أولًا: نشأة نظرية الوجود وتطورها
(١) مصطلح نظرية الوجود
تشير نظرية الوجود إلى كل المباحث النظرية بعد نظرية العلم، وهي المباحث التي
تضم أساسًا طبقًا لعلم الكلام المتأخر مبحثَي الأعراض والجواهر. ولما كانت
الأعراض والجواهر تمثل الأجسام أو الموجودات وضعت تحت مصطلح «نظرية الوجود»،
ولأن «الأمور العامة»؛ أي المقدمة النظرية لمبحثَي الأعراض والجواهر تجعل
الوجود أهم مباحثها. وتعني نظرية الوجود «المعلوم» في مقابل نظرية العلم. فإذا
كانت نظرية العلم تجيب على سؤال: كيف أعرف؟ فإن نظرية الوجود تجيب على سؤال:
ماذا أعرف؟ وبالتالي يدل سبق نظرية العلم على نظرية الوجود سبق المعرفة على
الوجود. فالموجود هو المعلوم وليس المجهول. الموجود هو موضوع العلم وليس له
وجود مستقلٌّ عن العلم؛ لذلك تتداخل نظرية الوجود في بداياتها مع نظرية العلم
وكأنها تنشأ من داخلها فينفصل المعلوم عن العلم، ويتخلَّق الموضوع من الذات.
ولا يذكر اسم الموجود بل المعلوم. نظرية العلم تعرض لكيفية العلم من ناحية
الذات، ونظرية الوجود تتناول المعلوم من حيث الموضوع. وتبدأ نظرية الوجود كلها
من قسمة المعلوم إلى معدوم وموجود، ثم قسمة الموجود إلى قديم وحادث، ثم قسمة
الحادث إلى جوهر (جسم) وعَرَض.١ وفي المصنفات الاعتزالية والأشعرية معًا تتداخل نظريتا العلم
والوجود لإثبات حدوث العالم وأن له مُحدِثًا، فالغاية إثبات وجود «الله» ومعرفة
الطريق الذي يتوصل فيه إلى العلم «بالله»، وأنواع الدلالة، وأن معرفة «الله» لا
تكون إلا بالعقل وبالنظر إلى أفعاله، وهنا يكون دليل الحدوث أقرب إلى نظرية
العلم منه إلى نظرية الوجود.٢
(٢) غياب نظرية الوجود
تغيب نظرية الوجود بل وكل المقدمات النظرية بوجهٍ عام من كتب العقائد
المتقدمة منها أو المتأخرة، ففي الأولى لم ينشأ بناء العلم بعدُ، وفي الثانية
اختفى بناء العلم. وفي كلتا الحالتين يصبح العلم موضوعًا للإيمان الخالص بلا
حاجة إلى نظرية في العلم أو نظرية في المعلوم أي الوجود. تعرض هذه المصنفات ما
يجب على المؤمن الاعتقاد به فرضًا دون أي مدخلٍ نظري أو إقناعٍ عقلي أو تأصيلٍ
بديهي للأسس العامة التي تقوم عليها العقائد.٣ كما تغيب نظرية الوجود في العقائد المبكرة عندما تُصاغ ضد العقائد
المضادة، وتدخل مباشرة في الصراع العقائدي دون إرساء أية قواعدَ مشتركةٍ للحوار
ودون وجود أية أسسٍ نظريةٍ مشتركة تكون الحد الأدنى للجمع بين المتحاورين،
عقائد في مواجهة عقائد، وعقائد «أهل سنة» في مواجهة عقائد «أهل بدعة» حتى
العصور المتأخرة. كما تغيب نظرية الوجود في المصنفات المبكرة للعقائد المضادة
للرد على عقائد أهل السنة مثل: عقائد المعتزلة؛ إذ إن غرضها هو عرض عقائد
الفِرَق والرد على هجوم الفِرَق المخالفة، سواء كانوا أهل السنة أو الشيعة أم
فِرَق المشبهة والمجسمة أو الجبرية.٤ وتغيب نظرية الوجود كذلك من المصنفات التي ما زالت تتأرجح بين
العقائد وتاريخ الفِرَق.٥ فالغرض ليس تأسيس العقائد العامة التي يتفق عليها المسلمون جميعًا،
بل عرض عقائد الفِرَق، والتركيز على أوجه الاختلاف وليس على أوجه الاتفاق، وكأن
التشتت والتبعثر والتشرذم أولى بالرصد من الوحدة والائتلاف. كما تغيب نظرية
الوجود من مصنفات العقائد التي تعرضها في صيغة تساؤلات وتبدأ بالإلهيات
مباشرةً، مثل الله وصفاته، ودون أي تأصيلٍ نظريٍّ مسبق.٦ ولا تغيب نظرية الوجود عن كتب العقائد المتقدمة والمتأخرة فحسب، بل
تغيب أيضًا من مصنفات علم الكلام التي تعتمد على الحجج النقلية وحدها ودون
البناء النظري المحكم. وبالرغم من حضور بعض مسائل نظرية العلم إلا أن موضوعات
الوجود تختفي تمامًا؛ لأن «الله» لا شأن له بالعالم.٧ وأقصى ما تظهر فيه في بدايات النظر في ذات «الله» تعالى والأدلة
على وجوده باستعمال دليل الحدوث.٨
(٣) نشأة نظرية الوجود
نشأت نظرية الوجود ابتداءً من دليل الحدوث الذي تتداخل فيه نظرية العلم
ونظرية الوجود بداية. فهو دليل والأدلة جزء من نظرية العلم، يعتمد على الحدوث،
والحادث هو الجسم الطبيعي. ليس لنظرية الوجود في هذه الحالة وجود مستقل، بل هي
جزء من النظر في ذات «الله»؛ أي من صلب العلم وليس من المقدمات النظرية،
فالطبيعيات هنا مقدمة للإلهيات، والطبيعية سلم إلى ما بعد الطبيعة، فبراهين
وجود «الله» كلها براهينُ كونيةٌ بعديةٌ استقرائيةٌ طبيعية. يتم الانتقال إذن
من نظرية العلم إلى التوحيد مارًّا ببرهان الحدوث كمقدمة لإثبات وجود «الله»
وليس بحثًا مستقلًّا في الطبيعة، ويدخل ضمن موضوع «الذات».٩ كان الدافع إذن على نشأة نظرية الوجود هو «بيان حدوث العالم».
