مقدمة

ما حال حولان على انتقال شوقي — رحمه الله — إلى عالم الخلود حتى رأيت الناس كأنهم قد نسُوا أمير الشعراء، ومن عادة الناس أنَّهم مهما كان الفائت عظيمَ القدرِ تناسَوه سريعًا، ونشدُوا غيره على حدِّ ما قال أحد الشعراء:

في الحال يَعْتاضُون منه بِغَيره
ويعودُ ربُّ الحزن غيرَ حَزِين
الورْدُ كان العندليبُ حَلِيفه
لما انقضى غنَّى على النسرين

ولكني أرى مثل شوقي جديرًا كلما مضت عليه السنون بأنْ يزدادَ حياةً في النفوس، ويعظم قدرًا في الصدور؛ لأن الخلود إنما يكون لمثله وهل المتنبي اليوم أقل حياة بروحه ممَّا كان في عصره وهو حيٌّ بجسمه؟ وهل صاحب الشوقيَّات التي شرَّقت وغرَّبت وأحزنت وأطربت ورواها الحادي والعادي وامتلأت بها الحواضر والبوادي يجوز أن ينساه ناطق بالضاد، أو يزهد فيه ضارب من الأدب بسهم ولو في برك الغماد؟!

وقد كنتُ لما فُجِع الأدب العربي بطيِّ هذه الصحيفة البشريَّة العبقريَّة التي يُقال لها: أحمد شوقي، وعَدْتُ بأن أنشر عنه وعن ذكرياتي معه كتابًا أسمِّيه «شوقي أو صداقة أربعين سنة» وحالت الأشغال والأسفار وما يتقاذفني من عوامل الأقدار دون إخراج هذا الكتاب الذي لا يزال يحكُّ في صدري، ولما مررت على فِلَسْطين في هذا الصيف قافلًا من جزيرة العرب وتلاقيت مع صديقي سراج العرب وطراز الأدب الأستاذ إسعاف النشاشيبي، حفظه الله، وهو مِن عشَّاق أدب شوقي والمولعين بحفظ آثاره وإحياء تذكاره، اسْتَنْجَزني ما كان من وعدي من وضْعِ هذه الرسالة الشوقيَّة، ولمَّا اعتذرْتُ له بما أنا فيه من مشاغل ومشادَّة أجابني: إن الأَلْيَق بوفائك والأخلق بأخلاقك هو أن تُقدِّم هذه الرسالة على غيرها من الرسائل، وأن تُبادِر بإنجاز وعْدٍ وعدته صريحًا في حقِّ صديقك وأخيك الذي ذِكْرُه عندك مُقدَّس وقَدْره لديك مُرجَّب، فوجدتُ كلامَه في مَحلِّه، وعوَّلت على ألا أماطِل في هذا الدَّيْن الذي يجب إيفاؤه لأهله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