بلغت أهمية موضوع «الكلام» الإلهي درجة
أنه أصبح الموضوع الأوَّل للعلم، ولكون صفة الكلام من أكثر الصفات المتنازَع عليها.
١ والحقيقة أن اعتبار «الكلام» موضوعًا للعلم تجاوز عن موضوع العلم
ذاته، فالكلام أحد موضوعات العلم وليس موضوعه الأوحد، ولا يمكن أخذ أحد أجزائه
واعتباره موضوع العلم كله وهو التوحيد أو العقائد أو الدين، كما أن «الكلام»
ذاته موضوع جزئي من موضوع أشمل وأعم وهو موضوع الصفات، فهو الصفة السادسة من
صفات الذات السبع (العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الكلام، الإرادة)،
أمَّا السؤال الذي من أجله تطايرت الرقاب وقُضيَ على الحريات، وقاسى المفكرون
بسببه أشنع أنواع الاضطهاد وهو: هل الكلام قديم أم حادث؟ فإنه ينطبق على سائر
الصفات. لم يحدث النزاع في الكلام فقط حتى يكون الكلام هو موضوع العلم بل حدث
أيضًا في الصفات وفي الأفعال، بل وفي الإلهيات وفي السمعيات كلها بابي العلم
الرئيسيين، كما وصل الخلاف إلى حد القتال وشق الأمة إلى فرق متنازعة متحاربة في
موضوع الإمامة، آخر موضوع في السمعيات؛ فاعتبار «الكلام» موضوعًا للعلم ليس
بأولى من اعتبار الموضوعات الأخرى من موضوعات العلم كذلك؛ فهي ليست أقل أهمية
سواء من الناحية النظرية أو من الناحية العملية.
٢
ويحتوي «الكلام» على التباس: هل هو صفة الله، قديمة أم حادثة، أم هو كلام
الله الذي أوحى به إلى الرسول، وهو القرآن الكريم؟ والأول لا علم لنا به إلا من
خلال الثاني، وبالتالي يكون الوحي من حيث هو كلام أي قرآن هو موضوع العلم كما
هو الحال في العلوم الإسلامية الأخرى، خاصةً علوم القرآن والتفسير، أو حتى
العلوم النقلية العقلية مثل علم أصول الفقه وعلوم الحكمة أو علوم التصوف أو
العلوم الإنسانية مثل علوم اللغة والأدب، علم الكلام إذن هو علم «وضعي» يدرس ما
هو كائن، وهو القرآن، كتاب محسوس وملموس، ويخرج من هذا الالتباس الأوَّل التباس
ثانٍ، وهو أن هذا الكلام هل هو «كلام الله» باعتباره مصدر الوحي أو «كلام
الإنسان» باعتباره متلقِّي الوحي وقارئه بصوته، فاهمه بعقله، مدركه بتجربته،
محققه بإرادته؟ الكلام الأوَّل لا يمكن معرفته معرفة مباشرة إلا من خلال الكلام
الثاني؛ وبالتالي يكون «كلام الإنسان» حديثًا عن «كلام الله» في عقله وقلبه
وبلسانه وصوته، يكون حديثًا عن
الله
Discours sur Dieu وليس حديثًا من
الله
Discours de Dieu، وفي هذه الحالة يمكن للكلام باعتباره الوحي الموجود
أمامنا المقروء بصوتنا، المتلو بلساننا، المكتوب بأيدينا، المرئي بأعيننا،
المحفوظ في صدورنا، المفهوم بعقولنا والمؤثر في حياتنا، وليس الكلام كصفة لذات
مشخصة بل كموضوع موجود بالفعل في وحي؛ أي في معطى تاريخي مدون وملموس، محدود
ومتعين — يمكن لهذا الكلام أن يكون موضوعًا للعلم بل لعدة علوم منها: علم النقد
التاريخي، وهو العلم الذي يدرس صحة الكلام في التاريخ، طرق ضبطه، ووسائل نقله،
شفاهيًّا كما حدث في علم الحديث أو كتابةً كما حدث في علوم القرآن.
٣ علم القراءات واللهجات، وهو العلم الذي يدرس كيفية قراءة القرآن
وضمان عدم وقوع اللحن فيه، وهو ما قد يكون أولى مراحل التحريف عمدًا أو عن غير عمد.
