القول في مدح الأمراء والملوك

وقد عاب بعضُهم على شوقي قضاءه عمره في مدح الأمير ومدح السلطان والإشادة بذِكْر ذوي السلطة، وربما عابونا نحن أيضًا لمثل ذلك وغمزوا بالكثيرين الذين وقفوا أشعارهم على مدح الأمراء والملوك وزعموا أن في ذلك دليلًا على طلب الزُّلْفى أو التماس الجائزة.

والجواب على ذلك يحسن بنا أن نوضِّحه إيضاح مَنْ لا يُبقي عليه ظُلْمة الإبهام وهو: جرت عادة الملوك والأمراء سواء في الشرق أو في الغرب من قديم الزمان أن يَنْتَدِبوا لأنفسهم رهطًا من الفصحاء من شاعر مُفلِق وكاتب مُبرَّز وخطيب مُفوَّه ونديم مطرب، وأمثال هذا الضرب من ذوي المواهِب العقليَّة الوافِرة والحظوظ الأدبيَّة الراجِحة؛ يشيدون بذكرهم في المحافل بالقصائد الشوارد أو بالخطب الأوابِد أو بالمناشير الصادرة كعقود الفرائد ممَّا يزيد في وقار الملك وسنام العرش وحُرْمة الرعيَّة للراعي، ويُلقي على الأفعال أقوالًا تزيد في بهائها وتُضاعِف من بقائها؛ إذ لا يوجد مثل الشعر والنثر تقييدًا للمآثر وتخليدًا للمفاخر؛ فالشاعر الذي يتَّصل بملك من الملوك أو أمير من الأمراء سواء في شرق أو غرب لم يكن يجد من الغضاضة في شيء التغنِّي في مدح سيِّده، حتى لو لم يكن أهلًا لكلِّ ذلك الإطراء؛ لأن مثل هذه الطبقة من الشعراء والأدباء يذهبون إلى أنَّ الكلام إنما هو للمقام لا للمُقيَّم، وأن المقام إنما هو رمز الأمة وعنوان الملة، ثم قد شاءت الأقدار في أخريات الزمان أن يدخل الضعف على الدول الإسلامية بأجمعها وأن تغْلِظ شوكة الأجانب الغربيين بين أيديها ومن خَلْفها وأن تُحِيط بكثير منها وتأخذ على أيدي ملوك الإسلام، فلا تبقى لهم سوى الرسوم والألقاب ويتغلغل نفوذ الأجانب في هذه الحكومات المغلوبة على أمرها فتصير الأمَّة التي في مثل هذا الموقع وقد أخذ الأجانب بخناقها تتطلَّع إلى أميرها الأصلي وتُعزِّز من مَقامِه وتضاعف من إجلاله؛ بناء على أنه هو رمز استقلالها الوحيد، فالمبالغة في إجلال هذا الرمز إنما هي المبالغة في حِفْظ الاستقلال نفسه.

فعندما يهتف شوقي ومَنْ في نَمَطه بتلك القصائد الرنَّانة؛ إمَّا في مدح عزيز مصر أو في مدح الخليفة الأعظم، فإنما هو في الحقيقة يُشِيد باستقلال مصر في وجه الأجانب الطامعِين المُستأثِرين بالأمر، وعندما يرسل كلماته الخالدة في مديح السلطان الخليفة فإنما يُقدِّس مقام الخلافة العزيز على المسلمين، الناظِم لشملهم، القائِم في وجه عدوِّهم. فليس في هذا المذهب ما يدلُّ على سلوك طريق التزلُّف كما يظنُّ مَنْ لا يُدقِّق في أسرار الأمور، ولكنها الصارخة القوميَّة والنزعة الإسلاميَّة، والنَّضْح عن حَوْض الخلافة، والذَّوْد عن بنيان السَّلْطنة، وهذا أشبه شيء بالدعاء الذي يُقال في الجوامع نهار الجمعة اسْتِنْزالًا من عند الله لنَصْر سلاطين الزمان الحافظِين لكيان الأمَّة في الداخل والخارج، وليس هذا الدعاء خاصًّا بأشخاصهم وإنما هو للمقام الذي يتبوَّءونه، لا يزال الخطيب يدعو لهم حتى إذا زال الواحِد منهم عن كرسيِّه دعا لخلفه. ولا يُقال في مثل هذه الحالة إن خطباء الجوامع مُتزلِّفون، وإنهم لذلك ليسوا على شيء من حريَّة الفكر. فالكلام هنا راجع كلُّه للدولة مقصود به مجد الأمة وليست هنا الأشخاص هي القَصْد من الرسوم، وأيضًا فإن هؤلاء الملوك والأمراء يبرُّون شعراءهم ويغمُرُونَهم بالنِّعَم الجسام ويحسنون إليهم بأنواع الإحسان والنفوس مطبوعة على حبِّ مَنْ أحسن إليها، وقد قال المتنبي:

… … … … …
ومَنْ وَجَد الإحسان قيْدًا تقيَّدا

فلا عَجَبَ أن يكون أحمد شوقي قد قال في الخديوي السابق القصائد التي سارت في البلاد وترنَّم بها الحاضر والباد، وقال مثلها وأحسن منها في السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين الذي بمديحه تطيب نفوسهم وتهتزُّ أعطافهم. ويزيد هذا البرهان ظهورًا أنه لم تكن تقع حرب تظهر فيها قوة الدولة ويتلألأ مَجْد المِلَّة إلَّا وجدت شوقي قد جاء يجرُّ جَحْفل فصاحته ويرفع لواء بلاغته، كما نظم في حرب الدولة مع اليونان تلك القصيدة الباقية التي بذَّ فيها شعراء العالمين وساوى فيها شعر المُتقدِّمين، وسنذكر فيما بعدُ ما يأخذ بالألباب منها.

•••

ولقد درَّت دُرَر شوقي في مديح الخديوي السابق بخيرات وشَّت بُروده وكَفَتْه مئونة العيش الأبله، فما من شعر اخضرَّ له رِعيٌ وأورق له غصن كشعر شوقي، وهذه هي عائلته تتقلَّب ولله الحمد في النعماء التي أثَّلها شعره.

وأما أنا فقد كان أكثر فراري من الشعر خَشْية أن يُظَنَّ بي مُزاوَلته تكسُّبًا لا تأدُّبًا؛ وذلك لكثرة الشعراء الذين سلكوا تلك الشِّعاب فكُنْتُ إذا مدحت السلطان فإنما أمدحه لأجل أمَّتي التي هو سلطان عليها، وكنت أنشر قصيدتي في الجرائد ولا أقدِّمها إلى الحضرة السلطانية، وفي إحدى المرار عندما كنتُ في ريعان الصبا نظمت قصيدة واستنسختها بخطٍّ أنيق وموَّهتها بالذهب وقصدت تقديمها للمابين الهمايوني كما كان يُقال، ثم عَدَلْتُ عن ذلك واكتفيت بنشرها في الجرائد، وقد سبق أني لمَّا أشار إليَّ الأستاذ الإمام بأن أنظم شيئًا للخديوي محمد توفيق — رحم الله الاثنين — نظمت تلك القصيدة الدالية التي تقدَّمت في رسالتي هذه ولم أغفل أن أختمها بهذين البيتين:

وإنِّي إذا أهدي العزيز مدائحي
أبوء بصدق القول غير مُفنَّد
وإلَّا فما حاولت إدراك غاية
بشعري ولا نظم القصائد مَقْصدي

وهذا حرصًا منِّي على ألا يفهم الخديوي رغبةً منِّي في المكافأة، وفي هذا منِّي نظر إلى قول أحد شعراء الأندلس، وكان من أبناء البُيوتات:

وما أنا بالباغي على الشعر رَشْوة
أبى ذاك لي جدٌّ كريمٌ ووالدُ
وأنِّيَ من قومٍ قديمًا وحادثًا
تُباع عليهم بالألوف القصائد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