الفصل الرابع

المكاسب والخسائر

ما زال علينا اختراع وسيلة لتقييم نتائج أي قرار نتخذه، وإذا لم نكن نهتم البتة بتلك النتائج، فلا يكون لدينا مشكلة حقيقية في أي قرارٍ (على اعتبار أن الشيء المُقدَّر له الحدوث سيقع لا محالة). لكن إن أردنا أن يصبح أداؤنا أفضلَ من مجرد المشاركة دون دور فعَّال، فعلينا أن نكون قادرين على أن نفصح «عمَّا» نريده، ومدى حاجتنا الملِحَّة له؛ بعبارةٍ أبسط، يجب أن نفعل ما هو أكثر من التمنِّي السلبي.

هناك شيء واحد علينا أن نوضِّحه مقدَّمًا؛ وسيكون ذا أهمية فيما بعدُ، خاصةً عندما نتحدَّث عن أنظمة الحكم؛ فمثلما لا تكون لدينا دوافع حقيقية لصنع قرارات صائبة إذا كنَّا لا نهتم بعواقبها، فعلى الآخَرين الذين لا يهتمون بشأن النتائج ألَّا يصنعوا قراراتٍ لبقيتنا. وإذا لم تكن هناك مخاطِرُ حقيقية وشخصية تحيط بالنتيجة، فليس هناك حافِزٌ مُلِحٌّ يدفعنا لأداء المهمة بشكل جيد. هذا ينطبق على كل المهام، وهو أمر مسلَّم به في عالم صنع القرارات الفردية الصغير؛ فإذا ما ساءَتِ الأمور، فليس أمامك سوى نفسك لتلومها، وأنت مَن ستتكالب عليك التبعات الخطيرة. لكننا في الواقع لا نحيا بمفردنا في هذا العالم، فنصنع قراراتنا الوحيدة، ونعاني من نتائجها الوحيدة؛ ففي العالم الأكبر تؤثِّر قراراتنا أيضًا على سعادة أصدقائنا، وجيراننا، وعائلتنا، وأبناء بلدتنا؛ فعندما نشارك في قراراتٍ — ربما بالتصويت — فذلك لا يؤثِّر علينا شخصيًّا، لكن يكون له أثر عظيم على الآخَرين. وهناك احتمالية فعلية لوقوع الضرر، والآباء المؤسِّسون للولايات المتحدة كانوا يدركون هذا الأمر جيدًا، ولكن من الصعب مقاومة إغراء التصويت بأنانية، وجعْل كل فرد في المجتمع يدفع ضريبة ذلك، وتكبيل حرياتهم. وبالنسبة إلى السياسيين، فإن شهوة إعادة الانتخاب تتغلَّب بسهولة على الاهتمام بالصالح العام. إنَّ لدينا الكثير لنقوله عن تلك الموضوعات في سياقها المناسب لاحقًا، ولكن الآن دَعْنا نفترض أن لديك أسبابًا شخصية للاهتمام بنتائج القرارات التي تتخذها.

إنَّ لهذا الموضوع تاريخًا طويلًا، ونفس الأفكار يمكن أن تحمل أسماءً مختلفة تمامًا، وذلك وفقًا لمهنة الكاتب أو المتحدث. ولقد استخدمنا عنوانًا بسيطًا لهذا الفصل، بالرغم من أن علماء الإحصاء والاقتصاد يتحدَّثون في بعض الأحيان عن دالة المنفعة أو دالة الخسارة، وهي وسيلة لقياس مدى رغبتك — أو عدم رغبتك — في نتيجة معينة؛ فإن كنتَ ترغب في هذه النتيجة، فستسعى لزيادة الدالة لأقصى حد وتسميها «دالة المنفعة»؛ وإن لم تكن ترغب فيها، فستسعى لتقليل الدالة لأقصى حد وتسميها «دالة الخسارة». كلتا الدالتين تعكسان مشكلة صنع القرار نفسها، وكلتاهما كذلك تتطلَّبان الطريقة نفسها في التناول، لكن إحداهما تتعلَّق بمدى امتلاء الكوب، والأخرى بمدى فراغه. إن هذا المؤلف ليس بعالِم إحصاء أو عالِم اقتصاد؛ لذا فلا تهمُّ المسمَّيات. ويمكن اعتبار الخسارة مكسبًا سلبيًّا، والعكس بالعكس، ولا ضرر في كلتا الحالتين؛ فالكوب نصف الفارغ يروي الكثيرَ أو القليلَ من العطش تمامًا كالكوب نصف الممتلئ، وليس ثمة إثمٌ في استخدام الأرقام السلبية.

