سابعًا: طرق النظر
(١) التعريف
- (أ) معرفة المعرف به تسبق معرفة المعرف، ويكون غيره وأجلى منه، ويكون مساويه في العموم والخصوص. ويكون التعريف بالخصائص المميزة. فإن كان التمييز ذاتيًّا فهو الحد، وإن كان غير ذاتي فهو الرسم. وإن كان الذاتي بالجنس القريب فهو التعريف التام، وإلا فهو تعريفٌ ناقص. ويحدُّ المركب دون البسيط؛ لأن البسيط لا حدَّ له. وواضح أنه يستحيل تطبيق هذا التعريف المنطقي في الإلهيات؛ لأن «ذات الله» لا تساوي أحدًا في العموم المطلق، ولا يمكن تعريفها بالجنس القريب والفصل البعيد؛ لأن لا جنس لها، فهي جنس الأجناس ونوع الأنواع. كما أنها ليست مركَّبة حتى يمكن حدها. وأقصى ما يمكن عمله هو التعريف الناقص عن طريق الصفات العرَضية وهو الرسم، أقل درجة في التعريف. خاصةً وأنه لا يمكن إحصاء الخصائص المميزة لها لصياغة حد لها. ويبدو أن التعريف وضع للمنطق، للموضوعات العقلية الخالصة وليس لأي موضوعٍ «إلهي» خاص.٣
- (ب)
التعريف بالمثال، وهو تعريف بالمشابهة مثل التعريف الناقص أو الرسم وهو الوارد عادةً في معرفة «ذات الله»؛ إذ لا يمكن معرفتها بالحد التام، ولكن يمكن فقط عن طريق القياس والشبه، قياس الغائب على الشاهد الذي يؤدي إلى التشبيه، وهو المستعمل في علم الكلام عن قصد أو عن غير قصد، بوعي أو عن غير وعي. ويكون التنزيه بطبيعة الحال هو رد الفعل. ولكن التنزيه أيضًا متعلق بالتشبيه لأنه رد فعل عليه، ورفضٌ سالب له، وما زال يستعمل المفاهيم الإنسانية حتى في صورها الأكثر تجريدًا. ولكن يبدو أن المتكلم في خطابه كان يظن أنه يتحدث بالتعريف الأوَّل وهو في حقيقة الأمر لا يتحدث إلا بالتعريف الثاني. فلا سبيل إلى الوصول إلى الأوَّل على الإطلاق إلا عن طريق الثاني.
- (جـ) التعريف اللفظي، وهو توضيح دلالة لفظ بلفظٍ آخر أوضح دلالة. ويُستعمل في التعريف العام. وتُستبعد الألفاظ الغريبة الوحشية، وكذلك الألفاظ المشتركة والمجازية بلا قرينة. ومِنْ ثَمَّ يعرف ألفاظ «الذات والصفات والأفعال» وباقي ألفاظ علم الكلام. والحقيقة أنها في غالبيتها ألفاظٌ مشتركةٌ مجازية، تفيد معاني إنسانية، ثم أُطلقت على «الله» على طريق المجاز، بلا قرينة إلا من قياس الغائب على الشاهد. فالإنسان له ذات وصفات وأفعال، ثم أُطلقت على «الله» فأصبحت ألفاظًا مشتركةً مجازيةً، أصلها الحقيقي في الإنسان.٤
(٢) الاستدلال
- (أ)
الاستدلال بالكلي على الجزئي، وهو القياس، وفي هذه الحالة يتم الانتقال من «ذات الله» إلى غيرها باعتبار أنها الكلي. والحقيقة أن ذلك مستحيل؛ لأنها لا يمكن أن تُعرَف، ولا يوجد أعم من «ذات الله» يمكن أن يُستدل به على ذات الله باعتباره كلًّا أخص أو جزءًا؛ وبالتالي فالقياس المنطقي بهذا المعنى لا يمكن استعماله في معرفة «ذات الله».
