الفصل الثالث

الاحتمالية

إذن فالطريق نحو اتخاذ القرار يتضمَّن خمس خطوات، كلٌّ منها بسيطة بما يكفي؛ أولًا: ضَعْ قائمةً بالإجراءات التي يمكنك اتخاذها (فالقرار هو مجرد خيار من بين عدة إجراءات ممكنة، بما فيها إجراء عدم الإقدام على أيِّ فعلٍ على الإطلاق). ثانيًا: ضَعْ قائمةً بالنتائج القابلة للتصوُّر بعقلانية لأيٍّ من هذه الإجراءات المختلفة، وذلك بتخمينها على أفضل نحوٍ ممكن. ثالثًا: قيِّمْ — على أفضل نحو ممكن — فرصة (أو أرجحية أو احتمالية) أن تتمخَّض أي نتيجة بعينها عن أي إجراءٍ بعينه (وهذا موضوعٌ نحتاج إلى تناوُله؛ حيث يتجنَّب معظم الناس الخوض فيه). رابعًا: اعثر على وسيلة تعبِّر بها عن أهدافك؛ أيْ مقدار ما تتمنَّاه (أو تخشاه) من مختلف النتائج الممكنة. وأخيرًا: ضع كلَّ ذلك معًا بطريقةٍ يمكن أن تؤدِّي إلى اتخاذ قرار عقلاني. والآن سنتناول الخطوات الثلاث الأخيرة كلًّا على حدة، ونتخطَّى أول خطوتين في الوقت الحالي؛ فهما تختلفان باختلاف كل موقف. إن كانت تواجِهُك مشكلات في وضع قائمة بخياراتك أو نتائجها الممكنة، فإن أول خطة عليك أن تتخذها هي حل تلك المشكلات، وليس ثمة ما يمكننا أن نفعله لمعاونتك في ذلك. فالقرار، على كل حال، يُعَدُّ خيارًا «من بين» عدة خيارات، والهدف منه هو تحسين نتائج تلك الإجراءات، وإن لم تستطع تحديدَها والتعبير عنها، فلن يكون قطعًا بمقدورك الاختيار من بينها. بالطبع، هناك أوقات في حياتنا (وفي روايات كافكا) تكون الخياراتُ فيها غيرَ معروفة، وحالات تكون العواقب فيها غيرَ متوقَّعة بالمرة، لكن مآسي الحياة الواقعية (أو حتى المفاجآت السارة) ليست موضوعَ هذا الكتاب. وهذا الفصل يمهِّد للبند الثالث؛ أَلَا وهو الأرجحية.

يبدو أن الناس يخشون كلمة «الاحتمالية»؛ فهي تتكون من مقاطع عدة، إلى جانب أنها تبدو ذات صلة بعلم الرياضيات، وفي بلادنا أصبح من اللباقة الاجتماعية الافتخار بأنك لا تدري شيئًا عن الرياضيات (ونحن بالفعل ندفع ثمن ذلك). غير أن نفس الأشخاص الذين يخشون كلمة «احتمالية» يقامرون بالملايين (ملايين الأشخاص والدولارات على حد سواء)؛ إذ يراجعون الاحتمالات على حاسبة المراهنات أو في الصحف؛ ومن ثَمَّ يراهنون وفقًا لذلك، حتى إنهم لا تطرف لهم عين حينما يعلن مكتب الأرصاد أن هناك فرصة لسقوط للأمطار تُقدَّر بنسبة ٢٥٪ بالرغم من أنها احتمالية. فالاحتمالية والأرجحية نسختان مختلفتان لنفس المفهوم، ولا يتعين علينا أن نغفل فكرةً مفيدةً لمجرد أنه تَصادف أنْ وَصَفَها علماء الرياضيات بكلمة رنانة يرتبط بها الكثير من المعاني الضمنية. ليس ثمة فرقٌ — أيًّا ما كان — بين فرصة سقوط أمطار بنسبة ٢٥٪، واحتمال سقوطها بنسبة ٠٫٢٥، أو حتى أرجحية عدم سقوطها بنسبة ثلاثة إلى واحد؛ فجميعها أساليب مختلفة لقول الشيء نفسه.

لكن هذا لا يعني أن مفهوم الاحتمالية ليس صعبًا حينما نغوص في معناه الأعمق، أو أن الأساليب التي يستخدمها علماء الرياضيات (وخبراء الأرصاد) لحسابها لا يمكن أن تكون أساليب رياضية معقَّدة، ولكننا نعني فقط أن استخدام الاحتمالية في معظم حالات صنع القرارات لا يتطلَّب هذا الشكلَ من أشكال الفصاحة اللغوية. هناك الكثير من المواقف في حياتنا نستخدم فيها بعضَ الأشياء بنجاح حتى عندما لا نملك فهمًا تامًّا لكيفية عملها؛ فمعظم الأشخاص الذين يستخدمون أجهزةَ الكمبيوتر هذه الأيام في عملهم أو من أجل اللهو، لا يعرفون سوى القليل عن الطريقة التي كُتِبت بها البرامجُ التي يستخدمونها، فضلًا عن كيفية تصميم أجهزة الكمبيوتر نفسها، بل إنهم حتى لا يعرفون كيفيةَ عمل المكونات الداخلية للكمبيوتر، مثل وحدة المعالجة المركزية؛ لكن هذا لا يمنعهم من استخدام أجهزتهم بشكل مثمِر معظم الوقت. والشيء نفسه ينطبق على سائقي السيارات، ومشاهدي التليفزيون، وقائدي الطائرات، ومستخدمي التقنيات الحديثة بوجه عام؛ فليس عليك معرفة كيفية عملها من أجل استخدامها.

