قُبَيل وفاة شوقي

هذا ولما اجتمعتُ بشوقي في السويس آتيًا من القاهرة إليها لزيارتي، وكانت وا أسفاه الملاقاة الأخيرة بيننا لحظت عليه آثار الضعف بَادِيَة، وكأنما كان أكبر من سنِّه بعشر سنوات على الأقل، وعجبت من أن تنال الشيخوخة منه هذا النيل وبين الإخوان الذين كانوا قد اجتمعوا هناك مَنْ هُمْ أعلى سنًّا بكثير، ولم يتقوَّس لهم ظهر، ولم يتَغَضَّن لهم جَبِين، ولم يأخذ منهم الدهر ما أخذ من شوقي، فشعرت في نفسي بالخوف على صحَّته ورأيته قد سبق سنَّه بمسافة طويلة. فبعد أن تفارقنا كنت لا أزال أترقَّب أخبار صحته وأتمنَّى لو يأتي إلى سويسرة فأشاهده، وما زلت أتحسَّر على تلك الفرقة وأنشد قول العباس بن الأحنف:

سبحان ربِّ العلا ما كان أغْفَلني
عما رَمَتْني به الأيام والزمن
مَنْ لم يذُقْ فُرْقة الأحباب ثم يرى
آثارهم بعدهم لم يدْرِ ما الحزن

(١) خبر وفاته

وبينما أنا في أحد أيام أكتوبر سنة ١٩٣٢ ميلادية أقرأ جريدة الطان، إذ وقعت عيني على خبر وفاة كبير الشعراء في مصر، ووقع في اسم «شوقي» خطأ فهلعت لهذا الخبر واضطربت أعصابي، وقلت لا يكون هذا الفقيد غير شوقي، وثاني يوم تحقَّقنا الخبر وكان يومًا له هَوْله، ولما جاءت جريدة «الجهاد» علمت منها أن أمير الشعراء فصل من هذه الدنيا إلى رحمة ربِّه في منتصف الساعة الرابعة من صباح الجمعة ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٣٥١ وفق ١٤ أكتوبر سنة ١٩٣٢، وقد أَبَّنهُ الأستاذ البليغ توفيق دياب بعباراتٍ متناسبة مع علوِّ مقامه في الأدب، لكني استنشقت منها رائحة مؤاخذة بعضِهم للفقيد في السياسة، فإنه يقول: «إن الذي سيهمُّ الوارثين لآثار شوقي من عشَّاق الأدب في الأمم العربية هو نفاسة ما ترك من كنوز عبقريَّته وذخائر أدبه فهذه هي الباقية، أما ما عداها ممَّا كان لشوقي أو عليه في أيام العمر الفانية فقد انقضى أمره بانقضاء الأجل، فلْيَقُلْ مَن يشاء في دنيويات شوقي ما يشاء، ولكن للأدب دولة عالية العروش سينادي منادي الخلود من فوق منارتها العليا: لقد مات أمير الشعراء غير منازع. لقد مات شوقي. فلْيَبْكِه المصريون ولْيَبْكِه العرب في كلِّ بلد عربي أو يقطنه عربي ويبكه المسلمون في أنحاء المعمور؛ فقد كان شوقي شاعر العربية وشاعر الإسلام، وكان أثمن درَّة في تاج الأدب.»

وكان حافظ رحمه الله قد قضى نَحْبه قبل ذلك بأشهر ورثاه شوقي رثاءً مُوجِع القلب وكأنما كان ينعى نفسه، ولم يكن حافظ في حياته شديد الخلطة بشوقي، بل ربما غلبت المنافسة على العلاقات بينهما، إلَّا أن حافظًا بايع شوقي في يوم عيده، وإذا كان حافظ إبراهيم وهو طريد شوقي في الشعر والمزاحم له بالمَنْكِب، ومن الناس مَنْ يفضِّله على شوقي، قد بايع لخصمه فلا مشاحة أنها قد تقطَّعت عن منافسة شوقي أنفاس النظراء وأنه قد انتهت إليه رئاسة الشعراء.

