رابعًا: النظر يفيد العلم
لما كان العلم قسمَين: علم ضروري وعلم استدلالي، أصبح النظر طريقًا للعلم. فالاستدلال يقوم على النظر، وشهادة الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان كلها تستخدم في الاستدلال والنظر. فما النظر؟
(١) تعريف النظر
(٢) قسمة النظر
(٣) النظر الصحيح يفيد العلم
-
(أ)
وقد وجهت السمنية ثلاث حجج ضد النظر: الأولى أن العلم الحاصل بالنظر إن كان ضروريًّا بان خلافه، وإن كان نظريًّا لزم التسلسل. وبعبارةٍ أخرى إن العلم الضروري لا يحتاج إلى نظر وإن احتاج إلى نظر لزم الدَّور لإثبات العلم النظري. والحقيقة أن العلم الضروري لا يحتاج إلى إثبات من العلم النظري وإلا لما كان ضروريًّا. فهناك بداهة الحس، وأوائل العقل، ومعطيات الوجدان التي لا خلاف عليها. أمَّا العلم النظري فهناك اتفاق على وجوده بإجماع العقلاء، يستند إلى الضروري الذي لا يحتاج إلى نظر؛ وبالتالي فلا وقوع في الدور. والثانية أن المطلوب إذا كان معلومًا فلا طلب له، وإن لم يكن معلومًا فكيف نعرفه؟ وبتعبيرٍ آخر، إذا كان المطلوب معلومًا فلا فائدة في طلبه، فإن وُجد فكيف يُعرف أنه المطلوب؟ والحقيقة أن المطلوب يُعلَم كافتراض ثم يُطلَب التحقق من صحته بصرف العموم وطلب التخصيص، أو يعرف المبدأ النظري ويطلب كيفية التحقيق العملي له. والثالثة أن الذهن لا يقوى على استحضار مقدمتين، وبالتالي يستحيل النظر. والحقيقة أن العلم بحضور مقدمتَين لا تستلزم نتيجة إلا بعمل الشعور وحصول تجربة؛ إذ لا تحصل النتائج من المقدمات حصولًا آليًّا حتميًّا بمجرد حضور المقدمتَين. لا بد من توجيه الوجدان، فالذهن والوجدان شيءٌ واحد مع الموضوع. الذهن مجرد قدرة على تحليل الموضوع في الشعور ورؤيةٍ حدسية له. وهناك حججٌ أخرى عديدة للسمنية تفصيلًا لهذه الحجج الرئيسية الثلاث. منها ما يعتمد على ضعف الأدلة، في حين أن ضعف الأدلة لا يعني خطأها؛ فهناك أدلةٌ يقينية برهانية، ومنها ما يعتمد على وجود المعارض؛ لأن النظر يُفيد العلم فقط في غياب المُعارض لا في حضوره، مع أن النظر يقتضي غياب المعارض والرد عليه. والمعارضة في نهاية الأمر جزء من النظر أو النظر المقابل. ومنها أنه إذا وجب النظر المؤدي إلى العلم وجب التكليف، والتكليف غير مقدور، وهذا إعلان لعجز العقل وضعف الإرادة؛ فالإنسان مكلَّف بعقله على النظر وبإرادته على الفعل، وفي حقيقة الأمر إن معظم الحجج التي تقدِّمها السمنية حججٌ صوريةٌ خالصة، هدفها إثبات القضية والدفاع عن المذهب، وتعبر عن موقفٍ مسبق، ولا تؤسِّس نظريةً متكاملة في العلم. فلا تعني المعرفة الحسية إقصار المعارف كلها على الحس. بل إن الحس نفسه يشمل العقل والبديهة والوجدان والمشاهدة والحدس والتواتر ومجرى العادات، وليس فقط ما يأتي من الحواس الخمس. كل البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق في كل ما اختلف الناس فيه منشؤها الحسُّ. إن الاقتصار على المعرفة الحسية والشك في المعرفة العقلية إنكار لليقين الحسي والعقلي والوجداني في آنٍ واحد. وإنكار ليقين التواتر الذي يقوم على شهادات الحس والعقل والوجدان. هناك أوليات العقل التي تمنع من التسلسل إلى ما لا نهاية، وهناك العلم الضروري الذي لا يحتاج إلى نظر، وهناك العلم الحدسي الضروري والعلم النظري الاستدلالي الموصِّل إلى اليقين. ويثبت يقين العلوم باجتماع المعارف الحسية والعقلية والحدسية والوجدانية والمتواترة إن كان الذهن لا يقوى على استحضار المقدمات أو نشأ منه خلاف. والشك في المعارف اليقينية الأخرى في نهاية الأمر ليس من قبيل المعرفة الحسية، بل معرفة تُثبت أن المعارف ليست كلها معارفَ حسيةً.