ثامنًا: مناهج الأدلة

وتبلغ نظرية العلم ذروتها في الأدلة؛ إذ إن نظرية العلم في نهاية الأمر هي نظرية في الدلالة. فالدليل يؤدي إلى المدلول، والمدلول إلى الدالِّ، والدالُّ إلى المستدَلِّ، وكلها عملياتٌ شعورية تتم بأفعال الشعور.١ الدليل هو ما أمكن أن يُتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يصح باضطرار.٢ فالعلم الحاصل هو المطلوب أو المدلول، وازدواج الأصلين الملتزمين لهذا العلم هو الدليل، والعلم بوجه اللزوم هو العلم بوجه دلالة الدليل. وقد يكون الدليل علة أو معلولًا أو الاستدلال بأحدهما على وجود الآخر؛ لذلك تحوَّل موضوع العلة والمعلول إلى مبحثٍ مستقل في «نظرية الوجود». ويكون النظر في الدليل إجماليًّا أو تفصيليًّا، والواجب على المكلَّف معرفة العقائد بالدليل الإجمالي. وأمَّا التفصيل ففرض كفاية. وقد يكون الدليل هو المرشد إلى معرفة الغائب عن الحواس، وهو ما يُعرف باسم الأمارة أو الإيماءة أو الإشارة أو العلامة أو القرينة أو الحال. ويُسَمَّى دليلًا مجازًا؛ نظرًا لتشابهه في الوظيفة مع الدليل. وقياس الغائب على الشاهد يقوم على أدلة من هذا النوع. والفرق بين الدليل والأمارة هو أن الدليل يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول، أمَّا الأمارة فهي التي يلزم من العلم بها ظن وجود المدلول.٣ وقد يكون الدليل عقليًّا خالصًا؛ أي الفكر والتأمل، وقد يكون لغويًّا نصيًّا، فتكون العبارة أو النطق هي الدليل لأنها تعبر عن النظر والتأمل،٤ والبحث في الدليل العقلي وهو الذي أدى إلى البحث في أنواع الأدلة ووجه الدلالة. فالدليل العقلي يلزم من وجوده وجود المدلول. وقد يحدث اللزوم من طرف إلى آخر، فيكون الاستدلال بالمشروط على الشرط أو بالمعلول على العلة أو بالعلة على المعلول. كما يمكن من البحث عن البرهان إبطال النقيض وهو ما يُسَمَّى ببرهان الخلف.
والأدلة ثلاثة: أدلة نقلية خالصة، وأدلة نقلية عقلية أو عقلية نقلية، وأدلة عقلية خالصة.٥ فالمطالب ثلاثة أنواع: الأوَّل ما لا يمتنع عقلًا إثباته ولا نفيه، فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل؛ أي الخبر، مثل وجود الأشخاص والمدن. والثاني ما يتوقف عليه النقل، مثل وجود «الله» ووجود الرسول، وهذا لا يثبت إلا بالعقل وإلا لزم الدَّور لأن الوحي يتطلب وجود «إله» يرسل رسولًا، ومن هنا يكون العقل أساس النقل ليس فقط من حيث قصد الوحي، بل أيضًا من حيث مضمون الوحي والتصديق به وصدقه في الواقع، وفي هذه الحالة يكون الدليل مركَّبًا من العقل والنقل أو من النقل والعقل. والثالث مثل الحدوث والوحدة وسائر الأمور العامة، فهي أمور يمكن إثباتها بالعقل؛ إذ تمتنع معارضته بالدليل كما تمتنع معارضته بالنقل لأنها غير متوقفة عليه.٦