(٢) قصيدة المؤلف في رثاء شوقي

ولما تحقَّقت خبر شوقي رثيته بالقصيدة التالية:

قد أعْجَز الشعراءَ طول حياته
واليوم يعجزهم بندب مماته
هيهاتَ يُوجَد في البريَّة منهم
كُفُؤ ليرثِيَه بمثل لغاته
كان الأمير لجيشهم مستنة
فرسانهم في الظل من راياته
ما عاب أهل العبقرية أنهم
قد قصروا في الخبِّ عن غاياته
هذا أمير الشعر غير مُدافِع
في الشرق أجمع منذ فتق لهاته
لو كان وحيٌ بعد وحْيِ «مُحَمَّد»
لانشق ذاك الوحي عن آياته
السحر في نَفَثاته والزهر في
نفحاته والدهر بعض رواته
رقَّت لنغمته القلوب فكَيْفما
غنَّى بها رَقَصَتْ على نَبَراته
تغدو المعاني وهي شُمْس مقادة
فيقودها قود الغلام لشاته
وإذا أراد الصخرة الصمَّاء من
أغراضه رقَّت نظير سحاته
ما رام شارِدُ حِكْمةٍ في نظمه
إلا أصاب صميمها بحصاته
جلَّى الإله له الأمورَ كأنما
يُلقِي عليها الشمس من نظراته
فكسا الطبيعة من نسيج بيانه
حُللًا خَلَتْ من غير طرز دواته
فترى الطبيعة قبل نظرته لها
غيرَ الطبيعة وهْي في مرآته
والحسن يُشْرِق في العيون بذاته
وهنا يضيء بذاته وصفاته
من كلِّ بيت في رفيع عماده
تتقاصر الأقدام عن عتباته
كالدرِّ في لمعاته والبدر في
قسماته والصبح في نسماته
ولقد رويت الشعر عن آحاده
وألفت للسباق في حلباته
وقضيت فيه صبوتي وصبابتي
وقطفت منه خير نوَّاراته
وأثرت في البيداء بُزلَ فحوله
وأطرت في الآفاق شهب بزاته
فرأيت شوقي لم يدع في عصره
قِرْنًا يهزُّ قناته لقناته
الفرد في أمداحه ونُواحه
والفذُّ في أمثاله وعِظاته
وإذا تعرض للغرام فهل درت
لغة الغرام نظير شوقيَّاته؟
ما في الهيام كوجده وحنينه
أو في النسيب كظَبْيه ومهاته
وإذا تحدَّث بالربيع وروضه
أنساك بالتحبير وشي نباته
أو بات يبعث بالشراب أضاف من
كاساته حبَبًا إلى كاساته
أو خاض في ذكرى العذيب تشابهت
أعطافُ مُستمِعيه مع باناته
أو سلَّ في وصْفِ الوقائع صارِمًا
خِلْتَ العِدَى سالت على شَفَراته
قد بذَّ آلهة القريض بأسْرِهم
ومحا عبادة لاتِهِ ومَناتِه
نحَتَ القوافي السائراتِ أوابدًا
ماذا يُفِيد النَّحْت من أثلاته
ولكم مررت بحاسدين لفضله
رغم القِلَى يَرْوُون من أبياته
لا نِدَّ يعدله وكم من مجلس
أشعار شوقي الندُّ في سمراته
يتمثَّل العصر الحديث بشعره
حقَّ التمثُّل من جميع جهاته
ولربَّ بيتٍ يستقلُّ بجملة
تُغْنِي عن التاريخ في صفحاته
لم يفْتَتنْ من عصره بمساوئ
كلا ولم يغمطه من حسناته
قد لازم الإنصاف في أحكامه
لا فرقَ بين صحابه وعِداته
وإذا سألتَ عن الجهاد فإنه
منذ الحداثة كان في سرواته