٧ولم يقتصر القدماء بالرد على حجج السمنية، بل وجهوا إليهم حججًا، شافعين الدفاع بالهجوم، ومكمِلين السلب بالإيجاب؛ فالعلم بفساد النظر ليس من قِبل المحسوسات، بل يحتاج إلى نظر، والعلم بفساد النظر ليس إمَّا ضرورة أو بالنظر، ولما امتنعت الضرورة لم يبقَ إلا النظر. ومهاجمة النظر نظر، إمَّا أنه لغو لا يعتدُّ به، أو أنه يتم بالنظر، وهذا إثبات للنظر. كما أن مهاجمة النظر تحتاج إلى نظر، ومعارضة الفاسد للفاسد يحتاج إلى نظر. ولا يمكن أن تتم مهاجمة النظر عنادًا وإنما تتم بالنظر. والشك في النظر أنه مؤدٍّ للعلم يذهب بالدليل ويعتمد عليه، والدليل يؤدي إلى النظر، والنظر يفيد العلم. ومِنْ ثَمَّ ثبت بالدليل أن النظر يفيد العلم ثم وقع إنكار لذلك، فإنما يكون مجرد عناد.٨قد يكون هدف السمنية من حصر المعرفة في الحسية وحدها، وإنكار أن النظر يفيد العلم هو إثبات استحالة ثبوت «الصانع»؛ فالصانع ليس موضوعًا حسيًّا حتى يُدرَك بالحس، والنظر لا يفيد العلم، وبالتالي لا يمكن معرفة الصانع أو إثباته. وإذا ثبت بالوحي مثلًا ظل متوقِّفًا على الدليل العقلي؛ وبالتالي فرض المذهب العقائدي نفسه على نظرية العلم فبترها. ليس لدى الإنسان إلا تأسيس نظرية في العلم، وبعد ذلك لا يهم الموضوعات التي تتأسس في هذه النظرية. وقد يثبت العلم النظري ويظل إثبات الصانع مستحيلًا، فلا صلة بين إثبات العلم النظري وإثبات الصانع ضرورة. و«الصانع» الذي لا يثبت بالنظر الذي يفيد العلم يكون خارج نطاق العلم الإنساني. وإن توقُّف «الصانع» على العلم بالدليل توقفٌ إنساني. ليس لدى الإنسان وسيلة لإثبات أو لنفي إلا النظر المفرد للعلم، والعلم بالدليل وبوجه الدلالة. الموضوعية خارج نطاق العلم ادعاءٌ خالص، وهدم للعلم، وإفساح المجال للإيمان، وبالتالي ترسب الجهل ثم الطغيان.٩
-
(ب)
أمَّا المهندسون في الإلهيات فإنهم يثبتون أن النظر يفيد العلم في الهندسيات، خاصةً والعلوم الرياضية عامة، ولكن قد لا يفيده في الإلهيات. وإن أقصى ما يستطيع النظر أن يفيده في الإلهيات هو الظن والأخذ «بالأحرى أو الأخلق»؛ أي بالأولى، وبالمقارنة، والأجدى، وهي براهين نفسية خالصة تقوم على التعالي أو المفارقة. وهي تجربة شعورية أصيلة للتجاوز والبحث عن الصوري والعام والشامل. إذا كان موضوع الإلهيات هو «ذات الله»، فإن أقصى ما يستطيع أن يصل إليه النظر هو الظن إمَّا عن طريق التشبيه لإثبات شيء أو عن طريق التنزيه لنفي شيءٍ آخر. ولهم في ذلك حُجَّتان، الأولى أن الحقائق الإلهية لا تُتصوَّر وبالتالي يستحيل التصديق. وكل ما يمكن تصوُّره هي أعراضها وصفاتها وآثارها وتجلياتها. وبالتالي ليس أمامنا إلا الظن والتقريب، وقياس الغائب على الشاهد إن شئنا معرفةً إيجابيةً تقريبية أو عن طريق التنزيه إن شئنا معرفةً مجردةً خالصة. الأولى معرفةٌ أدبية تقوم على التشبيه والقياس، والثانية معرفةٌ عقلية تقوم على التنزيه ورفض القياس. الأولى تقرب بين المتشابهَين والثانية تُفرِّق بين المتمايزَين. الأولى تقوم على التقريب والمحايثة أو الحلول والثانية تقوم على الإبعاد والتعالي أو المفارقة. بل إن «قياس الأولى» الذي يدل على التعالي والمفارقة هو قياس يقوم على التعظيم والتبجيل والاحترام، وهي العواطف الإنسانية التي تكمن وراء عملية التأليه، والتي تكشف عن موقفٍ اجتماعي هو التقديس للأشخاص، وعن وضعٍ سلوكي في العالم وهو التحقيق عن طريق التزلُّف وليس عن طريق الفعل. والثانية أن أقرب الأشياء إلى الإنسان وهي هويته غير معلومة بحيث كثر عليها الخلاف، ولم يعد من الممكن الجزم بأحد الأقوال المتنازعة، فما بالنا بأبعد الأشياء عَنَّا؟ وأن مقالات الإسلاميين وغير الإسلاميين في «ذات الله» قد اختلفت وتباينت وتضاربت حتى لم يعد الإنسان قادرًا على التمييز بين الحق منها والباطل. ويشهد على ذلك علم الكلام نفسه. والكل يدعي النظر والحجة ويقدم الدليل والبرهان بينما الاتفاق على العلوم الرياضية وارد وموجود يتفق عليها العقلاء والناظرون. وبالتالي فالنظر لا يؤدي إلى علمٍ واحد في الإلهيات. والحقيقة أن ذات الإنسان ليست مجهولة، فكلٌّ مِنَّا يشعر بوجوده، ونفسه أقرب الأشياء إليه. أمَّا ذات الله فإنها لم تدخل بعدُ في نظرية العلم حتى يمكن الحديث عنها. فإذا ما تأسست نظرية العلم يمكن الحديث بعد ذلك عن «الوعي الخالص» أو الذات، وليس قبلها.١٠ والوعي الخالص إذا ما تم إثباته يكون أقرب الأشياء إلى النفس لأنه وعي الوعي أو الوعي بالنفس. فإذا كانت «ذات الله» صورةً تشبيهية لوعي الإنسان بذاته، فإن معرفتها تتم بالرجوع إلى هذا الوعي. وإذا كانت ذات الإنسان مضاعفة إلى ما لا نهاية، فإنها تكون معروفة لديه قدر معرفته بذاته. يكفيه استرداد ما خرج منه دفعًا أو قصرًا. ويمكن للناظرين والعقلاء الاتفاق على الوعي الخالص وصفاته وأفعاله مهما تباينت بشرط العود إلى الوضع الشرعي للإنسان في العالم والقضاء على اغترابه فيه.١١
-
(جـ)
أمَّا القول بالمعلم كبديل عن النظر، فإنه لا يؤدي إلى تأسيس العلم.١٢ وقد اعتمد القدماء لرفضه على حجةٍ جدلية، وهي أن المعلم يحتاج إلى معلم، وهذا إلى ثالث، حتى يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، أو ينتهي إلى مصدر للعلم هو العقل أو الوحي. وافتراض عقلٍ كامل لا يحتاج إلى تعليم هو نفسه افتراض النبي أي الوحي وليس المعلم. ولما كان الوحي يُعلَم بالعقل كان العقل نقطة البداية في نظرية العلم وليس المعلم. القول بالمعلم إنكار لقدرة العقول على الوصول إلى الحقائق وإنكار للنظر، مع أن الوحي قد حثَّ على النظر ورفض اتِّباع أي شخص حتى ولو ادعى العلم والإلهام وبلغ به الأمر حدَّ ادعاء الألوهية. إن القول بأن النجاة لا تتم إلا بمعلم بدليل وجود النبي عن طريق الإيمان؛ يستلزم صدق المعلم كصدق النبي. فإذا كانت المعجزة — وهي دليل صدق النبي — ليست أصلًا من أصول العلم، فالعلم لا يقوم على حوادثَ تاريخيةٍ، فما الدليل على صدق المعلم؟ والوحي الذي أتى به النبي يدعو إلى النظر والإيمان عن طريق البرهان، وهو طريق المعلم إن أراد التشبُّه بالنبي. والإلهام ليس طريقًا لمعرفة صدق المعلم؛ لأن الإلهام ذاته في حاجة إلى تصديق، وبالتالي لا يكون أساسًا للعلم.١٣ وإن حاجة الناس إلى المعلمين في العلوم العويصة لا يمنع من وجوب النظر. فمهما أوتي المعلم من مهارة دون نظر من المتعلم فلن يحدث العلم، ولن يتعدى العلم التقليد دون الفهم، والنقل دون الإبداع، والحفظ دون الاجتهاد. إن الخلاف في النظر لا يقدح فيه؛ لأن هناك مقاييس للصواب والخطأ. كما أن الخلاف بين المعلمين لا يقل شأنًا عن الخلاف بين النظار خاصةً وأنه لا توجد مقاييس للاختيار بين المعلمين إلا التقليد. إن الخلاف في النظر سواء كان في أسهل الأمور أم أصعبها لا يدحض النظر؛ لأن النظر الصحيح لا يؤدي إلى الخلاف. والبرهان قادر على حسم التعارض بين الآراء والتمييز فيها بين الصواب والخطأ، وصعوبة النظر لا تنفي النظر. يمكن للمعلم أن يُزيح بعض أسباب الشكوك وأن يوضح بعض جوانب الصعوبة ولكنه لا يُعلِّم من الألف إلى الياء وإلا كان الإنسان مجرد متلقٍّ للعلم. ومن أين يأتي علم المعلم؟ لا يأتي من وحيٍ خاص؛ فذاك طريق النبوة، ولا من تفسير الوحي؛ فذاك مشاع للجميع بالعلم بقواعد اللغة وأسباب النزول، ولا من الإلهام؛ فذلك ليس طريقًا للعلم. لم يبقَ إلا النقل والتقليد والوراثة وهو ما يغيب عنه التحقق من صدقه. والعلم بلا نظرية في التحقق أو الصدق لا يكون علمًا. صحيح أن النظر وحده قد لا يكون نجاة، ولا بد من معلم عملي يهدي ويرشد. ولكن النظر ليس هو النظر الخالص، بل هو مقدمة للعمل، فالعمل جزء من النظر. وكان كبار معلمي الإنسانية من النظار الذين يوحدون بين النظر والعمل.١٤ قد يكون المعلم عاملًا مساعدًا على النظر ولكنه لا يكون بديلًا عنه وإلغاءً له. التعليم أقرب إلى الإرشاد والتوجيه نحو الحقائق منه إلى إعطاء هذه الحقائق نفسها. مهمته مساعدة الإنسان على كشف الحقائق بنفسه دون أن يعطيها له جاهزة بالتلقين. وقد يكون ما نعاني منه في مناهج تعليمنا وتربيتنا من تلقين وفرض للوصايا على العقول من آثار هذا التصور للمعلم مع أنه ليس هو التصور «السني».١٥ ولكن يبدو أن طبيعة المجتمع المتخلف تتفق مع هذا التصور «الشيعي التاريخي» الذي كانت له ظروفه الخاصة في مجتمع المضطهدين. إن اتِّباع الإمام في كل ملة فيما يتعلق بنظرية العلم كبديل عن النظر لدليلٌ على التخلف، ويمثل التيار المحافظ الموجود في كل جماعة. وكلما جهلت الجماعة قوى احتمال ظهور المعلم، تظهر وظيفة المعلم في جماعة تقسم أفرادها بين الدهماء الجاهلة والمعلم الواحد المُلهَم المعصوم، الرئيس القائد الزعيم المجاهد. وقد تسرب هذا التصور أيضًا إلى علوم الحكمة من الفكر «الشيعي التاريخي». فهو أقرب إلى الإمام المعصوم من الولاية العامة في الفكر «السني النمطي». وقد تتقدم المجتمعات «السنية» تاريخيًّا برفض سلطة الإمام المعصوم الذي يظهر في صورة رئيسٍ ملهَم، ورفع الوصايا النظرية والعملية عن الناس كما حدث في كثير من حركات الإصلاح الديني في كل الديانات والملل. إن طاعة الناس للقائد الإمام ليس لأنه معلم معصوم، بل لأنه يمثل قيادة ثورية تقود نضال الشعوب، وتعبر عن مصالح الجماهير، وتحقق أهدافها القومية. اتِّباع المعلم أو الإمام المعصوم تقليد، وتعويض عن غياب اليقين بالتبعية، واستبدال اليقين الداخلي؛ يقين التصديق، بيقينٍ خارجي؛ يقين الاتِّباع، وبالتالي ترك النظر والبحث إلى الطاعة والتبعية، وهو ما تقوم عليه كل أنظمة الحكم التسلطية باسم السلطة الدينية تدعيمًا للسلطة السياسية. إن التقليد بين مضادات العلم مثل الجهل، وليس أساسًا لنظرية في العلم؛ يؤدي إلى التهلكة إذا ما أخطأ المعلم ما دام لا توجد مراجعة عليه. ولا يبقى أمام الناس إلا الثورة عليه، والانقلاب من الطاعة المطلقة إلى العصيان المطلق. أمَّا النظر، فإنه طريق النقد وبالتالي سبيل التحرر، على عكس المعلم الذي يؤدي إلى التسليم والقبول ثم إلى الطاعة والإذعان.١٦
-
(د)