(١) نقد الدليل النقلي

والحقيقة أن الدليل النقلي الخالص لا يمكن تصوره لأنه لا يعتمد إلا على صدق الخبر سندًا أو متنًا، وكلاهما لا يثبتان إلا بالحس والعقل طبقًا لشروط التواتر … فالخبر وحده ليس حجة ولا يثبت شيئًا على عكس ما هو سائد في الحركة السلفية المعاصرة من اعتمادها شبه المطلق على «قال الله» و«قال الرسول» واستشهادها بالحجج النقلية وحدها دون إعمال للحس أو للعقل، وكأن الخبر حجة، وكأن النقل برهان، وأسقطت العقل والواقع من الحساب في حين أن العقل أساس النقل، وأن القدح في العقل قدح في النقل، وأن الواقع أيضًا أساس النقل بدليل «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ». ولا يمكن إثبات صحة الخبر بالمعجزة وحدها، ولا يمكن تصديقه فقط بإثبات الصحة التاريخية عن طريق النقد الخارجي دون الاهتمام بالنقد الداخلي أي بفهمه وتفسيره وإيجاد تطابقه مع الحس والعقل، مع التجربة البشرية الفردية والاجتماعية. الدليل النقلي في حقيقة الأمر هو في نفس الوقت دليل حسي وعقلي، فالوحي متعدد الأطراف متشعب في الحس والعقل. وهو وحي وعقل وواقع، ثلاثة جوانب لشيءٍ واحد، الوحي أحدها، يقوم على العقل ويرتكز على الواقع. ليس العقل مغلقًا على نفسه بل يضم الوحي، والوحي ليس صوريًّا بل يقوم على الواقع، والواقع ليس ماديًّا مصمتًا ولكنه يتقبل الوحي كما يتقبل تنظير الواقع له. بل إن ما يعلم بالقياس والنظر أو بالحس والمشاهدة لا يعلم بالخبر. فالحس والعقل من شروط التواتر. ولا يعطي الخبر جديدًا مستقلًّا عن المعارف الحسية والعقلية. ما عُرف بالحس أو النظر أو الاستدلال لا نحتاج إلى معرفته بالخبر، باستثناء «الشعائر» وهي بالنسبة للعقلاء العمل الصالح؛ لأنها بواعث على التقوى. قد يؤثر الخبر وحده في العامة لأنها لا تقدر على استعمال العقل وتؤثر الخيال، ولا تقدر على فعل الحسن لذاته وتجنب القبح لذاته وحاجتها في ذلك إلى الخبر. يقين التواتر ليس من الخبر باعتباره خبرًا، بل من شروط التواتر وفي مقدمتها التطابق مع شهادة الحس والعقل والوجدان وامتناع التواطؤ على الكذب. فالتواتر يتضمن يقينه الداخلي دون حاجة إلى صدقٍ خارجي، خاصة ولو كان عن طريق هدم قوانين الطبيعة أو مناقضة أوائل العقول أو اضطراب في المعارف الحسية عن طريق المعجزات.٧
والدليل النقلي يقوم على التسليم المسبق بالنص كسلطة أو كسلطةٍ إلهية لا يمكن مناقشتها أو نقدها أو رفضها؛ فهو دليل إيماني صرف، يعتمد على سلطة الوحي، وليس على سلطة العقل، وبالتالي فلا تلزم إلا المؤمن بها سلفًا، تلزم المسلمين المؤمنين وحدهم دون المسلمين (غير المؤمنين)، ودون سائر أهل الملل والنحل الذين لا يؤمنون بسلطة الوحي. وبالتالي يفقد العلم بهذا الدليل قدرته على الحوار مع الخصوم، سواء من الداخل أو من الخارج، وهو الذي أتى للدفاع عن العقيدة ضد منتقديها من أهل الزيغ والبدع والأهواء الضالة. في هذه الحالة لا تنفع إلا حجة العقل وحده الذي يشارك فيه الجميع ويسلم ببراهينه وحججه. فإذا كانت المدارك الحسية والعقلية عامة مع كافة الخلق إلا من لا عقل له ولا حس، وكان الأصل معروفًا، فإن التواتر بنفسه لا يفيد علمًا ولا ينفع إلا من آمن به ووصل إليه، كما أن السمعيات لا تنفع إلا من يثبت السمع عنده.٨ وقد جعل ذلك مهمة المفسر الدفاع عن حقوق «الله» مصدر النص دون حقوق الإنسان. نصب نفسه مدافعًا عن حقوق الله ناسيًا حقوقه هو كإنسان وغير عالم بأن الدفاع عن حقوق «الله» ليس من مهمته، وبأن الدفاع عن حقوق الإنسان هو في نفس الوقت دفاع عن حقوق «الله»، وأن إثبات حقوق «الله» دون إثبات حقوق الإنسان هو في حد ذاته إنكار لحقوق «الله»؛ إذ لا تثبت حقوق «الله»، وفيها إنكار لحقوق الإنسان.
ويصطدم الدليل النقلي بمشاكل اللغة والتفسير والفهم؛ فالنص ليس حجةً عقليةً بديهية، بل هو خاضع لقواعد التفسير ولأصول الفهم ولشروط الإدراك، النص بذاته ليس حجة بل هو مقروء ومفهوم ومفسَّر ومحوَّل إلى فكرة في زمانٍ محدد أو مكانٍ معين. لا يكون الدليل النقلي دالًّا إلا بعد المواضعة، ومن جهة المعنى المستخرج من المنطق ظهرت اللغة كأحد مكونات الفكر، وظهر الدليل اللغوي دالًّا من جهة المواطأة على معاني الكلام. والدلالة اللفظية لا تفيد اليقين في علم أصول الدين على عكس ما قد تفيده في علم أصول الفقه. ومِنْ ثَمَّ فالدلائل النقلية كلها لا تفيد اليقين؛ نظرًا لاعتمادها على اللغات. ولما كان الدليل مكتوبًا فقد ظهرت الرموز والحروف كأحد مكوِّنات الدليل.٩ كما يرتبط الفهم بمعرفة قواعد التفسير، سواء في منطق الألفاظ مثل الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤوَّل، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد، إلى آخر ما وضعه علماء أصول الفقه. ويساعد ذلك منطق السياق من فحوى الخطاب ولحن الخطاب، وصلة النص بالواقع في «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ». وبالتالي فإن الحجج النقلية كلها ظنية حتى لو تضافرت وأجمعت على شيء أنه حق؛ لم يثبت أنه كذلك إلا بالعقل ولو بحجةٍ عقلية واحدة، وذلك لاعتمادها على اللغة والرواية والأقيسة ولاحتمال وجود المعارض العقلي. ولا تتحول إلى يقين إلا بقرائن من الحس والمشاهدة. والقرائن الحسية ليست فقط تدعيمًا للحجة النقلية بل للحجة العقلية كذلك. فالواقع أساس النقل والعقل على السواء.١٠ يبدأ الدليل النقلي من خارج العقل وتكون وظيفة العقل مجرد الفهم في أحسن الحالات أو التبرير في أسوأ الحالات. الدليل النقلي إذن يقضي على وظيفة العقل في تحليل الوقائع وعلى طبيعته المستقلة. وكيف يكون العقل وسيلة للمعرفة ويبدأ الدليل النقلي؟ وكيف يبدأ الدليل النقلي وحجته لم تعلم إلا بالدليل العقلي؟ وكيف إذا تعارض العقل والنقل فمن الحكَم؟ لا يكون إلا العقل. وكيف إذا تعارض النقل والعقل؟ يكون إثبات العقل وتأويل النقل، فالعقل أساس النقل. إن النص لا يثبت شيئًا، بل هو في حاجة إلى إثبات، في حين لا يقف شيءٌ غامض أمام العقل، فالعقل قادر على إثبات كل شيء أمامه أو نفيه. لا مفر إذن من البداية بالدليل العقلي، فالعقل أساس النقل. وكون النقل حجة بداية عقلية.١١ إن النقل لا يعطي إلا افتراضات يمكن التحقق من صدقها في العقل ومن صحتها في الواقع، كما يعطي حدوسًا يمكن البرهنة على صدقها بالعقل وعلى صحتها في التجارب اليومية، ويكون المحك في النهاية العقل والواقع. العقل وحده وسيلة التخاطب، والواقع وحده هو القدر المشترك الذي يراه جميع الناس، فالاستدلال العقلي والإحصاء الاستقرائي دعامتا اليقين.
وكلما تطور علم الكلام قل اعتماده على النص وزاد اعتماده على العقل، كما حدث بعد القرن السادس عندما اعتمد اعتمادًا كليًّا على العقل حتى أصبح وريثًا لعلوم الحكمة مستمدًّا مادته ومنهجه ونظريته في العلم ومصطلحاته منها. وكأن نقد علوم الحكمة في القرن الخامس والدعوة إلى التصوف أدى إلى هروب الحكمة، فتلقفها التوحيد في علم الكلام المتأخر ثم تلقفها التصوف في القرنين السادس والسابع في التصوف الإلهي. وقد كان هذا الاعتماد وقتيًّا لأن علم التوحيد اعتمد فيما بعدُ على أصول الفقه وعلى علوم التصوف. وكما اختلطت مقدماته من قبلُ بالمنطق والحكمة فقد اختلطت فيما بعدُ بأصول الفقه وبالتصوف.١٢ وفي الشروح والملخَّصات ظهر العقل من أجل إيجاد اتساق الخطاب مع نفسه بمزيد من الاستدلال دون إضافة واقعٍ جديد حتى انزوى العقل في النص ولم يخرج منه. اتسق الفكر، وأمكن التعبير عنه في قضايا عقليةٍ معدودة والإسهاب فيها بإيجاد الدلالة العقلية عليها ثم التدليل على الأدلة ثم التدليل على التدليل إلى ما لا نهاية حتى أصبح العقل بلا موضوع إلا ذاته. فالاعتماد على العقل الخالص بلا واقعٍ اجتماعي للناس صوريةٌ خالصة تعبر عن البيئة الثقافية القديمة. بل لقد تحول التصوف إلى حجةٍ مضادة للعقل وهادمة له، وبالتالي تم القضاء على أساس العلم.

