(١) الوجوب السمعي
تشهد له آياتٌ كثيرة تحث على النظر والتفكر، وكذلك الأحاديث.
٤ ولكن هذه الشواهد النقلية مُعارَضة بشواهدَ أخرى يوردها المنكرون
للنظر، حجة بحجة، ونقلًا بنقل وسمعًا بسمع.
كما نقلت روايات عن النبي تنهى عن الخصام والجدل في مسائل القدر تقابلها
رواياتٌ أخرى تحث على النظر.
٥ والحقيقة أن وجوب النظر يختلط بموضوع النظر، فليس السؤال عن موضوع
النظر، «الله» أم القدر بل النظر ذاته كمنهج أو كطريق للمعرفة بصرف النظر عن
موضوع المعرفة.
والحقيقة أن جعل الوجوب الشرعي متوقفًا
على النبوة، والنبوة على المعجزة، يجعل الدليل كله متوقفًا على التبليغ الذي لا
يتم إلا عن طريق التواتر. ومِنْ ثَمَّ أصبح الدليل خارجيًّا ثلاث مرات. يتوقف
الوجوب على النبوة أوَّلًا وعلى صدقها بالمعجزة ثانيًا، وعلى صحة نقل المعجزة
ثالثًا. أمَّا افتراض الوجوب كمجرد إمكانية قبل التبليغ فهو افتراض ما لا يُطاق.
٦
كما يقوم الوجوب السمعي على أساس النظر والفهم؛ فإنكار النظر إنكار للوجوب
السمعي، والعقل أساس النقل بإجماع الأصوليين. ولا يمكن الدفاع عن الوجوب السمعي
بأن الوجوب لا يتوقف على العلم بالوجوب حتى يلزم الدور ويتوقف على الإدراك
وسلامة الآلات؛ لأن العلم بهذا الوجوب عقليٌّ خالص؛ إذ لا يدرك الإنسان الوجوب
إلا بالنظر أي بالعقل، كما لا يمكن الدفاع عنه على أساس أن الوجوب العقلي يعتمد
على مقدمات لا يمكن الوصول إليها بالعقل؛ لأن الوجوب العقلي لا يحتاج إلى نظرٍ
سابق يعرف به وجوب النظر، وذاك إلى نظرٍ آخر إلى ما لا نهاية؛ لأن النظر بداية
أولى وحكمٌ بديهي، وبرهانٌ وجداني. وافتراض أن يقوم النظر على مقدماتٍ غير
نظرية هو تسليم بأن مضمون النظر سابق على النظر، ومضمون النظر عند الأشاعرة هي
العقائد الدينية، فكيف تكون هي المقدمات الأولى، وهو المطلوب تأسيسها؟ ألا يكون
ذلك مصادرة على المطلوب؟ هذا بالإضافة إلى أن هذه المقدمات النظرية الأولى مثل:
«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، مقدمات يعتمد عليها الأشاعرة أيضًا في
إثبات الوجوب السمعي، وإنكارها إنكار لبدايات العقول، واعتبار العقل «صفحة
بيضاء» إلا من مضمون الإيمان؛ أي العقائد الدينية. إن حكم العقل من حيث المبدأ
ليس حكمًا باطلًا؛ لأن هذه هي بدايات العلم، كما أنه ليس مستحيلًا لأن إمكانية
العلم مرهونة بحكم العقل. ولا يهم تحديد بداية لحكم العقل في الزمان قبل البعثة
أو بعدها، ولكن بعد انتهاء آخر مرحلة من مراحل الوحي وإعلان استقلال الشعور
الإنساني عقلًا وإرادةً يتوحد فيه العقل والوحي ويصبح زمان البعثة أو بعدها
بغير ذي دلالة، فحكم العقل هو حكم الوحي.
٧
لا يتم الوجوب الشرعي إلا بالعقل، وذلك لأن الإنسان لن ينظر الوجوب الشرعي ما
لم يعلم ذلك بالنظر؛ فالنظر هو أول الواجبات. وما دامت المعرفة واجبة شرعًا
وتُحصَّل أوَّلًا بالنظر، فإن الوجوب الشرعي يكون للنظر وليس للمعرفة الواجبة
شرعًا، وتكون المعرفة مشروطًا والنظر شارطًا.
٨ ولا بد من معرفة مصدر الوجوب، وكيف نشأ، بالعقل أو بالسمع، لأن
الاكتفاء بالوجوب وحده بصرف النظر عن مصدره تسليم بحجة السلطة دون مبرر،
وبالتالي فهو موقفٌ تعسفي يؤدي إلى هدم الوجوب من أساسه سواء كان عقليًّا أم
سمعيًّا. يقوم الوجوب على التأسيس، وإلا خدم الوجوب أوضاع التسلط والطغيان التي
نشأت في القرون الأخيرة إثر الخلط بين الواجب الديني وطاعة السلطان.
٩ إذن لا يمكن أن يكون النظر واجبًا شرعًا؛ لأن وجوب الشرع لا يتم
إلا بالنظر وإلا تسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، ومِنْ ثَمَّ، لزم الوجوب
العقلي.
وكما يكون الوجوب الشرعي بالسمع يكون بالإجماع، وكما أن الوجوب السمعي خاضع
للنظر، لأن النص يحتاج إلى فهم وتفسير وذلك لا يتم إلا بالنظر مع افتراض صحته
وتواتره، وهو ما لا يثبت أيضًا إلا بالنظر؛ فإن الإجماع لا يتم إلا فيما لا نص
فيه. وما دام النظر قد وجب بالسمع أي بالنص؛ فدور الإجماع هنا زائد لا لزوم له.
وما دام النظر كطريق للمعرفة قد عُلم بالعقل، فتركيب قياس يدخل فيه النص
والإجماع تركيبٌ زائد؛ لأن معرفة النظر كطريق للعلم بالعقل تجعل النظر واجبًا
بالعقل. هذا فضلًا عن أن الإجماع ليس حجةً عقلية، بل هو مجرد حجة تعتمد على
السلطة، سلطة الجماعة، وأن الإجماع غالبًا ما يكون له معارض من داخل الجماعة،
ويتغير من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل إلى آخر ما هو معروف من نقد لحجية
الإجماع في علم أصول الفقه وعند أصحاب المعارف الضرورية في علم أصول الدين. لا
يوجد إجماعٌ مطلق، بل إجماعٌ منقوض، بل ويوجد إجماعٌ مضاد. هذا بالإضافة إلى
خضوع الإجماع لمناهج النقل والرواية، إمَّا استحالة نظرًا لانتشار المجتهدين في
كل مكان، أو احتمالًا للخطأ، وهو وارد في النقل.
١٠
وأحيانًا يكون الوجوب الشرعي بالنص والإجماع معًا. وفي هذه الحالة يظل النص
ظنيًّا ولا يتحول إلى يقين إلا بالإجماع. الدليل السمعي ظني لأن الحجج النقلية
حتى لو تكاثرت وتضافرت فإنها تظل ظنية ولا تتحول إلى يقين إلا بالحجج العقلية
ولو واحدة.