- (ب) الاستدلال بالجزئي على الكلي، وهو الاستقراء. فإن كان الاستقراء تامًّا فهو استدلالٌ يقيني، وإن كان ناقصًا فهو استدلالٌ ظني. وهو طريق الانتقال من الإنسان إلى «الله»؛ أي من الجزء إلى الكل، طريق التشبيه وقياس الغائب على الشاهد. ويستحيل أن يكون تامًّا لأن الإنسان لن يستقرئ كل الجزئيات للاستدلال بها على «ذات الله» باعتبارها كل الكليات بالإضافة إلى أنه خطأ في اتجاه المعرفة. فالانتقال من الجزئي لا يكون إلا لجزئيٍّ مثله، دخولًا في العالم وليس خروجًا منه.٥
- (جـ) الاستدلال بالجزئي على الجزئي، وهو التمثيل أو القياس الفقهي، أي مشاركة الجزأين في علة الحكم. وهو يجوز في الأشياء والأفعال، ولكن لا يمكن معرفة «ذات الله» به؛ لأن الله ليس جزءًا ولا يُقاس على جزء. أمَّا الاستدلال بالكلي (طبقًا للحالة الرابحة في القسمة العقلية)، فالكليان جزئيان لدخولهما تحت عنصرٍ ثالث مشترك. ولا يمكن «لذات الله» ككل أن يساويها كلٌّ آخر وإلا كان شِركًا. ومِنْ ثَمَّ يستحيل استعمال هذه الاستدلالات المنطقية في الفكر «الإلهي».٦
(٣) القياس
- (أ)
الانتقال من حكمٍ إيجابي أو سلبي لكل أفراد الشيء إلى شيءٍ آخر كله أو بعضه، وثبوت نفس الحكم له قطعًا. وبلغة المنطق الصوري، الانتقال من الكلية الموجبة أو السالبة إلى الكلي أو الجزئي الموجب أو السالب. وهو ما يستحيل في معرفة «الله» باعتبارها كلًّا موجبًا (إثبات صفات الكمال) أو كُلًّا سالبًا (نفي صفات النقص). ولأنه غير مُعرَّف بعدُ فكيف يمكن الانتقال منه إلى موجب أو سالبٍ آخر، كلي أم جزئي؟
- (ب)
الانتقال من حكم لكل أفراد الشيء وحكمٍ مقابل لشيءٍ آخر كلي أو جزئي، فيعلم سلب الحكم الأوَّل عن الشيء الثاني؛ أي الانتقال من الكلية الموجبة إلى الكلية أو الجزئية السالبة عن طريق القلب أو التضاد، ولا يمكن معرفة «الله» أيضًا عن هذا القياس؛ لأن «الله» لا يمكن معرفته ثم الانتقال منه إلى معرفة الآخر. ولكن يمكن افتراضًا تعريف «ذات الله» تعريفًا كليًّا موجبًا، ثم قلبه إلى عكسه كلًّا أو جزءًا وسلب الحكم عنه. إذا كان «الله» حيًّا يكون الإنسان ميِّتًا، سواء كان الإنسان الكلي أو هذا الإنسان المتعيَّن.
- (جـ)
الانتقال من ثبوت أمرَين لثالث إلى ثبوته فيه سواء كان كليًّا أم جزئيًّا. وبلغة الرياضة المساويان لثالث متساويان أو بتعبيرٍ أدقَّ المتساويان مع ثالث يكون مساويًا لهما. وعلى افتراض معرفة «ذات الله»، فإنه لا يمكن الانتقال منها إلى معرفة شيءٍ آخر؛ نظرًا لعدم اشتراك الله مع غيره في صفاته المطلقة، وإلا وقعنا في الشرك في مفهوم المتكلمين.
- (د)
الانتقال من ملازمة شيئَين، ومن وجود الملزوم إلى وجود اللازم، ومن عدم اللازم إلى عدم الملزوم. وبلغة التعليل إذا ثبت وجود رابطة علة بين شيئَين، إذا وجدت العلة وجد المعلول، وإذا وجد المعلول وجدت العلة، وهو ما يُسَمَّى بقياس العلة بلغة الأصول. وهذا يقتضي أوَّلًا معرفة «الله» ثم معرفة أن علاقة «الله» بالعالم علاقة علة بمعلول؛ حتى يمكن استخدام قياس العلة لإثبات وجود «الله»، طالما وجد العالَم، وهو المعلول، وجد «الله» لاعتباره علة.
- (هـ)
الانتقال من المنافاة بين أمرَين من وجود أحدهما إلى عدم الآخر، وهو إثبات وجود الشيء ثم نفي ضده، وهو ما يقوم عليه التنزيه بإثبات صفات الكمال «لله» ونفيها عن الإنسان وإثبات صفات النقص للإنسان ونفيها عن «الله».
