زيارتي الأولى لمصر

سنة ١٨٩٠ كانت أوَّل قدمة لي إلى مصر وكنت بين العشرين والواحدة والعشرين من العمر فمكثت شَيْع شهرٍ في الإسكندرية، ثم جِئت إلى مصر وكان أكثر اجتماعنا ذلك الوقت بأستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده وبرهطه المعهودين؛ سعد أفندي زغلول وأخيه فتحي، والشيخ علي الليثي والشيخ عبد الكريم سلمان وإبراهيم أفندي اللقاني وحفني أفندي ناصف، والسيد أحمد محمود من الرحمانية، والسيد إبراهيم الوكيل من دمنهور، والشيخ علي يوسف لأول ظهور «المؤيد»، وأحمد زكي باشا الذي هو خاتمة مَنْ أتذكَّره من رجال تلك الحلقة، رحمهم الله أجمع. وكانت اجتماعاتنا مُتواصِلة وأسمارنا مُتطاوِلة ومذاكراتنا للقاصي والداني شامِلة، ولكنَّنا لم نكن نسمع في ذلك الوقت بشخص يُقال له «شوقي» ولا أحسَسْنا له رِكْزًا.

ولما برحت مصر كان المرحوم الخديوي توفيق في الإسكندرية، فقال لي أستاذنا الشيخ محمد عبده: إنه لا يكون خطأً، إذا ذهبتَ إلى سراي رأس التين وودَّعتَ الجناب العالي الخديوي، ونظَمْتَ له بعض الأبيات؛ لأن من عادة الشعراء أن يُتحِفوا بشعرهم الملوك. وكان الأستاذ — رحمه الله — لا يُرَغِّبني في الشعر، وما عَهِدْته أوصاني بنظْم شيء إلَّا مرتين لا غير؛ إحداهما عندما طبعت ديواني المُسمَّى «الباكورة»، وهو مجموع ما نظْمته من سنِّ الرابعة عشرة إلى السابعة عشرة من العمر، فلما اطَّلع عليه في بيروت قال لي لأبعث منه بنسخة إلى المرحوم عبد الله باشا فكري، وكان من أعزِّ أصدقائه، وأن أبعث مع النسخة بأبياتٍ تناسِب المقام؛ فأرسلتُ نسخةً من الباكورة إلى عبد الله باشا ومعها أبيات لا أتذكَّرها جميعًا، وليست عندي الآن صورتها، وإنما أذكر منها ما يلي:

بذَذْتُ الناسَ في نَظْم ونَثْر
وفُقْتُ الخلْقَ من بَدْو وحضر
فكيف يقوم عندك نزر شعر
يُذِيب الرعْب منه كل شطر

ولما كان ديواني إذ ذاك خاليًا تقريبًا من الغزل والتشبيب أشرتُ إلى هذا المعنى بقولي:

جعلت القولَ في سَيْف ورُمْح
وعِفْتُ النَّظْم في قَدٍّ وخَصْر
فإني عاشقٌ غرر المعالي
ولي نفس فداؤك نفس حر
إذا فكَّرت يومًا في كلامٍ
يكون بمدح «عبد الله فكري»

فتلقى عبد الله باشا — رحمه الله — «باكورتي» والأبيات التي تصحبها بأحسنِ قبول، وأجاب على الشعر بقصيدة من نَظْمه المُنسجِم المهلهل رقَّةً وسلاسة؛ فهو يقول:

أتت تختال في حِبَر وحِبْر
على العشاق لا كِبَر وكِبْر
مُنعَّمة الشبيبة لم يَرُعْها
مشيبٌ في العذار أقام عذري
لقد وافت على سَحَر تُريني
بدائع نظمها نفثات سِحر
ألا حيا رُبى بيروت عنِّي
ولبنان الحيا منهل قطر
بدرٍّ يملأ الأرجاء درًّا
ويمزج تُرْب أرضيها بِتِبْر
وحيَّا مَنْ بها ربِّي وحيَّا
زمانًا مرَّ فيها غير مر