١١ ومِنْ ثَمَّ فالوجوب السمعي ليس وجوبًا، بل هو مجرد ظن. والوجوب لا
يكون إلا يقينًا، ولا يقين إلا وأساسه العقل. إثبات معرفة «الله» لا تتم إلا
بالنظر، والنظر هو الأصل، ومعرفة «الله» هو الفرع. ومِنْ ثَمَّ يحتاج دليل
الأشاعرة إلى إثبات الأصل أوَّلًا قبل إثبات الفرع. فإذا كانت معرفة «الله»
تتوقف على إفادة النظر العلم، وأنه لا يمكن معرفة وجوب النظر سمعيًّا إلا
بالنظر وهو سابق على السمع، فإن النظر يكون أول الواجبات. ولما كانت المعرفة
بالدليل تتطلب النظر يكون الدليل تحصيل حاصل؛ لأنه يثبت النظر للناظر أو يكلف
غير الناظر بالأمر ولا يثبت له النظر بالدليل. الوجوب إمَّا للذات وهو تحصيل
حاصل أو لغيره وهو تكليف لا يتم إلا بالنظر حتى يفهم الفهم أو بالطاعة العمياء
دون فهم، وهو أيضًا ما يتطلب الفهم من أجل الطاعة. كما أن المعرفة لا تحصل
بالنظر ضرورةً، بل قد تحصل بوسائلَ أخرى سواء كانت مؤدية إلى العلم أم مضادة
لها مثل التعليم والتصفية. والدليل كله يقوم على افتراض النظر، في حين أن النظر
منقوض لاحتمال الشك والظن والوهم والجهل والتقليد كمضادات للعلم. كما أن الدليل
يقوم على مسلَّمة «ما لا يتم إلا به الواجب فهو واجب»، وهي مسلَّمة لا يقبلها
الأصوليون؛ لأن الواجب تكليف وليس استدلالًا، وإلا وصلنا بالواجبات إلى ما لا
نهاية، ونرزح تحت عبء الواجبات.
١٢ كما أن هذا الدليل يدخل في مقدمته الأولى معرفة «الله»، وموضوع
«الذات» لم يثبت بعدُ في هذه المرحلة من تأسيس نظرية العلم. يقفز على نظرية
العلم ويستبق الموضوع، وبالتالي فهو دليلٌ إيماني لأن المقدمة الأولى ما زالت إيمانية.
١٣ وقد رفض بعض القدماء هذا الدليل لأسباب، منها أن تكليف الغافل غير
واجب، وصعوبة اطراد الإجماع؛ نظرًا لتفرق المجتهدين، وعدم سلامة النقل، ووجود
إجماعٍ مناقض. كما لا يمنع أن تتم المعرفة بالنظر دون الإلهام أو التعليم أو
التصفية. كما أن الدليل منقوض بعدم المعرفة وبالشك، وأن القول بأن «ما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب.» حكمٌ صوريٌّ عقلي وليس حكمًا شرعيًّا. وهي كلها حجج
تخضع لضعف الحجج النقلية من النص أو من الإجماع.
وقد حاول بعض القدماء الجمع بين الوجوب السمعي والوجوب العقلي، ولكن ظلت
الأولوية للوجوب السمعي. وتقتصر وظيفة العقل هنا على تبرير السمع، ويكون الموقف
كله أقرب إلى الوجوب السمعي من الوجوب العقلي. لا يكون الوسط في المنتصف
الحسابي، بل يكون أقرب إلى طرف منه إلى الطرف الآخر، كما هو الحال في الوسط في
الحياة الاجتماعية، وفي المواقف التاريخية عندما يكون أقرب إلى الفعل أو إلى رد
الفعل. إن قبول الوجوب العقلي والوجوب السمعي معًا دون تفضيل أحدهما على الآخر
يقضي على فاعلية كلا الحكمين، ويغفل طبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها كل
مجتمع وأي الحكمين أصلح له؛ لذلك يتبع هذا الجمع إنكار اعتبار النفع والضرر
مقياسًا للوجوب.
١٤
لقد أفاض علم الكلام المتأخر في مرحلة
الركود والتوقف في تحليل هذا الموضوع دفاعًا منه عن نفسه، وتأكيدًا لموقف
الأشاعرة القديم. وقولهم بالوجوب الشرعي تثبيتًا للأمر الواقع في إنكار النظر
حتى تستمر السلطة الدينية والسياسية في ترؤسها، وحتى تظلَّ الجماهير العريضة في
طاعتها، مع أنه لم يأخذ كل هذا الاهتمام من القدماء عندما كان الحوار ما زال
مفتوحًا بين الاتجاهات الفكرية المختلفة بين الوجوب العقلي والوجوب السمعي.
١٥
(٢) الوجوب العقلي
النظر إذن واجبٌ بالعقل. وقد اعتمد القدماء لإثبات هذا الوجوب إمَّا على
تفنيد الحجج النقلية أو العقلية المعارضة أو على إيراد حججٍ جدليةٍ جديدة أو
على مقاييس النفع والضرر، ما ينتج عن وجوب النظر من نفع وعن عدم وجوبه من
ضرر.
لا يعني وجوب النظر عقلًا إنكار النبوات والمعجزات، بل القول بأقصر الطرق
الذي يتفق عليه كل الناس، وهو العقل وعدم اللجوء إلى السمع إلا إذا دعت الحاجة
إليه. هذا بالإضافة إلى أن يقين النبوة يقينٍ خارجي عن طريق المعجزة وليس
يقينًا داخليًّا عن طريق التصديق؛ لأن التصديق بالنبوة يحتاج إلى نظر. ومِنْ
ثَمَّ كان وجوب النظر سابقًا على وجوب التصديق بالنبوة. لا يعني وجوب النظر إذن
إنكار النبوة بل يعني البداية بالأساس أوَّلًا، وهو النظر قبل ما يتأسس عليه
وهي النبوة موضوع التأسيس.
١٦
ولا يؤدي الوجوب العقلي للنظر إلى إفحام الأنبياء؛ فليس طريق إثبات النبوة هو
إنكار وجوب النظر، بل إن النبوة يمكن أن تثبت بطرقٍ أخرى تقوم على إثبات ضرورة
الوحي. النبوة ما هي إلا طريق الوحي، وليست غاية في ذاتها. بل إن وجوب النظر
بالشرع فيه إفحام للأنبياء؛ إذ يقول المكلف: «لا أنظر ما لم يجب، ولا يجب ما لم
يثبت بالشرع، ولا يثبت بالشرع ما لم أنظر»، فالنظر إذن واجب عقلًا.
١٧
ولا يؤدي الوجوب العقلي قبل البعثة إلى أن يجعل البعثة زائدة لا لزوم لها؛
فالعقل أساس النقل، والطريق إلى فهم الرسالة ومعرفة الوجود الشرعي.
كما لا يقتضى القول بالوجوب العقلي للنظر
بوجوب التكليف قبل البعثة في حين أن الوجوب السمعي ينفي وجوب مثل هذا التكليف؛
لأن العقل أساس النقل. والقول بالوجوب العقلي قائم على التسليم بوجود معارفَ
ضروريةٍ في الذهن بصرف النظر عن بعثة الرسل. في حين أن الوجوب السمعي للنظر
ينكر وجود مثل هذه المعارف ويجعل الذهن صفحةً بيضاء قبل بعثة الرسل.
١٨
ويمكن إثبات وجوب النظر عقلًا ببعض الحجج الجدلية التي تعتمد كلها على برهان
الخلف، منها: لو كان النظر باطلًا لما كان واجبًا، والنظر واجب بالفعل. لو كان
النظر باطلًا لما كان كافيًا في معرفة «الله»، والنظر كافٍ في معرفة «الله»
بالعقل والسمع، وهذه حجة تدخل موضوع النظر سابقًا لأوانه وتفترض أنه «الله» مع
أنه لم يثبت بعدُ.
١٩ ولو كان النظر باطلًا لاستحال إثبات ذلك؛ لأن هذا الحكم يحتاج إلى
نظر ومِنْ ثَمَّ واجب بفعل النظر. وهي نفس الحجة التي توجَّه ضد مذهب الشك
اللاأدري. لو كان النظر باطلًا لما استحق غياب النظر العذاب والخوف؛ فالخوف من
ترك النظر دليل على وجوبه. وهي حجة تقترب من النفع والضرر عن طريق البعد النفسي أوَّلًا.