لم تكن هذه عريضةَ دفاعٍ عن الجهل بالأشياء، بل على العكس، فكلما ازدادت درايتك بالعالم الذي تعيش فيه، أصبحَتْ حياتُكَ أكثر ثراءً وإرضاءً لك، وصرتَ أنت أكثرَ فاعليةً في كل شيء تؤدِّيه. لقد قال أحدهم ذات مرة إنه ارتكَبَ الكثير من الأخطاء في حياته، ولكن لم يكن هذا راجعًا إلى أنه كان يعرف أكثر من اللازم قطُّ. ولكن ليس عليك أن تعرف «كل شيء» قبل أن تفعل «أي شيء». وإن كنت تشعر بضرورة ذلك، فإنك معرَّض — لا محالة — للإصابة بالشلل والشعور بعدم الأهمية. إن الاحتمالية ما هي إلا كسر عشري عادي بين الصفر والواحد، وهي مقياس لأرجحية وقوع شيءٍ ما؛ وقيمة الصفر تعني أنه لن يقع بالتأكيد، وقيمة الواحد تعني أنه بالطبع سيحدث. كل شيء آخَر يقع بين هذين النقيضين، وقذف العملة المعدنية يعني وجود احتمالية بنسبة ٠٫٥. إن بَدَا لك الأمرُ وكأنه يدور في حلقة مفرغة، فذلك لأنه بالفعل يدور في حلقة مفرغة؛ فمَن مِن قبلُ ذكَرَ مرةً معنى «الاحتمال»؟ وإذا توغَّلْنا في الأمر بشكلٍ كافٍ فسنجد له أبعادًا عميقةً.

وموضوع الاحتمالية موضوع مشوِّق ومهم في حد ذاته؛ لذا قبل أن نشرع في تناوُلِ مسألة صنع القرار، دعونا نتناول بعضَ جوانبه. ماذا نعني حين نقول إن أرجحية استقرار عملةٍ ما بعد قذفها ووجهُها الذي يحمل الصورةَ لأعلى، هي أرجحية متكافِئة بنسبة ٥٠ إلى ٥٠، أو إن فرصة استقرارها على هذا الوجه تبلغ ٥٠٪، أو إن احتمالية وقوع هذا تبلغ ٠٫٥، علمًا بأن جميع الصيغ تعني نفس الشيء؟ يبدو هذا التساؤل حالةً كلاسيكيةً من المنطق الدائري؛ لأن العملة المعدنية إنِ استقرَّتْ كثيرًا لصالحنا وكان وجهها الذي يحمل الكتابةَ لأعلى، فسنقول إنَّ عملية قذفها غير نزيهة. والمقامرون في الأفلام الغربية (الذين عادةً ما يرتدُون القبعات السوداء) يُهزَمون — على الأرجح — على طاولة اللعب إذا ما بَدَتِ البطاقات التي تُوزَّع عليهم أو على أقرانهم تتنافى مع قوانين الاحتمالية؛ إن الشخصيات في تلك الأفلام لا بد أن لديها فكرة جيدة عمَّا هو متوقَّع من التوزيع العادل. وهذا هو ملخص الأمر: إذا ما كان هناك شخص عقلاني لديه فكرة جيدة نوعًا ما عمَّا هو متوقَّع؛ فتلك هي الاحتمالية. وصدِّق أو لا تصدِّق، إنها كذلك! وفي الواقع إن ما يتطلَّبه الأمر لتحويل الفكرة إلى رقم هو أن نسأل عن أرجحية ما سيقدِّمه الشخص في الرهان، ثم ترجمة تلك الأرجحية إلى احتمالية. بالنسبة إلى عملة معدنية، قد يقول الشخص — على الأرجح — إنها أرجحية متكافئة، وتقول أنت: «نعم، إنها احتمالية تبلغ نسبتها ٠٫٥؛ ضَعْ دولارًا لتكسب دولارًا.» وبالنسبة إلى زوج النرد، ربما تراهن على العدد ٧، لكن المقامر البارع سيراهن ضد ذلك الاحتمال بنسبة خمسة إلى واحد؛ ممَّا يجعلك تنتهي إلى أن الاحتمالية هي ١ / ٦ أو ٠٫١٦٦٧. ربما يكون هذا الرقم ناتجًا عن عملية حسابية أو خبرة طويلة، لا يهم.