المنفعة هي — ببساطة — إيضاح لفكرة المكسب، مع أخذ مسألة التفضيلات في الاعتبار؛ فهناك حالات بسيطة يمكن أن نقيس فيها المكسب من قرارٍ ما بطريقة مباشرة، وَلْنَقُلْ بالدولارات؛ وبذا قد يكون الهدف من قرارٍ ما هو تعظيم الربح الصافي المحتمل. ويعتقد العديد من المديرين التنفيذيين للشركات وحاملي الأسهم والمستثمرين وأعضاء مجالس الإدارات، أن هدفهم «الأوحد» في الحياة هو تعظيم الربح الصافي، ويَعتبرون ذلك شيئًا متوارثًا غير قابل للتغيير. فبالنسبة إليهم، صافي الربح النهائي — أيِ المجموع الكلي للمكاسب والخسائر خلال العام؛ كَبُر أو صَغُر — هو الذي يظهر في النهاية في الميزانية التي تُرسَل إلى حاملي الأسهم، وهو ما يؤدِّي إلى ترقية المديرين التنفيذيين أو فصلهم، أو الحصول على مكافآت استثنائية. يُقال إنك إذا خسرتَ مبلغًا قليلًا فحسب في كل بند من بنود الميزانية، فلن تستطيع تعويضه إجمالًا؛ لذا عليك أن تحرص على كل بنس. يعلم ذلك المديرون التنفيذيون للشركات (على الأقل مَن استمرَّ في عمله منهم)، وهناك حكومات تتصرَّف كما أنه لا يهم سوى البنسات. (فالكونجرس الأمريكي يقرُّ الميزانية الفيدرالية في وقت قصير بحيث تزيد قيمة الدقيقة الواحدة من مناقشاتها كثيرًا عن ١٠ ملايين دولار، لكنه يدخل في نقاشاتٍ لا نهايةَ لها بشأن بنود تبلغ قيمتها قرابة الألف دولار.) لقد بُنِيت الإمبراطوريات التجارية الضخمة على أرباح بسيطة مستقاة من بنود فردية. كذلك تعتمد أنشطة المتاجر الضخمة على الهوامش الإجمالية في نطاق نِسَبٍ مئوية ضئيلة؛ أمَّا تجارة اليُخوت، فهي تختلف تمام الاختلاف. وفي بعض الأحيان، يمكن وصف قيمة إحدى النتائج — وصفًا أمينًا — على أنها إجمالي المكسب الصافي؛ ومن ثَمَّ يسهل إجراء هذا الجزء بالذات من مهمة صنع القرار.

