وتبلغ نظرية العلم ذروتها في الأدلة؛ إذ إن نظرية العلم في نهاية الأمر هي نظرية
في الدلالة. فالدليل يؤدي إلى المدلول، والمدلول إلى الدالِّ، والدالُّ إلى
المستدَلِّ، وكلها عملياتٌ شعورية تتم بأفعال الشعور.
١ الدليل هو ما أمكن أن يُتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يصح باضطرار.
٢ فالعلم الحاصل هو المطلوب أو المدلول، وازدواج الأصلين الملتزمين لهذا
العلم هو الدليل، والعلم بوجه اللزوم هو العلم بوجه دلالة الدليل. وقد يكون الدليل
علة أو معلولًا أو الاستدلال بأحدهما على وجود الآخر؛ لذلك تحوَّل موضوع العلة
والمعلول إلى مبحثٍ مستقل في «نظرية الوجود». ويكون النظر في الدليل إجماليًّا أو
تفصيليًّا، والواجب على المكلَّف معرفة العقائد بالدليل الإجمالي. وأمَّا التفصيل
ففرض كفاية. وقد يكون الدليل هو المرشد إلى معرفة الغائب عن الحواس، وهو ما يُعرف
باسم الأمارة أو الإيماءة أو الإشارة أو العلامة أو القرينة أو الحال. ويُسَمَّى
دليلًا مجازًا؛ نظرًا لتشابهه في الوظيفة مع الدليل. وقياس الغائب على الشاهد يقوم
على أدلة من هذا النوع. والفرق بين الدليل والأمارة هو أن الدليل يلزم من العلم به
العلم بوجود المدلول، أمَّا الأمارة فهي التي يلزم من العلم بها ظن وجود المدلول.
٣ وقد يكون الدليل عقليًّا خالصًا؛ أي الفكر والتأمل، وقد يكون لغويًّا
نصيًّا، فتكون العبارة أو النطق هي الدليل لأنها تعبر عن النظر والتأمل،
٤ والبحث في الدليل العقلي وهو الذي أدى إلى البحث في أنواع الأدلة ووجه
الدلالة. فالدليل العقلي يلزم من وجوده وجود المدلول. وقد يحدث اللزوم من طرف إلى
آخر، فيكون الاستدلال بالمشروط على الشرط أو بالمعلول على العلة أو بالعلة على
المعلول. كما يمكن من البحث عن البرهان إبطال النقيض وهو ما يُسَمَّى ببرهان
الخلف.
والأدلة ثلاثة: أدلة نقلية خالصة، وأدلة نقلية عقلية أو عقلية نقلية، وأدلة عقلية
خالصة.
٥ فالمطالب ثلاثة أنواع: الأوَّل ما لا يمتنع عقلًا إثباته ولا نفيه،
فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل؛ أي الخبر، مثل وجود الأشخاص والمدن. والثاني ما
يتوقف عليه النقل، مثل وجود «الله» ووجود الرسول، وهذا لا يثبت إلا بالعقل وإلا لزم
الدَّور لأن الوحي يتطلب وجود «إله» يرسل رسولًا، ومن هنا يكون العقل أساس النقل
ليس فقط من حيث قصد الوحي، بل أيضًا من حيث مضمون الوحي والتصديق به وصدقه في
الواقع، وفي هذه الحالة يكون الدليل مركَّبًا من العقل والنقل أو من النقل والعقل.
والثالث مثل الحدوث والوحدة وسائر الأمور العامة، فهي أمور يمكن إثباتها بالعقل؛ إذ
تمتنع معارضته بالدليل كما تمتنع معارضته بالنقل لأنها غير متوقفة عليه.