٢٠
ولا ضير أن يكون الحكم على وجوب المعرفة بالعقل حكمًا بالوجوب العقلي؛ فالحكم
العقلي هو نقطة البداية من داخل العلم، والعقل قادر على أن يكون ذاتًا وموضوعًا
في نفس الوقت. ليس الوجوب العقلي استحالة من حيث الحكم أو من حيث المبدأ أو من
حيث إمكانيات العقل. الحسن والقبح العقليان أمران مبدئيان في العقل. لا يحتاج
المكلَّف إلى معرفةٍ مسبقة بحسن الحسن وقبح القبح وإلا تسلسلنا إلى ما لا
نهاية. لا يبدأ المكلف إذن بالبحث أو المصادفة أو الاختيار العشوائي لوجوب
النظر، بل يبدأ ببداهات العقول. ولا مانع من وجوب النظر على المكلف وهو يعلم
بالوجوب؛ وذلك لأن التكليف يقوم على الوجوب العقلي وليس الأمر الإلهي الذي لا
سند له ولا أساس في العقل. وليس ذلك تحصيل حاصل بل تأكيد لأوليات العقل وتأسيس
للوحي. من شرائط التكليف إذن أن يكون هناك أساس للتكليف، والأساس في العقل أو
في الواقع، للفهم أو للنفع، وهو أساس يقيني يقوم على مسلَّمات العقول، وبداهات
الحس، ومعطيات الوجدان. ليس من الضروري أن يرد التكليف بصيغة الأمر، بل يمكن أن
يكون شرط أداء الواجبات، وشرط الواجب واجب. هذا بالإضافة إلى أن الأمر صيغةٌ
لغوية للأمر ذاته الذي قد تكون له صيغٌ أخرى مثل الحث والإيحاء والاستعجاب والدهشة.
٢١
وتتفاوت درجة الوجوب بين الإجمال والتفصيل طبقًا للحاجة، وطبقًا للاستعدادات
الفطرية للإنسان، وطبقًا لاتساع المدارك عند كل فرد ومعرفته بقوانين الحياة.
فالنظر الإجمالي واجب على الجميع لأنه هو الذي يعطي التصور العام للحياة، ويجعل
الإنسان يعيش في هذا العالم ناظرًا ومفكرًا أي واعيًا وداريًا. أمَّا النظر
التفصيلي فقد يتفاوت من فرد إلى فرد، وطبقًا لدرجة التفقُّه والقدرة على النظر،
وحاجة الإنسان إلى البيان. وفي علم أصول الدين المتأخر، في مرحلة التوقف
والركود أصبح الدليل المجمَل دون المفصَّل قائمًا على قصر العقل وحدود المعرفة
الإنسانية وليس على مدى الحاجة إليه. كما تحول الدليل الإجمالي إلى مجرد إيمان
بالنص الديني. فإذا استطاع البعض البحث عن الدليل التفصيلي، فإنه يكفي الجماعة
الدليل الإجمالي. ولكن بزيادة الوعي، ونشر العلم، يمكن لكل فرد أن يقدر على
الدليلَين معًا، الإجمالي والتفصيلي، على حدٍّ سواء. وتمَّحي التفرقة بين فرض
العين وفرض الكفاية، وتصبح الخاصة هي العامة، والعامة هي الخاصة. ويمكن ذلك
بسهولة إذا كان موضوع البحث يخص عامة الناس، وما يعانون منه ليل نهار؛ أي أحوال
معاشهم وليس موضوعًا متعاليًا لا يقدر عليه إلا قلةٌ منعزلة أو مترفة لا صلة
لها بالجماهير وواقعها إن لم تتكسَّب من ورائها وتدَّعي لنفسها العلم، وتعطي
لنفسها حق الأمر، وللجماهير واجب الطاعة.
٢٢
ويعلم كل عاقل وجوب النظر، كما يعلم أن ترك النظر قبح يجب تجنُّبه لما ينشأ
عنه من أضرار ومفاسد. قد يحصل العلم إذن بوجوب النظر عن طريق الاكتساب إذا ما
ترك المكلف النظر مرة فأصابه الضرر، وإذا ما قام به مرةً أخرى فعاد عليه
بالنفع. فيكتسب العلم بوجوب النظر إن لم يعلم وجوبه ضرورة. يقوم وجوب النظر على
تحقيق المصلحة ودفع الضرر، وأي مصلحة في دعوة الناس الآن إلى إبطال النظر؟ إذا
كُنَّا نعاني من غياب النظر وسيادة التقليد، والتسليم بالأمر الواقع، فإن وجوب
النظر يحثُّ الناس على التفكير ويدعوهم إلى رؤية واقعهم والمطالبة بحقوقهم. إذا
غاب النظر ساد التسليم ورسخت التقاليد، وانتشرت الخرافة، وعم الجهل، وقويت شوكة
السلطة فتجبَّرت وطغت. فما أسهل قيادة الجماهير المستسلمة والشعوب المقلِّدة
والجماعات الجاهلة.
٢٣ الوجوب العقلي إذن ليس وجوبًا صوريًّا خالصًا، بل هو أيضًا وجوبٌ
واقعيٌّ مادي؛ تحقيق المصلحة والفائدة للناظر؛ إذ لا تستقيم الحياة بدون نظر.
ومن لا يشعر بفائدة النظر يكون عديم الشعور والإحساس. فائدة النظر فائدةٌ فعلية
وليست متوهمة. إن كل من يتوهَّم ضررًا من النظر وفائدة من منعه يكون خاطئًا
ظانًّا أو متعمدًا. إن منع النظر يعني أن الأبله والمجنون والصبي والغبي أفضل
حالًا من العاقل الفاهم المستنير المدرك. وما أحلى عند السلطة القاهرة أو
الشعوب الغافلة من نعيم الجهل وجحيم المعرفة! لا ينشأ الضرر من الخوف من العقاب
في عالمٍ آخر بترك النظر، بل مما يلحق الإنسان في حياته الدنيوية من أخطارٍ
ناجمة عن غياب النظر مثل تسلُّط الآخر عليه ووضع الوصايا على الجماعة وتسييره
كالأنعام. الخطر هو فقدان الحرية وضياع الشخصية المستقلة. إن رفض مقياس المصلحة
والمفسدة ضياع للأساس الموضوعي للوحي ولعلة وجود الشرع، وأن تصور ضرورة البعثة
على غير أساس المصلحة هو جعل البعثة مجرد عطاء لا أساس له ولا غاية، مجرد عبث
يسهل بعد ذلك اجتزازه، وتبقى مصالح الناس بلا أساس.
والسؤال الآن: أي المواقف أصلح للبلاد النامية؟ الوجوب السمعي بشرط العقل أم
الوجوب العقلي للنظر وحده دون سائر الأحكام أم الوجوب العقلي على الإطلاق؟
٢٤
إن ثبوت الأحكام كلها بالشرع، ولكن بشرط العقل؛ يجعل دور العقل هذا هو فهم
الشرع وتفسيره أو تبريره والدفاع عنه دون أن يكون هو المشرع والمنظر والموجب.
وإذا كانت البلاد النامية تعاني من وظيفة العقل في التبرير والدفاع عن شيءٍ آخر
يتم التسليم به عن طريق السلطتين الدينية والسياسية، فإن هذا الموقف الأوَّل
يكون تثبيتًا للوضع القائم في البلاد النامية، وهو جعل العقل تابعًا لا
متبوعًا، وفرعًا لا أصلًا.
٢٥ وثبوت النظر وحده دون سائر الأحكام بالفعل موقفٌ نسبي يريد إثبات
النظر كحقيقة أولى وترك باقي الأحكام كمسلَّمات يمكن للنظر فهمها وتفسيرها، أي
تبريرها والدفاع عنها. قد يكون الهدف من هذه الازدواجية استقلال النظر ووجوبه
حتى يحدث أثره المرحلي، ثم تأتي أجيال أخرى فتجعل باقي الأحكام واجبة بالنظر
بعد أن تكون الجماعة قد تعوَّدت عليه. وبالتالي يتحول الإصلاح إلى نهضة،
والنهضة إلى ثورة، وهو المنهج الإصلاحي في التغيير.
