باستثمارين بقيمة عشرة دولارات، وخسرت نصف أحدهما مع مضاعفة الآخَر، فسوف تجني ربحًا قيمته خمسة دولارات.) بالمثل، إذا تغيَّرَت أسعار الأسهم بشكل يتناسب طرديًّا مع سعرها المبدئي، تزداد احتمالات أن ينتهي الحال بسهم ذي نطاق سعري واسع بالصعود. وتزداد الميزة التي تحصد عن طريق التباين مع تصاعد قيمة تقلب (بيتا) السهم قيد النظر؛ ومن ثَمَّ ينبغي أن يكون الأشخاص الساعون لجَنْي مكسب وفير في وقت قصير مضاربين. فيما عدا أن هناك احتمالية معينة أن يُفلِسوا؛ كما في أمثلتنا السابقة عن المقامرة.

وهكذا تطوَّرت طريقة رائعة بدءًا من مطلع القرن — من خلال رسالة دكتوراه لعالم رياضيات فرنسي شابٍّ يُدعَى لويس باشليه — للحصول على كعكتك وتناولها، وإن كانت جذورها تعود إلى العقدين الأخيرين. (الشيء الذي يثير دهشة هذا الكاتب، وهو فيزيائي، أن المجتمع الاستثماري قد استغرق وقتًا طويلًا للغاية لاستيعاب تلك الطريقة؛ فاستخدام هذا الأسلوب للحدِّ ممَّا نطلق عليه ضجيجًا في أي تجربة، يُعَدُّ أمرًا روتينيًّا معتادًا بين الفيزيائيين. وُضعت الفكرة على أساس رياضي صلب في عام ١٨٠٩ على يد العالم الرياضي الألماني العظيم كارل فريدريش جاوس، وإدراك المجتمع الاستثماري لها أخيرًا يتبيَّن من كَمِّ الوظائف المجزية التي توفِّرها البيوت الاستثمارية الكبرى الآن للفيزيائيين والرياضيين.) وكل ما يلزم لتحقيق موقف مربح للجميع هو أن تكون مضاربًا، ولكن مع التنويع.

صار هذا يعني أنَّ عليك أنْ تملأ محفظتك الاستثمارية بأسهم مضاربة، على أن تكون كثيرةً للغاية ومختلفًا أحدُها عن الآخَر، وعلى الرغم من وجود مجازَفة بأن يهبط أي عدد منها بشكل بالغ، فإن هناك احتمالًا أقلَّ بكثيرٍ أن تهبط «جميعًا» دفعة واحدة. والفكرة الأساسية هي البساطة في حد ذاتها؛ فإذا كنتَ تملك عشرة أسهم بكميات شبه متساوية، وصعد أحدها بمعامل قيمته ١٠، فلا يكاد يهم ما يحدث للأسهم الأخرى؛ فحتى في أسوأ أحوالها لا يمكن أن تهبط إلى أدنى من القاع. ولهذه الفكرة البسيطة تداعيات معقدة بالطبع يمكن صياغتها بمصطلحات رياضية أكثر، ولكن هذا هو جوهرها الأساسي.

يوجد العديد من شركات الخدمات الاستشارية في مجال الأسهم تحافظ على ما نسميه «المحافظ النموذجية»؛ فهي تحفظ السجلات، وإن كانت قد تستثمر، أو لا تستثمر، أموالها في محافظها الاستثمارية الخاصة. (لا تمنح أي ثقة أيًّا كانت للشركات التي لا تستثمر في محافظها؛ فليس لديهم أي دافع لاتخاذ قرارات جيدة ما لم يكن لديهم هم أنفسهم شيء على المحك.) وفي المعتاد تضم هذه المحافظ النموذجية محفظة استثمارية «هجومية»، تتألف في الغالب من خمسة عشر أو عشرين سهمًا، وبعض هذه المحافظ يؤدي أداء حسنًا للغاية. إذا نظرتَ إلى التكوين التفصيلي لواحدة من المحافظ، فستجد على الأرجح أنها مؤلَّفة من مجموعة من الأسهم الخاسرة، مختلطة بسهم أو سهمين رابحين استثنائيين. وتُعتبَر الأسهم الرابحة القليلة — ربما يقتصر عددها على سهم واحد فقط — أكثرَ من مجرد أداة تجميل لبقية الأسهم؛ وبذا فإن الفكرة الأساسية للتنويع (لخفض المخاطرة الكلية)، مجتمعة مع مشتريات المضاربة (لزيادة فرصة إصابة سهم رابح حقيقي)؛ آخِذةٌ في الترسُّخ، وصارت تُستخدَم من قِبَل المزيد والمزيد من المستشارين الاستثماريين لإدارة محافظ الأسهم الفردية الكبيرة.

ولكن مهلًا لحظة، هكذا قد تقول، أَلَا يخبرك نموذج السوق ذات الكفاءة أنه إذا كان الجميع على علم بذلك، فسوف تصعد أسعار الأسهم المختارة بالضرورة، وفي النهاية تمحو الميزة التي يحملها الآن ممارسو هذا الفن المعقد نسبيًّا؟ الإجابة هي أن ذلك سيحدث بالطبع، ويحدث بالفعل؛ فنظرًا لضخامة الحافز، لا يمكن لميزة في التحليل أو المنهج أن تبقى فعَّالة طويلًا في أي سوق كفء. ونظرًا فقط لأن بعض المحفزات تتطلَّب مستوًى من المهارة الإحصائية أو الرياضية لا يتوافر لدى الغالبية العظمى من المستثمرين أو المستشارين الاستثماريين، يكون هناك ولو ميزة مؤقتة، ولكنها تظل موجودة. والانخفاض في المخاطرة الطبيعية لأسهم المضاربة يظهر فقط حين تكون ضمن محفظة استثمارية متنوعة؛ الأمر الذي لا يُعَدُّ حالة مستديمة. إلى جانب ذلك، فالسوق ذاتُ الكفاءةِ غيرُ مثالية، وإنْ كان ذلك فقط بسبب محدودية مستوى مهارة وحنكة معظم المستثمرين. (إن أي شخص يقرأ هذا الفصل في الواقع سيكون أكثر مهارةً بكثير من المستثمر العادي.)