٦
(١) نقد الدليل النقلي
والحقيقة أن الدليل النقلي الخالص لا يمكن تصوره لأنه لا يعتمد إلا على صدق
الخبر سندًا أو متنًا، وكلاهما لا يثبتان إلا بالحس والعقل طبقًا لشروط التواتر
… فالخبر وحده ليس حجة ولا يثبت شيئًا على عكس ما هو سائد في الحركة السلفية
المعاصرة من اعتمادها شبه المطلق على «قال الله» و«قال الرسول» واستشهادها
بالحجج النقلية وحدها دون إعمال للحس أو للعقل، وكأن الخبر حجة، وكأن النقل
برهان، وأسقطت العقل والواقع من الحساب في حين أن العقل أساس النقل، وأن القدح
في العقل قدح في النقل، وأن الواقع أيضًا أساس النقل بدليل «أسباب النزول»
و«الناسخ والمنسوخ». ولا يمكن إثبات صحة الخبر بالمعجزة وحدها، ولا يمكن تصديقه
فقط بإثبات الصحة التاريخية عن طريق النقد الخارجي دون الاهتمام بالنقد الداخلي
أي بفهمه وتفسيره وإيجاد تطابقه مع الحس والعقل، مع التجربة البشرية الفردية
والاجتماعية. الدليل النقلي في حقيقة الأمر هو في نفس الوقت دليل حسي وعقلي،
فالوحي متعدد الأطراف متشعب في الحس والعقل. وهو وحي وعقل وواقع، ثلاثة جوانب
لشيءٍ واحد، الوحي أحدها، يقوم على العقل ويرتكز على الواقع. ليس العقل مغلقًا
على نفسه بل يضم الوحي، والوحي ليس صوريًّا بل يقوم على الواقع، والواقع ليس
ماديًّا مصمتًا ولكنه يتقبل الوحي كما يتقبل تنظير الواقع له. بل إن ما يعلم
بالقياس والنظر أو بالحس والمشاهدة لا يعلم بالخبر. فالحس والعقل من شروط
التواتر. ولا يعطي الخبر جديدًا مستقلًّا عن المعارف الحسية والعقلية. ما عُرف
بالحس أو النظر أو الاستدلال لا نحتاج إلى معرفته بالخبر، باستثناء «الشعائر»
وهي بالنسبة للعقلاء العمل الصالح؛ لأنها بواعث على التقوى. قد يؤثر الخبر وحده
في العامة لأنها لا تقدر على استعمال العقل وتؤثر الخيال، ولا تقدر على فعل
الحسن لذاته وتجنب القبح لذاته وحاجتها في ذلك إلى الخبر. يقين التواتر ليس من
الخبر باعتباره خبرًا، بل من شروط التواتر وفي مقدمتها التطابق مع شهادة الحس
والعقل والوجدان وامتناع التواطؤ على الكذب. فالتواتر يتضمن يقينه الداخلي دون
حاجة إلى صدقٍ خارجي، خاصة ولو كان عن طريق هدم قوانين الطبيعة أو مناقضة أوائل
العقول أو اضطراب في المعارف الحسية عن طريق المعجزات.
٧
والدليل النقلي يقوم على التسليم المسبق بالنص كسلطة أو كسلطةٍ إلهية لا يمكن
مناقشتها أو نقدها أو رفضها؛ فهو دليل إيماني صرف، يعتمد على سلطة الوحي، وليس
على سلطة العقل، وبالتالي فلا تلزم إلا المؤمن بها سلفًا، تلزم المسلمين
المؤمنين وحدهم دون المسلمين (غير المؤمنين)، ودون سائر أهل الملل والنحل الذين
لا يؤمنون بسلطة الوحي. وبالتالي يفقد العلم بهذا الدليل قدرته على الحوار مع
الخصوم، سواء من الداخل أو من الخارج، وهو الذي أتى للدفاع عن العقيدة ضد
منتقديها من أهل الزيغ والبدع والأهواء الضالة. في هذه الحالة لا تنفع إلا حجة
العقل وحده الذي يشارك فيه الجميع ويسلم ببراهينه وحججه. فإذا كانت المدارك
الحسية والعقلية عامة مع كافة الخلق إلا من لا عقل له ولا حس، وكان الأصل
معروفًا، فإن التواتر بنفسه لا يفيد علمًا ولا ينفع إلا من آمن به ووصل إليه،
كما أن السمعيات لا تنفع إلا من يثبت السمع عنده.
٨ وقد جعل ذلك مهمة المفسر الدفاع عن حقوق «الله» مصدر النص دون حقوق
الإنسان. نصب نفسه مدافعًا عن حقوق الله ناسيًا حقوقه هو كإنسان وغير عالم بأن
الدفاع عن حقوق «الله» ليس من مهمته، وبأن الدفاع عن حقوق الإنسان هو في نفس
الوقت دفاع عن حقوق «الله»، وأن إثبات حقوق «الله» دون إثبات حقوق الإنسان هو
في حد ذاته إنكار لحقوق «الله»؛ إذ لا تثبت حقوق «الله»، وفيها إنكار لحقوق
الإنسان.
ويصطدم الدليل النقلي بمشاكل اللغة والتفسير والفهم؛ فالنص ليس حجةً عقليةً
بديهية، بل هو خاضع لقواعد التفسير ولأصول الفهم ولشروط الإدراك، النص بذاته
ليس حجة بل هو مقروء ومفهوم ومفسَّر ومحوَّل إلى فكرة في زمانٍ محدد أو مكانٍ
معين. لا يكون الدليل النقلي دالًّا إلا بعد المواضعة، ومن جهة المعنى المستخرج
من المنطق ظهرت اللغة كأحد مكونات الفكر، وظهر الدليل اللغوي دالًّا من جهة
المواطأة على معاني الكلام. والدلالة اللفظية لا تفيد اليقين في علم أصول الدين
على عكس ما قد تفيده في علم أصول الفقه. ومِنْ ثَمَّ فالدلائل النقلية كلها لا
تفيد اليقين؛ نظرًا لاعتمادها على اللغات. ولما كان الدليل مكتوبًا فقد ظهرت
الرموز والحروف كأحد مكوِّنات الدليل.