ويعطي الدليل النقلي الأولوية للنص على الواقع، فهو بداية من خارج الواقع وكأن النص هو الواقع مع أن النص في بدايته واقعة معروفة في أسباب النزول. يغفل الدليل النقلي ليس فقط الواقعة الجديدة المشابهة، بل أيضًا الواقعة الأولى؛ وبالتالي يستخدم النص طائرًا في الهواء بلا محل، يخلقه واقعه من نفسه، فيظل فارغًا بلا مضمون. ينغلق النص على ذاته أو يستعمل في غير موضعه طبقًا للهوى والمصلحة كواقع بدليل. إن النص بطبيعته مجرد صورة عامة تحتاج إلى مضمون يملؤها. وهذا المضمون بطبيعته قالبٌ فارغ يمكن ملؤه من حاجات العصر ومقتضياته التي هي بناء الحياة الإنسانية التي عبر فيها الوحي في المقاصد العامة. ومِنْ ثَمَّ فالتأويل ضرورة للنص. ولا يوجد نص إلا ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به. لا يعني التأويل هنا بالضرورة إخراج النص من معنًى حقيقي إلى معنًى مجازي لقرينة، بل هو وضع مضمون معاصر للنص؛ لأن النص قالب دون مضمون. التأويل هنا ضرورة اجتماعية من أجل تحويل الوحي إلى نظام بتغيير الواقع إلى واقعٍ مثالي. حتى النصوص الجلية الواضحة التي لا تحتاج في فهمها إلى تأويل أو إلى سبب نزول، بل إلى مجرد الحدس البسيط، حتى هذه النصوص لفهمها حدسًا تحتاج إلى مضمونٍ معاصر يكون أساس الحدس. وبدون هذا المضمون المعاصر لملء النص الجلي لا يمكن رؤيته حدسًا. وقد حوت النصوص أنماطًا مثاليةً للوقائع يمكن أن تكون أصولًا لمجموع الوقائع الجديدة اللامتناهية، وتلك هي مهمة القياس الشرعي. العلاقة إذن ليست بين العقل والنقل وحدها ولكنها علاقة ثلاثية بإدخال طرفٍ ثالث هو الواقع يكون بمثابة مرجع صدق وتحقيق لو حدث أي تعارض بين العقل والنقل. ولا يكاد يتفق اثنان على معنًى واحد للنص في حين أن استعمال العقل أو اللجوء إلى الواقع يمكن أن يؤدي إلى اتفاق. ولا تستطيع اللغة وحدها أن تكون مقياس فهم النص والتوفيق بين المعاني. تحتاج اللغة إلى حدس وهو عمل العقل أو إلى تجربة وهو دور الواقع. فالواقع واحد لا يتغير. ولا يمكن الخطأ فيه لأنه واقع يمكن لأي فرد أن يتحقق من صدق الحكم عليه. وإن كل اختلافات الأحكام على الواقع إنما ترجع في الحقيقة إلى اختلافات في مقاييس هذه الأحكام وأسسها وليس إلى موضوع الحكم. وغالبًا ما تكون هذه الأسس ظنونًا أو معتقدات أو مسلَّمات على أحسن تقدير أو مصالح وأهواء ورغبات وسوء نية على أسوأ تقدير. وفي حقيقة الأمر الفكر هو الواقع، والواقع هو الفكر، وليس لأحدهما أولويةٌ زمانية على الآخر أو أي نوع من الأولوية من حيث الشرف والقيمة. الفكر واقع متحرك والواقع فكرٌ مرئي. وكل فكر لا يتحقق في الواقع لا يكون إلا هوًى أو انفعالًا ذاتيًّا، وكل واقع لا يتحول إلى فكر يكون واقعًا مصمتًا أو واقعًا ناقصًا.

وأولوية النص على الواقع تعطي الأولوية للتقليد على التجديد، وللماضي على الحاضر، وللتاريخ على العصر.١٣ يرجع التاريخ إلى الوراء لأنه ما زال يعتمد على سلطة الوحي وأمر الكلمة، وما زال يتطلب الطاعة المطلقة لمجرد الأمر، في حين أن اكتمال الوحي يعني بداية العقل وأن الوحي ما هو إلا تعبير عن كمال الطبيعة وكمال الإنسان. منهج النص يحيل الشعور إلى شعورٍ سلبيٍّ خالص، يجعله مجرد آلة لتنفيذ الأوامر دون تعقيل لها أو حتى إيمانٍ شخصي بها.١٤ والتقليد ليس منهجًا عقليًّا أو نقليًّا، بل هو من مضادات العلم. وتقدم العلم مرهون برفع التقليد.١٥
ولما كان النص فارغًا إلا من الوقائع الأولى التي سبَّبت نزوله، فإن كثيرًا ما تتدخل الأهواء والمصالح الشخصية والظنون والمعتقدات لتملأ النص وليست مقاصد الوحي ذاتها. ومِنْ ثَمَّ يتحول النص إلى مجرد قناع يخفي وراءه الأهواء والمصالح والنزعات والرغبات والميول. وتتمثل الخطورة أكثر فأكثر في موضوعات السياسة كما يبدو ذلك في استعمال منهج النص في الإمامة عند القائلين بأن الإمامة بالنص. فقد نص الكتاب على إمامة شخص بعينه وجعلها في سلالته؛ ومِنْ ثَمَّ يعارض منهج النص مبدأ الوحي في الشورى والخروج على الإمام العاصي. والنص سلاح ذو حدَّين. يمكن استعماله وتوجيهه ضد قائله وقلب الحجة النقلية عليه. يستطيع صاحب كل مذهب أن يعتمد على نص وأن يجد له نصًّا في الكتاب يؤيده، بل يستطيع أنصار المذاهب المتعارضة أن يجدوا جميعهم نصوصًا لتأييدهم إمَّا عن حسن نية أو سوءة نية مهما كانت هناك من مناهج للتعارض والتراجيح. وفي حقيقة الأمر يخضع منهج النص للاختيار الاجتماعي والسياسي للنصوص. فقد حوت النصوص كل شيء. ويمكن لكل فرد أن يجد فيه ما يبغي وما يهوى. صحيح أن هناك مقاييس موضوعية، مثل مبادئ اللغة وأسباب النزول والمصالح العامة، ولكن مع ذلك لا يخلو استعمال النص عن هوًى أو رغبة أو ميل أو مصلحة بصرف النظر عن درجتها خاصة أم عامة. ولا يعني ذلك بالضرورة سوء النية، ولكن كل فرقة تود نصرة آرائها بالاعتماد على سلطة النصوص فتختار ما يوافق هواها. النص في الحقيقة تابع لشيءٍ آخر هو الرأي أو الهوى أو المزاج؛ فهو يستعمل خادمًا لا مخدومًا، وتابعًا لا متبوعًا. وعموم النص يعطيه القدرة على خدمة الجميع على قَدَم المساواة، يعرض النص خدماته على الجميع، ويمكن إثبات شيئين متعارضَين من فريقَين مختلفَين بنفس النص، كل منهما يرى فيه نفسه ويسقط عليه ما يريد.١٦ لذلك يؤدي استعمال منهج النص إلى إحساس باليقين المطلق والحق المسبق، فيؤدي إلى التعصب وعدم الاستعداد للتنازل عن شيء أو تغيير الموقف أو الفهم المتبادل أو السماع للغير. وكثيرًا ما يؤدي إلى القطيعة في النظر. يوجه السلوك فيؤدي إلى الامتثال والتحزب والفرقة والحمية والتكفير. يؤدي إلى ضيق الأفق والحنق وإلى سرعة اتهام المخالفين بالكفر والإلحاد والخروج على الدين وعلى الدولة ويستحيل معه تجميع الأمة على فكرة أو هدف؛ فيقضي على الوحدة الوطنية.
مع ذلك فقد يكون لمنهج النص أحيانًا وفي فتراتٍ تاريخيةٍ محددة بعض الأثر والفاعلية؛ فالعكوف على النص يؤدي إلى العثور على إمكانياته اللامحدودة وفهم معانيه المتضمنة فيه والتدقيق في هذه المعاني وإخراج الكامن منها دون نسيانه أو لفظه أو إهماله جانبًا باعتباره تاريخًا مدوَّنًا أو تراثًا مكتوبًا أو أساطير الأولين. ويؤدي ذلك إلى إيجاد منطق للنص، منطقٍ لغوي يكون وسيلة لإحكام المعاني حتى لا يُقال فيه بالظنون، ومنطقٍ عملي لتوجيه السلوك، ومنطقٍ واقعي لفهم العالم وتغييره. وربما يؤدي ذلك إلى عثور على منطقٍ داخلي للنص يكون منطقًا للوحي ثم استعماله لنقد كل أنواع المنطق الأخرى صورية أو مادية أو كشفية؛ لذلك قام الفقهاء، حمَلةُ النص، بنقد المنطق القديم ووضع منطقٍ جديد باسم النص.١٧

وقد يمتاز منهج النص بأنه يبدأ ببداية تجعل عمل العقل قائمًا على أساسٍ يقيني، وتحمي نشاط العقل من التشعب والتشتت والتقلب والتذبذب، كما تحميه من الظنون والأوهام والمعتقدات والشكوك والمصالح والأهواء. يقوم النص هنا بدور الأوَّليات أو البديهيات. هذه الوحدة الفكرية الأولى تظهر في الالتزام العلمي بوحدة الأمة وبمنهج الجماعة وعدم اللجوء إلى الرأي الشخصي إلا بعد مشورة الجماعة؛ فالآخر له وجودٌ معرفي وله وظيفةٌ معرفية. والحقيقة تكون أكثر يقينًا في شعور الجماعة وتكون أكثر قابلية للتحقيق والتصديق والمراجعة.