(٤) القياس «الديني»
ونعني به ثلاثة أدلةٍ أخرى تعرَّض القدماء لها وحكموا عليها بالضعف مع أنها دعامة الفكر الديني. أشار علماء أصول الدين إلى الاثنين الأوَّلين منها، بينما أشار علماء أصول الفقه إلى الثالث. ويظهر فيها إبداع نظرية العلم وقدرة الحضارة الجديدة على صياغة منطقٍ جديد في مقابل المنطق الصوري القديم، وهي:
(٤-١) قياس الغائب على الشاهد
- (١)
الطرد والعكس: أي وجود الصفة في الشيئَين أو غيابها عن واحد وحضورها في الآخر. والأفضل وجودهما معًا. وهما مبحث العلة عند الأصوليين، فبُلغَتهم دوران العلة والمعلول وجودًا وعدمًا، إذا حضرت العلة حضر المعلول وإذا غابت العلة غاب المعلول. وهو مبحثٌ أصولي خالص لا يتم إلا في الأفعال الحسية والأمور المرئية التي تخضع للتجريب.
- (٢) السبر والتقسيم: أي الحصر ثم القسمة، حصر الصفات الذي قد يكون تامًّا أو ناقصًا، ثم التقسيم للبحث عن الصفات المشتركة، وهل يمكن حصر صفات الله؟٩
- (٣) الإلزامات: وهو القياس على ما يقول الخصم لعلةٍ فارقة. وهو لا يفيد اليقين ولا الإلزام؛ لأنه يعتمد على أقوال الخصم الذي قد يمنع علة الأصل وحكمه، ويجعله واضع الدليل، ويقيم اليقين على الظن. والحقيقة أن هذا وارد في علم الكلام في منهج الجدل الذي يعتمد في مقدماته على مُسلَّمات الخصوم ما دام في ذلك إفحام له، وانتصار عليه.١٠وعلى هذا النحو يبدو قياس الغائب على الشاهد مُستعارًا كليةً من علم أصول الفقه دون مراعاة لطبيعة الموضوعَين «ذات الله وصفاته وأفعاله» في علم أصول الدين والأحكام الشرعية في علم أصول الفقه، وإلا كُنَّا قد افترضنا سلفًا أن موضوع علم أصول الدين موضوع حسي خاضع للتجريب والقياس، وبالتالي لا يفترق الأشاعرة عن المُشبِّهة والمُجسِّمة في شيء، أو الاعتراف والتسليم بأنه لا يمكن معرفة «ذات الله وصفاته وأفعاله» إلا قياسًا على ذات الإنسان وصفاته وأفعاله عن قصد أو عن غير قصد، عن وعي أو عن غير وعي. والاعتراف بالحق خير من التمادي في الباطل.١١
(٤-٢) قياس الأولى
(٤-٣) ما لا دليل عليه يجب نفيه
(٥) المقدمات
وهي مادة العلم التي يتم الاستدلال عليها وهي على نوعين: قطعية وظنية.
(٥-١) المقدمات القطعية
وهي المقدمات التي تنشأ منها نتائج قطعية، إذا صح الاستدلال، وتأتي القطعية من طبيعة مادة المقدمات اليقينية، وكأن الصواب والخطأ ليس من صورة العلم وحدها، ولكن أيضًا من مادته، وهي سبع.
-
(١)
الأوليات: وهي البداهات التي لا تخلو أي نفس منها بعد تصور الطرفين، مثل المُسلَّمات والبديهيات. وتعتمد عليها نظرية العلم في بداية العلم، وذلك مثل وجود الإنسان ووجود العالم والحقائق الضرورية النظرية أو العملية ومنها شهادات الوجدان التي لا تقلُّ بداهة عن أوائل العقول.