قد يقول لك (بحماس شديد) بعض علماء الإحصاء أو علماء الرياضيات ذوي الفكر البالي إن ذلك محض هراء، وإن الاحتمالية هي بالفعل مقياس للجزء من الزمن الذي ستستقرُّ فيه العملة على الوجه الذي يحمل الصورة، «على المدى الطويل»، وإذا حدث ذلك لنصف الوقت تكون الاحتمالية ٠٫٥. لكن مَن يأتي أولًا، البيضة أم الدجاجة؟ (يقول صمويل بتلر — مؤلِّف رواية «إيروُن» — إن الدجاجة ما هي إلا وسيلة البيضة لإنتاج بيضة جديدة.) هل ستستقر العملة بحيث يكون وجهها الذي يحمل الصورة لأعلى لنصف الوقت على المدى الطويل لأن الاحتمالية تبلغ ٠٫٥، أم أن ذلك هو «تعريف» الاحتمالية؟ إلى جانب هذا، مَن ذا الذي سينتظر ليرى النتيجة على المدى الطويل؟ مَن ذا الذي سيهتم بالانتظار على المدى الطويل، إن كان عليه أن يضع رهانه اليوم؟ وإذا ما أخرَجَ أحدُهم من جيبه عملةً معدنية، أو قذف المحكِّمون في إحدى مباريات كرة القدم بإحدى العملات لتحديد صاحب ركلة البداية، فتلك عملة ربما لم تُقذَف من قبلُ على الإطلاق. إذن، ما ذلك الخيال المتمثِّل في نظرية «المدى الطويل»؟ إن التكرار على المدى الطويل يمثِّل أحد التعريفات العتيقة البالية لنظرية الاحتمالات، وهو تعريف يستبعده علماء الإحصاء المطَّلِعون لسببٍ بسيطٍ واحد على الأقل؛ وهو أنه بمقدورك أن تحدِّد احتمالية حدوث شيء ببعض الثقة، وذلك قبل أن تقذف العملةَ لمرة واحدة، فضلًا عن قذفها مليارات المرات. ومن ناحية المبدأ، لا ينبغي أن تبني تعريفًا ما على نتائج اختبار لن يُجرَى مطلقًا.

هذا موضوع أكثر عمقًا ممَّا جعلناه يبدو حين قدَّمناه، وهو النقطة الجوهرية في الصراع المحتدم بين ما يُطلَق عليها المدارس البايزية والمدارس التكرارية للإحصاء (وقد نَعَتْنَا الأخيرة في موضع سابق — بسوء نية — بأن أنصارها ذوو فكرٍ بالٍ). سيدافع التكراريون عن تعريف الاحتمالية القائم على عدد مرات حدوث الشيء على المدى الطويل، بينما يُظهِر أنصارُ مدرسة الإحصاء البايزية ولاءً للتعريف الذي يقضي بسؤال الخبراء، ومع هذا فالاثنان سيعطيان الإجابةَ نفسها عند قذف العملة. هذا بالطبع تبسيط مفرط للموضوع، لكنَّ هناك اختلافًا حقيقيًّا بين الفلسفتين، وسنرى أن ذلك الاختلاف يتعلَّق بصنع القرار؛ فصنع القرار يُعَدُّ — على نحوٍ شبه دائم — صفقةً لا تتمُّ إلا مرة واحدة، وتتمُّ على أفضل وجه من المنظور البايزي. (كان توماس بايز — وهو أول مَن وصف بوضوحٍ ذلك الفرعَ المعرفيَّ الذي سُمِّي تيمُّنًا به — رجلَ دين إنجليزيًّا في القرن الثامن عشر، ونُشِرت أعماله بعد وفاته.)

لكن أولًا، لماذا أعطَتْ كلتا المجموعتين الإجابةَ نفسها لنتيجة قذف العملة، قبل أن يشرع أيٌّ منهما في إلقاء عملة واحدة؟ لأن كلتيهما تعرفان أن العملة ليس لها سوى وجهين لتستقرَّ على أحدهما؛ إما الصورة وإما الكتابة (وَلْتنسَ أمرَ استقرار العملة على حدِّها الجانبي؛ فالعملات المطيعة لا تفعل هذا)، كما تعتقد كلتاهما — سواء أكان اعتقادًا صحيحًا أم خاطئًا — أنه لا تفضيل لأحد الوجهين على الآخَر، وهكذا فكلتاهما على درايةٍ بأن كل نتيجة ممكنة لها بالضرورة نسبةُ احتمالية تبلغ ٠٫٥؛ هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تتساويَا بها ويبلغ مجموعهما واحدًا صحيحًا. نفس المنطق ينطبق على النرد الذي يتألَّف من ستة أوجه، وينطبق أيضًا على المجسَّم المنتظِم ذي الاثني عشر سطحًا (وهو أحد الأشكال المتناظرة الخماسية الأضلاع، وله اثنا عشر وجهًا متماثِلًا) إنْ كنتَ تملك واحدًا؛ فإذا كانت البدائلُ متماثِلةً حقًّا، وجميعها يؤدِّي إلى حقيقة واحدة مؤكدة (احتمالية تبلغ ١)، فإن كل ما تحتاج له هو القسمة لتجد الاحتمالات الفردية؛ وما من أحد يختلف على هذا، أيًّا ما كان تعريفه المفضَّل للاحتمالية.