وأظن هذه القصيدة منشورة في ديوان عبد الله باشا، وهو يُشِير إلى تجانُفي عن العبث والتشبيب في أبيات أتذكَّرها:

وإن يلعبْ فما لعبٌ بعَيْب
لعهد صِبًا وشرخ شباب عمر
ولكن تأنف الهِمَم العَوالي
على رغم الصبا سَفْساف أمْر
تحرِّم قُرْب أمرٍ فيه إِمْر
وتُوجِب هجْرَ كلِّ مَقال هُجْر

فأما المرة الثانية التي أشار فيها شيخُنا بالشعر، فهي عندما ذهبت إلى الإسكندرية قاصدًا السفر منها إلى الآستانة، فأوصاني أن أقدِّم إلى الخديوي توفيق أبياتًا؛ فذهبت إلى رأس التين وقابلت المرحوم الخديوي توفيق ولم أنشده الأبيات، وإنما بعد الانصراف دفعتها إلى قلم المعية السَّنِيَّة، وما مضى يومان قبل أن أبحر إلى الآستانة حتى رأيت قصيدتي منشورة في جريدة الوقائع المصرية؛ أي جريدة الحكومة الرسمية، وقد كان الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان رئيسًا لتحرير الوقائع، وكان له قلمٌ سيَّال ونثر أشبه بالقطر إذا انثال، فانتهز هذه الفرصة وأورد بمناسبة القصيدة مُقدِّمة أوسع فيها هذا الناظم ثناءً وإطراءً، وليس عندي محفوظًا بكثرة ما تناثر من أوراقي بين المشرق والمغرب عدد الوقائع الذي فيه هذه القصيدة وإنما أذكر منها ما يلي:

أقول لنُطْقِي اليومَ إن كنتَ مَسعَدي
إذن أرقَ أسبابَ السماءِ بمصعدِ
وانظُمْ مِنَ القول النفيس فرائدًا
تُنزِل شِعرَى الأفق في شِعر منشدِ
إذا أنا لم أُوفِ المكارمَ حقَّها
من الشكر في سَلك القريض المنضَدِ
فلا شَغفت ليَ بالمكارم مُهْجة
ولا عزَّ آبائي ولا طاب مَحْتِدي
ولا بلغت بي رتبة من مكانة
أنال بها لُقيا العزيز مُحمَّدِ
وأذكر عَلياه وذِكْر محمَّدٍ
ألذُّ كلامٍ قيل بعد التشهُّدِ
عزيزٌ حمدتُ الدهر عند لقائه
ومَن لَقِيَ التوفيق للسير يحمدِ
ولا غرو أن حنَّت لتقبيل كفِّهِ
على البُعد نفس تلمَس النجمَ باليدِ
وشاقت له رب الرقائق طلعة
لعمرك تذكي الشوق في قلب جلمدِ

ومنها:

لقد كفَّ كفُّ الدهر أصمت سهامه
قلوب بني الأيام من كلِّ مقصِد
وردَّ جماحَ الدَّهْر بعد كُرُوره
عليهم لعمري قاعدًا كلَّ مرصد

ومنها:

فدونَكَها يا غرَّة الملك غادة
تميس كخوط البانة المتأود
ومَنْ رام من إدراك كنهك غايةً
يجد غاية ما تُدْنِ للوصْل تُبعِد

وآخرها:

وإنِّي إذا أُهْدي العزيز مدائحي
أبوء بصِدْق القَوْل غير مُفند
وإلَّا فما حاولت إدراك غاية
بشعري ولا نَظم القصائد مقصدي

أي لم أنظم هذا الشعر إلَّا للقيام بفرض الشكر على انعطاف الجناب الخديوي نحوي ولست باغيًا على ذلك مكافأة، وبعد أن عرفت شوقي في باريس وتذاكرنا الشعر والشعراء وجدته مُعجَبًا بقصيدتي التوفيقية هذه، وقال لي: إنها تركت في ذلك الوقت رنينًا في وادي النيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