٩ كما يرتبط الفهم بمعرفة قواعد التفسير، سواء في منطق الألفاظ مثل
الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤوَّل، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه،
والمطلق والمقيد، إلى آخر ما وضعه علماء أصول الفقه. ويساعد ذلك منطق السياق من
فحوى الخطاب ولحن الخطاب، وصلة النص بالواقع في «أسباب النزول» و«الناسخ
والمنسوخ». وبالتالي فإن الحجج النقلية كلها ظنية حتى لو تضافرت وأجمعت على شيء
أنه حق؛ لم يثبت أنه كذلك إلا بالعقل ولو بحجةٍ عقلية واحدة، وذلك لاعتمادها
على اللغة والرواية والأقيسة ولاحتمال وجود المعارض العقلي. ولا تتحول إلى يقين
إلا بقرائن من الحس والمشاهدة. والقرائن الحسية ليست فقط تدعيمًا للحجة النقلية
بل للحجة العقلية كذلك. فالواقع أساس النقل والعقل على السواء.
١٠ يبدأ الدليل النقلي من خارج العقل وتكون وظيفة العقل مجرد الفهم في
أحسن الحالات أو التبرير في أسوأ الحالات. الدليل النقلي إذن يقضي على وظيفة
العقل في تحليل الوقائع وعلى طبيعته المستقلة. وكيف يكون العقل وسيلة للمعرفة
ويبدأ الدليل النقلي؟ وكيف يبدأ الدليل النقلي وحجته لم تعلم إلا بالدليل
العقلي؟ وكيف إذا تعارض العقل والنقل فمن الحكَم؟ لا يكون إلا العقل. وكيف إذا
تعارض النقل والعقل؟ يكون إثبات العقل وتأويل النقل، فالعقل أساس النقل. إن
النص لا يثبت شيئًا، بل هو في حاجة إلى إثبات، في حين لا يقف شيءٌ غامض أمام
العقل، فالعقل قادر على إثبات كل شيء أمامه أو نفيه. لا مفر إذن من البداية
بالدليل العقلي، فالعقل أساس النقل. وكون النقل حجة بداية عقلية.
١١ إن النقل لا يعطي إلا افتراضات يمكن التحقق من صدقها في العقل ومن
صحتها في الواقع، كما يعطي حدوسًا يمكن البرهنة على صدقها بالعقل وعلى صحتها في
التجارب اليومية، ويكون المحك في النهاية العقل والواقع. العقل وحده وسيلة
التخاطب، والواقع وحده هو القدر المشترك الذي يراه جميع الناس، فالاستدلال
العقلي والإحصاء الاستقرائي دعامتا اليقين.
وكلما تطور علم الكلام قل اعتماده على النص وزاد اعتماده على العقل، كما حدث
بعد القرن السادس عندما اعتمد اعتمادًا كليًّا على العقل حتى أصبح وريثًا لعلوم
الحكمة مستمدًّا مادته ومنهجه ونظريته في العلم ومصطلحاته منها. وكأن نقد علوم
الحكمة في القرن الخامس والدعوة إلى التصوف أدى إلى هروب الحكمة، فتلقفها
التوحيد في علم الكلام المتأخر ثم تلقفها التصوف في القرنين السادس والسابع في
التصوف الإلهي. وقد كان هذا الاعتماد وقتيًّا لأن علم التوحيد اعتمد فيما بعدُ
على أصول الفقه وعلى علوم التصوف. وكما
اختلطت مقدماته من قبلُ بالمنطق والحكمة فقد اختلطت فيما بعدُ بأصول الفقه وبالتصوف.
١٢ وفي الشروح والملخَّصات ظهر العقل من أجل إيجاد اتساق الخطاب مع
نفسه بمزيد من الاستدلال دون إضافة واقعٍ جديد حتى انزوى العقل في النص ولم
يخرج منه. اتسق الفكر، وأمكن التعبير عنه في قضايا عقليةٍ معدودة والإسهاب فيها
بإيجاد الدلالة العقلية عليها ثم التدليل على الأدلة ثم التدليل على التدليل
إلى ما لا نهاية حتى أصبح العقل بلا موضوع إلا ذاته. فالاعتماد على العقل
الخالص بلا واقعٍ اجتماعي للناس صوريةٌ خالصة تعبر عن البيئة الثقافية القديمة.
بل لقد تحول التصوف إلى حجةٍ مضادة للعقل وهادمة له، وبالتالي تم القضاء على
أساس العلم.
ويعطي الدليل النقلي الأولوية للنص على الواقع، فهو بداية من خارج الواقع
وكأن النص هو الواقع مع أن النص في بدايته واقعة معروفة في أسباب النزول. يغفل
الدليل النقلي ليس فقط الواقعة الجديدة المشابهة، بل أيضًا الواقعة الأولى؛
وبالتالي يستخدم النص طائرًا في الهواء بلا محل، يخلقه واقعه من نفسه، فيظل
فارغًا بلا مضمون. ينغلق النص على ذاته أو يستعمل في غير موضعه طبقًا للهوى
والمصلحة كواقع بدليل. إن النص بطبيعته مجرد صورة عامة تحتاج إلى مضمون يملؤها.