لكن الوضع ليس كذلك بصفة دائمة؛ فبالنسبة إلى معظمنا، لا تشبه متعةُ الفوز بعشرة آلاف دولار ألمَ خسارة عشرة آلاف دولار. ربما نشعر بميلٍ تجاه المراهَنة بأرجحية متكافئة على مبلغ عشرة دولارات، بحيث ينحصر الرهان بين المكسب أو الخسارة، مضاعفة المبلغ أو عدم الحصول على شيء، لكننا لا نراهن الرهان ذاته على ألف دولار. (لتأكيد هذه النقطة، اجعلها مليونَ دولار إن كنتَ ثريًّا.) وقد أظهَرَ استطلاعٌ للرأي أجرَتْه إحدى شركات الاستشارات الاستثمارية مؤخرًا أن أقل من ٣٠ في المائة من المستطلعين يمكن أن يضعوا رهانًا، بحيث يكسبون ألف دولار في حالة المكسب، بينما يخسرون خمسمائة دولار في حالة الخسارة. أيُّ شخص يهتمُّ بصافي الربح النهائي يُعَدُّ أحمق إنْ رفض عرضًا كهذا؛ ومؤلِّف هذا الكتاب يمكن أن يقبل عرضًا كهذا مرة واحدة في أيِّ يوم من أيام الأسبوع، ومرتين أيام الثلاثاء. إنَّ الأمر أشبه بإلقاء عملة معدنية في الهواء من أجل الحصول على جائزة، وجعل المنافس يساهم دائمًا بثلثي المبالغ المراهَن بها. وأيُّ نادٍ للقمار في لاس فيجاس يقدِّم مثل هذه الأرجحيات، لن يستمر في العمل ليوم واحد. وعلى الأرجح، تُعزَى نتائج استطلاعات شركة الاستثمار إلى الجهل الواضح الذي يدعمه نفورنا العام من الرياضيات، مثلما تُعزَى بالقدر ذاته إلى فلسفة الاستثمار، ولكن تشير هذه النتائج أيضًا إلى أن الخوف من الخسارة دافعٌ أقوى بالنسبة إلى معظمنا من توقُّعات المكسب؛ وهناك الكثير من الأدلة الأخرى على هذا. بجانب ذلك، تعتمد مرغوبية النقود على القدر الذي نمتلكه منها بالفعل؛ فهدية بسيطة بألف دولار لمؤلف الكتاب ستولِّد سعادةً في نفسه أكبر من تلك التي سيشعر بها بيل جيتس — الذي يقال إنه أغنى شخص في البلاد — إن قُدِّمت له. ولما كانت القرارات لا تُتَّخذ فقط في العادة لجلب الثراء في حد ذاته، وإنما للحصول على مكافآت نفسية، فإن علينا أخْذ ذلك في الاعتبار عند تقييم نتيجة أي قرار. وهناك كلمة رائعة يستخدمها علماء الاقتصاد لوصف تلك الحالة؛ وهي كلمة ophelimity وهي كلمة مأخوذة من اللغة اليونانية بمعنى قوة منح الرضا.

وبهذا تطوَّرَ موضوعٌ يُسمَّى «نظرية المنفعة» عبر المائتي سنة الماضية لتوضيح حقيقة أن هناك أشياءَ تتعلَّق بالنتائج المترتبة على فعلٍ ما أكثر من تلك التي يمكن أن تتعلَّمها من مجرد جمع المكاسب والخسائر وحدها. ولقد رأينا ذلك بالفعل في الفصل الثاني، حيث لم نتساءل مطلقًا عن مدى «ازدياد» جاذبية اختيار أفضل شخص كشريك محتمل، بل جرَّبنا فقط القليلَ من التنويعات على التقييمات وتلاعَبْنا بفكرة ثاني أفضل المرشحين، أو أحد أفضل خمسة مرشحين، وتركنا الأمر يتخذ مساره عند هذا الحد؛ وما لم نتناوله — وسيأتي لاحقًا عندما نتحدَّث عن الديمقراطية — هو كيفية التعامل مع التناقضات الداخلية في أنظمة التقييم الفعلية؛ فقد تجد رجلًا يبحث عن شريكة حياة (إذ علينا المساواة بين الجنسين في الأمثلة)، فيفضِّل ألِيس على بياتريس، وبياتريس على سيليست، ثم يعكس اتجاهه، فيفضِّل سيليست على ألِيس. ليس هناك أي شيء غير مألوف على الإطلاق في معضلات الحياة الواقعية هذه (ويُطلَق على هذا الموقف علاقة غير متعدية)، وهي معضلات بالفعل. وَلْنتخيَّلْ كيف يكون حلُّ لغزِ الفصل الثاني إذا كانت التفضيلات جميعها متداخِلةً وغير متَّسِقة بهذا الشكل.