وقد يعطي منهج النص بعض الشجاعة والقوة على الرفض الحضاري إذا ما تخلَّت الجماعة عن النص واتَّبعت التقليد، وابتعدت عن المركز وقبعت في المحيط. يقوم منهج النص هنا بعملية تطهير، ويعيد المجتمع إلى القلب من الأطراف، ويعود إلى الناس الإيمان بالنص في مواجهة إعمال العقل، وترجع الحضارة إلى الأنا في مواجهة الآخر، تحافظ على الهوية ضد «التغريب» أو «التغريق»، والدفاع عن الأصالة في مواجهة دعوى المعاصرة والتحديث. يكون منهج النص عاملًا مطهِّرًا كلما تكاثرت النظريات العقلية وتراكمت فوق الواقع حتى أوشك النص على النسيان، فينتفض النص ويقوم بحملةٍ نقدية ضد تراكمات العصور. وينشط العقل من جديد ناقدًا نفسه أو مدافعًا عن حقه في البداهة أو مُنظِّرًا من جديد. وهذه الانتفاضات عملياتٌ حضاريةٌ طبيعية تُجدِّد بها الحضارة نفسها من ذاتها ثم تنشأ المشكلة من جديد إلى أن يسير النص إلى العقل (علوم الحكمة) أو إلى القلب (علوم التصوف) أو إلى الواقع (علم أصول الفقه) أو إلى العقائد (علم أصول الدين). عملية «الامتداد الحضاري» ليست تقليدًا وتبعية للآخرين، وعملية «الانكماش الحضاري» ليست رجعيةً ومحافظةً وتخلُّفًا، بل هما عمليتان ضروريتان في كل حضارة، كلٌّ منهما تعبر عن ضرورة وواقع وحاجة، وتدرأ أخطارًا مخالفة للأخرى.١٨

أمَّا الدليل النقلي العقلي أو العقلي النقلي، فإنه لا وجود له لأن كل وسط أقرب إلى أحد الطرفين، وهو أقرب إلى النقلي منه إلى العقلي وينتهي في الغالب في حالة التعارض إلى تغليب النقل على العقل وهدم العقل. ويصعب التركيب بين النقل والعقل لأنهما متضادان. النقل به كل حدود الرواية واللغة والتفسير والعقل موطن البداهة والوضوح والتمييز. والاتساق الفكري للخطاب العقلي لا يسمح بكسره أو قطعه بأدلةٍ خارجية. واليقين الداخلي مكتفٍ بذاته لا يحتاج إلى يقينٍ خارجيٍّ زائد.

(٢) الدليل العقلي

لم يبقَ إذن إلا الدليل العقلي، والعقل هنا بمعناه الشامل الذي يشمل الحس والعقل والخبر. غرض التحليل العقلي هو عرض النص ذاته على المستوى العقلي الخالص ودفع المعارض العقلي، بل وتخيُّله والرد عليه سلفًا حتى ليعدُّ تحليل العقل من أدق ما قدمه علماء أصول الدين من اتساقٍ نظري. تقوم القسمة العقلية بعرض الموضوع أوَّلًا على المستوى النظري واحتمالاته المختلفة ثم يقوم العقل بتفنيد كل احتمال حتى يبقى احتمالٌ واحدٌ ممكن بضرورة العقل. وهو ما يحدث أيضًا على مستوى التجربة في الأصول ومناهج البحث عن العلة والمعروفة بطريقة السبر والتقسيم أي تحليل العوامل ثم عزل العوامل غير المؤثرة لمعرفة العامل المؤثر؛ لذلك دخلت نظرية «العلة والمعلول» ضمن «الأمور العامة» في «العلوم». والقسمة العقلية هي في الحقيقة الجوانب المختلفة للموضوع والذي ينكشف في الشعور بعد تحليله.

ميزة الدليل العقلي أنه يبدأ ببدايةٍ يقينية هو وضوح العقل وبداهته، فلا يحتاج إلى إيمانٍ مسبق بأي نص. يقضي العقل على كل لبس في فهم النصوص كما يقضي على كل تفسيرٍ حرفي أو مادي له أو أي تفسير يضع المبادئ الإنسانية العامة موضع الخطر. العقل هو الوريث الشرعي للوحي. ولما اكتمل الوحي فإن العقل هو التطور الطبيعي له. منهج العقل إذن هو الاستمرار الطبيعي للنبوة، والتطور الطبيعي لها. العقل هو الوسيلة لفهم السلوك حتى لا يكون الإنسان مجرد آلة لإطاعة الأوامر. يفهم العقل أساس السلوك ودافعه وباعثه حتى ينبعث منه السلوك عن طبيعة، ويصدر منه الفعل عن تمثل واقتناع. منهج العقل منهجٌ إنساني مهمته الدفاع عن حقوق الإنسان، العقل والحرية والشورى والالتزام. لا توجد خطورة للقضاء على موضوعية الوحي فالموضوعية لا تعني وجود وقائعَ ماديةٍ وذواتٍ مشخصة بل تنبع الموضوعية من طبيعة العقل وإمكانية تحويل الوحي إلى سلوك ونظام. منهج العقل هو العامل الفكري الذي تنبني عليه الحضارة. العقل هو منشئ الحضارة، وتُقاس درجة تقدم كل حضارة بدرجة عقلانيتها. وهو القادر على استيعاب كل الصدمات الحضارية واحتواء كل النظريات الغازية، وإعادة بنائها داخل النظرية العقلية العامة. لمنهج العقل قدرةٌ فائقة على الامتصاص الحضاري للثقافات الواردة، ويغلب منهج العقل الجديد على القديم، ويهمه الحاضر أكثر من الماضي. ويقوم على نوع من الشجاعة العقلية والثقة بالنفس دون استناد إلى القديم استناد الخائف المضطرب أو الهارب الفار. ويؤدي منهج العقل في النهاية إلى الانفتاح على الآخرين بما لديه من قدرة على الحوار. فيحمي من الوقوع في التعصب؛ فالدليل هو الطريق لإثبات الحقيقة، والبرهان هو المحك في اختلاف الناظرين.