٢٦ أمَّا وجوب الأحكام كلها بالعقل بما في ذلك النظر، فإن من شأنه
إحداث يقظة في البلاد النامية، وثورةٍ فكرية تحدث هزة في النفوس، وتدفع
بالجماعة إلى الطفرة، والانتقال من التقليد إلى النظر. ولما كانت مجتمعاتنا
تُغلِّب الشرع على العقل نظرًا لسيادة الأشعرية منذ القرن الخامس وازدواجه
بالتصوف حتى الآن، كان البديل العقلي يكاد يكون معدومًا؛ فالقول بالوجوب العقلي
إذن إيقاظ للجماهير ورد فعل طبيعي على سيادة الوجوب الشرعي، في حين أن الموقف
الإصلاحي الوسط لا يحدث نفس الأثر الفوري في الجماعة؛ لأنه يخدم الوضع القائم
باستثناءات الأحكام من النظر، كما يخدم التغيير في المستقبل بجعله النظر واجبًا
عقلًا. أمَّا الانحياز إلى الوجوب العقلي فما هو إلا رد فعل على الانحياز إلى
الوجوب الشرعي. ولا يغير من الانحياز إلا الانحياز المقابل حتى يحدث التوازن في
الأجيال القادمة. أمَّا الحلول الوسط في المواقف التي تستدعي انحيازًا، فإنها
تنفصل إلى طرفين؛ إذ يجذب كل طرف الوسط لصالحه. ولا وجود للوسط إلا بعد أن
يتحقق الطرفان في الجماعة كفعل وكرد فعل، ثم يأتي الوسط وقد أثبت كلٌّ من
الطرفين وجوده.
٢٧
وتتحول نظرية الوجوب إلى نظرية في التكليف. فالإنسان لا يقوم بالنظر فقط
بالوجوب العقلي، ولكنه مكلَّف به بالتكليف الشرعي. النظر جزء من التكليف،
والتكليف هنا معرفيٌّ خالص؛ أي النظر المؤدي إلى المعرفة أو النظر المؤدي إلى
العلم. إذا حصل العلم بالمنظور؛ وهنا تبدو نظرية العلم كنظرية في التكليف. وجوب
النظر يجعله تكليفًا لأن الوجوب تكليف أي التزام. النظر واجب أي تكليف مثل
الصلاة والصيام. وإن حصر الواجب أي التكليف في الصلاة والصوم هو أخذ جزء من
الواجبات الشرعية، وهو الأسهل، وترك جزءٍ آخر منها، وهو الأصعب. وهو ما تحاول
السلطتان الدينية والسياسية التركيز عليه في المجتمع المتخلف. يقوم أداء
الواجبات الشرعية على الطاعة ويؤدي إليها، في حين يقوم واجب النظر والتكليف به
على الوعي ويؤدي إليه. وإذا ما وعى الناس فكَّروا في أوضاعهم الاجتماعية
والسياسية، وشعروا بمدى القهر الذين هم واقعون تحته.
ويتضمن التكليف جهدًا ومشقةً، ومِنْ ثَمَّ فهو عمل عقل وإرادة معًا، عقل
للفهم والامتثال وإرادة للعمل والالتزام. والنظر أيضًا به جهد ومشقة. فهو
معاناة للفكر، ومقاومة للتقاليد الموروثة، ودفع للشُّبه، وترك للشكوك، ودفع
للظنون والأوهام، وابتعاد عن الجهل، وسعي وراء العلم.
٢٨ التكليف علم وعمل، والعلم أساس التكليف، والتكليف قائم على العلم.
وهذا لا يعني أن العلم لا يحدث أثناء العمل، وهو العلم عن طريق الممارسة، من
خلال تجارب المحاولة والخطأ؛ فالعلم النظري الأوَّل الذي يقوم على يقينٍ صوري
علمٌ عملي يقوم على يقينٍ عملي. التوحيد أساسٌ نظري للسلوك، وهو المبدأ الذي
على أساسه تقوم وحدة الذات بين الداخل والخارج، ووحدة الجماعة بلا تمايزٍ طبقي،
ووحدة الإنسانية بلا تفرقةٍ عنصرية. يمثل التوحيد مجموعة من القيم، يعمل الفرد
والجماعة على تحقيقها.
٢٩ التوحيد بين العلم والعمل؛ أي بين وجوب النظر والتكليف بالنظر، هو
تحقيق لهذا العلم وتحويله إلى أثر في الحياة، وهو ما سماه القدماء الثواب. وهو
أيضًا سبيل التعلم؛ إذ يتعلم الإنسان من العمل قدر تعلُّمه من النظر، ويعمل في
النظر قدر عمله في العمل. وهو أيضًا تبليغ للعلم ونشر له، ليس فقط عن طريق
الكلام سماعًا، بل أيضًا عن طريق العمل رؤية. تحب الجماهير أن تسمع وترى، وتنصت
وتشاهد. والعلم الذي لا يتحقق يدخل من أذن ويخرج من الأذن الأُخرى.
٣٠
والمكلف هو البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة؛ احترازًا عن الصبي والمجنون ومن
لم تبلغه الدعوة من أهل الفترة؛ أي الذين لم يلحقوا بالنبي الأوَّل أو الثاني.
لا فرق في ذلك بين ذكر أو أنثى، بين غني أو فقير، بين رئيس أو مرءوس، حاكم أو
محكوم؛ يعم التكليف إذن كل إنسان على هذه الأرض، أمَّا أصحاب المعارف الضرورية،
فإن معرفة «الله» لديهم ضرورية لا يحتاجون فيها إلى نظر. وهذا لا يمنع من أن
استدلال الأنبياء وحوارهم مع غيرهم من أجل إثبات المعرفة ودحض الجهل.
٣١
أمَّا الذي اخترمته المنية أثناء النظر فقد حكم عليه القدماء بالعصيان في حين
أنه قصد إلى النظر، ونوى البحث، وسعى إلى المعرفة، والأعمال بالنيات. لا يهم
الوصول إلى المعرفة بقدر ما يهم السعي إليها. فلو كان صادق العزم وحسن النية في
البحث والنظر، وكان النظر هو أول الواجبات، فإنه يكون مؤمنًا. فإن امتد به
العمر ووصل إلى المعرفة، فقد اجتهد وأصاب؛ فهو مؤمن وإن لم يصل، فإن يكن قد
اجتهد وأخطأ يكن أيضًا مؤمنًا؛ العبرة بالاجتهاد، هذا بالإضافة إلى أن الذي
اخترمته المنية لم يعد موضوعًا للتساؤل لأن الأحياء هم المكلفون بالنظر، والحال
أولى من المآل، وإيقاظ الأحياء أولى من إحياء الأموات.
٣٢
ولما كان النظر تكليفًا، فإنه يأخذ بأحكام التكليف من ثواب وعقاب. النظر به
مشقة، وكل عمل فيه مشقة يقع تحت قانون الاستحقاق. ولا يعني وقوع النظر بطريقة
التجريب من خلال المحاولة والخطأ نفي قانون الاستحقاق. النظر بطبيعته ليس شيئًا
يوجد أو لا يوجد، بل هو قصد للنظر ثم إعمال للنظر بأفعال الشعور. النظر عملية
نظر وليس واقعة نظر، عملية تقوم على أفعال الشعور من شك وظن ويقين ومطابقة
وإيضاح وبداهة … إلخ. وينطبق قانون الاستحقاق دائمًا طالما أن النظر فعل أو ترك
قائم. إذا وُجد السبب وُجد المسبَّب. لا ينطبق قانون الاستحقاق على أول النظر
فقط سواء أكان قصدًا أم فعلًا؛ نظرًا لوجوب استمرارية الأفعال، وإلا كانت
الأفعال مجرد بدايات أفعال أولى لا تستمر ولا تنتهي إلى شيء. وذلك لأن الأفعال
للتكرار كما قال علماء أصول الفقه. قد يعني الثواب والعقاب مجرد الكمال
الإنساني، فالنظر يؤدي إلى الكمال، وغيابه يؤدي إلى النقص. ليس الدافع على
الوجوب إذن الذم أو المدح أو الثواب والعقاب، بل هو عمل العقل ذاته وما يحققه
من كمالٍ إنساني بالإضافة إلى ما ينتج عنه من تحقيق للمصلحة العامة. ثواب النظر
هو الحياة التي يسودها العقل، وعقابه هي الحياة التي يسودها التخبُّط والضياع.