٤ علوم اللغة من أجل ضبط الكلام ومعرفة التركيب اللغوي لعبارات الوحي
حتى يمكن فهم معناه؛ فاللغة أحد وسائل الفهم، وإليها تنضم علوم البلاغة
للتعرُّف على النواحي الجمالية في أسلوب الوحي وتعبيراته، صوره وخيالاته.
٥ علوم التفسير، وهي العلوم التي تحاول فهم النصوص والعثور على
المعاني، إمَّا بالرجوع إلى اللغة أو إلى أسباب النزول أو إلى حوادث التاريخ أو
إلى تاريخ الأديان والعقائد السابقة … إلخ؛ لذلك تكون التفسيرات لغوية أو
أخلاقية أو فقهية أو فلسفية أو عقائدية أو صوفية أو تاريخية أو علمية أو أدبية
أو اجتماعية، كل ذلك يتوقَّف على غاية المفسر ومنهجه واحتياجات عصره.
٦ وإذا كان القدماء قد قاموا قدر طاقتهم وطبقًا لظروفهم بجعل
«الكلام» موضوعًا للعلوم القديمة المرتبطة باللغة، فإننا قد نكون أقدرَ على
جعله موضوعًا للعلوم الإنسانية الحديثة، فباستطاعة علم النفس البحث عن الأسس
النفسية التي يقوم عليها الكلام، صياغةً أو فهمًا أو تأثيرًا في سلوك الأفراد
والجماعات، ويمكن لعلم الاجتماع البحث عن الأسس الاجتماعية التي عليها قام «علم
الكلام» ومعرفة الظروف الاجتماعية التي كانت وراء نشأته كما هو معروف في «علم
اجتماع المعرفة»،
٧ ويمكن لعلم السياسة البحث عن نشأة علم الكلام في ظروف سياسية خاصة،
واستعمال الوحي لإفراز إمَّا تراث للسلطة أو تراث للمعارضة كما هو واضح في
أدبيات الفرق، ومدى استمرار ذلك حتى الآن في علاقة السلطة بالمعارضة واعتماد كل
منهما، خاصةً السلطة، على الموروث العقائدي القديم، وقد يجد كثير من المشاكل
الكلامية حلوله في مثل هذه العلوم الإنسانية، فهي موضوعات إنسانية، دراستها في
العلوم الإنسانية وبمناهجها، وليست موضوعات «لاهوتية» مقدسة تنبع من مصدر قبلي
وهو النص الديني أو ترتبط بذات مشخصة خارج الزمان والمكان، وقد يكون تاريخ
«الإلهيات» وتاريخ التفسير مرآة تعكس الإنسانية عليه ظروف كل عصر تمر به أو
مشجبًا تعلِّق عليه آمالها واحتياجاتها وطموحاتها التي تحقَّقت أو التي لم
تتحقق؛ فهي جزء من «تاريخ الأفكار»، وتاريخ الأفكار جزء من التاريخ الاجتماعي.
٨
وقد يعني «الكلام» المنهج وليس الموضوع، منهج التفكير أو منهج الحوار أو منهج
التأثير أو أسلوب التعبير، فعلم الكلام عند القدماء يورِّث القدرة على الكلام
في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم، فالكلام بالنسبة للدين كالمنطق بالنسبة إلى الفلسفة.