لذا فبالنسبة إلى كل المواقف — تقريبًا — التي سنناقشها بشأن اتخاذ القرارات الفردية، سنفترض أن هناك نوعًا من الترتيب المتَّسِق ذاتيًّا (أي متعدٍّ) لتفضيلات صانع القرار فيما بين البدائل المحتملة، وأن مهمتنا تتمثَّل في توضيح ذلك بما يكفي لخدمة الغرض منه.

هناك حالات نجد فيها أن إيجابيات وسلبيات قرار معين ربما تأتي من عوالم مختلفة؛ فجميعنا نتلقَّى رسائل غير مرغوب فيها تقول إننا ربحنا مليون دولار؛ ولمعرفة التفاصيل، ما علينا سوى إرسال القسيمة بعد ملئها. الجانب الإيجابي في هذا هو الفرصة الضئيلة (وهي ضئيلة بالفعل) للفوز بشيء، أما الجانب السلبي فهو الإزعاج الذي ينطوي عليه إرسال تلك القسيمة، وما يتبعها من طوفان الرسائل اللاحقة التي لا يمكن تجنُّبها، والتي أرسلها الأشخاص الذين بيع لهم اسمك وعنوانك بلا شك، ضمن قائمة المغفلين. كيف يمكن إذن عقد تلك المقارنات؟ لا يمكن أن تكتفي بجمع المكاسب والخسائر على آلة حاسبة؛ فهناك ما هو أكثر من النقود. وفي بعض الأحيان بالطبع، تكون أقوال الناس كافيةً لتوفِّر عليك الكثير من إزعاج صنع القرار؛ ويُقال في تلك الحالة إنه إذا ما بَدَا شيء رائعًا بدرجة يستحيل معها أن يكون حقيقيًّا، فهو غير حقيقي على الأرجح.

إن منفعة أي حدث — وهذا الحدث بالنسبة إلينا هو النتائج المحتملة لقرارٍ ما — هي مقياس لقيمته، أيًّا ما كانت الطريقة التي اخترناها لقياسها. فَلْنتأمل الأشخاص الذين استطلعَتْ شركة الاستثمار آراءهم، والذين ما كانوا ليخاطروا بخسارة محتملة في رهان متكافئ تُقدَّر بخمسمائة دولار في مقابل ربحٍ محتمَلٍ يُقدَّر بألف دولار. وبافتراض أنهم عقلانيون، فهم يقولون إن قيمة الأموال التي سيخسرونها تمثِّل بالنسبة إليهم ضعف قيمة الأموال التي من المحتمل أن يربحوها. (بالنسبة لأصحاب الدخول الثابتة، هذا شيء عادي؛ فالأموال الزائدة ربما تشتري وسائل ترف، بينما الأموال التي يخسرونها تكلِّفهم أشياء ضرورية.) لكن فَلْنفترض أن المسألة تتعلَّق بخسارة مائة دولار مقابل مكسب محتمَل يُقدَّر بألف دولار؛ عندئذٍ سنجد الكثيرَ من الناس يتغلَّبون على مخاوفهم — على الأرجح — ويغامرون. ومن خلال سلسلةٍ من الاختبارات أو التجارب المحكمة، ربما تستطيع ترسيخ الحقيقة التي تقضي بأن الأموال المحتمل خسارتها تمثِّل للعديد من الأشخاص قيمةً تفوق تلك المحتمل ربحها بمقدار مرتين أو ثلاث أو أربع مرات. إذن بإمكانك أن تحدِّد المنافعَ المختلفة لاحتمالات المكسب والخسارة عند اتخاذ القرار؛ فتعتبر ببساطة أن الخسائر تفوق المكاسب التي تُقارن بها أهميةً بمقدار ثلاث أو أربع مرات، أيًّا كانت النسبة الحقيقية. وإن كنتَ «أنت» مَن سيتخذ القرار، فسيكون هناك حاجة إلى معرفة نسبتك «أنت». وعليه، يجب استخدام المنافع في صنع القرار، وليس مجرد المكاسب والخسارة الخالصة فقط. وهناك شيء واضح بالفعل في هذا؛ فإن كانت النقود التي يحتمل خسارتها أكثر قيمةً بالنسبة إليك من تلك المحتمَل رِبْحها — كما هو الحال فيما يبدو لمعظم الناس — فعليك ألَّا تقامر بانتظامٍ في أحد نوادي القمار النزيهة؛ فحينها ستخسر بقدرِ ما تربح، وستكون الخسائر موجعةً بصورة أكبر. تذكَّرْ كلمة «بانتظام»؛ حيث سنعود لنتناول الرهان الذي ينطوي على احتمالات فوز ضعيفة في الفصل الذي يتحدَّث عن المقامرة.