وهذا المضمون بطبيعته قالبٌ فارغ يمكن ملؤه من حاجات العصر ومقتضياته التي هي
بناء الحياة الإنسانية التي عبر فيها الوحي في المقاصد العامة. ومِنْ ثَمَّ
فالتأويل ضرورة للنص. ولا يوجد نص إلا ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص
به. لا يعني التأويل هنا بالضرورة إخراج النص من معنًى حقيقي إلى معنًى مجازي
لقرينة، بل هو وضع مضمون معاصر للنص؛ لأن النص قالب دون مضمون. التأويل هنا
ضرورة اجتماعية من أجل تحويل الوحي إلى نظام بتغيير الواقع إلى واقعٍ مثالي.
حتى النصوص الجلية الواضحة التي لا تحتاج في فهمها إلى تأويل أو إلى سبب نزول،
بل إلى مجرد الحدس البسيط، حتى هذه النصوص لفهمها حدسًا تحتاج إلى مضمونٍ معاصر
يكون أساس الحدس. وبدون هذا المضمون المعاصر لملء النص الجلي لا يمكن رؤيته
حدسًا. وقد حوت النصوص أنماطًا مثاليةً للوقائع يمكن أن تكون أصولًا لمجموع
الوقائع الجديدة اللامتناهية، وتلك هي مهمة القياس الشرعي. العلاقة إذن ليست
بين العقل والنقل وحدها ولكنها علاقة ثلاثية بإدخال طرفٍ ثالث هو الواقع يكون
بمثابة مرجع صدق وتحقيق لو حدث أي تعارض بين العقل والنقل. ولا يكاد يتفق اثنان
على معنًى واحد للنص في حين أن استعمال العقل أو اللجوء إلى الواقع يمكن أن
يؤدي إلى اتفاق. ولا تستطيع اللغة وحدها أن تكون مقياس فهم النص والتوفيق بين
المعاني. تحتاج اللغة إلى حدس وهو عمل العقل أو إلى تجربة وهو دور الواقع.
فالواقع واحد لا يتغير. ولا يمكن الخطأ فيه لأنه واقع يمكن لأي فرد أن يتحقق من
صدق الحكم عليه. وإن كل اختلافات الأحكام على الواقع إنما ترجع في الحقيقة إلى
اختلافات في مقاييس هذه الأحكام وأسسها وليس إلى موضوع الحكم. وغالبًا ما تكون
هذه الأسس ظنونًا أو معتقدات أو مسلَّمات على أحسن تقدير أو مصالح وأهواء
ورغبات وسوء نية على أسوأ تقدير. وفي حقيقة الأمر الفكر هو الواقع، والواقع هو
الفكر، وليس لأحدهما أولويةٌ زمانية على الآخر أو أي نوع من الأولوية من حيث
الشرف والقيمة. الفكر واقع متحرك والواقع فكرٌ مرئي. وكل فكر لا يتحقق في
الواقع لا يكون إلا هوًى أو انفعالًا ذاتيًّا، وكل واقع لا يتحول إلى فكر يكون
واقعًا مصمتًا أو واقعًا ناقصًا.
وأولوية النص على الواقع تعطي الأولوية للتقليد على التجديد، وللماضي على
الحاضر، وللتاريخ على العصر.
١٣ يرجع التاريخ إلى الوراء لأنه ما زال يعتمد على سلطة الوحي وأمر
الكلمة، وما زال يتطلب الطاعة المطلقة لمجرد الأمر، في حين أن اكتمال الوحي
يعني بداية العقل وأن الوحي ما هو إلا تعبير عن كمال الطبيعة وكمال الإنسان.
منهج النص يحيل الشعور إلى شعورٍ سلبيٍّ خالص، يجعله مجرد آلة لتنفيذ الأوامر
دون تعقيل لها أو حتى إيمانٍ شخصي بها.
١٤ والتقليد ليس منهجًا عقليًّا أو نقليًّا، بل هو من مضادات العلم.
وتقدم العلم مرهون برفع التقليد.
١٥
ولما كان النص فارغًا إلا من الوقائع الأولى التي سبَّبت نزوله، فإن كثيرًا
ما تتدخل الأهواء والمصالح الشخصية والظنون والمعتقدات لتملأ النص وليست مقاصد
الوحي ذاتها. ومِنْ ثَمَّ يتحول النص إلى مجرد قناع يخفي وراءه الأهواء
والمصالح والنزعات والرغبات والميول. وتتمثل الخطورة أكثر فأكثر في موضوعات
السياسة كما يبدو ذلك في استعمال منهج النص في الإمامة عند القائلين بأن
الإمامة بالنص. فقد نص الكتاب على إمامة شخص بعينه وجعلها في سلالته؛ ومِنْ
ثَمَّ يعارض منهج النص مبدأ الوحي في الشورى
والخروج على الإمام العاصي. والنص سلاح ذو حدَّين. يمكن استعماله وتوجيهه ضد
قائله وقلب الحجة النقلية عليه. يستطيع صاحب كل مذهب أن يعتمد على نص وأن يجد
له نصًّا في الكتاب يؤيده، بل يستطيع أنصار المذاهب المتعارضة أن يجدوا جميعهم
نصوصًا لتأييدهم إمَّا عن حسن نية أو سوءة نية مهما كانت هناك من مناهج للتعارض
والتراجيح. وفي حقيقة الأمر يخضع منهج النص للاختيار الاجتماعي والسياسي
للنصوص. فقد حوت النصوص كل شيء. ويمكن لكل فرد أن يجد فيه ما يبغي وما يهوى.