لكن قد تواجِهُك بعض الصعوبات إذا لم تهتمَّ بهذا النوع من المنطق، الذي لا يُعَدُّ صحيحًا إلا إنْ كان هناك تناظُرٌ حقيقيٌّ فيما بين البدائل. إن معظم الناس يندهشون لدى معرفة أن السنت الأمريكي العادي الذي يُلقَى فوق طاولة ملساء يُرجح استقراره على الوجه الذي يحمل صورة وجه الرئيس أكثر من استقراره على الوجه الآخر؛ فهناك اختلاف حقيقي في توزيعات الوزن على وجهَيِ السنت الأمريكي — إذ يحمل أحدُ الوجهين صورةَ رأس الرئيس لنكولن وكتفَيْه، بينما يحمل الوجه الآخَر صورةَ النصب التذكاري لِلِنكولن — وهذا الاختلاف يشكِّل أهميةً أثناء دوران العملة. ويمكن لمشجعي الرياضة أن يستحسنوا لامنطقيةَ مدرِّب كرة القدم الشهير وودي هايز، الذي أعلَنَ منذ فترة طويلة ازدراءه للتمريرة الأمامية، قائلًا إنَّ هناك ثلاث نتائج ممكنة للتمريرة الأمامية، وإن نتيجتين منها سيئتان؛ إذ كان يلمِّح — خطأً بكل تأكيد — إلى أن كل نتيجة من النتائج لها نفس احتمالية النتائج الأخرى، وتبلغ ٠٫٣٣٣ في تلك الحالة. وهذا الاستنتاج غير مقبول إلى حدٍّ بعيدٍ، مثلما كان يعلم جيدًا؛ فلاعب خط الوسط الخلفي الماهر الذي يلعب باحترافية سيستكمل نحو ٦٠٪ من تمريراته، وقطْع التمريرات لن يحدث إلا بنسبة ضئيلة من الوقت. وإكمال التمريرات وعدم استكمالها وقطعها هي أمور بعيدة كل البُعْد عن كونها أحداثًا ذات احتمالية متكافئة. وبنفس المنطق الخاطئ، إذا ما لعبتَ اليانصيب أو ترشَّحْتَ للرئاسة، فإن النتائج الوحيدة الممكنة هي أنك إما ستفوز وإما لا، ولكن قطعًا ليس للنتيجتين احتماليتان متكافئتان مع الأسف.

دون تناظُر، ودون تأمُّل النتائج على المدى الطويل، كيف يمكن للتكراريِّين التعامُل مع احتمالية فوز فريق جرين باي باكرز في نهائي السوبر بول لكرة القدم عام ٢٠٠٧؟ يمكنك على الأرجح تقدير أرجحية الفوز عن طريق الاستعانة بوكيل مراهَنات أو من خلال شركة تأمين تخيُّلية. سيضطر التكراريون حينها إلى القول بأنه ليس هناك مثل هذه الاحتمالية؛ لأنه ليس من الممكن أداء المباراة نفسها عدة مرات تكفي لقياس الأجزاء من الزمن التي سيفوز خلالها فريق باكرز. وفي الواقع، لن يلعب اللاعبون المباراة سوى مرة واحدة (إلا في حالات الحرب، أو الثورات، أو إضراب اللاعبين، أو وقوع نيزك ضخم)، وقد لا يلعب فريق باكرز المباراة على الإطلاق. (بالنسبة إلى شديدي الانتماء لولاية ويسكونسن — مثل المؤلف — قد يمثِّل ذلك لهم مأساةً قوميةً، ولكنه قد يحدث.) إن أصحاب المنهج التكراري البحت — الذين يرفضون تحديدَ احتمالية لمثل هذه الحالات — يَستبعدون تطبيقًا مهمًّا للاحتمالية في مواقف الحياة العملية؛ فوكلاء المراهنات والمتنبِّئون بالطقس يعتمد عملهم على مثل هذه الأشياء، ويمكنك عن طريقهم تقدير أرجحية نتائج أيِّ حدثٍ رياضيٍّ تقريبًا يقع مرة واحدة فحسب في لاس فيجاس، أو حتى نتائج الانتخابات الرئاسية؛ فهناك احتمالية حتى للأحداث الفردية التي لن تتكرَّر ثانيةً عن جد، كما يوضِّح واضعو الاحتمالات الخبراء ذوو المعرفة. قد يختلف الأمر من واحد لآخَر، لكن ماذا في ذلك؟ فالذين يعملون في هذه المهنة بغير مهارةٍ سرعان ما يُستبعَدون منها.

