الوداع الأخير

ومذ ذلك الوقت لم يتيسَّر لي الاجتماع بأخي شوقي؛ لأني كما لا يخفى لا أقدر أن أدخل مصر، ولأن شوقي لم يأتِ في هذه السنين الأخيرة إلى سويسرة، وبقيت أرعاه ويرعاني عن بعد وأصحبه فؤادي كيفما جال وابتهج بنفثاته مهما قال، إلى أن أتاح الدهر لي أن أنظره النظرة الأخيرة التي لم أُنْظُرْه بعدها وا حسرتاه، وهي أني في مُنْصَرفي من الحجِّ سنة ١٣٤٧ مررتُ على السويس؛ حيث بعد لأْيٍ سمحت لي الحكومة المصريَّة بالإقامة بضعة أيام أشاهد فيها سيدتي الوالدة التي كان أولاد عمِّي الأمير أمين مصطفى أرسلان وشقيقته أتَوا بها إلى السويس لمشاهدتي، فأقمت في تلك البلدة أربعة أيام أَقْبَل فيها عليَّ الإخوان من مصر: الأستاذ الأكبر السيد رشيد رضا والمرحوم أحمد زكي باشا وحافظ بك عوض وعبد الله بك البشري ونسيم أفندي صيبعة وأسعد أفندي داغر والحاج أديب أفندي خير والسيد محمد علي الطاهر صاحب الشورى وأحمد حلمي باشا مدير البنك العربي في فلسطين، وغيرهم من إخواني وخلَّاني، وأقبل أيضًا أحمد بك شوقي وسُرِّرت بلقاء الجميع سرورَ مَنْ بقي عشرات من السنين في بلاد الغرب مَحُرومًا لقاء إخوانه الذين كان يذوب شوقًا إلى لقائهم، لا سيما أخي شوقي الذي بيني وبينه من الإخاء والذمام ما لا يكاد يوجد بين اثنين، وممَّا أتذكَّره أني قلت له يومئذٍ: لا أقدر أن أدعوك إلى سورية؛ لأنِّي لا أقدر أن أطأها بقدمي ولا إلى فلسطين ولا إلى مصر التي لا أدخلها إلَّا بعد اللتيا والتي، فأنا أدعوك إلى سويسرة؛ حيث يمكنك أن تقضي الصيف ونشاهدك مليًّا.

فقضى عندي سحابة يومه ثم ركب سيارته عائدًا إلى مصر وودَّعته في السويس الوداع الذي كنت أرجو بعده اللقاء فكان هو الوداع الأخير، وذلك أن لقاءنا هذا كان في سنة ١٣٤٧ وأن شوقي — رحمه الله — لقي ربَّه في ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٣٥١ فيكون بين وداعي الأخير له ووفاته نحو من أربع سنوات، قد كنت أُمنِّي النفسَ في أثنائها باللقيان لأنه ما دام الإنسان حيًّا ولو على بعد لم ينقطع الأمل من مشاهدته، فأما إذا فات فهي الحَسْرة الكبرى.

وما صبابة مشتاق على أمل
إلى اللقاء كمشتاق بلا أمل

(١) قصيدة المؤلف في مهرجان شوقي

وكانت مصر قد قرَّرت الاحتفال بعيد الخمسين سنة من حياة شوقي الأدبية، وهو ما اصطلح عليه الناس من تسميته يوبيلًا Jubillée تقليدًا للإفرنج الذين يحتفلون بمرور الخمسين عامًا على حياة سياسية أو أدبية أو عسكرية أو إكليريكية للوزير أو الكاتب أو القائد أو الأسقف منهم. فالشرقيون أصبحوا يقلدونهم في هذا الأمر كما قلَّدوهم في كلِّ شيء، ولا شكَّ في أنه إن كانت هذه بِدْعة فإنها بِدْعة حَسَنة، وقد صادف ورود الخبر بتأليف لجنة يوبيل شوقي كوني على أوفاز إلى أميركا لحضور المؤتمر العربي الذي قررت الجالية السوريَّة عقْدَه في «دتروت مشيجن» وأرسل حزب سورية الجديدة فدعاني إليه، فسرت من سويسرة إلى إنجلترة وركبت الباخرة من «سوث همتن» وذلك في آخر سنة ١٩٢٦ وفكَّرت في أنه لا مناص لي من إرسال قصيدة تُتْلَى في عُرْس شوقي الأدبي، فنظمت وأنا في الباخرة بين أوروبا وأميركا القصيدة التالية، وعند وصولي إلى نيويورك أسرعت بإرسالها إلى مصر حتى تدرك مهرجان شوقي، فكان الأمر كذلك وتلاها في الحفل الأستاذ خليل بك المطران المعروف بشاعر القطرين، وهي هذه:

إلى الأخ القديم أحمد شوقي بك

نادِ القريحة ما استطعت نداءها
إن الحقوق لَتَقْتَضِيك أداءها
مهما يَنَلْ منها الجُمود فإن مِن
إعجاز أحمدَ ما يفجِّر ماءها
مهما تراكمت الغيوم بأفقها
فاليوم عندك ما يُعِيد جَلاءها
لا تعتذر عنها بكرِّ نوائب
سدت عليها نهجها وسواءها
فأهم ما هَمَتِ السحاب إذا مرت
هوج العواصف دَرَّها وسخاءها
والحك يستوري الزناد وإنما
تربى الصوارم بالصقال مضاءها
والرمح يكسب بالثقاف متانة
والخيل يُظهِر عدْوُها خُيَلاءها
حاشا القرائح أن تضنَّ بودقها
ما دام شوقي كافلًا أنواءَها
الشاعر الفذُّ الذي كلماته
ضَمِن النبوغُ على الزمان بقاءها
أنستْ فصاحتُه أوائل وائل
وغدت هوازن مع ثقيف فداءها
في كلِّ كائنة يزفُّ قصيدة
تؤتي جميع الكائنات بهاءها
غدت المعاني كلُّها ملكًا له
فأصاب منها كلَّ بِكْر شاءَها
وكسا اللسان اليعربي مطارفًا
هيهات ينتظر الزمان فناءها
ستخلد الأوطان من تكريمه
ذكرى تطبق أرضها وسماءها
لو أنصفت لغة الأعارب قَدْرَه
صلت عليه صباحها ومساءها
من كلِّ موضوع أصاب شواكلًا
بلغت بمقتلها الصدور شفاءها
يبكي «شكسبير» على أمثالها
ويبيت «غوته» حاسدًا عَلْياءها
ولو أنَّ آلهة الفصاحة عندهم
أدركْنَ شوقي خففت غلواءها
صنَّاجة الشرق الذي نَبَراته
تجلو المشارق عندها غمَّاءها
في كلِّ حرف من حروف يراعه
وَتَرٌ يثير سرورها وبكاءها
ما حلَّ بالإسلام بأس ملمة
إلا ورجَّع شِعْره أصداءها
يبدي فظاعتها ويوسع هولها
وصفًا ويذكر داءها ودواءها
كانت قصائده لبعث بلاده
صورًا أراد من البلى إحياءها
وأرى الليالي لا تعزِّز أمَّة
إن لم يكن سوَّاسها شعراءها
كم أثبت التاريخ في صفحاته
أممًا غدا إنشادُها إنشاءها
ضلَّت لعمري في الحياة قبيلة
لم تصطحب أفعالُها أسماءها
والعُرب لا تبدأ بجمع جموعها
إلَّا سمعتَ نشيدها وحِداءها
أكرم بأحمد شاعرًا وافى لنا
في روح أحمد حاملًا سيماءها
أتلو قصائده فتملأ مهجتي
فرحًا يُزِيل همومها وعناءها
وأظلُّ مفتخِرًا بها فكأن لي
دون الأنام ثناءَها وسناءها
نَخَلت له نفسي مودَّة وامِق
وفَّى عهاد عهودها إنماءها
تعزو إلى لخْمٍ متانةَ أصْلِها
وتمزُّ من ماء السماءِ صفاءها١
لا ترتجي منها التمائم ثلمة
كلا ولا توهي الهنات بناءها
ناشدت شعري أن يفي بمودَّتي
وأراه يعجز أن يجيء كفاءها
قد صار عهدي بالقريض كأنه
دِمَن تقاضتها الرياح عفاءها
أدعو فلا يأتي الذي أرضى به
والشعر أن تجد النفوس رضاءها
والشعر ما رسم الضمائر ناثلًا
منها الكنائن نافجًا أحناءها
والشعر ما ترك المعاني مثلًا
فتكاد تلمس بالأكفِّ هباءها
وهناك نفس مرة ما تأتلي
تُملِي عليَّ من العلى أهواءها
إن لم تجدني في العَجَاجة أولًا
نَكِرت عليَّ ثُلاثَها وثناءها
وفَّرْتَ يا شوقي السباق على الورى
برياسةٍ بات السباق وراءها
تتقطَّع الأعناق عن غاياتها
حتى الأماني لا تحوم حذاءها
تالله أعطيتَ الرِّياسة حقَّها
وعَقدْتَ حَبْوتها ونِلْتَ حِباءها
وبذَذْتَ أهْلَ العبقريَّة كلَّهم
وبززت جنة عبقر أشياءها
لما رأيتك قد نزحت قليبها
ألقيت عني دَلْوها ورشاءها
فاسعد بعَرْش إمارة الشعر التي
ألقتْ إليك لواءَها وولاءها
وتهنَّ وابْقَ لأمَّة عربيَّة
لا زلتَ قرَّة عينِها وضياءَها