صحيح أن هناك مقاييس موضوعية، مثل مبادئ اللغة وأسباب النزول والمصالح العامة،
ولكن مع ذلك لا يخلو استعمال النص عن هوًى أو رغبة أو ميل أو مصلحة بصرف النظر
عن درجتها خاصة أم عامة. ولا يعني ذلك بالضرورة سوء النية، ولكن كل فرقة تود
نصرة آرائها بالاعتماد على سلطة النصوص فتختار ما يوافق هواها. النص في الحقيقة
تابع لشيءٍ آخر هو الرأي أو الهوى أو المزاج؛ فهو يستعمل خادمًا لا مخدومًا،
وتابعًا لا متبوعًا. وعموم النص يعطيه القدرة على خدمة الجميع على قَدَم
المساواة، يعرض النص خدماته على الجميع، ويمكن إثبات شيئين متعارضَين من
فريقَين مختلفَين بنفس النص، كل منهما يرى فيه نفسه ويسقط عليه ما يريد.
١٦ لذلك يؤدي استعمال منهج النص إلى إحساس باليقين المطلق والحق
المسبق، فيؤدي إلى التعصب وعدم الاستعداد للتنازل عن شيء أو تغيير الموقف أو
الفهم المتبادل أو السماع للغير. وكثيرًا ما يؤدي إلى القطيعة في النظر. يوجه
السلوك فيؤدي إلى الامتثال والتحزب والفرقة والحمية والتكفير. يؤدي إلى ضيق
الأفق والحنق وإلى سرعة اتهام المخالفين بالكفر والإلحاد والخروج على الدين
وعلى الدولة ويستحيل معه تجميع الأمة على فكرة أو هدف؛ فيقضي على الوحدة
الوطنية.
مع ذلك فقد يكون لمنهج النص أحيانًا وفي فتراتٍ تاريخيةٍ محددة بعض الأثر
والفاعلية؛ فالعكوف على النص يؤدي إلى العثور على إمكانياته
اللامحدودة وفهم معانيه المتضمنة فيه
والتدقيق في هذه المعاني وإخراج الكامن منها دون نسيانه أو لفظه أو إهماله
جانبًا باعتباره تاريخًا مدوَّنًا أو تراثًا مكتوبًا أو أساطير الأولين. ويؤدي
ذلك إلى إيجاد منطق للنص، منطقٍ لغوي يكون وسيلة لإحكام المعاني حتى لا يُقال
فيه بالظنون، ومنطقٍ عملي لتوجيه السلوك، ومنطقٍ واقعي لفهم العالم وتغييره.
وربما يؤدي ذلك إلى عثور على منطقٍ داخلي للنص يكون منطقًا للوحي ثم استعماله
لنقد كل أنواع المنطق الأخرى صورية أو مادية أو كشفية؛ لذلك قام الفقهاء،
حمَلةُ النص، بنقد المنطق القديم ووضع منطقٍ جديد باسم النص.
١٧
وقد يمتاز منهج النص بأنه يبدأ ببداية تجعل عمل العقل قائمًا على أساسٍ
يقيني، وتحمي نشاط العقل من التشعب والتشتت والتقلب والتذبذب، كما تحميه من
الظنون والأوهام والمعتقدات والشكوك والمصالح والأهواء. يقوم النص هنا بدور
الأوَّليات أو البديهيات. هذه الوحدة الفكرية الأولى تظهر في الالتزام العلمي
بوحدة الأمة وبمنهج الجماعة وعدم اللجوء إلى الرأي الشخصي إلا بعد مشورة
الجماعة؛ فالآخر له وجودٌ معرفي وله وظيفةٌ معرفية. والحقيقة تكون أكثر يقينًا
في شعور الجماعة وتكون أكثر قابلية للتحقيق والتصديق والمراجعة.