-
(٢)
الحدسيات: وهي البديهيات العقلية الخالصة، مثل دلالة إتقان الصنعة على الصانع. وهي استدلالٌ مباشر بلا مقدمات وتوسط، بل بالقفز من المقدمات إلى النتائج مباشرة. وهي مثل الأوليات، ولكن مع قدر من الاستدلال الحدسي أو مثل القضايا التي قياساتها معها دون أن تكون متضمَّنة فيها. وهو ما يدركه الحس أو العقل أو الوجدان مرةً واحدة بلا تأمل أو انتظار أو تكرار أو تحقُّق. وقد يكون وجوديًّا كوجود الإنسان، أو بدنيًّا كالصحة والمرض، أو «فزيولوجيًّا» كاللذَّة والألم، أو عاطفيًّا كالغم والفرح، أو إراديًّا كالقدرة والعجز، أو نزوعيًّا كالإرادة والكراهة، أو إدراكيًّا كالإدراك والعمى.١٥ وهناك معارفُ ضرورية حدسية تخبر عن الواقع بالخطاب الذي يلقيه المتكلم على السامع. والعلم بالانفعالات النفسية عن الآخرين علمٌ بديهي بشرط وجود الأمارة مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل. والعلم بالمبادئ الخلقية أيضًا علمٌ بديهي.
-
(٣)
قضايا قياساتها معها: وهي البديهيات المركبة التي يمكن حلها إلى بديهياتٍ بسيطة مثل أن الأربعة تساوي اثنين واثنين؛ أي الاستدلال الصحيح الذي يقوم مقام بديهية ويعادل المعارف الفطرية. والحقيقية قد تختلف درجة البداهة لهذه القياسات باختلاف درجة الوضوح والبساطة فيها، وهي أشبه بالقضايا التحليلية في الرياضة بصرف النظر عن درجات التحليل ومدى خطواته.
-
(٤)
المشاهدات: وهي المدركات الحسية التي يحكم العقل بصحَّتها مع الحذر من خداع الحواس. وظاهر الحس منها يُسَمَّى حسيات، وباطن الحس منها يُسَمَّى وجدانيات. فبالرغم من خداع الحواس، إلا أن الإدراكات الحسية موجودة.١٦ وهنا تتكرر الوجدانيات مرةً ثانية، فكأنها في أوائل العقول، وفي الحدسيات وفي القضايا التي قياساتها معها، وكأنها هي الشامل لمجموعة المعارف البديهية بصرف النظر عن مستوى البداهة، العقل أم الحس أم الرؤية الحدسية.
-
(٥)
المجرَّبات: وهي المدركات الحسية التي يحكم العقل بصدقها مع تكرارها وتحوُّلها إلى عادات وقوانينَ ثابتة؛ لذلك أصبحت المشاهدة ومجرى العادات حد مقاييس الصدق في علم الأصول وتكرار المدركات الحسية، مثل تكرار المقدمات في الاستدلال، كلاهما يؤدي إلى اليقين.١٧
-
(٦)
الوهميات في المحسوسات: وهي المدركات الحسية العادية أو أحكام الحس مثل الحسيات على مستوى العقل مثلًا كل جسم في جهة. ويمكن تسميتها الحدوس الحسية التي قد يكذبها العقل، ولكنها جزء من المعرفة البشرية ومادة العلم.
-
(٧)
المتواترات: وهي الأخبار التي يمتنع في رواتها تواطؤهم على الكذب. ويدخل موضوع التواتر كما هو وارد في علم أصول الفقه في نظرية العلم، وليس فقط باعتبار الأدلة النقلية أو العقلية النقلية. فالتواتر يؤدي إلى العلم الضروري، مثل العلم بوجود المدن أو العلم الاستدلالي مثل العلم بالتوحيد. يفيد العلم على عكس أنصار المعارف الحسية أو العقلية أو الذين يُجوِّزون اجتماع الأمة على الخطأ، وبالتالي يمنعون أن يكون التواتر أساسًا لعلمٍ ضروري.