٣٣
(٣) أول الواجبات
إذا كان النظر واجبًا سمعًا أو عقلًا، فهل النظر أول الواجبات؟ تتراوح
الإجابة بين مقدمات النظر وحركة النظر ونتائج النظر؛ أي ما يأتي قبل النظر، وما
يقع مع النظر، وما يحدث بعد النظر ابتداءً من أفعال الشعور الداخلية إلى عمل
العقل ثم إلى أفعال الشعور الخارجية، وابتداءً من الخارج إلى الداخل. يبدو
النظر وكأنه الحلقة المتوسطة بين أفعال الشعور الخارجية كالعمل والقول حتى
أفعال الشعور الداخلية كالاعتقاد والخاطر والدافع والقصد.
ليس أول الواجبات وظيفة الوقت كصلاة ضاق وقتها فتُقدم. هذا واجبٌ عملي يسبقه
واجبٌ نظري وهو الإحساس بالزمان. وهذا لا يأتي إلا بالنظر الذي يكشف للإنسان
تحمله للرسالة. تقوم الواجبات العملية على الواجبات النظرية. ولما كان علم أصول
الدين يهدف إلى تأسيس النظر، في حين أن علم أصول الفقه يهدف إلى تأسيس العمل،
فإن جعل وظيفة الوقت الضيق أول الواجبات هو تأسيس العمل قبل تأسيس النظر. أمَّا
إذا كان المقصود هو الشعور الداخلي بالزمان، والشعور بالذات من حيث هي وجود في
الزمان فإننا نتَّجه بالأفعال الخارجية للشعور إلى الأفعال الداخلية، ونكون
أقرب إلى المقدمات مِنَّا إلى النتائج. وإذا كانت مأساتنا في البلاد النامية
عدم الإحساس بقيمة الزمان وعدم إحساسنا بالتاريخ، وضياعنا للحاضر في سبيل
الماضي العريق أو المستقبل البعيد في الدنيا أو خارجها قد يكون في اعتبار
الإحساس بالوقت الضيق كأول الواجبات نفع وصلاح. ويكون في هذه الحالة مقدمة
للنظر، وشرطًا للمعرفة. وإذا كان المقصود بالصلاة هو الإتيان بفعل الوقت، وكانت
مأساتنا في تأجيل الأفعال إلى الغد، فإن اعتبار الفعل في الوقت أو وقت الفعل
أول الواجبات فيه أيضًا خير وصلاح لما نحن فيه.
٣٤
ليس أول الواجبات النطق بالشهادتين؛ فالنطق حركة للشفاه وراءها معنًى في
الذهن، وشعور في الوجدان، وتصور للعالم، وفعل في الواقع. حركة الشفاه ما هي إلا
ظاهر لشيءٍ آخرَ خفي هو ما وراءها من معانٍ وتصورات ومتطلبات وبواعث ومقاصد.
ولا يمكن للمكلَّف أن ينطق بالشهادتين دون أن يعي معناهما أو يتمثَّل تصوراتهما
أو يفعل بمقتضاهما أو يتحرك ببواعثهما أو يتجه نحو مقاصدهما وإلا لحوَّلنا
التكليف إلى مجرد حركات باللسان وتمتمات بالشفاه كما هو الحال في هذه الأيام
لدى الحاكم والمحكوم. ليس الإقرار بالشهادتَين أول الواجبات على المكلف؛ فذلك
هو الوضع في علم أصول الفقه وهذا هو موقف الفقهاء. أمَّا في علم أصول الدين،
فأول الواجبات هو النظر لأن النطق بالشهادتَين ينبني على معرفة «الله» والتسليم
بوجوده والإيمان بالرسول — بعد تأسيس نظرية العلم — وذلك لا يتم إلا بعد حدوث
تحول في الشعور واعتقاد بالنظر. وإذا كُنَّا نعاني في حياتنا المعاصرة من كثرة
التمتمات، وحركات اللسان والشفاه دون أن نعي ما نقول أو نحقق متطلباته؛ فإن جعل
النطق بالشهادتَين أول الواجبات لا يؤدي إلى نفع أو صلاح، بل يثبت الأمر الواقع
ويشرع لما هو موجود. فإذا كان الجواب الأوَّل عن أول الواجبات عملًا فإن الجواب
الثاني قول. وكثيرًا ما صاحت حركتنا الإصلاحية الأخيرة: «ما أكثر القول وأقل العمل!»
٣٥
ليس أول الواجبات هو الإيمان؛ لأن الإيمان وضعٌ داخلي للشعور يقوم على أساس
النظر في موضوع الإيمان. النظر سابق على الإيمان، بل إن علم أصول الدين كله
يهدف إلى تأسيس الإيمان على النظر. وإذا كُنَّا في مجتمعات مؤمنة، تعطي
الأولوية للإيمان على النظر، فإن اعتبار الإيمان أول الواجبات يثبت الأمر
الواقع، ولا يحقق أي نفع أو صلاح. وقد تم اختيار الإيمان أول الواجبات في
القرون الأخيرة في فترات التخلف والتوقف والانهيار كدعوةٍ صريحة إلى التسليم
وإغفال النظر كمقدمة إلى التسليم للسلطة السياسية وإسقاط المعارضة. بل إن مضمون
الإيمان مضمونٌ غيبي خالص حتى يقضي على أية فرصة للنظر والتصديق والتحقق في
الواقع من صحة هذا المضمون، والتسليم الخالص دون مراجعة أو بيان أو حتى طلب
دليل أو برهان. ولو ظهر فإنه يكون مقدمة للتسليم، وليس مراجعة له، وبابًا يدخل
منه الإيمان، وليس وسيلة للتحقق من صدقه.
ليس أول الواجبات هو الإسلام؛ لأن المكلف لا يؤمن بالإسلام إلا بعد النظر
وتدبر وإعمال للعقل والروية، وإلا كان إسلامًا عن طريق العادة والتقليد. يتطلب
الإسلام المعرفة به؛ فالمعرفة سابقة على الإسلام، والمعرفة لا تتم إلا بالنظر؛
فالنظر سابق على المعرفة. وإذا كُنَّا نعيش في عصر يغلب على الجميع فيه الإسلام
عن طريق العادة أو التقليد، فإن جعْلَ الإسلام أول الواجبات تثبيت للوضع القائم
على ما هو عليه دون تغييره إلى ما هو أفضل.
ليس التقليد هو أول الواجبات، فالتقليد من مضادات العلم وليس من طرقه. ولما
كان النظر طريق العلم كان أول الواجبات. بل إن النظر يأتي دائمًا معارضًا
للتقليد، ونقدًا للموروث، ومراجعة للمُسلَّمات. التقليد اعتقادٌ جازم مطابق لا
عن سبب طبقًا للعادة أو للموروث، وكلاهما خارج النظر؛ لذلك جعل علماء أصول
الدين المقلِّد عاصيًا آثمًا. يستحيل إذن أن يكون التقليد أول الواجبات، بل هو
أول المحرمات؛ لأنه نفي للنظر، والنظر أول الواجبات.