لكن لا يزال علينا التعامُل مع حالات لا تنطوي على أشياء قابلة للعد (كالنقود). وَلْنَعُدِ الآن إلى حالة توم (الرجل الذي ذكرنا من قبلُ أنه يبحث عن شريكة حياة، وأسميناه هنا توم) الذي يحاول أن يصل إلى نظام تقييمٍ لشريكات حياته المحتملات — وهنَّ: ألِيس، وبياتريس، وسيليست — وَلْنفترض أنه فعليًّا يفضِّلهن جميعًا وفق هذا الترتيب؛ إذن فإن تفضيلاته متعدية: فألِيس هي الأفضل، وسيليست هي آخِر خيار سيلجأ إليه، فيما تقع بياتريس في مكان متوسط بينهما. (لا تُلْقِ بالًا للسبب وراء ذلك؛ فكلنا يعلم أن الذوق لا يُعتَدُّ به في مثل هذه الأمور.) إنَّ كل ما اتبعناه في الفصل الثاني هو ترتيب الأفضلية، لكننا الآن نريد أن نتقدَّم خطوةً أخرى ونتساءل عن «موضع» بياتريس على المقياس التقييمي. فعلى أي حال، يعتمد استعداد توم لقبول ثاني أفضل خيار على مدى سوء ذلك الخيار مقارَنةً بتلبية رغبة قلبه؛ فإن كانت بياتريس تبدو جذَّابةً تقريبًا كألِيس، فقد لا يشعر أن هناك حاجة مُلِحَّة لكي يحرِّك تسلسلَ الأفضلية لديه للأمام؛ أما إنْ كانت غير مرغوب فيها تقريبًا مثل سيليست، فربما عليه أن يجازف. كيف لنا أن نعرف؟ بما أن الذوق لا يُعتَدُّ به، فلا توجد نقاط لإضافتها، وكل ما علينا فعله هو معرفة ما يدور في ذهن توم بشأن تفضيلاته، فهو مَن سيكون صانع القرار ومَن سيستمتع أو سيعاني عواقبه، ونحن فقط نحاول أن نعاونه على أن يفعل ذلك على نحوٍ لا يناقِض فيه نفسه.