وبالرغم من مزايا منهج العقل إلا أنه نظرًا لاستخداماته العديدة وتفريغه أحيانًا من بعدَيه الآخرَين الشعور أي الداخل والواقع أي الخارج، فإنه يتحول إلى مجرد آلةٍ صورية تدرك أشكال القياس دون مادة العلم. يستعمل أحيانًا للتبرير أكثر من استعماله للتحليل. تبرير المادة المعطاة سلفًا لإيجاد اتساقها الداخلي دون تحليلها إلى عناصرها الأولية، وبيان مدى تطابقها مع التجربة الحية ومع الواقع العريض. ربما يقف العقل أمام بعض الموضوعات مثل «السمعيات» قابلًا لها، جاعلًا أقصى عمله هو تأويلها وفهمها بما يتفق معه وليس بيان نشأتها؛ أي الدخول في تكوين الموضوع ذاته. وإن قدرة العقل على التمثُّل والرغبة في البحث عن الاتساق العقلي جعلته قادرًا على التمثل الحضاري لكل التراث العقلي المعاصر له، فخفت قدرته على النقد وعلى الرفض؛ لذلك خرج نقد المنطق «الأرسطي» القديم على يد الأشاعرة والفقهاء أكثر مما خرج من أيدي المعتزلة والحكماء. بل إن الرغبة في بناء اتساق العقل واحتواء المعارض قد وصلت إلى حد التشعب الفكري والتجريد الخالص حتى ضاعت الموضوعات المبدئية، وتحوَّلت إلى موضوعاتٍ صوريةٍ خالصة. تحول الوحي إلى جدل، وتحوَّلت الموضوعات إلى حجج، وأصبح التفكير مجرد محاجة ومماحكة. وقد لا يستطيع العقل الحصر في القسمة وبالتالي يكون بناء الموضوع ناقصًا. وقد تندُّ بعض الموضوعات عن القسمة العقلية وذلك لأن الحياة أحيانًا لا تقبل القسمة ولا يمكن تحويلها إلى موضوعاتٍ صوريةٍ خالصة وإلا فقدت وجودها كمضمون. وأحيانًا تكون القسمة العقلية كاملة نظرًا من حيث الفكر، ولكنها غير مُرضية عملًا من حيث السلوك. يمكن تحليل إمكانيات السلوك في موقف إلى إمكانيتين أو ثلاث وكل منها لا يمكن استعمالها وكأن القسمة العقلية أضيق نطاقًا من الموقف الوجودي ذاته. العقل دون نص أو تجربة أو واقع ينتهي إلى تأملٍ نظريٍّ خالص يبحث عن الحكمة لذاتها، وتصبح الفضائل كلها نظرية، وقد يُغالى في العقل فيكون المطلق، ويكون المطلق عقلًا وعاقلًا ومعقولًا في وقتٍ واحد.١٩
فإذا تحول كل نص إلى حجة عقلية قائمة بذاتها حتى أصبحت قوة النص تتمثل في قوة الحجة التي تعبر عنه، فإن الحجة العقلية لا تمس إلا الذهن، ولا ترمي إلا إلى الاتساق المنطقي. وتترك الشعور نفسه وربما الواقع أيضًا دون اقتناع أو توجيه، وتمثل نظرًا للوجود الشعوري والواقعي لموضوع الحجة. لذلك كان التحليل الشعوري الواقعي لهذا الموضوع هو الطريق لمعرفته أو الحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. وإذا اشتدت التعريفات العقلية، وتشعَّبت الحجج لإثبات الدعوى أو نقيضها واستحال الفصل بينهما إن لم يكن قد صعب الفهم من قبلُ؛ يمكن الحسم باللجوء إلى تجربةٍ شعوريةٍ واقعية تكون هي المادة التي تسمح للشعور بالتحليل وللواقع بالرؤية من أجل إصدار حكم، وذلك لأن الحجج الصورية تمامًا عاجزة عن أن يكون العقل منها حكمًا دون «أسباب النزول» أي دون واقعٍ معاش وتجارب فردية واجتماعية. والإفاضة في أنواع الأدلة العقلية الخالصة جزء من علم المنطق. لذلك يؤثر القدماء الاقتصار على وجوه الاستدلال من استنباط واستقراء وتمثيل دون دخول في موضوعات المنطق العامة. ولكنها تستعمل استعمالًا جدليًّا كما تستعمل في حجج البحث عن العلة في أصول الفقه استعمالًا جدليًّا.٢٠ ويؤثر القدماء تعدد الأدلة بتعاضدها نظرًا لاختلاف الأذهان في درجة التعلم وقبول اليقين. وقد لا يقنع الاعتماد على دليلٍ واحد الجمهور.٢١
لذلك تدخل مناهج الأدلة سواء في البداية في علم الكلام المتقدم أو في النهاية في علم الكلام المتأخر في موضوعٍ أعم وهو الأدلة الشرعية. ففي نظرية العلم في المؤلفات المبكرة تبدو كأنها خارجة من ثنايا علم أصول الفقه، كما أنها تعتمد على الأدلة الشرعية كمصدر للعلم وتزيد عليها دليل العقل.٢٢ وقد تجتمع هذه الأدلة مع أدلة المنطق من استنباط وقياس وتمثيل.٢٣ فالعلوم الشرعية قسم من العلوم النظرية؛ لأن صحة الشريعة مبنية على صحة النبوة، وهذه لا تُعلم إلا بطريق النظر والاستدلال.٢٤ فالعلوم النظرية نوعان: عقلي وشرعي، وكلاهما مُكتسَب بالنظر والاستدلال.
والأحكام الشرعية مأخوذة من أربعة أصول: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وهنا يدخل علم الأصول كجزء من نظرية العلم. وتمتد نظرية العلم حتى تحتوي المنطق والأصول والتصوف والفلسفة والحديث.٢٥ فالكتاب يحتوي على الوحي، وهو اليقين المطلق. ولكنه وحيٌ مدوَّن، ومِنْ ثَمَّ يحتاج إلى تفسير واستدلال قائم على طبيعة اللغة واستعمالها في التعبير، وإنكار النبوة قضاء على هذا الأصل.٢٦ والسنة على خلاف الكتاب، منها المتواتر الذي يورث العلم الضروري، والمستفيض الذي يورث العلم المكتسَب، في حين أن الكتاب يورث العلم الضروري. التواتر يورث اليقين في العلم والعمل، في حين أن الآحاد يورث اليقين في العمل فقط ويبقي العلم ظنيًّا.٢٧ وأمَّا الإجماع فهو اتفاق كل عصر، وهو استدلالٌ جماعي يعطي يقينًا أكثر من الاستدلال الضروري، ويكون أقل عرضةً للخطأ.٢٨ وأمَّا القياس فهو استدلال فردي في واقعة ليس فيها نص من كتاب أو سنة أو إجماع، وهو على درجاتٍ متفاوتة من اليقين.

وهكذا تنتهي نظرية العلم بعد أن بلغت ذروتها في نظرية المنطق وصبَّت في النهاية في نظرية الأدلة في علم أصول الفقه، وكأن نظرية الأدلة الشرعية في علم أصول الفقه أوسع نطاقًا من نظرية العلم في علم أصول الدين؛ نظرًا لاحتوائها على دور الجماعة في الاستدلال ودور الواقع والمصالح العامة من خلال شعور المجتهد وإحساسه بمصالح الأمة. جمعت بين المعرفة الحسية والعقلية والوجدانية، وضمت إليها المعرفة التاريخية من خلال التواتر، ولكن نقصها شيئان يمكن إكمالهما من المعاصرين حتى تكتمل نظرية العلم.

الأوَّل تحليل اللغة؛ لغة العلم ومصطلحاته، فهذه تركها القدماء وكأن لغة العلم مفترضة سلفًا، خاصةً وأن علم العقائد له مصطلحاته الخاصة مثل: «الله»، «الإيمان»، «الآخرة»، منها ما هو حسي عقلي مثل الإيمان والعمل والإمامة، ومنها ما هو تاريخي مثل النبوة، ومنها ما هو غيبي مثل: «الله» و«الآخرة».٢٩
والثاني تحليل الواقع الذي منه نشأ علم العقائد ووصف الآثار الفعلية للعقائد في حياة الناس وكيفية توجيهها لسلوكهم. وهل يمكن تغيير التصورات لإحداث تغييرٍ مماثل في الأفعال. فالتوحيد عند القدماء ليس فقط توحيد نظر بل توحيد عمل. يبدو أن التركيز عندهم كان على الأوَّل دون الثاني في حين أنه عندنا قد يكون التركيز على الثاني دون الأوَّل.٣٠

مع ذلك يظل الدرس المستفاد من القدماء هو أنه لا يمكن تأسيس علم للتوحيد دون تأسيسٍ مسبق لنظرية في العلم. فليس المهم هو الموضوع بل المنهج، بل إن طبيعة الموضوع والنتائج فيه والحكم عليه إنما هي مشروطة بالمنهج المتبع ونوعية الأدلة فيه. نظرية العلم في النهاية هي التي تحدد موضوع العلم.