٣٦
ليس الاختيار بين التقليد والمعرفة أول الواجبات؛ إذ كيف يتم الاختيار بين
نقيضَين، ويكون كلاهما صحيحين في آنٍ واحد؟ المعرفة ضد التقليد، والتقليد ضد
المعرفة. ولما كان التقليد نفيًا لعلم أصول الدين الذي يهدف إلى تأسيس العلم،
وكان المقلِّد عاصيًا، إنما كانت المعرفة هي الاختيار الأوحد. ولما كانت
المعرفة لا تتم إلا بالنظر كان النظر هو أول الواجبات.
٣٧
ليست المعرفة وحدها أول الواجبات؛ لأن المعرفة لا تتم إلا بالنظر. المعرفة
نتيجة للنظر والنظر مقدمة لها. ولا تعني المعرفة بالضرورة معرفة موضوعٍ معين،
متعالٍ على وجه الخصوص، بل مجرد إمكانية العلم والوصول إليه. هذه الإمكانية
التي لا تحدث إلا بالنظر. وإن افتراض المعرفة قبل النظر ثم افتراض المعرفة
بموضوع متعالٍ سبق للنظر مرتَين، وبالتالي وقوع في حكمَين مسبقَين لا يفترضهما
النظر. وأحيانًا تصبح المعرفة هي العلم، ويكون ذلك حكمًا مسبقًا ثالثًا. ليست
كل معرفة بالضرورة علمًا؛ وعلى هذا النحو يختلط موضوع النظر بموضوع المعرفة كما
يختلط موضوع المعرفة بموضوع العلم. وقد جعل القدماء «معرفة الله» أصل المعارف
الدينية، فمنها يتفرع كل وجوب. ولكن «معرفة الله» أصل المعارف الدينية، فمنها
يتفرَّع كل وجوب. ولكن «معرفة الله» مرحلة تالية لبناء المعرفة ذاتها، وهذه
مرحلةٌ تالية لبناء نظرية العلم، وهذه مرحلةٌ تالية لتأسيس النظر كطريق للعلم.
قد تكون «معرفة الله» خارج نطاق نظرية العلم وإمكانياتها، وبالتالي لا يكون
النظر طريقًا إليها.
٣٨ «الله» موضوعٌ مفارق لا يمكن تصوُّره أو إصدار حكم عليه كما قال
المهندسون في الإلهيات.
٣٩ ولكن مطلق المعرفة واجب أو المعرفة بالموضوعات الحسية؛ معرفة
النفس، ومعرفة الآخرين، ومعرفة الأشياء، ومعرفة الأوضاع الاجتماعية والسياسية،
ومعرفة حركة التاريخ ومساره. يحدث خلط إذن بين وجوب النظر ووجوب «معرفة الله».
فالسؤال يتعلق بوجوب النظر كطريق للعلم وليس بموضوع النظر كموضوع للعلم. وعندما
يتحول موضوع وجوب النظر إلى وجوب «معرفة الله»، فإنه يدخل في موضوعٍ لاحق على
تأسيس نظرية العلم وهو موضوع «العقل والنقل». وفي هذه الحالة يجعل الوجوب
العقلي معرفة الله واجبة بالعقل؛ فالعقل أساس النقل أو يجعل الوجوب السمعي
معرفة الله واجبة بالسمع، فالنقل أساس العقل.
٤٠ إن الحديث عن وجوب النظر قد يكون نفسه حديثًا في وجوب المعرفة، في
حين أن النظر شيء والمعرفة شيءٌ آخر. والمعرفة هي النهاية. النظر هو المنهج
والمعرفة هي الموضوع، النظر هو المقدمة والمعرفة هي النتيجة. لا يهم في الوجوب
العقلي للنظر وجوب موضوعٍ معين، سواء كان ماديًّا أم صوريًّا، بل الوجوب العقلي
ذاته من حيث هو نظر وتحليل وفهم وإدراك؛ أي من حيث الذات العاقلة. بعد ذلك يمكن
إدراك مقدمات النظر ونتائجه وطرق الاستدلال كما يمكن إدراك بداية الموضوع
ومساره ونهايته. وأحيانًا تتجه المعرفة نحو الدليل أكثر مما تتجه نحو الموضوع
من أجل إظهار المعرفة البرهانية عن طريق الدليل الإجمالي. كما تتجه أيضًا نحو
الوقت المضيق، فتكون المعرفة مطلوبة في الحال وليس في المآل، على الفور وليس
على التراخي. والواجب المضيق هو الخاص الضروري الذي لا بديل عنه، بعكس الواجب
الموسع الذي يمكن تأجيله وإيجاد بدائل له. المعرفة إذن، بصرف النظر عن مضمونها،
واجب مضيق لا بديل عنها؛ لأنه يقبح تركها. ولما وجب بالعقل ضرورة التحرز من
القبيح، فإنه لا يمكن التحرز منه إلا بالنظر. ولا نخشى على هذه المعرفة الفورية
من أن تتحول إلى حدس أو إلهام أو رؤية؛ وبالتالي لا يضيع النظر.
٤١
النظر إذن هو أول الواجبات؛ لأن موضوع المعرفة لا يُعرف ضرورة أو مشاهدة، بل
بالنظر الذي تكون الضرورة والمشاهدة إحدى مراحله. ونظرًا لأن سائر الشرائع
النظرية لا تُعرف إلا بعده، وأن هذه المعرفة لا تتم إلا بالنظر، فإن سائر
الواجبات يمكن أن تتأخر بعد النظر. أمَّا وجوب النظر فمقدَّم عليها جميعًا.
٤٢ النظر أول الواجبات بشرط التكليف وهو العقل، فيخرج الصبي والمجنون.
٤٣
وقد يسبق النظر القصد إلى النظر أو إرادة النظر أو اعتقاد النظر. أول النظر
ومقدمته الأولى القصد إليه أو الإرادة له أو الوعي به أو الإحساس بالموقف
والحاجة إليه، وهنا تبدو نظرية العلم كنظرية في القصد والاتجاه نحو الوضوح وهو
النظر. وقد اعتبر البعض القصد إلى النظر تكليف ما لا يُطاق؛ إذ يجب النظر وقد
يُعاق القصد إليه. والحقيقة أنه ليس تكليفًا بما لا يُطاق؛ لأن أي فعل من أفعال
الشعور ما هو إلا قصد، ولا يمكن وجوب النظر دون القصد إليه. القصد مقدمة النظر
وشرطه؛ لأن النظر في نهاية الأمر عمل العقل، والعقل صورة من صور الشعور. لا
يمكن أن يكون النظر مجرد الفعل؛ فالنظر عمل الشعور، ولا يتم مصادفة بل بوعي
بالموقف وبإحساس بضرورة الحاجة إليه. يحدث النظر بعد درجة من الوعي ثم يزيد
الوعي ويجعله أكثر برهانًا. وذلك ليس تكليفًا بما لا يُطاق. القصد إلى شيء هو
الذي يكشف أهمية النظر؛ فالنظر لا يكون إلا نظر الشيء.
٤٤
وقد يسبق النظر أو يحدث معه البحث في مقدمات النظر، وهو أول جزء في النظر. قد
يكون هو الدليل أو العقل أو عمل العقل. وقد يكون هو النظر في وجوب النظر، فيكون
النظر سابقًا على النظر؛ إذ يسبق الأنا أفكر عملية الفكر. ولكن هذا السبق ليس
أوليًّا مثل القصد إلى النظر، بل هو تابع للقصد، ويكون جزءًا من عملية النظر،
وهو الخاص بالاستدلال مع العلم بأن النظر واجب أوَّلي لا يسبقه واجبٌ نظريٌّ
آخر. المعارف الضرورية هي بداية النظر. وقد يضم النظر والمعرفة والقصد معًا في
محاولة لوصف النظر في كل مراحله؛ مما يدل على أن النظر ليس مقصورًا على مقدماته
أو على مساره أو على نتائجه، بل عمليةٌ واحدة تشمل الحس والوجدان والشعور
والواقع؛ وبالتالي يكون الخلاف لفظيًّا في أن كل رأي يصف عملية النظر ككل بأحد
أجزائها، ويطلق عليه لفظ مثل المعرفة والنظر والقصد والإرادة والاعتقاد.