١٨ وقد فصل علم مصطلح الحديث وعلم أصول الفقه شروط التواتر وإفادته لليقين، وهي أربعة: اتفاق المتن مع شهادة الحواس ومجرى العادات؛ منعًا للأسرار والخرافات، وأن يكون السند متعدد الرواة مُستقلِّين عن بعضهم البعض؛ ليمنع تواطؤهم على الكذب، وأن يكون العدد كافيًا؛ حتى يزيد من احتمال اليقين، وأن يكون انتشار الرواية متجانسًا في الزمان؛ منعًا لانتحال الأخبار أو لمؤامرات الصمت حول الخبر الصحيح. والمشهور خبر ينقصه تجانس الانتشار في الزمان إذا كان أوَّلًا محصورًا ثم انتشر ثانيًا، وربما كانت المصلحة سببًا في انتشاره. فالمتواترات هي الروايات التاريخية الصحيحة بالاشتراك مع دلائل الحسِّ والعقل، بل إنها لا تفيد اليقين بمفردها إلا باعتمادها على الحس والعقل. وقد أتى الوحي كمقدمات من هذا النوع. والتواتر ليس جمع آحاد وآحاد، بل هو خبر مستقلٌّ واحد، له وحدته وبناؤه الداخلي؛ لأن مجموع ظنَّين لا يكون يقينًا. يقين خبر الواحد في عدالة الراوي وضبطه وصدقه. وله شروطٌ خاصة. ولا يهم اعتبار العلم الناشئ عن التواتر ضروريًّا أم كسبيًّا، فهو ضروري بمعنى أنه معرفةٌ بديهية كمعرفة الحس وبداهة العقل، وهو كسبي لأن التواتر يقوم على شروطها مجموعها دليل الحس والعقل والوجدان.١٩ ويدخل التواتر نفسه كجزء في نظريةٍ أعمَّ، وهي نظرية الخبر وقسمته إلى تواتر وآحاد ومتوسط بينهما، وهو ما فعله علماء أصول الفقه في باب الأخبار. ويظهر أثر هذه القسمة في النظر والعمل على السواء؛ فالتواتر يورث اليقين في النظر والعمل، في حين أن الآحاد يورث اليقين في العمل فقط، ويكون النظر ظنيًّا. وإذا كان التواتر يورث علمًا ضروريًّا والآحاد علمًا مكتسبًا، فإن التوسط بينهما يقوم على قرائن واستدلالاتٍ أخرى. والأخبار كلها من تواتر وآحاد ومستفيض تدخل في قسمةٍ أعم للخبر من حيث هو خبر إلى خبر صادق وخبر كاذب. فالخبر الصادق مطابق للواقع، والخبر الكاذب غير مطابق للواقع. والخبر هو المعلَن بلسان شخصٍ حي مرئي وليس رسالة أو تبليغًا باطنيًّا أو خارجيًّا؛ أي إنها الروايات التاريخية الشفاهية أو المدونة، وهي أساس المعرفة التاريخية.٢٠
- (أ)
العلم بالذات وبوجودها؛ فهذه هي الضرورة الوجودية أو البداهة المباشرة، مثل: أنا أفكر، أنا أحيا، أنا أكتب، أنا أتنفس، أنا أحس، أنا موجود.
- (ب) العلم بالمدركات الحسية، مثل: أرى الورقة أمامي، أحس بالقلم في يدي، أسمع صوتًا في الخارج. وعند بعض القدماء قد تحصل بعض المدركات من غير طريق، مثل حصول إبصار من غير بصر أو سمع من غير أُذن، وهذا جائز في المدركات العقلية وحدها التي ليس لها حاسة، بل تلك التي تنتج من تحليل العقل أو رؤية الشعور، وهما طريقان للمعارف. وإن إدراك الدلالات إدراكًا مباشرًا لا يعني تدخل أفعالٍ خارجية في الشعور، بل يعني أن الشعور مفتوح بطبعه وخالق بطبعه وقادر على رؤية المعاني رؤيةً مباشرة. ويستحيل خلق مدركاتٍ حسية بلا حواس. ليس كل إحساس إدراكًا، فالإحساس يلزمه الانتباه حتى يتحول إلى إدراك، والمادة الحسية تحتاج إلى دلالة. الشعاع الخارجي من الموضوع إلى الذات هو الانطباع الحسي يقابله شعاعٌ آخرُ داخلي من الذات إلى الموضوع، وهو الإدراك، وذلك عمل الشعور وحده.٢٤
- (جـ) العلم بأحوال الذات، فالذات لها أحوال مثل الهم والانفطار، وهي المدركات الوجدانية.٢٥
وبالتالي تكون المعارف أوائل العقول وشهادات الحس ومعطيات الوجدان، كما وضح في علم الكلام المتقدم.
- (أ)
ما يعدُّ من كمال العقل ويستند إلى ضرب من الخبر، مثل تعلق الفعل بفاعله. (وهذا لا يحتاج إلى خبر، بل الخبر في حاجة إليه). وعلمٌ آخر لا يستند إلى ضرب من الخبر، مثل العلم بوجود الذات. والحقيقة أن العلم الأوَّل ليس خبريًّا، بل هو علمٌ بديهيٌّ ضروري، وإذا كان الخبر هنا يعني النظر والاستدلال، فإن هذا العلم يظل بديهيًّا.