كالسيف في أوضائه ومضائه
واللَّيْث في وَثَباته وثَبَاته
ما حلَّ بالإسلام حَيْف مصيبة
إلَّا وكان بها لسان شكاته
يحمي حقائقَه ويوضح سُبْلَه
ويُقِيل طول الوقت من عَثَراته
يلقي على غمرات كلِّ ملمَّة
قولًا يُزِيل أُجاجَها بفُراته
ويظلُّ يرسلها قصائد شرَّدًا
غررًا تشقُّ الفجر عن ليلاته
كانت قصائده هي الصوت الذي
سرَّى عن الإسلام ثقْل سُبَاتِه
بعثتْ به روحُ الحياة كأنها
هِيَ صُورُ إسرافيلَ في زعقاته
قد كان أدرى الناس بالداء الذي
قد حطَّ هذا الشرق عن صهواته
داء هو الأخلاق في اضمحلالها
فلذا يرى الأخلاق رأس وصاته
وفَّى عن الشرق القديم نِضاله
من يوم نشأته ليوم وفاته
قد ذادَ عنه بقَلْبه وبلُبِّه
شأن الأبيِّ يذود عن تركاته
ماضٍ يحذِّره استلاب تراثهِ
منه ويحفزه لأخذ تراته
أعْلَى مَنارَ الشرق في أوصافه
وأجاد وصْفَ الغَرْب في آفاته
أوحى إلى الشرقيِّ بالطرق التي
يمشي النجاء بها لأجل نَجاته
أملى مكافحة الذئاب عواديًا
في الواد قد حلُّوا مكان رعاته
الجائِسِين ببرِّه وببحره
والجائشين بنَجْده ووطاته
والغاصبين لزَرْعه ولضَرْعه
والآكلين لتَمْره بنَوَاته
أشعاره تَحيَى وتُحيِي أمَّة
تجد الحياة الحقَّ في كلماته
يا راحلًا ملأ الزمان بدائعًا
من قبل أن نزل القضا بسكاته
أتركت بعدك شاعرًا ترضى بأن
ترعى جيادُ الفكر في تلعاته؟
يبكي بك الإسلام خيرَ جنوده
أبدًا ويرثي الشرق ربَّ حماته
وكأن وادي النيل من أحزانه
يلقي على الشطَّيْنِ من زَفَراته
ونوادِبُ العربية الفصحى لها
ندبٌ عليك يذيب في رنَّاته
انظر إلى الإخوان كيف تركتهم
من كلِّ مُضْطَجعٍ على جمراته
انظر لحال أخٍ فداك بروحه
لوكان يُحيي الميتَ عزمُ فداته
قد كنت طول العمر قرَّة عينه
والآن تجري السخن من عبراته
مضت السنون الأربعون ونحن في
هذا الإخاء نمزُّ من قهواته
أرعاك عن بعدٍ وترعاني على
عهد نهزُّ الرطب من عَذَباته
قد كنت أطمع أن تُرى لي راثيًا
يا من غدوتُ اليوم بين رثاته
كنَّا نخاف رداك قبل وقوعه
فلنا الأمان اليوم من دهشاته
تبًّا لعيشٍ قد يكون مساؤه
ترحًا وكان سروره بغداته
والمرء إن ينظر لما يبلى به
لا فرق بين بقائه وفواته
فالميت وهْو يذوب في حشراته
كالحي وهْو يذوب في حسراته
نرجو لك الدار التي عمَّارها
هم كلُّ مَنْ صَنَعَ الجميلَ لذِاتِه
يضفي عليك الله من آلائه
والله لا تُحصَى ضروب هِباته
قد كنتَ في الدنيا هزارًا صادحًا
يشجي ويسلي الناس في نغماته
فاليوم كُنْ بجلال ربِّك ساجعًا
والطائر المحكي في جناته

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