٤٥
وقد يكون الخوف من ترك النظر هو أول الواجبات؛ نظرًا لما ينتج من ترك النظر
من مضار. والخوف لا ينشأ إلا بعد إدراك أهمية النظر وقيمته، وقد ينشأ بعد
النظر، بعد التحقق من فائدته. كما أن النظر لا ينبني على الخوف ضرورةً بل هو
تعبير عن طبيعة الإنسان وكماله من حيث هو موجودٌ عاقل، وتعبير عن وجود الدواعي
والمقاصد والغايات.
٤٦
وقد يسبق النظر الشك، وبالتالي يكون الشك أول الواجبات. صحيح أن الشك من
مضادات العلم، ولكنه في هذه الحالة يكون الشك اللاأدري الذي ينكر وجود الحقائق،
أو الشك العنادي الذي يؤمن بوجودها ولكن يعاند في التسليم بها وفي إمكانية
معرفتها، أو الشك العندي الذي يؤمن بوجود الحقائق وإمكانية معرفتها ولكن يجعلها
نسبية. هذا الشك شكٌّ مذهبي يجعل الشك غاية في ذاتها.
٤٧ أمَّا الشك هنا باعتباره بداية للنظر، فإنه يعني تطهير الذهن من
الموروث حتى يمكن النظر ابتداءً من أوليات العقل وبداهة الحس. فهو شكٌّ منهجي
يجعل الشك وسيلة لا غاية. الشك هو الدافع على النظر والهادم للتقليد. لا يمكن
النظر مع الجزم؛ لأن الجزم نافٍ للنظر ومستغنٍ عنه. يتوجه الشك أساسًا ضد الجزم
من أجل القضاء على القطيعة التي لا تقوم على أساس؛ حتى يمكن للنظر حينئذٍ أن
يعيد تأسيس المعرفة وبناء العلم. يحتاج النظر إذن، وهو خطوة إلى الأمام، إلى
الشك، وهو خطوة إلى الخلف. وظيفة الشك هنا التخفيف من حدة الموروث، والإقلال من
ضغط قوالبه الذهنية التي قد تمنع سيطرتها من النظر ومن البحث الحر. الشك متضمن
في النظر، فلا ينظر الإنسان إلا إذا كان فاحصًا وباحثًا وغير مسلِّم بالأفكار
المسبقة. الشك في القديم الموروث إذن، وفيما جرت عليه العادة والعرف أولى مهام
النظر. ولا يُقال إن الشك غير مقدور؛ لأن الشك هو البداية الطبيعية للنظر،
وبداية الانتقال من القديم إلى الجديد. لا يتم النظر إلا في وضعٍ اجتماعي، ولا
يتحقق إلا في مرحلةٍ تاريخية؛ أي إنه نظر في الزمان وبالتالي يكون مقدورًا
للناظر بل وباعثًا له على النظر. الشك نظرٌ مقلوب أو نظر إلى الوراء أو نظرٌ
نافٍ أو تحرر للنظر من الأحكام المسبقة والعقائد الموروثة. ولا يعني إيجاب الشك
نفي إيجاب النظر من حيث هو قوة للرفض. ليس الشك قبيحًا؛ لأن الناظر لا يعلم
صحته، فالشك منهج وليس موضوعًا، وسيلة لا غاية، بداية وليس نهاية. ويقبح فقط
إذا انقلب إلى موضوع وغاية ونهاية، وتحول من نظر إلى علم. يحدث الشك في البداية
كمقدمة للنظر، والنظر طريق العلم، فالشك إذن طريق للعلم. وإذا ظل الشك بداية
ونهاية، فإنه يكون قبيحًا مضادًّا للعلم.
٤٨
فإذا كان القصد إلى النظر أو الشك سابقًا على النظر، فإن الخواطر توجد مع
النظر. وقد توسع المعتزلة وحدهم في موضوع الخواطر لأنهم هم الذين يوجبون النظر
عقلًا، ويصفون مسار النظر ابتداءً من القصد إلى النظر حتى توليد النظر للعلم.
والخاطر هي البارقة التي تظهر في الشعور. يستطيع الإنسان بها أن يُدرك الدلالة
إدراكًا مباشرًا، وقد يكون مجرد فرضٍ علمي يحتاج إلى برهان أو نظرية جزئية في
حاجة إلى نظرة أعم وأشمل. الشعور موطن الخواطر، يعطي البرقات، وهذه تتوالد في
الشعور تلقائيًّا؛ نظرًا لطبيعة الشعور المعطي الواهب. ويرجع إنكار الخواطر إلى
رد هذه الدلالات إلى كمال العقل وطبيعة عمله، وليس إلى خلق الشعور المستمر
وعمله المتجدد. وبصرف النظر عن إثبات الخاطر أو كمال العقل، فإن الناظر تَردُ
عليه الخواطر وهي الدلالات التي يتم رؤيتها. شعور الناظر في حركةٍ دائبة وبحثٍ
مستمر عن الحقيقة، وهذه الحركة تجعل شعوره خالقًا لدلالات وواضعًا لمعانٍ في
مقابل النافي للنظر الذي يتحجَّر شعوره ويصبح مصمتًا بليدًا، غافلًا راكدًا.
ولا يُقال إن الخواطر والدواعي غير ضرورية ما دام الإنسان يعرف أحواله بنفسه؛
لأن معرفة أحوال النفس لا تتم إلا بالخواطر والدواعي.
٤٩ يرد الخاطر على النفس بأفعال الشعور الداخلية وليس من أفعالٍ
خارجية أو من إراداتٍ مشخَّصةٍ متعددة أو واحدة. الشعور بطبيعته وهَّاب
للمعاني. لا يأتي الخاطر من «الله» لأن الخواطر ظنون وافتراضات تتحول إلى
براهين فيما بعدُ، و«الله» لا يوحي بظنون طبقًا لهذا الافتراض الذي لم يدخل
بعدُ في نظرية العلم تحت التأسيس. الخاطر معنًى غامض وخفي وإلا كان معرفة
بديهية، اضطرارًا أو استدلالًا.
وقد يكون الخاطر اعتقادًا أو كلامًا؛ فالخاطر برد على النفس من تداعي
الذكريات، ومن حديث النفس الداخلي، ومن حياة الشعور الدائبة. الشعور إدراك
وتذكُّر وتخيُّل بل وتوهُّم. وقد يتم الإدراك داخليًّا وخارجيًّا معًا. كما قد
يرد الخاطر من الكلام مسموعًا أو مقروءًا أو من رؤية إشارة أو تعبير في الوجه
بالعين أو بلون البشرة أو بحركة الجسم. يتم الخاطر هنا بحضور المدرك، ومع أن
الكلام أخص من الخاطر إلا أنه لا يتم فهمه إلا بالخاطر. فالخاطر أيضًا سابق على
الكلام، وشرط فهمه. ولا يمكن فهم الكلام إلا بفهم قصد المتكلم، وهذا لا يتم إلا
بالخاطر. وكون الخاطر كلامًا يعني ارتباطه باللغة. ولكن لا يعني ذلك عدم تعميمه
على العقلاء جميعًا لأنه لا دليل على وجود عقلاء قد جهلوا اللغات. ولا يكفي في
الخاطر أن يكون معنى يرد على النفس أو اعتقاد ظن، بل لا بد أن يكون معبِّرًا
عنه في كلامٍ مسموع أو مقروء. ولا ضير أن يحل الكلام في الجسم، فالكلام لا يكون
محمولًا إلا على جسم، الأُذُن أو اللسان أو الشفاه أو الهواء. ولا يعني الْتباس
الكلام في الفكر، كما هو الحال عند النائم، ألَّا يكون الخاطر كلامًا؛ إذ يمكن
بعد الانتباه التمييز بين الكلام والفكر. فإذا لم يكن الخاطر مجرد ظن أو اعتقاد
ونابع من ذاتيةٍ خالصة، وإذا لم يكن كلامًا حسيًّا ماديًّا لبشر أو لغفير بشر
فإنه يكون معنًى. المعنى هو الجامع بين الذاتية والموضوعية، إمَّا أن يرد على
النفس بفعل من أفعال الشعور أو بفعل من أفعال الجوارح. الأوَّل لا يكون إلا
ظنًّا أو اعتقادًا لأنه مجرد خاطر لم يتحول بعدُ إلى يقين في حين أن التالي
مرئيٌّ محسوس مثل الكلام والكتابة. أمَّا الإشارة فإنها تتوقف على قصد المشير،
وبها حضور المتكلم، وبها الموقف، وبها العلاقات بين الذوات في حين أن الكتابة
مصمتة يغيب فيها الكاتب، وليست موقفًا حيًّا، ولا توجد فيها علاقات بين الذوات.