أمَّا أصحاب الإلهام مثل الصوفية، فإنهم ينكرون أيضًا أن يكون النظر مفيدًا للعلم، ويجعلون الإلهام طريقًا للمعرفة، ويعنون به فيض المعرفة على القلب دون إعمال نظر أو تدبر أو رويَّة. ولم يظهر في علم أصول الدين إلا مؤخرًا عندما ازدوجت الأشعرية بالتصوف؛ نظرًا لتوحيد بعض العلماء المتأخرين بين العلم والمعرفة.١٧ والحقيقة أن الإلهام قول بلا برهان، وذاتيةٌ خالصةٌ فارغة لا تعتمد على أوائل العقول بل على نقائضها، كما لا يمكن التعبير عنه أو البرهنة عليه أو إيصاله إلى الآخرين أو التحقق من صدقه أو مراجعته وتكراره واطراده. يمكن اعتبار ما يأتي من الإلهام على أقصى تقدير مجرد افتراض يمكن التحقق من صحته بالبرهان عن طريق النظر؛ لذلك فنَّده القدماء بحجةٍ جدلية مؤداها أنه لا يمكن معرفة الإلهام بالإلهام وإلا تسلسل ذلك إلى ما لا نهاية، وهي نفس الحجة الموجهة ضد المعلم. لا يُعرف الإلهام إلا بالنظر وذلك إثبات للنظر طريقًا للعلم. ولما كان الإلهام كل ما يفيض على القلب دون نظر أو رؤية، فهل كل ما يحدث في قلب الإنسان من جحود وإنكار للحقائق وخيانة وعمالة وبيع للبلاد يكون إلهامًا؟ وبالتالي يؤدي الإلهام إلى إنكار الحقائق بدلًا من إثباتها، وأن كثيرًا مما أصابنا من شكوك في مبادئنا الوطنية ومشروعنا القومي إنما حدث نتيجة لدعاة الإلهام والأنوار الربانية في الوادي المقدس، وأثناء الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أو فوق قمم الجبال بالقرب من السماء، وهو حتمًا خداع في خداع. فكثيرًا ما تتم الحوادث بالزيارات والترتيبات والتنسيق والتدبير بالفعل، ويكون الإلهام آنذاك أشبه بالسحر الذي يخفي الحقائق الفعلية من أمام المشاهدين وأن وجود الشك والتردد والظن في حياة الإنسان ليمنع من الإلهام لأن الإلهام لا يأتي إلا بالصواب فهو اعتقادٌ جازم ويقينٌ ثابت أقرب إلى مضادات العلم منه إلى العلم. وإذا كان الإنسان قادرًا على التمييز بين الخطأ والصواب في المعتقدات، فإنها لا تكون إلهامًا يقذفه «الله» في القلب، لا يقف أمامه تريُّث أو رؤية أو قدرة على التمييز بين الأشياء. وإذا بطلت بعض المعتقدات مثل التجسيم والتشبيه فإنها لا تكون إلهامًا؛ لأن الإلهام لا يأتي إلا بالصواب طبقًا لمدَّعيه. يصعب إذن التمييز بين الإيهام والإلهام، وإن ارتداد الإنسان كلية عن موقف إلى موقفٍ مناقض أو ترجيح أحدهما على الآخر لا يمكن أن يحدث بالإلهام؛ لأن الإلهام لا يتغير في حقائقه المعطاة. ولما كان الإلهام يأتي من أعلى فإنه يجعل الإنسان مُجتثَّ الجذور في الواقع؛ إذ يجعل مصدر معرفته خارج العالم، وبالتالي يَعمى عن الواقع وعما يحدث فيه، ويعيش الإنسان مغتربًا في العالم، نافيًا وجوده، ومصدر علمه، جاهلًا بقوانينه. أمَّا استعمال العقل فإنه عود إلى الواقع واكتشاف لقوانينه، واستعمال لمنهج التحليل والمراجعة والإحصاء. وهذا ما يحدث في حياتنا المعاصرة التي يسودها الإلهام كمصدرٍ رئيسي للمعرفة إن لم يكن مصدرها الأوَّل حتى في قمة السلطة السياسية التي بيدها قرار السلم والحرب والتي عليها مهمة تحرير الأرض. وهو أقرب إلى الارتجال والعشوائية ونقص العلم وادعاء البطولة منه إلى الإلهام الشعري أو الصوفي. بل يوجد الإلهام عند كل صاحب إمارة وعند كل رئيس مصلحة. وهنا يكون الإلهام تعويضًا عن نقص في المعرفة أو رغبة في التسلط على رقاب الناس. إن رفض الإلهام كطريق للمعرفة ووسيلة للعلم وبديل عن النظر هو في نفس الوقت استمرار لموقف القدماء وتأكيد على ضرورة النظر في حياتنا المعاصرة درءًا لأخطار والوهم والإيهام — ورفضًا لكل الوصايا النظرية والعملية عن الجماهير، وإنهاء لتبعيتها لغيرها وردِّها إلى ذاتها، وأخذها لمصائرها بيدها. وعلى هذا النحو تعود الجماهير إلى الوحي الذي يقوم على النظر، ويكون الوحي قد عاد إليها، وهي القادرة على النظر فيه.