أخيرًا، نعود إلى صورة المسار العشوائي لتذبذبات الأسهم؛ إلى أي مدًى تُعَدُّ صالحةً؟ ثمة اختبارات إحصائية يمكن تطبيقها على أي مجموعة من الأرقام؛ لتحديد إذا ما كان يمكن التعامُل معها كما لو كانت عشوائية، مثلما قد تكون وليدة بعض القوى الخفية الغامضة. (إن حلم العثور على مثل هذه القوة يُعَدُّ محركًا للعديد من المستثمرين.) وإذا أخذنا السنوات العشر الماضية كمثال، نجد أن متوسطات السوق النَّشِطة العريضة قد ازدادت بنسبة ٨ بالمائة تقريبًا في العام الواحد، أو حوالي سبع بالمائة أسبوعيًّا. بالمقارنة، نجد أن التباينات المتوسطة (التذبذبات، الانحراف المعياري) المحيطة بذلك الارتفاع كانت تزيد عنه بنحو عشر مرات، على مدار نفس الفترة. لذا، بينما ينبهر الناس دائمًا بالسوق المنتعشة الرائعة على مدى العشرين عامًا الأخيرة، كانت الاختلافات «العشوائية»، في الواقع، أكبر بكثير من الصعود المطرد، حين تقاس بالتغيُّرات الأسبوعية. (سوف نلتزم بأسعار الإقفال الأسبوعية لسبب بسيط؛ فالمقياس اليومي في النطاق الزمني للوجود الإنساني قصير للغاية، والسنوي طويل للغاية.)

يتألَّف أحد أبسط اختبارات العشوائية التي يمكن تطبيقها على تسلسُل زمني (وأسعار الأسهم تشكِّل تسلسلًا زمنيًّا) من البحث عن ارتفاعات وانخفاضات سريعة قصيرة الأجل. والارتفاع القصير الأجل هو عبارة عن تسلسلٍ للأسعار يكون فيه متوسط سعر الإقفال أكبر ممَّا كان عليه في الأسبوع الماضي. إذا كان تسلسلٌ ما عشوائيًّا حقًّا، فسوف تظهر مجموعات من تسلسل واحد لنصف الوقت تقريبًا (في يوم أو أسبوع معين، قد ترتفع الأسهم أو تنخفض)، ومجموعات من تسلسلين لثلث الوقت، ومجموعات من ثلاثة تسلسلات لحوالي ثُمُن الوقت، وهكذا (الأمر ليس واضحًا؛ لذا لا تقلق بشأنه). وتُظهِر البيانات الفعلية لمتوسطين من متوسطات السوق للسنوات العشر الأخيرة (حسبما اختبرتْ من قِبَل الكاتب) انحرافًا بسيطًا عن هذه القاعدة؛ حيث تميل تسلسلات الارتفاع لأنْ تكون أطول قليلًا من الانخفاضات (بما يتناسب مع سوق متصاعدة بشكل عامٍّ)، ولكن أيًّا مِن المتوسطَين يختلف كثيرًا عن صورة التذبذبات العشوائية الكبيرة في أسعار الأسهم، بالإضافة إلى وجود انحراف بسيط إلى أعلى. تلك هي البيئة التي لا بد أن يمارِس فيها خبراء تنبؤات السوق عملهم، ويُعرَف ذلك بين العلماء والمهندسين بإيجاد الإشارة في الضوضاء الخلفية؛ مثل الإنصات لصوت دبوس يقع أثناء حفل لموسيقى الروك؛ وهذا لا يمكن القيام به عن طريق استشارة بلورة سحرية، وليس واضحًا أنه من الممكن القيام به على الإطلاق. لا عليك، هذا كل شيء عن المتوسطات؛ بعض الأسهم تحلِّق عاليًا، والبعض ينهار، وإذا عرفتَ الأسرار قبل الجميع، يمكنك أن تحقِّق أرباحًا.

ما علاقة كل هذا بصنع القرار؟ إنه يعني ببساطة أن المشكلة معقَّدة؛ ولذلك فإنَّ أيَّ محاولةٍ لتطبيق مناهج وأساليب صنع القرار الجامدة على مكاسب مبشرة في سوق الأسهم، يجب أن تكون متطوِّرة، ولا بد أن تتعامل مع هذه السمات الإحصائية المربكة. إن خطط الثراء السريع، ومراقبة الأنماط، والبحث عن ثلاثة ارتفاعات وانخفاض واحد سريع في أسعار الأسهم، وما إلى ذلك، لن تجدي كثيرًا. بإمكان أي شخص أن يرى نمطًا في سجل أسعار الأسهم، مثلما يمكن لأي شخص أن يرى نمطًا في السُّحب الركامية. على الجانب الآخَر، تشير الأدلة فيما يبدو إلى أن أداء سوق الأسهم ليس عملية عشوائية بالضبط، كما أن السوق لا تتسم بالكفاءة؛ ومن ثَمَّ قد يكون الاستثمار — شأنه شأن جميع الأنشطة الأخرى المذكورة في هذا الكتاب — مكافأةً للمجتهد، والمطلع على حساب الكسول وغير المطَّلِع. قد يكون في الجهل نعيم، ولكن ليس ثروة مكتسبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