- (ب) ما لا يُعدُّ من كمال العقل ويختلف فيه العقلاء، وهذا ليس علمًا.٢٦
(٥-٢) المقدمات الظنية
- (١)
المُسلَّمات: وهي التي تقبل على أنه قد تمت البرهنة عليها من قبلُ في مكانٍ آخر. فعلم الكلام ليس علمًا مستقلًّا بذاته عن باقي العلوم، بل يبني مقدماته على غيره، وهي أقل المقدمات الظنية خطورةً؛ إذ عليها يعتمد الدعاة. ولذلك تعددت فروع علم الكلام وأساليبه ومستوياته؛ فهناك علم الكلام العلمي أو الرياضي أو الإنساني الذي يبدأ بمسلمات أحد هذه العلوم ويعتمد عليها. وفي هذه الحالة يكون الفضل للعلوم الأخرى، ويكون علم الكلام مجرد «متسلق» عليها، علم كل العصور وكل المفكرين وكل العلوم. ولما كانت مقدمات العلوم متغيرة طبقًا لاكتشافات كل عصر تغيَّرت مادة علم الكلام وأصبح مشاعًا كالمرأة المشاع. ليست وظيفة علم الكلام اكتشاف علوم أو وضع نظريات، ولكن الاعتماد على العلوم والنظريات القائمة لدعوة الناس؛ فهو مجرد علمٍ إقناعيٍّ خطابيٍّ جدلي ليس له مادة من ذاته ولا يقدم إلا الأسلوب والمحاجَّة.
- (٢) المشهورات: وهي التي يتفق عليها الجم الغفير من الناس، أي المسلَّمات الاجتماعية المقبولة في كل مجتمع، والتي تعبر عنها الأمثال الشعبية وحكم الشعوب. وهي أيضًا متغيرة من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، ومن أمة إلى أمة. وقد لا يتفق البعض منها مع المقدمات القطعية، مقدمات الحس أو العقل أو الخبر. وقد لا يتفق مع المقدمات الظنية الأخرى مثل المسلَّمات. وقد تتغير كليةً بعد أن يتم نقدها ورفضها ووضع مقابل لها أقرب إلى الصلاح وأكثر تعبيرًا عن روح كل عصر. ويقوم بذلك عادةً الرواد والمفكرون الأحرار في كل عصر. وهي غير محصورة في عددٍ معين، ومتنوعة وعلى جميع المستويات. كثيرًا ما تتعارض فيما بينها كما هو الحال في الأمثال العامية.٢٩
- (٣)
المقبولات: وهي التي تؤخذ ممن حسن الظن فيه وتصديقه وامتناع الكذب عليه. وهي أقرب إلى التقليد لأنها تقوم على التصديق بمصدر الحكم وليس بالحكم ذاته، كما أنها أقرب إلى الخبر الذي يعتمد على صحة النقل، وفي الأخبار من الأنبياء غنًى عنه. وهي الأقوال المأثورة والسير والملاحم، المشهورات إذن عبارةٌ لغوية تكشف عن عملياتٍ شعوريةٍ سابقة عليها، مثل التشبيه والتنزيه. وتدل على أنه لا يمكن الحديث عن «الله» أو عن العقائد إلا من خلال الثقافة الشعبية أو ثقافة الجماهير والأعراف والعادات والصور الذهنية المتوارثة في تراث الأمم والشعوب.
- (٤) المقرونة بقرائن: مثل نزول المطر بوجود السحاب، وهي الاستدلالات الحسية والمشاهدات والمجرَّبات وأكثر المشهورات قبولًا، ولكنها ظنية لاعتمادها فقط على القرائن الحسية دون بداهات العقول أو الخبر؛ مما يدل على أن مادة علم الكلام مستمدَّة من مشاهدات الحوادث ومجريات الأمور.٣٠
وهنا تمحى التفرقة بين صورة المنطق ومادته. فلا فرق بين القياس الذي يعطينا صورة الفكر وبين الحسيات والمتواترات التي تعطينا مادة الفكر. ولا فرق في مادة الفكر بين المقدمات القطعية والمقدمات الظنية. الكل معارف «كلامية»، فرق بين صورة الفكر ومادته، ولا بين مادة ومادة. وهو ما يميز المنطق الكلامي عن المنطق الصوري.