ولا يعني ذلك إنكار الحُدوس من حيث هي رؤًى مباشرة للواقع تؤدي إلى نوع من المعارف الضرورية؛ وذلك لأن الحدْس يقوم على الاهتمام بالموضوع والتركيز عليه، وليس مجرد فيض في القلب بلا مقدمات. ويمكن تحليله بعد حدوثه بالعقل، والتحقق من صدقه بالحس، ومطابقته للواقع بالرؤية. الحدس إحدى وظائف العقل الرئيسية من داخله وليس من خارجه، ابتداءً من الحس المباشر إلى الحدس وما بينهما من مدركاتٍ حسية وتصوراتٍ عقلية واستدلالاتٍ نظرية؛ العقل هو الحياة الواعية للشعور. كما لا يعني ذلك إنكار المعارف الضرورية أو العلوم الذوقية والأدبية كالشعر والتصوف؛ فالتجربة الشعرية تعطي معرفةً مباشرة، وللشعر قدرة على تصوير الواقع ورؤيته. ولا تقل التجربة الشعرية صدقًا عن الاستدلال النظري، بل إن الشعراء أحيانًا أصدق رؤية من كثير من المنظِّرين، ومع ذلك يأتي علم العروض والأوزان ليُحوِّل هذه التجربة الشعرية إلى علمٍ عقلي استدلالي له قوانينه ومقاييسه المحدَّدة. تجد التجربة الشعرية أحكامها في فن الشعر وصناعة الألحان، كما أن التجربة الصوفية لم تحدث بغتة، بل سبقتها مقدمات هي الرياضات والمجاهدات حتى يتحقق شرط العلم، ومع ذلك، تجد التجربة الصوفية كمالها في تنظيرها وتحويلها إلى علمٍ عقلي؛ لذلك اجتمعت علوم الذوق وعلوم النظر معًا في «حكمة الإشراق». يمكن للتجربة الصوفية أن تكون موطنًا لظهور الدلالات، وتكون حينئذٍ التجربة الإنسانية العامة الفردية والاجتماعية والتاريخية وليس فقط التجربة الخلقية، بل إنه يخشى من التجربة الخلقية أن تكون قائمة على أساسٍ مرضي، ونقص في الشجاعة، وضعف في السلوك أو على حرمان وكبت غالبًا ما يكون جنسيًّا أو سياسيًّا؛ نظرًا لحاجة الإنسان إلى الحب والثورة. قد تعني التجربة الصوفية تصفية القلب، وسلامة الطوية، وحسن النية، وظهور عاطفةٍ نبيلة تجعل الإنسان قادرًا على إدراك الدلالات؛ نظرًا لما تُحدِث المشاعر النبيلة من إرهاف للحس، وتبصرة بالمدركات مثل عواطف الحب والإخلاص والتضحية والوفاء. هناك إذن فرق بين الإلهام الصوفي وحدس الشعور أو تجربة الوجدان؛ الأوَّل ذاتيةٌ خالصة لا يمكن التحقق من صدقها إلا بإعادة التجربة ذاتها من الآخرين، في حين أن حدس الشعور موضوعي يمكن التحقق من صدقه؛ الإلهام الصوفي لا عقلي ولا يخضع لتحليل العقل، في حين أن الشعور حدسٌ عقلي يمكن تحليله بالعقل؛ لأن موضوعه معانٍ ودلالاتٌ مستقلة وماهيات. يحدث الذوق الصوفي نتيجة للمجاهدة والرياضة في حين يحدث حدس الشعور نتيجة للشعور اليقظ وتوافر الدواعي والمقاصد والاهتمام والصدق مع النفس والالتزام بموقفٍ اجتماعي وحركة التاريخ.