لماذا إذن يشكِّل لنا كلُّ هذا أهميةً؟

يتعلَّق صنع القرار — بشكل شبه دائم — بوقوع حدث لمرة واحدة، وحتى إلقاء العملة حدثٌ لا يقع سوى مرة واحدة، وليس بمقدورك أن تعرف من خلال إلقاء العملة لمرة واحدة إن كانت العملة قد أُلقِيت بنزاهة وأمانة أم لا. فقد تستقر ووجه الصورة لأسفل، أو ربما تستقر ووجه الكتابة لأسفل، ونحن نبني تقديراتنا لأرجحية ذلك بالكامل على افتراضٍ — ربما يكون ساذجًا — هو أن العملة قد أُلقِيت بنزاهة واستقرت بتوازن. في لعبة المواعَدة التي تناولناها في الفصل السابق، نجد أن كلَّ مواعَدة مع طالبٍ للزواج هي مقامَرة (تمامًا كما في الحياة الواقعية)، ولن تخوض المرأة في مواعدة مائة مرشح مليون مرة في العمر — واحدًا تلو الآخَر — لمجرد تقدير الأرجحيات قبل بدء المواعدة الجادة. ولقد افترضنا أثناء قيامنا بالحسابات أنه قد تمَّ انتقاء المرشحين للزواج عشوائيًّا (وهم قابلون للتبادُل بالنسبة إلى الإحصائيين الأصوليين)، تمامًا كما هو مألوف أن نفترض أن العملة التي نلقيها في الهواء هي عملة لها جانبان متناظران وأنها تُلقَى بصورة عشوائية. بَيْدَ أن هناك حالاتٍ ليست على هذا القدر من السلاسة؛ مثل سباقات الخيول التي تنعقد مرةً واحدة فقط أيضًا، والتي تتباين فيها احتمالية فوز أحد الخيول تباينًا كبيرًا من حصان إلى آخَر. تُظهِر تحليلات الطريقة التي يُجرَى بها السباق بالفعل أن توقُّعات الخبراء دقيقةٌ للغاية؛ فهُم بالفعل خبراء، في المتوسط، والخيول «ليست» قابلةً للتبادُل (سنتطرق إلى المزيد عن هذا الموضوع في الفصل الذي يتحدَّث عن المقامرة)، أما فرصة سقوط الأمطار في الغد، ﻓ «ليست» قابلةً للتبادُل مع فرصة سقوطها الثلاثاء الماضي (ومن المعتاد الشكوى من خبراء الأرصاد، لكنهم يؤدُّون عملَهم بمهارةٍ هذه الأيام). ولقد استخدم عالِم الإحصاء الإنجليزي المرموق دينيس ليندلي مثالًا جيدًا على ذلك؛ إذ كان الشيء الذي ألقاه في الهواء دبوس مكتب وليس عملة معدنية، ولأنه ليس في الدبوس أيُّ تناظُرٍ، فليس هناك مجالٌ للتكهُّن بنتيجة قذفه (بالمعنى الحرفي للكلمة) بالنسبة إلى أي عالِمِ إحصاء يتبع المنهج التكراري.

إذن فإن ما نعنيه بالاحتمالية في عملية صنع القرار هو عدد يقع ما بين صفر وواحد يقيس احتمالَ وقوعِ حدث بعينه، كما يمكن تقدير الاحتمالية بأيٍّ من الحِيَل المتاحة. إنْ كنتَ بحاجةٍ لسؤال أحد الخبراء أو علماء الرياضيات، فلا بأس، لكن عليك الاستعانة بشخص ماهر في عمله؛ وإنْ كنتَ بحاجة للتخمين، فلا بأس في ذلك أيضًا، لكن عليك ألَّا تبالِغَ في تقدير مهاراتك، فهذا خطأ شائع. قد يكون هناك أشخاص يتمتَّعون بمعرفةٍ تفوق معرفتك؛ ومن ثَمَّ يستطيعون تأديةَ مهمةِ التنبُّؤ بالأرجحيات بصورة أفضل منك. فإن كان باستطاعتك العثورُ على أحدهم لمعاونتك، فلْتفعل ذلك، لكن تجنَّبِ المتنبِّئين المحتالين، مثل المنجِّمين وقارئي الكف وقارئي الطالع عن طريق الكرات البلورية. (ربما نكون قد فقدنا بعضَ قرَّاء هذا الكتاب بسبب هذه الجملة؛ إذ إن استطلاعات الرأي تبيِّن لنا باستمرارٍ أن عددًا مهولًا ومزعجًا من الأمريكيين لا يزالون يعتقدون في هذا الهراء.)

بالطبع لا تتسم مسألة الاحتمالية بهذا القدر من الحرية التي لا تحكمها ضوابط؛ فهناك قواعد بعينها علينا أن نتَّبعها عند توليف الاحتمالات معًا، خشية أن نقع في فخِّ الهراء والتناقُض مع الذات. لا يوجد سوى القليل من هذه القواعد، وتكاد تكون بديهيةً؛ فعلى سبيل المثال، تُقدَّر احتمالية وقوع حدثين غير مترابطين معًا عن طريق ضرب الاحتماليتين غير المترابطتين للحدثين؛ فإذا كانت هناك فرصة تُقدَّر بنحو النصف أن تستقر عملةُ الخمسة سنتات المعدنية ووجه الصورة لأعلى (أي احتمالية تبلغ ٠٫٥)، يكون لعملة العشرة سنتات المعدنية الاحتمالية عينها، وعندما نقوم بقذف كلتيهما، فإن احتمالية أن تستقرَّا ووجهَا الصورة لأعلى تبلغ الربع، أو ٠٫٢٥. وهناك قانون مماثِل، لكنه أكثر تعقيدًا بعض الشيء، بالنسبة إلى حالة «أو»؛ أيِ استقرار إحدى العملتين «أو» الأخرى ووجه الصورة لأعلى (وتبلغ الاحتمالية حينئذٍ ٠٫٧٥؛ لأن للبديل — المتمثِّل في أن يكون وجهَا الكتابة لأعلى — احتماليةً تبلغ ٠٫٢٥). لكن في ظلِّ احتمالات الأحداث الفردية — أيًّا كان مصدرها — يجب اتباع قوانين التوليف بينهما دائمًا، وإلا فستظهر تناقضات تُربِك عمليةَ صنع القرار بأكملها.

إذن فالقوانين الثلاثة الأساسية للاحتمالية هي:
  • احتمالية وقوع حدثين منفصلين تمامًا معًا هي ناتج الاحتماليات الخاصة بكلٍّ منهما. وهذا أيضًا ينطبق حال وجود أكثر من حدثين.