لقد أمضى مؤلف هذا الكتاب معظم حياته يعمل أستاذًا جامعيًّا، وغالبًا ما يقيِّم أمثالُه طلَّابَهم وفقًا لمقياس يبدأ من صفر إلى عشرة، وربما يعتبرون درجة «ستة» وصفًا لتقدير مقبول (وهو تقييم غير موضوعي، لكن التقييم العددي يجعل هذه الدرجة تبدو وكأنها مقياس دقيق). وفي بعض الأحيان، نستخدم الأحرف الإنجليزية F، D، C، B، A في هذا التقييم بدلًا من الأرقام (ولا نستخدم أبدًا E)؛ ومن ثَمَّ نَعتبر في أذهاننا أن قيمة الدرجة A تساوي ٤، والدرجة B تساوي ٣، وهكذا. بل إن هناك مجموعة من الكلمات التي تصاحب هذه الدرجات، وهي: ممتاز، وجيد، ومقبول، وضعيف، وراسب. فالأرقام ما هي إلا بدائل للتقديرات الكيفية، وليس لها أي مدلول رقمي حقيقي في حد ذاتها. لكن باستخدام الأرقام، فإننا نحثُّ أنفسَنا على إجراء بعض العمليات الحسابية بها، وهو ما لا نستطيع فعله مع ما يعادلها من تقديرات بالأحرف. كان بمقدورنا أن نقيِّم الطَّلَبَة كما نفعل في التنس، من خلال منح نقاط تبلغ ٤٠ و٣٠ و١٥، بالإضافة إلى الصفر، وكانت العملية ستسير على النحو نفسه. (إن إضافة الحب يحسِّن حياتنا، ولكن ليس في التنس؛ حيث إن كلمة love تعني صفرًا.) بعد ذلك نحسب متوسط الدرجات — أو المعدل التراكُمي الشهير بناءً على مقياس الدرجات بدءًا من صفر وحتى أربع — ثم نتظاهر أن الأرقام لها معنًى كميٌّ حقيقيٌّ. في الواقع، ليس للأرقام هذا المعنى — فهي مجرد اختراعات — بَيْدَ أن المعدل التراكُمي له أثر هائل على حياة الطلاب، وخلال كل تلك الأعوام التي أمضاها هذا المؤلف في التدريس، لم يسمع قطُّ عن أي طالب أو أستاذ جامعي يشكِّك في المنطق الداخلي لترجمة تلك التقديرات الشخصية إلى مقياس رقمي يُحسَب متوسطه بعد ذلك؛ فالطالب الذي يحصل على أرقام مكافئة للدرجات A وC سيكون له نفس المعدل التراكمي للطالب الذي حقَّقَ عملًا جيدًا وحصل على B، لكنه ما كان ليحصل على هذا المعدل نفسه لو استخدمنا نظامَ حساب نقاط التنس؛ فهل ينبغي أن تعتمد مقاديرُ الطالب على ذلك؟
الأمر نفسه ينطبق على تصنيف الزلازل؛ فالزلزال الذي تبلغ قوته ٧ درجات بمقياس ريختر يُصنَّف من بين الزلازل العنيفة، وهو كذلك بالفعل إن كنتَ قريبًا من مركز الزلزال. ويعتمد مقياس ريختر على اللوغاريتم الناتج عن قراءة محدَّدة جدًّا لآلةٍ بعينها (اخترعها تشارلز ريختر)، ويرتبط المقياس ارتباطًا تبادليًّا — فقط على نحوٍ تجريبيٍّ وغير محكم — بإطلاق الطاقة والدمار المحتمل للزلزال. (حتى معجم راندوم هاوس الكامل الجديد — والرائع فيما عدا ذلك — يعرِّف المقياسَ تعريفًا خاطئًا.) وهناك نظام آخَر أقل شيوعًا لتقدير قوة الزلزال لكنه قد يكون أكثر أهميةً، وهو مقياس ميركالي المعدل، ونادرًا ما تتمُّ الإشارة إليه في الصحف؛ لأنه جزئيًّا يبدو أقلَّ صلةً بالعلم من مقياس ريختر (وربما أيضًا لأن خبراء الزلازل قد تعلَّموا ألَّا يذكروه على مسامع العامة). إنه يعتمد اعتمادًا مباشِرًا على حساب الخسائر؛ وهو ما يرغب معظم الناس في معرفته بالفعل. يستخدم هذا المقياسُ الأرقامَ الرومانية — مثل نهائي السوبر بول — والتقديراتُ الرسمية لشدة الزلازل وفقًا لمقياس ميركالي (التي تبدأ من الدرجة I — أي ١ — وتشير إلى هزةٍ لا يكاد يشعر بها الناس، وتنتهي عند XII حيث الدمار الشامل) غريبةٌ بعض الشيء؛ فعندما تسجل الهزة الدرجة VI (أي ٦) على مقياس ميركالي، يشعر العديد من الناس بالذعر ويهرعون إلى الخارج وتتحطم الأواني، وعند الدرجة VII (أي ٧) يكون من الصعب الوقوف، وتنفصل بعض المداخن الضعيفة عن المباني، أما عند الدرجة IX (أي ٩) فيسود شعور عام بالذعر، وهكذا. فالمقياس لا يدعي بأنه كمي، وإنما هو جدولة للمراحل المختلفة للخسائر وللتعايش مع ردود أفعال البشر مع الحدث. ولم يحسب المختصون بعدُ متوسطَ تقديرات مقياسَيْ ريختر أو ميركالي المعدل، لكن اليوم الذي سيحدث فيه ذلك آتٍ.