وقد يعطي منهج النص بعض الشجاعة والقوة على الرفض الحضاري إذا ما تخلَّت
الجماعة عن النص واتَّبعت التقليد، وابتعدت عن المركز وقبعت في المحيط. يقوم
منهج النص هنا بعملية تطهير، ويعيد المجتمع إلى القلب من الأطراف، ويعود إلى
الناس الإيمان بالنص في مواجهة إعمال العقل، وترجع الحضارة إلى الأنا في مواجهة
الآخر، تحافظ على الهوية ضد «التغريب» أو «التغريق»، والدفاع عن الأصالة في
مواجهة دعوى المعاصرة والتحديث. يكون منهج النص عاملًا مطهِّرًا كلما تكاثرت
النظريات العقلية وتراكمت فوق الواقع حتى أوشك النص على النسيان، فينتفض النص
ويقوم بحملةٍ نقدية ضد تراكمات العصور. وينشط العقل من جديد ناقدًا نفسه أو
مدافعًا عن حقه في البداهة أو مُنظِّرًا من جديد. وهذه الانتفاضات عملياتٌ
حضاريةٌ طبيعية تُجدِّد بها الحضارة نفسها
من ذاتها ثم تنشأ المشكلة من جديد إلى أن يسير النص إلى العقل (علوم الحكمة) أو
إلى القلب (علوم التصوف) أو إلى الواقع (علم أصول الفقه) أو إلى العقائد (علم
أصول الدين). عملية «الامتداد الحضاري» ليست تقليدًا وتبعية للآخرين، وعملية
«الانكماش الحضاري» ليست رجعيةً ومحافظةً وتخلُّفًا، بل هما عمليتان ضروريتان
في كل حضارة، كلٌّ منهما تعبر عن ضرورة وواقع وحاجة، وتدرأ أخطارًا مخالفة للأخرى.
١٨
أمَّا الدليل النقلي العقلي أو العقلي النقلي، فإنه لا وجود له لأن كل وسط
أقرب إلى أحد الطرفين، وهو أقرب إلى النقلي منه إلى العقلي وينتهي في الغالب في
حالة التعارض إلى تغليب النقل على العقل وهدم العقل. ويصعب التركيب بين النقل
والعقل لأنهما متضادان. النقل به كل حدود الرواية واللغة والتفسير والعقل موطن
البداهة والوضوح والتمييز. والاتساق الفكري للخطاب العقلي لا يسمح بكسره أو
قطعه بأدلةٍ خارجية. واليقين الداخلي مكتفٍ بذاته لا يحتاج إلى يقينٍ خارجيٍّ
زائد.
(٢) الدليل العقلي
لم يبقَ إذن إلا الدليل العقلي، والعقل هنا بمعناه الشامل الذي يشمل الحس
والعقل والخبر. غرض التحليل العقلي هو عرض النص ذاته على المستوى العقلي الخالص
ودفع المعارض العقلي، بل وتخيُّله والرد عليه سلفًا حتى ليعدُّ تحليل العقل من
أدق ما قدمه علماء أصول الدين من اتساقٍ نظري. تقوم القسمة العقلية بعرض
الموضوع أوَّلًا على المستوى النظري واحتمالاته المختلفة ثم يقوم العقل بتفنيد
كل احتمال حتى يبقى احتمالٌ واحدٌ ممكن بضرورة العقل. وهو ما يحدث أيضًا على
مستوى التجربة في الأصول ومناهج البحث عن العلة والمعروفة بطريقة السبر
والتقسيم أي تحليل العوامل ثم عزل العوامل غير المؤثرة لمعرفة العامل المؤثر؛
لذلك دخلت نظرية «العلة والمعلول» ضمن «الأمور العامة» في «العلوم». والقسمة
العقلية هي في الحقيقة الجوانب المختلفة للموضوع والذي ينكشف في الشعور بعد
تحليله.
ميزة الدليل العقلي أنه يبدأ ببدايةٍ يقينية هو وضوح العقل وبداهته، فلا
يحتاج إلى إيمانٍ مسبق بأي نص. يقضي العقل على كل لبس في فهم النصوص كما يقضي
على كل تفسيرٍ حرفي أو مادي له أو أي تفسير يضع المبادئ الإنسانية العامة موضع
الخطر. العقل هو الوريث الشرعي للوحي. ولما اكتمل الوحي فإن العقل هو التطور
الطبيعي له. منهج العقل إذن هو الاستمرار الطبيعي للنبوة، والتطور الطبيعي لها.
العقل هو الوسيلة لفهم السلوك حتى لا يكون الإنسان مجرد آلة لإطاعة الأوامر.
يفهم العقل أساس السلوك ودافعه وباعثه حتى ينبعث منه السلوك عن طبيعة، ويصدر
منه الفعل عن تمثل واقتناع. منهج العقل منهجٌ إنساني مهمته الدفاع عن حقوق
الإنسان، العقل والحرية والشورى والالتزام. لا توجد خطورة للقضاء على موضوعية
الوحي فالموضوعية لا تعني وجود وقائعَ ماديةٍ وذواتٍ مشخصة بل تنبع الموضوعية
من طبيعة العقل وإمكانية تحويل الوحي إلى سلوك ونظام. منهج العقل هو العامل
الفكري الذي تنبني عليه الحضارة. العقل هو منشئ الحضارة، وتُقاس درجة تقدم كل
حضارة بدرجة عقلانيتها. وهو القادر على استيعاب كل الصدمات الحضارية واحتواء كل
النظريات الغازية، وإعادة بنائها داخل النظرية العقلية العامة. لمنهج العقل
قدرةٌ فائقة على الامتصاص الحضاري للثقافات الواردة، ويغلب منهج العقل الجديد
على القديم، ويهمه الحاضر أكثر من الماضي. ويقوم على نوع من الشجاعة العقلية
والثقة بالنفس دون استناد إلى القديم استناد الخائف المضطرب أو الهارب الفار.