  • احتمالية وقوع حدث واحد على الأقل من أحداثٍ «متنافيةٍ بشكلٍ تبادُليٍّ» (أيْ إن وقوع أحدها ينفي وقوع الآخَر) هي مجموع احتمالات وقوع كلٍّ منها. أما إذا لم تكن أحداثًا متنافيةً — كعملتَيِ الخمسة سنتات والعشرة سنتات — فالأمر أكثر تعقيدًا بعض الشيء.

  • إنْ حَدَثَ أنْ كان هناك «شيءٌ ما» لا بد من وقوعه، فإن مجموع احتمالات هذه الأشياء المستقلة يكون واحدًا. على سبيل المثال، إنْ كان هناك فريقٌ «ما» سيفوز بنهائي دوري البيسبول (إذا ما عُقِد)، فإن مجموع احتمالات الفوز لكلِّ فريق من الفِرَق المشاركة يساوي واحدًا. ومرة ثانية نؤكِّد أنه يجب أن تكون الأحداث متنافيةً بالتبادُل؛ فليس بمقدورنا إضافة احتمالية فوز فريق سينسيناتي ريدز إلى احتمالية فوز الرابطة الوطنية.

لقد استخدمنا تلك القوانين بتوسُّع (مع أننا احتفظنا بهذه المعلومة لأنفسنا) في تحليل لعبة المواعدة التي قدَّمناها في الفصل السابق، وعلى الرغم من أنه لا يوجد سوى القليل من هذه القوانين، فإن حلَّ مسائل الاحتمالات المعقَّدة يمكن أن يكون صعبًا. أما المبادئ فليست كذلك؛ فنموذج الرياضيات الذي تحتاج بالفعل إلى معرفته لإتقان فهم الاحتمالية هو جمع الكسور أو الكسور العشرية، ومن المفترض أنك تعلَّمْتَ هذا في المدرسة الثانوية، إنْ لم يكن قبلها.

وَلِنتأكَّدَ من أن كل شيء واضح، دَعْنا نحلَّ مسألةً بسيطة: احسب احتماليةَ الحصول على أربع بطاقات متشابِهة في توزيعة بوكر مكتملة. هذا مجرد مثال؛ فنحن لا نشجِّع المقامرة. بالطبع إن كنتَ تعرف الأرجحيةَ أفضل من منافِسِيك، فَلْتقامر بضمير حي؛ فأنت ستفوز اعتمادًا على مهارتك، وهذا شيء أخلاقي. كانت هناك حالة قانونية أُثِيرت منذ فترة ليست ببعيدة، وكانت تدور حول ما إذا كانت المقامرة الآلية — الفيديو بوكر — ماكينات مقامرة أم لعبة لتنمية المهارات؛ إذ كانت المقامرة من الأعمال غير القانونية في تلك الولاية، إلا أن ألعاب تنمية المهارات كانت مشروعة. وبعد مناقشات ساخنة وشهادات متضاربة من علماء الإحصاء البارزين، حكمَتِ المحكمةُ بأنها لعبة من ألعاب تنمية المهارات؛ ومن ثَم مشروعة.

وحيث إننا سنتعامل مع توزيعة بوكر مكتملة، فليس ثمة مهارة في الأمر على الإطلاق؛ ومن ثَم فنحن نتحدَّث عن الاحتمالية الصافية؛ ونعني بالاحتمالية في هذه الحالة نسبةَ كلِّ التوزيعات المحتملة التي يمكن أن تحمل أربعَ بطاقات متشابهة، والتي تُحسَب استنادًا على صيغ مطوَّرة من براهين التناظُر التي استخدمناها من قبل. يمكن حساب الاحتمالية عن طريق التفكير بدقة خلال خطوات توزيع البطاقات؛ كل ما في الأمر هو استخدام نفس براهين التناظُر القديمة مرارًا وتكرارًا، مع افتراض أن كل التوزيعات المحتملة لها نفس الاحتمالية؛ ومن ثَم تكون الاحتمالية هي مجرد نسبة التوزيعات «الجيدة» إلى كل التوزيعات.

وكبداية، عليك أن تتساءل عن عدد التوزيعات المختلفة، الكثيرة والمحتملة، التي يمكن أن تحصل عليها أثناء اللعب، وسوف نَعتبر أن توزيعةَ بطاقات البوكر نفسها «مختلفة» إذا كانت البطاقات تصل من موزع البطاقات بترتيب مختلف، ولا يهم إن كان توزيع البطاقات يتمُّ بترتيب متسلسل أم لا، ما دام أن هناك اتساقًا وأن الطريقة نفسها متَّبَعة في التوزيعات الجيدة والتوزيعات الأخرى؛ وسينتهي بنا الأمر بحساب النسبة. (هناك ١٢٠ وسيلة مختلفة يمكن أن تصل بها توزيعة محدَّدة مشتملة على بطاقات اللعب الخمس إلى اللاعبين من موزع البطاقات، وهكذا فإن كل توزيعة يمكن أن تصل إلى اللاعب ﺑ ١٢٠ ترتيبًا مختلفًا، ولن نفعل شيئًا سوى إحصائها جميعًا.)