إن التقديرات الدراسية وتقديرات مقياس ميركالي لشدة الزلازل (وليس مقياس ريختر) ما هي إلا أمثلة للنظم الترتيبية (أي ترتيب الأشياء وفقًا لنظامٍ) التي تتَّسِم ترجمتها إلى أعداد أصلية (أي قِيَم دقيقة) بأنها ترجمة عشوائية بالكامل، لدرجة أن أي تغيير آخَر بالأرقام لا يعطينا أي معنًى حسابي على الإطلاق. وإلى جانب هذا، مَن منَّا يمكنه إيجاد طريقة لكتابة الكسور بالتعداد الروماني؟ إنَّ نظرية المنفعة هي محاولة لإيجاد وسيلةٍ لمنح التقييماتِ الترتيبية معنًى كميًّا يكفي لجعل بعض التعديل ممكنًا؛ ومن ثَمَّ يمكن الاستعانة بها في صنع القرار. وَلْنَرَ الآن كيف.

لنَعُدِ الآن مرة أخرى إلى توم وأزمته العاطفية، وَلْنتخيَّلْ أن جودزيلا قد ظهر في المدينة وتدبَّرَ في حيرة توم مقرِّرًا أن يفرض على توم اتخاذ القرار (فجودزيلا يبغض التردُّد)؛ ولذا أخبر توم أنه «لا بد» أن يختار بياتريس (تذكَّرْ أن ترتيب الأفضلية لدى توم هو ألِيس، ثم بياتريس، وأخيرًا سيليست)، إلا إذا كان على استعدادٍ لخوض مراهَنة بسيطة؛ والمراهَنة (إنْ رَبِحَها) ستمنحه الفرصةَ للحصول على مَن يفضِّلها — أيْ ألِيس — لكنها ستضعه أمام مخاطرة البقاء في النهاية مع سيليست (إنْ خَسِرَها). القرار بسيط؛ وهو المراهنة على الاختيار بين ألِيس وسيليست، أو عدم الإقدام على هذه الخطوة وبدء حياة جديدة وسعيدة مع بياتريس. فإذا ما اختار توم المراهَنة، فهذا يعني بوضوح أنه يرغب في الفوز، وما نريد أن نعرفه هو «مدى» تفضيله ألِيس على بياتريس، أو مقدار نفوره من سيليست مقارَنةً بِبياتريس أيضًا؛ إذن فقد قالها له الزائر — جودزيلا — بطريقة مباشرة: فَلْتختَرْ بياتريس إنْ شئتَ، أو انْسَ أمرها وألْقِ بعملة معدنية في الهواء — برهان متكافئ على المكسب والخسارة — للاختيار بين ألِيس وسيليست. (ومثلما حدث في القصة الخيالية العكسية التي أوردناها في الفصل الثاني، كل المرشحات هنا متحمِّسات لأن يقع عليهن الاختيار.) وإنْ رفض توم المراهَنة، فهذا يعني إما أنه لا يَعتبر ألِيس أكثر جاذبيةً بكثير من بياتريس، وإما أنه يعتبر سيليست مخاطَرةً لا يودُّ أن يُقدِم عليها في رهان متكافئ. وفي كلتا الحالتين، فهذا يمنحنا معلومات عن ترتيب بياتريس بين ألِيس وسيليست في ذهن توم، وهي المعلومة التي نودُّ أن نعرفها.