٩ وذلك قد يكون صحيحًا، فالكلام منطق الدين، وفي هذه الحالة تكون
تسمية «علم أصول الدين» أفضل لأنها تشير إلى البحث عن أصول العقائد؛ أي الأسس
النظرية التي تقوم عليها، ويبقى «علم الكلام» تاريخًا لعلم أصول الدين، أي
اجتهادات الأصوليين في إيجاد صياغات عصرية للعقائد تعبِّر عن احتياجات كل عصر؛
فإذا كان «علم الكلام» هو تاريخ العقائد، فإن «علم أصول الدين» يكون هو الجانب
النظري فيه، إذا كان الأوَّل أقرب إلى الوقائع يكون الثاني أقرب إلى الماهيات،
وقد تشتق التسمية خاصةً من منهج الحوار، فالعلم «يتحقق بالمباحثة وإدارة
الكلام، وغيره يتحقَّق بالتأمُّل ومطالعة الكتب»، صحيح أن المنهج الغالب على
العلم هو الحوار والمناقشة، ولكن مادة الحوار مستقاة من الكتب، سواء القرآن أو
كتب المنطق والفلسفة، وكتب الحكماء الأولين بالإضافة إلى المنبهات الخارجية من
الوقائع الاجتماعية وحوادث التاريخ، كما أن الحوار أحد مظاهر الفكر وليس كل
نشاطاته؛ إذ تسبقه التجربة الحية، وصياغاتها الفكرية، ويتلوه التأثير على
السامعين ومحاولات فهمه، وقد تكون التسمية من شدَّة منهج الحوار، فأصبح علم
الكلام «أكثر العلوم خلافًا ونزاعًا، فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين
والرد عليهم»، وفي هذه الحالة يتحوَّل الحوار إلى نقاش، والنقاش إلى خلاف، وهو
صحيح أيضًا إلا أن الحوار أيضًا أحد مظاهر نشاط أعم وهو الفكر الحي الذي يقوم
على تجارب وتفسير نصوص، وتحركه بواعث وأهداف ومصالح، كما قد ترجع التسمية إلى
قوة الأدلة حتى صار «هو الكلام دون ما عداه من العلوم كما يُقال للأقوى من
الكلامين هو الكلام»، وهذا غير صحيح لأن معظم أدلته ضعيفةٌ يسهل الرد عليه
ومناقضتها بأدلة أقوى منها، وبالتالي فهو علم «لا يقنع الذكي، ولا ينتفع به
البليد»، ما أسهل نقد أدلة المتكلمين، بعضها بالبعض الآخر حتى تتكافأ الأدلة
حتى لقد أصبح من السهل إثبات الشيء ونقيضه من متكلم واحد أو من متكلمين مختلفين
طبقًا للمزاج أو للمهارة أو للمصلحة، وقد ترجع التسمية إلى اعتماد الأدلة
العقلية على الأدلة السمعية وتأثيرها في القلب وقدرتها على الإقناع الحسي
التخييلي، فسُمِّيَ بالكلام المشتق من «الكَلْم» وهو الجرح، وهذا صحيح فقط في
حالة توافر الإيمان، وافتراض الإيمان سلفًا بموضوع البرهان، ولكنه غير صحيح مع
البرهان العقلي الخالص الذي لا يبدأ بالإيمان بل بالعقل وحده والذي لا يعتمد
على الحس والتخييل بل على الحجَّة والدليل، وقد تكون التسمية لأنه «أول ما يجب
من العلوم التي إنما تتعلم وتتعلم بالكلام، ثم خص به ولم يطلق على غيره
تمييزًا»، والحقيقة أن كل العلوم تتعلَّق بالكلام موضوعًا وحوارًا وتعبيرًا،
ولا يوجد دافع خاص على التخصيص، بل إن علوم اللغة قد تكون أولى بالتسمية لأنها
هي التي أخذت الكلام موضوعًا لها، وقد تكون التسمية «لأن عنوان مباحثه كان
قولهم الكلام في كذا وكذا …» والحقيقة أن هذا هو أسلوب القدماء في تبويب
الفصول، سواء في علم الكلام أو في غيره من العلوم، كما أنها عادةً لا يتبعها كل
مصنِّفي العلم.
١٠ وأخيرًا يصعب قبول هذه التسمية، «علم الكلام»، في حياتنا المعاصرة
نظرًا لسيادة الكلام على مستوى الشعوب والقيادات، بل وربما التاريخ المعاصر
كله، وهي «العنتريات التي ما قتلت ذبابة»، حروب الإذاعات، وصحف المعارضة، ورفع
الشعارات، والواقع كما هو لم يتغير قيد أنملة حتى ليؤرخ لحياتنا المعاصرة
بتاريخ الخطب السياسية والبيانات الحزبية والبرامج السياسية باستثناء بعض مظاهر
المقاومة للمحتل في الأرض، مقاومة بطولية، كشهادات في التاريخ، وكقدوة فعلية
للجماهير والنظم، وكبلورة ممكنة لنضال أوسع، وكمؤشر حاضر على أن عشرات البيانات
عن حقوق الإنسان والتصريحات عن استنكار الضمير العالمي، وإعلانات لجان التحقيق
لن تمنع طفلًا أو امرأةً أو شيخًا من أن يموت ذبحًا، وما زلنا منذ فجر النهضة
الحديثة نصرخ: «ما أكثر القول وأقل العمل».
١١ ونتهكم على شعوب الكلام، وثقافات اللغة، ومعلقات العصر الحديث على
أستار القدس!