وهكذا فإن أول بطاقة نتلقَّاها يمكن أن تكون أي بطاقة من البطاقات الاثنتين والخمسين الأصلية، والبطاقة الثانية واحدةٌ من الإحدى والخمسين بطاقة المتبقية، وهكذا حتى نصل إلى البطاقة الخامسة. ومن ثَمَّ يكون العدد الإجمالي للتوزيعات المحتملة — بما فيها ترتيبات الاستلام المختلفة — هو ٥٢ × ٥١ × ٥٠ × ٤٩ × ٤٨، ويصل ناتجها إلى ٣١١٨٧٥٢٠٠ توزيعة محتملة؛ وهذا عددٌ يزيد قليلًا عن المطلوب إن أُعطِيتْ توزيعة لكل سيدة ورجل وطفل في الولايات المتحدة؛ ومن ثَمَّ فإن بمقدورنا مَنْح كل شخص توزيعة بوكر مرتَّبة كبطاقة هوية، بدلًا من رقم الضمان الاجتماعي؛ لبعض الوقت.

figure

كم من هذه التوزيعات تحمل أربع بطاقات متشابهة؟ حسنًا، دعونا نستوضح الأمر. البطاقة الأولى يمكن أن تكون أي شيء؛ إذ إن البطاقات الأربع المتشابهة يمكن أن تبدأ بأي بطاقة؛ لذا سنمنح تلك البطاقة ٥٢ خيارًا. (اتبع الشكل من اليسار إلى اليمين؛ تلك هي الطريقة المعيارية المستخدَمة.) والبطاقة الثانية إما أن تماثِل الأولى (وَلْنَقُلْ مثلًا إنهما ٢ آس)، وإما أن تختلف عنها، فهناك ثلاث فرص لأن تكون بنفس القيمة، و٤٨ فرصة لأن تكون مختلفة. ها نحن الآن قد وزَّعنا بطاقتين وحدَّدنا مسارين مختلفين للتعامُل معهما.

بدايةً، اتبع المسار العلوي الذي تتباين فيه البطاقة الثانية عن الأولى. يجب أن تتماثل الثالثة مع أيٍّ منهما، وإلا فلن نصل لأربع بطاقات متشابهة، وهكذا يكون لدينا ستة خيارات بالنسبة إلى البطاقة الثالثة (ثلاثة من كل بطاقة)، وبعد ذلك ينبغي أن تتشابه البطاقتان التاليتان مع البطاقة الأولى، وإلا فلن نحصل على أربع بطاقات متشابهة؛ وهكذا فالمسار العلوي يتضمَّن خيارات عددها الإجمالي ٥٢ للبطاقة الأولى، و٤٨ للثانية، و٦ للثالثة، و٢ للرابعة (هناك بطاقتان إضافيتان من البطاقات الرابحة التي ينبغي جمعها عند تلك النقطة، ويمكن أن تأتيَا بأيٍّ من الترتيبين)، وخيار واحد للبطاقة الأخيرة المتبقية. إذن يُحسَب العدد الإجمالي على هذا النحو: ٥٢ × ٤٨ × ٦ × ٢ × ١؛ بحيث يبلغ إجمالي التوزيعات ٢٩٩٥٢ توزيعة.

نأتي بعد ذلك إلى المسار الأدنى الذي تتماثَل فيه البطاقة الثانية مع الأولى؛ ومن ثَمَّ لا يزال هناك ٥٢ خيارًا للبطاقة الأولى و٣ فقط للثانية. الآن، يمكن أن تتماثَلَ البطاقة الثالثة مع أول بطاقتين (هناك بطاقتان متبقيتان؛ ومن ثَمَّ خياران)، أو تختلف معهما (٤٨ خيارًا). وإذا اختلفت البطاقة الثالثة معهما، ينبغي أن تتماثَل آخِر بطاقتين؛ خياران وخيار واحد على التوالي، كما في نهاية المسار العلوي. أما إذا كانت متشابهةً، فسوف تتشابه أول ثلاث بطاقات، وتكون الأخيرتان هما البطاقة المتبقية من الأربع المتشابهة والأخرى المختلفة، وذلك بترتيبٍ ما. في أي الحالتين، يبلغ عدد الاحتمالات ٤٨؛ إذن نحصل من المسار الأدنى على ٥٢ ×٣ × ٤٨ × ٢ × ١ إلى جانب ٥٢ × ٣ × ٢ × ١× ٤٨ إلى جانب ٥٢ × ٣ × ٢ × ٤٨ × ١؛ بحيث يبلغ إجمالي التوزيعات ٤٤٩٢٨.

عند إضافة هذا إلى عدد التوزيعات المحتملة في المسار العلوي، نحصل على ٧٤٨٨٠ توزيعة «رابحة» محتملة من إجمالي ٣١١٨٧٥٢٠٠ توزيعة، وهكذا نحصل على احتمالية وجود أربع بطاقات متشابهة في توزيعة مكتملة من خلال إجراء عملية القسمة؛ فيكون الناتج ٠٫٠٠٠٢٤؛ أي أقل قليلًا من فرصة واحدة من بين ٤٠٠٠ فرصة، وهي احتمالية ضئيلة ولا تحدث كثيرًا. أما توزيعة ستريت فلَش (أي الحصول على خمس بطاقات متتالية متشابهة)، فهي أقل احتمالًا؛ إذ تُعادل احتمالية هذه التوزيعة أقل من فرصة واحدة من بين ٧٢٠٠٠ فرصة، وبمقدورك حساب الاحتمالات بنفس الطريقة.