ويؤدي منهج العقل في النهاية إلى الانفتاح على الآخرين بما لديه من قدرة على
الحوار. فيحمي من الوقوع في التعصب؛ فالدليل هو الطريق لإثبات الحقيقة،
والبرهان هو المحك في اختلاف الناظرين.
وبالرغم من مزايا منهج العقل إلا أنه نظرًا لاستخداماته العديدة وتفريغه
أحيانًا من بعدَيه الآخرَين الشعور أي الداخل والواقع أي الخارج، فإنه يتحول
إلى مجرد آلةٍ صورية تدرك أشكال القياس دون مادة العلم. يستعمل أحيانًا للتبرير
أكثر من استعماله للتحليل. تبرير المادة المعطاة سلفًا لإيجاد اتساقها الداخلي
دون تحليلها إلى عناصرها الأولية، وبيان مدى تطابقها مع التجربة الحية ومع
الواقع العريض. ربما يقف العقل أمام بعض الموضوعات مثل «السمعيات» قابلًا لها،
جاعلًا أقصى عمله هو تأويلها وفهمها بما يتفق معه وليس بيان نشأتها؛ أي الدخول
في تكوين الموضوع ذاته. وإن قدرة العقل على التمثُّل والرغبة في البحث عن
الاتساق العقلي جعلته قادرًا على التمثل الحضاري لكل التراث العقلي المعاصر له،
فخفت قدرته على النقد وعلى الرفض؛ لذلك خرج نقد المنطق «الأرسطي» القديم على يد
الأشاعرة والفقهاء أكثر مما خرج من أيدي المعتزلة والحكماء. بل إن الرغبة في
بناء اتساق العقل واحتواء المعارض قد وصلت إلى حد التشعب الفكري والتجريد
الخالص حتى ضاعت الموضوعات المبدئية، وتحوَّلت إلى موضوعاتٍ صوريةٍ خالصة. تحول
الوحي إلى جدل، وتحوَّلت الموضوعات إلى حجج، وأصبح التفكير مجرد محاجة ومماحكة.
وقد لا يستطيع العقل الحصر في القسمة وبالتالي يكون بناء الموضوع ناقصًا. وقد
تندُّ بعض الموضوعات عن القسمة العقلية وذلك لأن الحياة أحيانًا لا تقبل القسمة
ولا يمكن تحويلها إلى موضوعاتٍ صوريةٍ خالصة وإلا فقدت وجودها كمضمون. وأحيانًا
تكون القسمة العقلية كاملة نظرًا من حيث الفكر، ولكنها غير مُرضية عملًا من حيث
السلوك. يمكن تحليل إمكانيات السلوك في موقف إلى إمكانيتين أو ثلاث وكل منها لا
يمكن استعمالها وكأن القسمة العقلية أضيق نطاقًا من الموقف الوجودي ذاته. العقل
دون نص أو تجربة أو واقع ينتهي إلى تأملٍ نظريٍّ خالص يبحث عن الحكمة لذاتها،
وتصبح الفضائل كلها نظرية، وقد يُغالى في العقل فيكون المطلق، ويكون المطلق
عقلًا وعاقلًا ومعقولًا في وقتٍ واحد.
١٩
فإذا تحول كل نص إلى حجة عقلية قائمة بذاتها حتى أصبحت قوة النص تتمثل في قوة
الحجة التي تعبر عنه، فإن الحجة العقلية لا تمس إلا الذهن، ولا ترمي إلا إلى
الاتساق المنطقي. وتترك الشعور نفسه وربما الواقع أيضًا دون اقتناع أو توجيه،
وتمثل نظرًا للوجود الشعوري والواقعي لموضوع الحجة. لذلك كان التحليل الشعوري
الواقعي لهذا الموضوع هو الطريق لمعرفته أو الحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. وإذا
اشتدت التعريفات العقلية، وتشعَّبت الحجج لإثبات الدعوى أو نقيضها واستحال
الفصل بينهما إن لم يكن قد صعب الفهم من قبلُ؛ يمكن الحسم باللجوء إلى تجربةٍ
شعوريةٍ واقعية تكون هي المادة التي تسمح للشعور بالتحليل وللواقع بالرؤية من
أجل إصدار حكم، وذلك لأن الحجج الصورية تمامًا عاجزة عن أن يكون العقل منها
حكمًا دون «أسباب النزول» أي دون واقعٍ معاش وتجارب فردية واجتماعية. والإفاضة
في أنواع الأدلة العقلية الخالصة جزء من علم المنطق. لذلك يؤثر القدماء
الاقتصار على وجوه الاستدلال من استنباط واستقراء وتمثيل دون دخول في موضوعات
المنطق العامة. ولكنها تستعمل استعمالًا جدليًّا كما تستعمل في حجج البحث عن
العلة في أصول الفقه استعمالًا جدليًّا.