(٢) أبيات للمؤلف أيضًا

ولما تُوفِّي الأستاذ فقيد الإسلام الشيخ عبد العزيز جاويش رثاه شوقي — رحم الله الراثي والمَرْثِي — بقصيدة من قصائده التي كانت تشرق وتغرب ويعجب بها كلُّ عربي ومُستعرِب، فإذا بأحد الأدباء ينتقد تلك المرثيَّة انتقاد متعنِّت، وإذا بأديب آخر ينافح عن شوقي. فأملى عليَّ هذا الجدال في تلك القصيدة القطعة الآتية المنشورة في عدد ٢٨ ذي الحجة سنة ٤٨ من جريدة الشورى وهي:

بُيَيْتات كانت ضالة فَوُجِدَت

كنت في أثناء سفري إلى الحجاز أقرأ على ظهر الباخرة مجلات وجرائد، فبينما أنا أقرأ إذ مر بي انتقاد لأحد الأدُبَاء يخطِّئ به «شوقي» في أبيات من رثائه لفقيد الإسلام المرحوم الشيخ جاويش، ثم اطلعت على ردٍّ لأحد الفضلاء الناخعين يدافع به عن شوقي ويبيِّن صحَّة قوله. فأما القصيدة فهي كسائر شعر شوقي الذي لا يدري أيَّه أحسن، بل كلما قرأ الإنسان منه شيئًا ظنَّه هو سيِّد شعره، فإذا انتقل إلى غيره ظنَّ هذا هو السيد، وهكذا إلى أن ينتهي من شعره وهو لا يعلم أوَّله خَيْر أم آخره. ولا جدال في أن مرثيَّة أمير الشعراء للأستاذ جاويش نوَّر الله ضريحه كانت من عيون قصائده، ولما انتهيت منها كتبت على حاشية مكتوب ما يأتي بقلم رصاص على البديهة:

تفوَّق شوقي بأشعاره
جميعًا فكلُّ يَتِيم فريد
وما دُمْتَ تَجْتاز أرجاءها
تَعُود بكلِّ طريف جديد
تُوالي الهتافَ لدى كلِّ بيت
ألا إن ذلك بيت القَصِيد
إذا هو أبكى فزاد المعاد
وإن هو غنَّى فأُنْس الوجود
ولكن قصائد شوقي اللواتي
لهنَّ سِجلٌّ بلوح الخلود
فداء «لمرثيَّة» قالها
«بعبد العزيز» العزيز الشهيد
أعارَ الرثاءَ جلال الفقيد
فأصبح هذا لهذا نديد
وقد كان من قبل هذا مُبِينا
بشَأْو مُحال عليه المَزِيد
تكاد لإحراز أقوال شوقي
تكون المنايا أماني الفقيد

