جَفْوة لا سبب لها

مضت عدة أسابيع على مقامي بمصر قبل أن ذهبت إلى برقة ولم أشاهد شوقي، وقد كنَّا أخوين ونحن على البُعد، وكنتُ «جلَّادًا لأعداء شوقي»، وكنت أسترخص كلَّ غالٍ — ومن جملة هذا الغالي صداقة مثل اليازجي — في سبيل مرضاته، فما عدا ممَّا بدا؟

الجواب أني لا أعرف سبب تلك الجفوة، ولا مُوجِب تلك النَّبْوة إلى هذه الساعة، أغصَّ شوقي بمكاني من الجناب الخديوي وكثرة ما رأى من احتفال سيِّده بي؟ أم جاء مَن ألقى في أذنه أنِّي سأزاحمه في محلِّه من القُرْب للجناب العالي؟ أم هو رجل له بدوات وغفلات بينما هو حفيٌّ بخلَّانه وفيٌّ مع إخوانه إذا هو مُعرِض عنهم متهاوِن بحقوق المودة التي بينه وبينهم؟ أم هو شاعر لا يتقيَّد بشيء ولا يريد أن يكون خاضِعًا لتكاليف الحياة حتى مع أعزِّ أصحابه؟ أم هناك عُذْر آخر لا أعرفه ولا يهمني أن أعرفه؟

كنتُ نازلًا ضيفًا على صديقي المرحوم أحمد بك العريس من أعيان بيروت ومن مأموري المعية الخديوية، وكان منزله في العباسية، فلما وصلت إلى القاهرة جاء إلى الأوتيل الذي نزلت به، وأبى أن يَتْركَني فيه ليلةً واحدة وسار بي إلى منزله وأبقيت الرفاق الذين كانوا معي في أحد الفنادق. وكنت أختلف كلَّ يوم إلى إدارة المؤيد فأكتب مقالة افتتاحيَّة، وهكذا كان دأبي مدة الأربعين يومًا التي سبقت سفري إلى برقة. وقال لي أحمد بك العريس ذات يوم: إنني قابلت شوقي وقلْتُ له: أفلا تدري أن أخانا الأمير هو هنا؟ قال: نعم. قال العريس: فهل اجتمعتَ به؟ قال شوقي: كلَّا لم أشاهده حتى الآن، ومُرادي أن أقوم له بحفلة تكريم في منزلي، ولما كان ناظر المعارف غائبًا هذه الأيام فقد أرجأت هذه الحفلة إلى ما بعد رجوعه. فقال له العريس: الرجل لا ينتظر منك حفلة تكريم، وليس ما بينكما من الإخاء ممَّا يُوجِب هذه المواسم، ولكن الأشبه بك والألْيَق بوفائك أن تذهب وتسلِّم عليه. فقال له شوقي: سأفعل. إلَّا أنه مضت عدة أيام ولم يأتِ لزيارتي.

فأخذت القلم في أحد الأيام وكتبت إلى شوقي:

أحنُّ إلى شوقي وأهوى لقاءَه
وأصبو ولكن ما إليه وصول
ويخبرني قلبي بأن فؤاده
كما كان لكن يعتريه ذُهُول
ووالله ما يمَّمت مصر وفوقها
يدانيه عندي صاحب وخليل
فشوقي إلى شوقي بقدر محبَّتي
وعندي حساب للعتاب طويل!

فما أجاب شوقي على هذا الخطاب لا بشِعْر ولا بنَثْر ولا بفِعْل، ولكنه بقي يقول لأحمد العريس إنه يريد أن يعمل لي حفلة تكريم، وفي أحد الأيام زارني الأخ خليل بك المطران؛ وهو من العقل وكرم الأخلاق ورعي الذمام بالمقام الذي يندر بين الإخوان، وكان يزيدني حبًّا له ما كان بيني وبين عمِّه حبيب باشا المطران من عيون أعيان سورية وبيني وبين أولاده ولا سيَّما ندره بك المطران من ذمام قديم وودٍّ متين، وكنت أعلم ما بين خليل وشوقي من المودَّة فكاشفته بما في نفسي من أمر شوقي، وقلت له: إنه لا شيء يمكنه أن يكدِّر صفْوَ ما بيني وبين شوقي من المودَّة، ولكنِّي أصبحت أستحي من الناس أن يعلموا بأني هنا من شهر وأن شوقي لم يتكرَّم بزيارتي والقادم يُزار. فقال لي الخليل: لا يكُنْ في نفسك شيء من هذه النَّبْوة، فشوقي له من هذا القبيل الشيء الكثير، ولكننا نحن لا ينبغي أن نحمل ذهوله هذا على محمل الهجران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