-
(هـ)
أمَّا نفي النظر بدعوى النقل والأثر والوحي والنبوة والنص والحكم والأمر، فإن ذلك هدم للوحي ذاته وقضاء للنبوة ذاتها؛ فالعقل أساس النقل، ومن يقدح في العقل يقدح في النقل. وطالما أثبت الفقهاء «اتفاق صحيح المنقول لصريح المعقول».١٨ لا يعني اكتمال الوحي انتفاء النظر، بل يعني نهاية الوحي بعد تطورٍ طويل، ومراحلَ متعددةٍ حتى تحقق استقلال الإنسان عقلًا وإرادةً. أصبح قادرًا بعقله على الوصول إلى الحقيقة ومستقلًّا بإرادته على تحقيق فكره ومُثُله، ورفضه جميع الوصايا عليه من السلطتين الدينية والسياسية باسم الإيمان مرة وباسم الزعامة مرةً أخرى. كما يعني ثانيًا وضع الشريعة باعتبارها نظامًا للحياة دائمًا، وليس لمكانٍ معين أو زمانٍ محدود أو لفترةٍ تاريخية بعينها أو لشعبٍ خاص أو دفاعًا عن مصالح طبقة ضد أخرى. ويكون دور العقل استنباط هذه الشريعة من أدلتها الشرعية وتفصيلها طبقًا للمجتمعات المختلفة. لقد أعطى الوحي الأسس العامة وترك التفصيلات لعمل الأجيال واجتهاداتها. كما يعني ثالثًا بداية عملية الفهم والتفسير والتأويل. الوحي صامت لا يتحول إلى فكر أو سلوك إلا بالفهم والعمل، الوحي ذاته يتأسس في العقل وفي الواقع وفي الجماعة وفي التاريخ؛ ومِنْ ثَمَّ كان الفهم هو موطن الوحي ومحله. ومن خلال الفهم يتحول الوحي إلى واقع، وبناءٍ اجتماعي، وحركة تاريخ.ولا يعني بيان الوحي لكل شيء انتفاء النظر، بل يعني أن الوحي قد حوى كل الأسس العلمية التي يمكن عليها إقامة نظام في الحياة، وأنه لم يترك أساسًا إلا بيَّنه. وقد يعني البيان أيضًا إعمال النظر وحدوث البيان بالعقل. وظيفة العقل تحويل هذه الأسس العامة إلى نظامٍ معين لجماعةٍ معينة في عصرٍ معين. وتلك وظيفة الاجتهاد كأصل من أصول الشريعة، بيان الأصل يتطلب استنباط الفرع، ولا استنباط بغير نظر، لا يعني إثبات النظر أي تطاول على النبوة. صحيح أن النبوة تفصيل للوحي وتبيان له كنموذجٍ أول وكنمط يمكن الاسترشاد به، ولكن الواقع يتغيَّر، ويحتاج كل عصر إلى تفصيل أكثر نظرًا لما يحتويه الواقع من جدةٍ مستمرة. فإذا كان للوقائع الجديدة ما يشابهها في الوقائع النمطية في الوحي، في الكتاب أم في السنة، أخذت أحكامها. ولا توجد واقعةٌ جديدة إلا ولها أصل في الوحي. النظر إذن زيادة بيان وتفصيل بالقياس إلى بيان النبوة وتفصيلها بالنسبة إلى الوحي، خاصةً وأن الوحي ذاته يقوم على النظر، والنبوة أيضًا تقوم على النظر قياسًا على الوحي. ليس النظر إذن تعديًا على النبوة، بل هو قياس عليها وعلى الوحي في آنٍ واحد.١٩ ولا يعني ما يبدو في الوحي أحيانًا من إشارات إلى خطأ بعض الأقيسة خطأَ كلِّ قياس، وبالتالي انتفاء النظر، بل يعني رفض النظر الفاسد والدعوة إلى النظر الصحيح.٢٠ وهناك مقاييس لصدق النظر وصحَّته. بل إن الحجج النقلية ذاتها مدعاة للخطأ نظرًا لارتباطها بالنقل والرواية وباللغة والفهم وبأسباب النزول وبالناسخ والمنسوخ وبعدم وجود المعارض العقلي.٢١ وكما أن مناهج تفسير النصوص تؤدي إلى ضبط استعمالها، فكذلك منطق النظر يؤدي إلى ضبط النظر.ولا يعني عدم معرفة الثواب بالعقل عدم وجوب المعرفة بالعقل؛ وذلك لأن الوجوب العقلي وجوب مبدأ وليس وجوب نتيجة أو واقعة، وجوب في ذاته بصرف النظر عما يترتب عليه من نتائج. ويمكن معرفة نتائج الأفعال، ثوابًا أم عقابًا، بالحس والمشاهدة، وبأوائل العقول، وباستقراء حوادث التاريخ. كل من يُعمِل النظر يكون واعيًا حُرًّا، وكل من يتخلَّى عنه يكون غافلًا عبدًا. يؤدي وجوب النظر إلى العلم وفهم العالم وتقدم الجماعة، في حين يؤدي انتفاؤه إلى الجهل والغفلة والتخلف. يحتوي النظر على ثوابه من داخله، وهي حياة العقل والحرية والتقدم، كما يتضمن انتقاؤه جزاءه من داخله؛ حياة الجهل والعبودية والتخلف. كما لا يعني الرجوع إلى الأوامر الإلهية إنكار النقل؛ لأنه لا يمكن تنفيذها قبل فهمها، ولا يمكن فهمها إلا بالنظر. وتنفيذ الأوامر بلا نظر يجعل الإنسان مجرد آلةٍ صماء، في حين أن الوحي أتى للإفهام وللامتثال قبل أن يأتي للتكليف، على ما يقول علماء أصول الفقه.٢٢ الوحي قائم على النظر، يعطي معرفةً وسلوكًا، ولما كان النظر أساس العمل وجب النظر.