١  الإنصاف، ص١٥.
٢  الإنصاف، ص١٥؛ الإرشاد، ص٨؛ الاقتصاد، ص١٢؛ المعالم، ص٦؛ المغني، ج١٢، النظر والمعارف، ص١٠.
٣  المحصل، ص٣١؛ المقاصد، ص٩٢؛ شرح المقاصد، ص٩٢.
٤  التمهيد، ص١٩–٤٠. يحيل الباقلاني إلى كتاب «كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الجحد والعناد»؛ مما يدل على إمكانية استقلال نظرية العلم كلها أو بعض أجزاء منها عن علم أصول الدين، ونظرًا لأهمية الموضوع، فإنه كاد أن يصبح بابًا مستقلًّا عن نظرية العلم يجعله صاحب المواقف في الموقف الأوَّل، في المرصد السادس، كما يجعله في المقصدين السابع والثامن في آخر الموقف الأوَّل (المواقف، ص٣٩-٤٠). ويمكن أن يدخل نظرًا لأهميته ضمن بناء العلم في الفصل الثامن عن العقل والنقل.
٥  «الدليل إمَّا عقلي بجميع مقدماته أو نقلي بجميعها أو مركب منهما. الأوَّل العقلي، والثاني لا يتصور أن صدق المخبر لا بنفسه وأنه لا يثبت إلا بالعقل. والثالث هو الذي نسميه بالنقلي، ثم مقدماته القريبة قد تكون عقليةً محضة وقد تكون نقليةً محضة، وقد يكون بعضها مأخوذًا من العقل وبعضها من النقل، فلا بأس أن يُسَمَّى هذا القسم بالمركب» (المواقف، ص٣٩؛ الإرشاد، ص٨؛ طوالع الأنوار، ص٢٥). «الدليل العقلي ثلاثة أنواع: عقلية خالصة أو سمعية خالصة أو مركب منهما» (الخلاصة، ص٣). «الدليل على ثلاثة أضرب: عقلي له تعلق بمدلوله نحو دلالة الفعل على فاعله وما يجب كونه عليه من صفاته نحو حياته وعلمه وقدرته وإرادته، وسمعيٌ شرعي دال عن طريق النطق بعد المواضعة ومن جهة معنًى مستخرج من النطق، ولغوي دال من جهة المواطأة على المعاني الكلام ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ» (الإنصاف، ص٢٥).
٦  «المطالب ثلاثة أقسام: احدها ما يمكن أي ما لا يمتنع عقلًا إثباته ولا نفيه، نحو جلوس غراب الآن على منارة الإسكندرية، فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل. الثاني ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع ونبوة محمد، فهذا لا يثبت إلا بالعقل؛ إذ لو أثبت بالنقل لزم الدور. الثالث ما عداهما، نحو الحدوث؛ إذ يمكن إثبات الصانع دونه والوحدة. فهذا يمكن إثباته بالعقل إذ يمتنع خلافه عقلًا بالدليل الدال عليه وبالنقل لعدم توقفه عليه» (المواقف، ص٣٩-٤٠). وتوجد هذه الاتجاهات الثلاثة عند الحشوية، وأهل الظاهر الذين يمثلون الاعتماد على النقل، وعند الأشاعرة الذين يعتمدون على النقل والعقل، وعند المعتزلة الذين يعتمدون على العقل. والحقيقة أن الأشاعرة يعتمدون على النقل والعقل، ولكن ابتداء من النقل الذي هو أساس العقل عندهم. والمعتزلة يعتمدون على العقل والنقل، ولكن ابتداءً من العقل الذي هو أساس النقل عندهم (الاقتصاد، ص٣-٤؛ طوالع الأنوار، ص٦؛ المواقف، ص٣٩؛ حاشية الإسفراييني، ص٢؛ تحفة المريد، ص١٣). ويُشار أحيانًا إلى أهل السنة والجماعة على أنهم: «هم الذين أحاطوا علمًا بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبي، وميَّزوا بين الصحيح والسقيم منها، وعرفوا أسباب الجرح والتعديل، ولم يخلطوا علمهم بشيء من أهل الأهواء الضالة» (الفِرَق، ص٣١٥).
٧  «النقليات بأسرها مستندة إلى صدق الرسول؛ فكل ما يتوقف العلم بصدق الرسول على العلم به لا يمكن إثباته بالنقل وإلا لزم الدَّور. أمَّا الذي لا يكون كذلك فكل ما كان خبرًا بوقوع ما لا يجب عقلًا وقوعه كان الطريق إليه النقل ليس إلا، وهو إمَّا العام كالعاديات، أو الخاص كالكتاب والسنة والخارج عن القسمين، ويمكن إثباته في الجملة، بالعقل والنقل معًا» (المحصل، ص٣١-٣٢). «الدليل إمَّا أن يكون مركَّبًا من مقدمات كلها عقلية وهو موجود، أو كلها نقلية وهذا محال؛ لأن إحدى مقدمات ذلك الدليل هو كون النقل حجة، ولا يمكن إثبات النقل بالنقل، أو بعضها عقلي وبعضها نقلي وذلك موجود … الضابط أن كل مقدمة لا يمكن إثبات النقل إلا بعد ثبوتها فإنه لا يمكن إثباتها بالنقل. وكل ما كان إخبارًا عن وقوع ما جاز وقوعه، أما ما جاز عدمه فإنه لا يمكن معرفته إلا بالحس أو بالنقل، وما سوى هذين القسمين فإنه يمكن إثباته بالدلائل العقلية والنقلية» (المعالم، ص٨-٩). «والدليل إن لم يتوقف على نقل أصلًا فعقلي وإلا فنقلي، سواء توقف كلٌّ من مقدماته القريبة على النقل أو لا. وقد يخص النقل بالأول. ويُسَمَّى الثاني مركبًا. وأمَّا النقلي المحض، فباطل؛ إذ لا بد من ثبوت صدق الخبر بالعقل، والمطلوب إن استوى طرفاه عند العقل فإثباته بالنقل وإلا كان توقف ثبوت النقل عليه فبالعقل، وإلا فبكل منهما» (المقاصد، ص٩٢-٩٣)، أيضًا (الفصل، ج٥، ص٢٠٦؛ النسفي، ص٣–٢٥؛ شرح التفتازاني، ص٢٥).
٨  «وأمَّا التواتر فإنه نافع ولكن في حق من تواتر إليه. فأمَّا من لم يتواتر إليه ممن وصل إلينا في الحال من مكان بعيد لم تبلغه الدعوة، فأردنا أن نبين له بالتواتر أن نبينا وسيدنا مُحَمَّدًا تحدى بالقرآن، ولم يقدر عليه ما لم يمهله مدة من يتواتر عنده. ورب شيء يتواتر عند قوم دون قوم» (الاقتصاد، ص٢٥)، انظر أيضًا: ارتباط التواتر باليقين الحسي والعقلي وبشروط التفسير والتأويل في الحصون الحميدية، ص١٠٠-١٠١.
٩  «وقد يستدل بتوقيف أهل اللغة لنا … على أن كل من خبَّرنا عن الصادقين بأنه رأى نارًا أو إنسانًا وهو من أهل لغتنا يقصد إلى إفهامنا أنه ما شاهد إلا مثل ما سمى بحضرتنا نارًا وإنسانًا لا نحمل بعض ذلك على بعض لكن بموجب الاسم وموضع اللغة ووجوب استعمال الكلام على ما استعملوه ووضعه من حيث وضعوه» (التمهيد، ص٣٨-٣٩)، «الدلالة اللفظية غير يقينية» (المحصل، ص٢٧)، «الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تعنيه أمورٌ عشرة: عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ، وإعرابها، وتصريفها، وعدم الاشتراك، والمجاز، والنقل، والتخصيص بالأشخاص والأزمنة، وعدم الإضمار، والتأخير والتقديم، والنسخ، وعدم المعارض العقلي» (المحصل، ص٣١). «الدلائل النقلية لا تفيد اليقين لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم الإضمار، وعدم النقل، وعدم التقديم والتأخير، وعدم التخصيص، وعدم النسخ، وعدم المعارض العقلي، وعدم هذه الأشياء مظنون لا معلوم، والوقوف على المظنون مظنون. وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل النقلية ظنية وأن العقلية قطعية». (المعالم، ص٩). «الدليل النقلي ما صح نقله ممن عُرف صدقه عقلًا وهم الأنبياء. وإنما يقيد لنا اليقين إذا تواتر عندنا وعلمنا عصمة رواة العربية وعدم الاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والنقل والنسخ والمعارض العقلي الذي لو كان لترجَّح؛ إذ العقل أصل النقل وتكذيب الأصل لتصديق الفرع محال لاستلزامه تكذيبه أيضًا» (طوالع الأنوار، ص٢٨). «ولا خفاء في إفادة النقلي الظن. وأمَّا إفادته اليقين فيتوقف على العلم بالوضع والإرادة؛ وذلك بعصمة رواة العربية وعدم مثل النقل والاشتراك والمجاز والإضمار والمعارض العقلي؛ إذ لا بد معه من تأويل النقل لأنه فرع العقل، فتكذيبه تكذيبان. نعم قد تنضم إليه قرائن تنفي الاحتمال فيفيد القطع بالمطلوب وينفي المعارض كما في العقليات» (المقاصد، ص٩٤-٩٥). «وقد لحق بهذا الباب دلالات الكتابات والرموز والإشارات والعقود، الدالة على مقادير الأعداد وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق» (الإنصاف، ص١٥).
١٠  «الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ قيل: لا؛ لتوقفه على العلم بالوضع والإرادة. والأول إنما يثبت بنقل اللغة والنحو والصرف، وأصولها تثبت برواية الآحاد، وفروعها بالأقيسة، وكلاهما ظنيان. والثاني يتوقف على عدم النقل والاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير. والكل لجوازه لا يجزم بانتفائه بل غايته الظن. ثم بعد الأمرين لا بد من العلم بعدم العارض العقلي؛ إذ لو وجد لقدم الدليل النقلي قطعًا إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما، وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع، وفيه إبطال للفرع. وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضًا لنفسه فكان باطلًا. لكن عدم العارض العقلي غير يقيني؛ إذ الغاية عدم الوجدان، وهو لا يفيد القطع بعدم الموجود. فقد تحقق أن دلالتها تتوقف على أمورٍ ظنية فتكون ظنية؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة. والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائنَ مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات. فإنَّا نعلم استعمال لفظ الأرض والسماء ونحوهما في زمن الرسول في معانيها التي تُراد منها الآن. والتشكيك فيه سفسطة. نعم، في إفادتها اليقين في العقليات نظرًا لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم العارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه» (المواقف، ص٤٠). انظر أيضًا فصل الوحي والعقل والواقع في رسالتنا Les Méthodes d’Exégèse؛ وأيضًا: التمهيد، ص٤١؛ شرح التفتازاني، ص٣٠-٣١؛ الاقتصاد، ص٤٥. «الدلائل النقلية لا تفيد لأنها لفظية فلا تعارض الأدلة العقلية المفادة» (القول المفيد، ص٨٩).
١١  «بقضية العقول وبديهيها عرفنا الأشياء على ما هي عليه، وبها عرفنا الله وصحة النبوة وهي التي لا يصح شيء إلا بموجبها. فما عُرف بالعقل فهو واجب فيما بيننا نريد في الوجود في العالم. وما عرف بالعقل أنه محال فهو محال في العالم، وما وُجد بالعقل إمكانه فجائز أن يوجد، وجائز أن لا يوجد» (الفصل، ج١، ص٦٣). «العقل الذي عرفنا به الله ولولاه ما عرفناه. ومن أجاز هذا كان كافرًا أو مشركًا، ومن أبطل العقل فقد أبطل التوحيد؛ إذ كذب شاهده عليه؛ إذ لولا العقل لم يعرف الله أحد. ألا ترى المجانين والأطفال لا يلزمهم شريعة لعدم عقولهم؟ ومن جوَّز هذا فلا ينكر على النصارى ما يأتون به خلاف المعقول ولا على الدهرية ولا على السوفسطائية ما يخالفون به المعقول» (الفصل، ج١، ص٦٥).
١٢  تتضح المقدمات المنطقية الفلسفية في «المواقف»، «طوالع الأنوار»، «المقاصد»، وتتضح المقدمات الفقهية والصوفية في «الدر النضيد»، «الخريدة البهية». ويستشهد صاحب القول المفيد بأقوال ابن عربي والشافعي لبيان حدود العقل مثلًا قول ابن عربي:
على السمع عولنا فكنا أولى النهى
ولا علم فيما لا يكون عن السمع
وأيضًا قوله:
كيف للعقل دليل والذي
قد بناه العقل بالكشف انهدم
فنجاة النفس في الشرع فلا
تكُ إنسانًا رأى ثم حرم
واعتصم بالشرع بالكشف فقد
فاز بالخير عُبيد قد عُصم
أهمل الفكر فلا تحفل به
واتركنه مثل لحم في وضم
إن للفكر مقامًا فاعتضد
به فيه تلك شخصًا قد رحم
كل علم يشهد الشرع له
هو علم فيه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل
طورك الزم ما لك فيه مذم
وقال الشافعي: إن للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًّا ينتهي إليه. وقال الغزالي: «ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور قد يظهر فيه ما لا يظهر في العقل … ومع ذلك فالله أرسل الرسل وأظهر على أيديهم المعجزات التي دلَّت دلالة ضرورية قطعية على صدقهم واستحالة الكذب عليهم، فكانت إفادة أقوالهم التي تعين مرادهم منها بالقرائن المشاهدة أو المنقولة» (القول المفيد، ص٩٠-٩١).
١٣  «قولنا الذي نقوله به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا وبسنة نبينا، وما رويَ عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أحمد بن حنبل قائلون ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين … وجملة قولنا أنَّا نقرُّ بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله لا نرد من ذلك شيئًا» (الإبانة، ص٨).
١٤  لذلك يستشهد الأشاعرة دائمًا بالآتي: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. الإبانة، ص٥-٦.
١٥  في آخر «الحصون الحميدية» يحمل الشيخ حسين أفندي الجسر على منهج التقليد، ويدعو إلى الدليل العقلي باستثناء تقليد الرسول المعصوم أو تقليد علماء الأمة في تفسيرهم للنصوص بالدليل القاطع، فيقوم بخطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. والدليل القاطع يمحو التقليد. ويستعمل حجة الغزالي القديمة ضد الفلاسفة الذين يحسنون القول في الرياضيات، فحسب الناس أن كلامهم كذلك في الإلهيات (الحصون الحميدية، ص١٠١–١٠٣).