٢٠ ويؤثر القدماء تعدد الأدلة بتعاضدها نظرًا لاختلاف الأذهان في درجة
التعلم وقبول اليقين. وقد لا يقنع الاعتماد على دليلٍ واحد الجمهور.
٢١
لذلك تدخل مناهج الأدلة سواء في البداية في علم الكلام المتقدم أو في النهاية
في علم الكلام المتأخر في موضوعٍ أعم وهو الأدلة الشرعية. ففي نظرية العلم في
المؤلفات المبكرة تبدو كأنها خارجة من ثنايا علم أصول الفقه، كما أنها تعتمد
على الأدلة الشرعية كمصدر للعلم وتزيد عليها دليل العقل.
٢٢ وقد تجتمع هذه الأدلة مع أدلة المنطق من استنباط وقياس وتمثيل.
٢٣ فالعلوم الشرعية قسم من العلوم النظرية؛ لأن صحة الشريعة مبنية على
صحة النبوة، وهذه لا تُعلم إلا بطريق النظر والاستدلال.
٢٤ فالعلوم النظرية نوعان: عقلي وشرعي، وكلاهما مُكتسَب بالنظر
والاستدلال.
والأحكام الشرعية مأخوذة من أربعة أصول: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
وهنا يدخل علم الأصول كجزء من نظرية العلم. وتمتد نظرية العلم حتى تحتوي المنطق
والأصول والتصوف والفلسفة والحديث.
٢٥ فالكتاب يحتوي على الوحي، وهو اليقين المطلق. ولكنه وحيٌ مدوَّن،
ومِنْ ثَمَّ يحتاج إلى تفسير واستدلال قائم على طبيعة اللغة واستعمالها في
التعبير، وإنكار النبوة قضاء على هذا الأصل.
٢٦ والسنة على خلاف الكتاب، منها المتواتر الذي يورث العلم الضروري،
والمستفيض الذي يورث العلم المكتسَب، في حين أن الكتاب يورث العلم الضروري.
التواتر يورث اليقين في العلم والعمل، في حين أن الآحاد يورث اليقين في العمل
فقط ويبقي العلم ظنيًّا.
٢٧ وأمَّا الإجماع فهو اتفاق كل عصر، وهو استدلالٌ جماعي يعطي يقينًا
أكثر من الاستدلال الضروري، ويكون أقل عرضةً للخطأ.
٢٨ وأمَّا القياس فهو استدلال فردي في واقعة ليس فيها نص من كتاب أو
سنة أو إجماع، وهو على درجاتٍ متفاوتة من اليقين.
وهكذا تنتهي نظرية العلم بعد أن بلغت ذروتها في نظرية المنطق وصبَّت في
النهاية في نظرية الأدلة في علم أصول الفقه، وكأن نظرية الأدلة الشرعية في علم
أصول الفقه أوسع نطاقًا من نظرية العلم في علم أصول الدين؛ نظرًا لاحتوائها على
دور الجماعة في الاستدلال ودور الواقع والمصالح العامة من خلال شعور المجتهد
وإحساسه بمصالح الأمة. جمعت بين المعرفة الحسية والعقلية والوجدانية، وضمت
إليها المعرفة التاريخية من خلال التواتر، ولكن نقصها شيئان يمكن إكمالهما من
المعاصرين حتى تكتمل نظرية العلم.
الأوَّل تحليل اللغة؛ لغة العلم ومصطلحاته، فهذه تركها القدماء وكأن لغة
العلم مفترضة سلفًا، خاصةً وأن علم العقائد له مصطلحاته الخاصة مثل: «الله»،
«الإيمان»، «الآخرة»، منها ما هو حسي عقلي مثل الإيمان والعمل والإمامة، ومنها
ما هو تاريخي مثل النبوة، ومنها ما هو غيبي مثل: «الله» و«الآخرة».
٢٩
والثاني تحليل الواقع الذي منه نشأ علم العقائد ووصف الآثار الفعلية للعقائد
في حياة الناس وكيفية توجيهها لسلوكهم. وهل يمكن تغيير التصورات لإحداث تغييرٍ
مماثل في الأفعال. فالتوحيد عند القدماء ليس فقط توحيد نظر بل توحيد عمل. يبدو
أن التركيز عندهم كان على الأوَّل دون الثاني في حين أنه عندنا قد يكون التركيز
على الثاني دون الأوَّل.
٣٠
مع ذلك يظل الدرس المستفاد من القدماء هو أنه لا يمكن تأسيس علم للتوحيد دون
تأسيسٍ مسبق لنظرية في العلم. فليس المهم هو الموضوع بل المنهج، بل إن طبيعة
الموضوع والنتائج فيه والحكم عليه إنما هي مشروطة بالمنهج المتبع ونوعية الأدلة
فيه. نظرية العلم في النهاية هي التي تحدد موضوع العلم.