وأتذكَّر أنِّي حرَّرت كلماتٍ أيضًا أبيِّن فيها محاسن تلك المرثية، ثم بعد أن وصلت إلى الحجاز غاصت هذه الأبيات وهاتيك الكلمات في لُجَج أوراقي الزاخرة؛ فلم تقدر يدي أن تصل إليها وظنَنْتها ذهبت أصلًا، وبينما أنا أفرز أوراقي في هذه الأيام إذ عثرت على الأبيات المرقومة بقلم رصاص، وتردَّدت ساعةً في نشرها قائلًا لنفسي إن النظم والنثر بعد مضيِّ مناسبته أشبه باللحم البائت أو الخبر الغابِّ الذي تذهب طراوته، ولكن فِكْرة النشر بعد تساؤل النفسين قد غلبت بحجة أن كلامًا يتعلَّق بشوقي لا يزال غضًّا طريًّا وأن مناسبة شوقي لا تَخلُق ديباجتها أبدًا.

أما الكلمات التي حرَّرتها في محاسن تلك المرثيَّة التي كلٌّ من المَرْثِي (نضَّر الله وجْهَه) والراثي (أطال الله عمره) كانا من أعزِّ الناس عليَّ وأحبهم إليَّ من بين جميع البشر فبقيت ضالَّة لمَّا تظفر يدي بها.

وأتذكر أني أشرت إلى نكات بَيْت فيها لا سيما ذلك البيت الذي وَصَفَ الموت والنقل والدفن منذ وُجِد الخَلْق وشطره الثاني:

… … … …
قيام بتلك الصحاري قُعُود

وأما البيت الذي فيه وصف أجساد الموتى، وشطره الثاني:

… … … …
وكم من قُروح وكم من صَدِيد

فلم أحِبَّه على ما فيه من صحة، وقد ذكرت عنه أنه يليق بأن يُتلَى على مائدة رهبان في دير، فإن من عادة هؤلاء إذا جلسوا إلى طعام أن يجعلوا أحدهم يقرأ عليهم من الزُّهْديَّات والمُحزِنات وذكرى الموت وأمامه جمجمة.

•••

وممَّا لا يجوز أن أغفله من تاريخ علاقاتي مع شوقي أنه في سنة ١٣٢٨ سألني سليم أفندي سركيس عن رأيي في شعراء العصر لينشر هذا الرأي في مجلته، فلم أجد بدًّا من إجابته بمقال نشره في مجلة سركيس، ثم أعاد نشره بعد ذلك بسنوات في جريدة المؤيد، وقد كان سبب إعادة هذا الفصل في المؤيد أنه بينما كنتُ في مصر قاصدًا الجهاد في طرابلس الغرب ألقى عليَّ أحد الأدباء في المؤيد سؤالًا يستنطقني فيه عما أراه من طبقات الشعراء المعاصرين، فاستعفيت تلك النوبة من الجواب حتى لا أقع في مشكل المُفاضَلة بينهم وأنا على سفر إلى برقة وعندي من الهموم بمسألة طرابلس ما يشغلني عن الشعراء والحُكْم أيهم أشعر. نعم أجبت السائل بكليمات في المؤيد قلت له فيها: لماذا هذا السؤال؟ أفزامر الحي لا يطرب؟

وكان مرادي بذلك من طرف خفي أنه ما دام شوقي في مصر، فلماذا يسألون عن أشعر الشعراء.

إلَّا أن سركيس قام ونشر في المؤيد جملةً أشار فيها إلى مقالتي الأولى التي كان قد أثبتها في مجلته وأعاد نشرها في المؤيد، وهي هذه …

١  إشارة إلى نسبة قائل هذا الشعر إلى المناذرة بني ماء السماء اللخميين ملوك الحيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