١٦  «فباطل ما صرفوه بظنونهم» (الفصل، ج٣، ص٣٥). «إنما تلونا جميع الآيات على نسقها واتصالها خوف أن يعترضوا بالآية ويسكتوا عن قوله «يخرصون»، فكثيرًا ما احتجنا إلى بيان مثل هذا الاختصار على بعض الآية دون بعضها من تمويه» (الفصل، ج٣، ص١١٣). «وكذلك فربما تعلقوا في الدلالة على مذاهبهم على ذكر أمثلة في الشاهد، فمنها ما يدَّعون وجوده، ومعلوم من حاله أنه لا يوجد، بل هو مُحال، ومنها ما يوجد ولا يتعلق به الحكم الذي يدَّعون ثبوته» (المغني، ج١٤. الأصلح، ص٥٥).
١٧  مثل محاولات ابن تيمية العديدة لنقد المنطق الأرسطي في «نقض المنطق»، «الرد على المنطقيين»، وتلخيص الأسيوطي في «ترجيح أساليب اليونان على منطق اليونان».
١٨  لذلك وصف أهل السنة أنفسهم بأنهم أهل السنة أو أصحاب الحديث وأهل الأثر، وبأنهم «ينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم بالروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلًا عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى الرسول، ولا يقولون كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة» (مقالات، ج١، ص٣٢٢). وفي مقابل ذلك يصفون المعتزلة والفلاسفة وكل من قام بعملية التمثل والاحتواء الحضاري، ويتهمونهم بالتقليد «فنبذ كثير ممن غلبت عليه شقوته، واستحوذ عليهم الشيطان، سنن النبي وراء ظهورهم، ومالوا إلى أسلاف قلدوهم بينهم، ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن الرسول ورفضوها، وأنكروها وجحدوها افتراءً منهم على الله» (الإبانة، ص٦). «إن الكثير من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم» (الإبانة، ص٦-٧). ويناشد أهل السنة المعتزلة بأن «مخالفتك للسلف وخروجك من العلم ورجوعك إلى الجهل الذي هو أولى بك، وقولك في حجتك: روى سديف الصرفي وفلان وفلان كذا وكذا، وأهل العلم في الآفاق يرون ذلك ويكذبونك من لدن الرسول إلى أن تقوم الساعة … وليس على وجه الأرض شخص يعدل عن السنة والجماعة والألفة إلا كان مُتبعًا لهواه، ناقصًا عقله، خارجًا عن العلم والتعارف» (التنبيه والرد، ص١٢). ويمثل الإمام أحمد بن حنبل هذا التيار وموقفه من خلق القرآن والتزامه بالنص. وقد قام الأشعري بذلك بإثبات العقائد نصًّا في «الإبانة» والرازي في «أساس التقديس». واستأنفته الحركة السلفية الممثلة في مدرسة ابن تيمية وابن القيم. ويمثل محمد بن عبد الوهاب في «كتاب التوحيد» نفس الموقف وتوجيه النص نحو الواقع مباشرةً كما تفعل الحركة السلفية المعاصرة وكما هو واضح في كتاب «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج مفكِّر جماعة الجهاد. انظر دراستنا عن «الحركة السلفية المعاصرة».
١٩  لذلك اعتُبرت «الروحانية» من الزنادقة، وسُمُّوا أيضًا الفكرية لأنهم يتفكرون، زعموا هذا حتى يصيروا إليه فجعلوا الفكر بهذا غاية عبادتهم، ومنتهى إرادتهم، ينظرون بأرواحهم في تلك الفكرة إلى هذه الغاية فيتلذَّذون بمخاطبة الله لهم ومصافحته إياهم، ونظرهم إليه. زعموا أنهم يتمتعون بمجامعة الحور العين ومفاكهة الأبكار على الأرائك متكئين، ويسعى عليهم الولدان المخلَّدون بأصناف الطعام وألوان الشراب وطرائف الثمار. ولو كانت الفكرة في ذنوبهم الندم عليها والتوبة منها والاستغفار لكان مستقيمًا (التنبيه والرد، ص٩٣-٩٤). «وأخذ محمد بن عباد قول الفلاسفة حيث قضوا بإثبات النفس الإنساني أمرًا ما هو جوهرٌ قائم بنفسه ولا متحيز ولا ممكن، وأثبتوا من جنس ذلك موجوداتٍ عقلية مثل العقول المفارقة. ومن مذهبهم أنه علم وعقل وكونه عاقلًا ومعقولًا شيء واحد» (الملل والنحل، ج١، ص١٠١–١٠٣).
٢٠  ينقسم وجه الاستدلال على وجوه: (أ) أن ينقسم الشيء في العقل إلى قسمَين أو أقسام يستحيل أن تجتمع كلها في الصحة والفساد، فيُبطل الدليل أحد القسمين، فيقضي العقل بصحة ضده أو إن أفسد الدليل سائر الأقسام صحح العقل الباقي منها. (ب) يجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلةٍ ما وجب الحكم على من وصف بتلك الصفة في الغائب بهذه العلة أن يستدلَّ على صحة الشيء بصحة مثله أو باستحالته على استحالة مثله (التمهيد، ص٣٨). الأوَّل: «السبر والتقسيم»، والثاني: «قياس العلة»، والثالث: «قياس الشبه». ويحيل الغزالي إلى كتب الأصول التي قامت من قبلُ بهذا الاحتواء النظري للمنطق داخل مناهج الأصول، أو يحيل إلى كتب المنطق التي تضم التقسيمات العقلية الخالصة، مثل: «محك النظر»، «معيار العلم» (الاقتصاد، ص١٠-١١).
٢١  المقاصد، ص٧٢؛ شرح المقاصد، ص٧٤.
٢٢  يجعل الباقلاني الأدلة خمسة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وحجج العقول (الإنصاف، ص١٩–٢١).
٢٣  التمهيد، ص٣٩؛ شرح الأصول، ص٨٨؛ المحيط، ص٢٠.
٢٤  أصول الدين، ص٩، ص١٤-١٥. «العلوم النظرية أربعة أقسام: أحدهما استدلال بالعقل من جهة القياس والنظر، والثاني معلوم من جهة التجارب والعادات، والثالث معلوم من جهة الشرع، والرابع معلوم من جهة الإلهام في بعض الناس أو بعض الحيوانات دون البعض» (أصول الدين، ص١٤). ويبدو أن العلم الأوَّل هو علوم الحكمة، والثاني علم أصول الدين، والثالث علم أصول الفقه، والرابع علوم التصوف؛ فالعلوم النقلية العقلية كلها علومٌ نظرية تقوم على قسمة العقل.
٢٥  يحيل علماء أصول الدين إلى المصنفات في علم أصول الفقه (أصول الدين، ص٢٠؛ حاشية الإسفراييني، ص٧).
٢٦  أصول الدين، ص٢٧، ص١٩؛ شرح الأصول، ص٨٨-٨٩. إنكار الوحي عند البراهمة وإنكار حجية القرآن عند الرافضة لدعواهم وقوع التحريف فيه، ويستبدلون به قول الإمام.
٢٧  أصول الدين، ص٢٧-٢٨؛ شرح الأصول، ص٣٩. والخلاف مع الخوارج في إنكار السنة الشرعية؛ إذ لا يعترفون إلا بحجية القرآن، فأنكروا الرجم والمسح على الخفين لأنهما ليسا في القرآن، وقطعوا يد السارق في القليل والكثير لأن الأمر بقطع يد السارق في القرآن مُطلَق. والخلاف مع النظامية بإنكاره حجة الخبر المتواتر، وأجازوا وقوعه كذبًا. والخلاف مع نفاة العمل بأخبار الآحاد مع القدرية.
٢٨  أصول الدين، ص١٨–٢٠؛ شرح الأصول، ص٨٩. والخلاف مع الخوارج في إنكارهم حجية الإجماع ومع النظامية ومع فريق من أهل الظاهر في إنكار إجماع كل عصر بعد الصحابة، ومع من يرى الإجماع عن نص دون قياس.
٢٩  هذا ما حاولنا إكماله في «التراث والتجديد»، رابعًا طرق التجديد، (١) منطق التجديد اللغوي، ص١٢٣–١٥١.
٣٠  وهذا ما حاولنا إكماله في هذا المصنف في علم أصول الدين: «من العقيدة إلى الثورة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