أولًا: مقدمة

لا تحتوي كل المصنفات القديمة على هذه المقدمة العامة للعلم التي يتحدَّد فيها تسميته، وحدُّه، وموضوعه، ومسائله، ومنهجه، ومرتبته، وفائدته، ووجوبه. أسقطتْها كتب العقائد من الحساب إذ لا يهمُّها الحديث عن العلم بقدر ما يهمُّها فرض ما يجب على المسلم الاعتقاد به بصرف النظر عن أسس هذا الاعتقاد ومبادئه النظرية، مع أن تحديد العلم جزءٌ من تأسيس العلم.١ كما تغيب عن كتب «عقائد السلف» التي يهمها أيضًا صياغة العقائد السلفية باعتبارها عقائد الفرقة الناجية.٢ كما أنها لم تظهر في المصنفات الكلامية الأولى قبل القرن الخامس الذي اكتمل فيه بناء العلم، وقبل أن يأخذ نفسه موضوعًا.٣ ظهرت بعض موضوعات المقدمة مثل وجوب العلم ومنهجه، وأصبح لها مكان الصدارة على باقي الموضوعات كلها.٤ كما ظهرت مرتبة العلم في ثنايا المقدمات الإيمانية الأولى،٥ ولكن ظهرت المقدمات كلها ابتداءً من القرنين السابع والثامن، مرورًا بالحركة الإصلاحية، واستمر الحال على هذا النحو حتى الكتب المدرسية المتأخرة،٦ فإذا ظهرت في المتن فإنها تظهر أيضًا في شروحه وحواشيه،٧ وقد لا تظهر في المتن ولكنها تظهر في الشروح والحواشي كنوع من التطويل وجمع المعلومات.٨ وبالرغم من أهمية هذه المقدمة فقد اعتبرها بعض القدماء عارية عن العلم، ولا يوجد علم بلا تحديد، وقد يكون أحد العلوم القديمة بلا موضوع ولا منهج وضارًّا على الفرد والمجتمع، وهذا هو حال «علم الكلام»، فإنه من أكثر العلوم في تراثنا القديم عرضة للهجوم والتحريم، ولا يوجد علم كثر حوله النزاع، واشتد الخلاف مثل هذا العلم، وقد يكون هذا الغياب أو الحضور العشوائي لتعريف العلم وتحديد موضوعه واختيار منهجه هو ما ترسَّب في عقليتنا المعاصرة من الحديث عن موضوعات لا وجود لها أو الصمت عن موضوعات موجودة، وقد نتحدث عن أشياء دون حدِّها، فتظل فضفاضة يستعملها الكثيرون بمعانٍ مختلفة، وقد نستعمل أسماء دون أن يكون لها مسميات، وبالتالي نتعامل مع حدود فارغة بلا مضمون.٩
١  كتب العقائد مثل: الفقه الأكبر، كفاية العوام، عقيدة العوام، الجواهر الكلامية، السنوسية، العضدية، الخريدة، الجوهرة، العقيدة التوحيدية، تيجان الدراري، قطر الغيث، الطحاوية، قلائد الفرائد، وكذلك بعض الشروح مثل شرح ملا القاري على الفقه الأكبر والشروح المختلفة على العقائد العضدية مثل شرح الدواني وحواشي السيالكوتي، والمرجاني، والخلخالي، والكلنبوي، ومحمد عبده.
٢  كتب عقائد السلف مثل: عقائد أحمد بن حنبل، والبخاري، وابن قتيبة، وعثمان الدارمي، وعقائد الصابوني (عقيدة السلف)، والصنعاني (تطهير الاعتقاد)، والمقريزي (تجريد التوحيد)، ومحمد بن عبد الوهاب (كتاب التوحيد، عقيدة الفرقة الناجية، مفيد المستفيد)، والشوكاني (التحف).
٣  مثل اللمع، الإبانة، كتاب التوحيد، التنبيه والرد، الإنصاف، التمهيد، المحيط، شرح الأصول الخمسة، أصول الدين، الاعتقاد، العقيدة النظامية، لمع الأدلة، الإرشاد، الشامل، نهاية الإقدام، البداية، أساس التقديس، المسائل الخمسون، المحصل، المعالم.
٤  الاقتصاد في الاعتقاد، الملل ج١، بحر الكلام.
٥  غاية المرام، طوالع الأنوار، المواقف، المقاصد، الدر، رسالة التوحيد، وسيلة العبيد.
٦  طوالع الأنوار، المواقف، المقاصد، الدر، وسيلة العبيد، رسالة التوحيد، التحقيق، الحصون.
٧  شرح المواقف، مطالع الأنوار، شرح المقاصد، أشرف المقاصد.
٨  شرح التفتازاني على النسفية، حاشية الخيالي، تحقيق المقام على كفاية العوام.
٩  ويُشير إلى ذلك القرآن: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (٥٣: ٢٣). وتحليل العصر إنما يأتي من التجارب المعاصرة التي يحياها المفكرون، وكما تظهر في الأعمال الشعرية والأدبية وفي الأمثال العامية، وهي الروح التي نقوم بتحليلها في «قضايا معاصرة» دون الإحالات إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