أيًّا ما كان اختيار توم، يمكن لِجودزيلا أن يجرِّب بعد ذلك مرة أخرى مجموعةً مختلفةً من الأرجحيات، حتى نصل في النهاية إلى أرجحيات تجعل توم غير قادر على اتخاذ القرار بالمراهَنة أو عدم المراهَنة؛ حينئذٍ نكون قد عرفنا بالضبط ترتيبَ بياتريس عنده على مقياسٍ يبدأ من سيليست وينتهي بِألِيس. في ضوء نظرية المنفعة، إذا مَنحْنا تقييمات تبدأ من الصفر عند سيليست، وتنتهي بعشرة عند ألِيس — وإذا ما أحجَمَ توم عن مراهَنةٍ متكافئة في المكسب والخسارة — فهذا يعني أنه يمنح تقييمًا لِبياتريس يفوق الخمس درجات. أما إن لم يكن توم مُعجَبًا بِبياتريس — كعدم إعجابه بِسيليست تقريبًا — فإنه سيقفز على الفور إلى مراهَنةٍ متكافئةٍ في المكسب والخسارة لكي يفوز بِألِيس، بل سيراهن أيضًا على الأرجحيات الأسوأ، وخاصةً إن كان أسوأ ما يمكن أن يحدث — أيِ الحياة بصحبة سيليست — لا يُعَدُّ على هذا القدر من السوء مقارَنةً بارتباطٍ يُرغَم عليه بِبياتريس. وبمعرفة الأرجحيات التي يكون عندها غير قادر على الاختيار (أو بحسب الصياغة العملية: التي لا يبالي حينها بالاختيار)، نكون قد وجدنا وسيلةً لتقييم خيار بياتريس مقارَنةً بالأُخرَيَيْن، وسنكون قد وجدنا مقياسًا لتفضيلاته، وحينها يمكن استخدامه في صنع القرار.

وبهذه الطريقة يمكننا وضع نظام تقييم، حتى للأشياء التي لا يمكن جمعها ببساطة، وذلك من خلال التساؤل عن الأرجحيات التي يكون المرء مستعِدًّا عندها للمراهَنة للحصول على اختيارٍ أفضل. وكلما ساءَتِ الأرجحيات التي يكون توم مستعِدًّا عندها للمراهَنة في سعيه الحثيث لتجنُّب بياتريس، ساءَ رأيه في هذه الفتاة ونَقَصَ تقييمه لها بوضوح. ويُسمَّى نظام التقييم الذي يستند إلى تلك الاعتبارات بالمنفعة، وعليه يمكن منح كل نتيجة من نتائج القرار قيمةً وفقًا لمنفعتها، بالاعتماد كليًّا على هذا النوع من التقييم المتعلِّق بمرغوبية النتيجة؛ ولذا يمكن أن نحدِّد المنفعة وراء مكسب (أو خسارة) ألف دولار استنادًا إلى الأرجحيات التي يكون صانع القرار على استعدادٍ لتقبُّلها في مثل هذا الرهان. وكما ذكرنا من قبلُ، فالأشخاص يَمنحون — فيما يبدو — قيمةً (سلبية) للخسائر المحتملة أعلى من القيمة التي يمنحونها للمكاسب المحتملة؛ لذا فهناك منفعة (سلبية) للألف دولار المحتمل خسارتها أعلى من منفعة الألف دولار المحتمل ربحها؛ ومنفعة النتيجة المحتملة هي التي تحدِّد أهميتها في صنع القرار. هذا الاستعراض إضافةٌ تُحسِّن فهْمَنا لتصنيف الخيارات بالترتيب — كما فعلنا في الفصل الثاني — وسوف يقودنا إلى قرارات تتَّفِق على نحوٍ أكبر والطموحات الدفينة لصانع القرار.

والآن يمكننا ربط تلك الأفكار معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