تناولنا هذه الحسابات بتفصيل شديد ومروِّع لنوضِّح نقطة ما؛ إنْ كنتَ شخصية منظمة تتَّسِم بالدقة، وبمقدورك حل المسائل الحسابية البسيطة، فستستطيع أيضًا حسابَ أي مسألة تنطوي على احتمالية من هذا النوع. إنها ليسَتْ صعبة من حيث مبدؤها، لكنها باعثة على الملل عند التطبيق؛ وهي بالفعل تتطلَّب ممارسةً وتطبيقًا.

تتبقَّى لدينا نقطة أخرى لا بد من ذكرها عن موضوع الاحتمالية، وبعدها نستكمل عرضنا؛ إننا لم نتحدَّث إلى الآن عن الاحتمالية إلا في إطار احتمال حدوث شيء مستقبَلًا، وليس من منظور ما إذا كان شيءٌ «قد وقع» بالفعل. قد يترامى إلى مسامعنا صوتٌ عالٍ آتٍ من السماء، ونتساءل حينها إن كان مصدر الصوت رعدًا، أم دوي طائرة سريعة، أم مكوكًا فضائيًّا يهبط، أم ربما سوبر مان يقفز من فوق جبال عالية. وحيثما يعيش مؤلف الكتاب، تُعَدُّ أول ثلاثة احتمالات شائعة بنسبة شبه متساوية، أما الاحتمال الرابع فلم يحدث حتى الآن. في إطار نظامنا القانوني، نحن نحكم بالإدانة في المحاكمات الجنائية من منطلقِ ما يُسمَّى «الشك المعقول»؛ ويعني أننا نحكم بالإدانة فقط إذا ما كانت هناك احتمالية ضئيلة جدًّا بأن المتهم بريء بالفعل من الجريمة المنسوبة إليه. (لا يمكن أبدًا أن نكون على ثقة تامة في الحكم، وهناك أخطاء تُرتكَب أحيانًا، ولسوف نتناول المزيدَ عن هذا الموضوع في الفصل الثاني والعشرين). وحيث إننا لا نعرف الحقائق، فإننا نعمل في إطار الاحتمالية، وإن كان من تحت الطاولة. وعلى الرغم من أن القضاة يستخدمون أساليبَ لغويةً ملتويةً نموذجية ومجرَّبة على مر الزمن، لكي يخبروا المحلفين بالفرق بين الشك المعقول والتخمينات غير المعقولة، فإنهم لا يجيدون فعل ذلك في واقع الأمر، بل إنهم حتى لا يتفقون عليها فيما بينهم؛ فهم يحاولون التعامُلَ مع الاحتمالات دون ذِكْر كلمة «احتمالية»، أو حتى — لا قدَّرَ الله — استخدام المفاهيم الرياضية. وهناك بعض الأحكام القضائية التي وُضِعت لتكون عوضًا عن التعريفات الدقيقة، وهذا سيكون موضوعَ الفصل قبل الأخير من الكتاب؛ والذي يُعَدُّ شديدَ الأهمية.

إذن فهناك استخدام لمفهوم الاحتمالية للتعامُل مع احتمال وقوع شيء في الماضي؛ كأنْ نقول إن الملك أتيلا الهوني كان يَزِنُ بالضبط ٧١ كيلوجرامًا في عيد ميلاده السادس عشر، أو إن وينستون تشرشل وجريتا جاربو بينهما صلة قرابة بعيدة ترجع إلى عشرة آلاف سنة مضَتْ، أو إن كوكب المريخ سكنه ذات مرة جنسٌ منقرضٌ الآن من دمى الدِّبَبة المحشوَّة المحبوبة. (إن علماء الإحصاء التكراريين يستشيطون غضبًا لدى سماع مثل هذه الاحتمالات.) كل تلك العبارات تكون إما صحيحة وإما خاطئة — على نحو مجرد لا طائلَ من ورائه — ولكن لأننا لا نعرف الحقائق المؤكدة، فعلينا إذن أن نعمل في عالم من الشكوك والاحتمالات. وفي بعض الأحيان، يمكن أن تغيِّر الأبحاثُ هذه الاحتمالاتِ الارتجاعيةَ عندما نكتشف أدلة — وهذ هو مضمون عدد كبير من الأبحاث — لكن الاحتمالات تعكس حقًّا الشكوكَ المحيطة بالحقائق والأحداث الماضية، مثلما تعكس الاحتمالاتُ التي تحدَّثنا عنها حتى الآن الشكوكَ المحيطة بالأحداث المستقبلية. إن تعريف الاحتمالية الذي يعتمد على متوسط الكثير من المحاولات هو تعريف لا يفيد في وصف الأشياء غير المؤكدة التي وقعت في الماضي؛ فالماضي — بكل تأكيد — هو حدث وحيد ليس بمقدورنا تكراره عدة مرات، بالرغم من تمنِّينا تكراره. وقد قال أحدهم ذات مرة إن بمقدورنا فهم الحياة إذا نظرنا إلى الماضي، لكن — لسوء الحظ — علينا أن نعيشها في المستقبل. والاحتمالية تنطبق على الحالتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