ولا يعني وجود المتشابه من الآيات نفي النظر؛ لأن التشابه له قواعد تحيله إلى محكم فتسكن النفس إليه. ليس التشابه إنكارًا للنظر، بل دعوة لإعمال النظر من أجل ترجيح المعنيين طبقًا لحاجات العصر ومقتضيات الواقع ولاختيار الإنسان للأفضل والأصلح. وليس إرباكًا للعقل وتخديرًا له عن مواطن الشبهات. التشابه له دورٌ إيجابي في إبراز دور العقل وليس في إيقاف نشاطه. والإنسان قادر على إحكام المتشابه بما لديه من قرائن. فما الفائدة من متشابه لا يعلمه الإنسان؟ إن القدح في النظر لوجود المتشابه هو أيضًا قدح في المحكم؛ لأن المحكم لا يمكن فهمه إلا بالنظر، ولا يمكن التمييز بينه وبين المتشابه إلا بالنظر والفهم.
ولا يعني الرجوع إلى النص كحكم بين وجهات النظر المختلفة إنكار النظر؛ لأن النص نفسه الذي نحتكم إليه لا يُفهَم إلا بالنظر، ويتأسس في العقل بمعناه الواسع الذي يشمل الحس والمشاهدة. بل إن مقياس فهم النص هو مدى تطابق هذا الفهم مع العقل والحس. النص مرتبط باللغة وبأسباب النزول، ولا يمكن فهم معناه إلا بالرجوع إليهما، وذلك لا يتم إلا بالنظر. لا يعني تعدد وجهات النظر نفي النظر لأن هذا التعدد يمكن التحقق من مدى صحته بالرجوع إلى الحس والمشاهدة. فالعقل أحد أطراف المطابقة. إذا ما تعددت وجهات النظر من حيث العقل فإنه يمكن اختيار أكثرها تطابقًا مع الحس. يضع العقل عديدًا من الآراء، والواقع يختار أصلحها له.
ولا يعني الوقوع في الخطأ نتيجة النظر نفي النظر. فالنظر يؤدي إلى الخطأ كما يؤدي إلى الصواب. النظر أداة للصواب والخطأ على السواء. والخطأ في القياس لا يهدم القياس، بل يصحح القياس الفاسد كي يصبح صحيحًا. والنظر قادر على تصحيح أخطاء النتائج بمقاييس الصدق المعروفة في المنطق؛ لذلك جعل علماء أصول الفقه للمخطئ أجرًا وللمصيب أجرَين؛ لأن المخطئ أعمل العقل ومارس النظر. ليس النظر قولًا بلا علم أو دليل، بل هو أساسًا نظرية في الدلالة، في سكون النفس للدليل. وفيما لا دليل عليه يجب نفيه. ليس النظر اتِّباعًا لهوًى أو مصلحة، وليس قولًا بظن أو رجمًا بغيب، بل بداية للعلم اليقيني. لا يؤدي النظر إذن إلى أي مخاطر أو يوهم الوقوع في الخطأ واعتقاد الكذب؛ فالإقدام على النظر خيرٌ من الإحجام عنه. بل إن نفي النظر هو الذي يؤدي إلى الوقوع في الخطأ. ولا صواب في التقليد أو التسليم. وإذا كان في الإقدام على النظر خطورة الوقوع في الخطأ، فإن الامتناع عن النظر فيه خطورة أكبر، وهو عدم الوصول إلى اليقين على الإطلاق إلا مصادفةً أو عشوائيًّا. ولكن الإقدام على النظر فيه احتمال الوصول إلى اليقين دون الامتناع عن النظر؛ وبالتالي فالإقدام على النظر خيرٌ من الإحجام عنه.