٥٠ وقد تحوَّلت الخواطر لدينا إلى إلهامات ورؤًى منفصِلة عن النظر
مصدر العلم تحت تأثير التصوف وازدواجه مع الأشعرية، وأصبحت أقرب إلى البرقات
والمكاشفات عند الصوفية.
ولا يرد الخاطر على النفس إلا بشروط، منها: أن يفيد الوجه الذي يدل على وجوب
النظر وحسنه بأن يساعد الشعور على إدراك المعاني وعلى رؤية عالم يحكمه الفكر،
وأن يتضمَّن وجوب المعرفة التي يؤدي إليها النظر؛ فالنظر ليس هدفًا في ذاته، بل
وسيلة للحصول على المعرفة، وأن يتضمن وجه الخوف من ترك النظر ورؤية قبحه، وذلك
بالإشارة إلى الأمارات والعلامات التي تبعث على الخوف، وأن يتضمن ترتيب النظر
حتى يكون منتجًا. وورود الخاطر دون بيان دلالاته يقبح عقلًا؛ لأنه يكون بلا
فائدة. وإذا كان الخاطر من «الله»، فإن حكمته تبين وجه النفع والضرر فيه.
والخاطر من حيث هو تنبيه على الدليل قد يكون عاملًا مرجِّحًا بين احتمالين، وهو
ما يقوم مقام «المعجزة» عند الأشاعرة.
٥١
وهناك شروطٌ أخرى غير واجبة، مثل أن يكون هناك خاطر مقابل ضد الخاطر الأوَّل
حتى لا يكون هناك إلجاء من خاطرٍ واحد. والحقيقة أن الخاطر الواحد لا يلجئ بل
يدفع ويحثُّ. الخواطر لا تتعارض ولا ينفي بعضها بعضًا، بل تجتمع وتتآزر لتؤسس
الفكرة. ولا يأتي الخاطر مستمرًّا بل متقطعًا، ولا يأتي ممن ظهرت «المعجزات»
عليه؛ لأن الخاطر يحدث من كلام أو اعتقاد، وكلاهما من أفعال الشعور. الخاطر
ظنٌّ يتحول إلى يقين بالبرهان بعد النظر، فلا يحتاج إلى يقينٍ خارجي عن طريق
المعجزات. ولا ينتج عن الخاطر معرفة بالضرورة؛ لأنه لا يصبح معرفة إلا بعد النظر.
٥٢
وتدخل مسألة الخاطر أيضًا في حرية الأفعال؛ أفعال الشعور الداخلية نظرًا
لارتباطها بالدواعي. فمرة يكون الخاطر أقرب إلى المنبِّه على الدلالة، ومرة
يكون هو الدافع على النظر فيكون كالدواعي مثل الخوف من ترك النظر؛ لما يترتب
عليه من ضرر يدرك العقل قبحه في حين أن الداعي هو الباعث على النظر. أمَّا
الخاطر فهو ما يرد على الذهن بعد توافر الدواعي التي تتوافر عند العاقل دون
الصبي أو المجنون أو الساهي أو الغافل. ولا تصل قوة الداعي إلى حد الإلجاء وإلا
انتفى النظر. الدواعي هي التي توجه الإنسان وتدفعه نحو إعمال الذهن، الداعي هو
الأمارة التي تنبه الإنسان على ضرورة النظر وتحذر من مضار تركه، ولا يكون
التنبيه إلا عند أمرٍ حادث؛ أي في موقفٍ اجتماعي يكون هو المسبب للدواعي
والخواطر، فيبدأ حديث النفس. وهذا كله يجعل المعرفة ممكنة. فإمكانية المعرفة
تعادل وجود الحوادث والدواعي والتنبيه والخواطر. وذلك كله ينتفي بالسهو
وبالغفلة وبآفات السمع وبفقدان الحواس، ومع ذلك، السهو طارئ، والغفلة عرض،
وآفات السمع لا تقضي على التنبيه. الداعي من النفس، والخاطر حديث النفس،
وكلاهما مرهون بحياة الشعور، كما أن النظر والعلم مرهونان بيقظة الشعور،
٥٣ ولا يقوم الخاطر مقام الداعي أو الداعي مقام الخاطر؛ فلكل منهما
عمله في الشعور. الداعي هو الباعث، والخاطر ما يرد على النفس أو بعد استدلال.
وإن كان الداعي سابقًا على الخاطر، فإن ورود الخاطر بعد الداعي لا يجعله
زائدًا، بل يكون نتيجة طبيعية لوجود الداعي. وإن كان الداعي أقوى حضورًا
فالخاطر أيضًا يكون أقرب إلى النفس والدلالة من مجرد الباعث النفسي. ولا خوف أن
يكون الداعي كاذبًا أو ماجنًا أو هازلًا، وألا يكون مخبرًا بالنفع والضرر؛ لأن
الداعي أمرٌ خطير يمكن التحقق من صدقه بالرجوع إلى الموقف الاجتماعي وليس فقط
إلى صدق المخبر إذا ما كان الداعي خبرًا.
٥٤
والداعي أساس التكليف؛ إذ لا يوجد تكليف بلا داعٍ. ولما كان النظر تكليفًا،
فإنه يقوم على الدواعي، وهي أشبه بالعلم الضروري الذي يحدث في الشعور؛ إذ إنها
مثل الباعث العاقل، يدفع الإنسان إلى أفعال الحسن ويصرفه عن أفعال القبح. وقد
يكون أيضًا استدلاليًّا بوقوع نوع من حديث النفس الباطني ومقارنة الدوافع
والصوارف. ولكن الغالب عليه أن يكون ضرورةً وإلجاءً. ويختلف في ذلك فرد عن آخر
دون أن ينال هذا الاختلاف من وجود الداعي وما نلجأ إليه من وجوب النظر.
٥٥ قد يكون الداعي إذن للفعل أو الترك، للإقدام أو الإحجام، والذي
يحدد ذلك حال الشعور صفة في الشيء. ولا يعني وقوع الأفعال عن الدواعي وقوع
القبيح ابتداءً؛ لأن الدواعي مجرد البواعث على الأفعال بعدها تحدث الخواطر ثم
يأتي النظر من أجل التحقُّق من صدقها. الداعي هو الباعث وليس صفة الحسن والقبح
في شيء. ولا يعني انتفاء الثواب والعقاب على الصغائر انتفاء قبحها وإلا كان
هناك داعٍ لفعلها وإغراء عليها.
٥٦ وعلى هذا النحو يتحول موضوع النظر كأول الواجبات إلى مقدمة للفعل
وأساسٍ نظري للسلوك من خلال الخواطر والبواعث والدواعي. فالنظر متَّجه بطبيعته
نحو العمل، والداخل مفتوح على الخارج؛ مما يجعل النظر يتحوَّل بسهولة إلى موضوع
النظر معلنًا عن قرب نهاية نظرية العلم وبداية نظرية الوجود كموضوع للعلم.
٥٧