ولأجل ذلك تم بيان معنى العالم وأجزائه المفردة، وإثبات الأعراض والأجزاء
المركَّبة من العالم وما يحدث ابتداءً لا عن نسل وما يحدث عن تناسل من
الحيوانات، ثم بيان أقسام الأعراض واختلافها عن الأجناس واستحالة بقائها،
وتجانس الأجسام والرد على الدهرية والثنوية، ثم إثبات حدوث الأعراض وإبطال
الظهور والكمون، واستحالة تعرِّي الأجسام من الألوان والأكوان والطعوم
والروائح، ثم إثبات الهَيُولى ووقوف الأرض ونهايتها، ووقوف السموات وأعدادها،
وإثبات نهاية العالم وجواز فنائه، كل ذلك قبل معرفة الصانع ونعوته الذاتية،
وكأن البحث في العالم والدخول فيه شرط البحث فيما وراء العالم والخروج عنه،
وكأن المتناهي في الصغر يؤدي بالضرورة إلى المتناهي في الكبر، وكلما أوغل
المتكلم في «الطبيعة» رأى «الله».١٠ وعلى هذا النحو استطاع علماء الكلام إنشاء «اللاهوت الطبيعي» على
نحوٍ فيزيقيٍّ مادي خالص وكأنه علم «فيزياء». وظهر ذلك أيضًا في علوم الحكمة
وعلوم التصوف، بل وفي علم أصول الفقه.١١ وتبدو أحيانًا نظريتا العلم والوجود معًا كمقدمتَين لدليل الحدوث.
فكما ينقسم العلم إلى قديم ومحدث؛ أي إلى علمٍ «إلهي» وعلمٍ إنساني، كذلك ينقسم
الوجود إلى قديم ومحدث؛ أي إلى وجود «إلهي» ووجود طبيعي.١٢ لذلك تبدو نظرية الوجود وكأن الهدف الأساسي منها هو إبطال القول
بقدم العلم قبل صياغة دليل الحدوث، وكأن معارضة قِدَم العالم هي التي أدت
بالمتكلمين إلى إثبات حدوث العالم وأن له محدثًا.١٣
وأول ما يظهر من الأبحاث هو مبحث الأعراض دون أن تسبقه «الأمور العامة» أو
«أحكام الموجودات» من أجل الاستدلال بالأعراض على «الله» بعد إثباتها وإثبات
حدوثها وحاجتها إلى محدِث، ثم إثبات الأكوان وحدوثها وعدم خلو الأجسام منها،
وهي تدخل ضمن النسب في مبحث الأعراض، ثم الرد على شبه قِدَم العالم وإثبات
احتياج الأجسام الحادثة إلى مُحدِث، ورفض نظريات القائلين بالنفس والعقل والعلة
وأصحاب النجوم والتي ستتحول فيما بعدُ إلى أقسام الجوهر في مبحث الجوهر.١٤ وقد تظهر أبواب في إثبات المحدثات الدالة على «الله» وإثبات
الأعراض والأكوان كنهاية لنظرية العلم دون أن تكون مستقلة عنها وكبداية لأصل
التوحيد. ولا يظهر من نظرية الوجود إلا حدث الجسم والاستدلال عليه، وأن الحوادث
لا أول لها لتخصيص «الله» وحده بصفة القديم، دون أي بناء نظري محكم لمباحث
نظريةٍ خالصة، وكأن صفات «الله» كانت موجِّهات لا شعورية لعلم الطبيعة مما يقضي
على موضوع العلم الطبيعي ويجعله مجرد إيمانٍ خالص أو افتراضٍ مسبق.١٥
وأحيانًا تبدو نظرية الوجود كلها وكأنها مقدمة لإثبات حدوث العالم. حينئذٍ
تصعب التفرقة بين نظرية الوجود ودليل الحدوث. وفي هذه الحالة يُقال مباشرةً
بيان حدوث العامل وليس أقسام المعلوم. ثم يتركز الدليل كله على قسمة العالم إلى
أعراض وجواهر، ثم إثبات حدوث الأعراض في حين أن القسمة إلى جوهر وعرض في نظرية
الوجود هي مجرد قسمة للحادث.١٦ ويظهر إذن مبحث الجواهر والأعراض في نظرية الوجود وكأنه جزء من
مقدمات الإلهيات، حتى إنه ليستحيل التفريق بين التوحيد والطبيعيات؛ إذ تحلل
الجواهر والأعراض تحت كتاب التوحيد.١٧ وكثيرًا ما يكون العالم وحدوثه مباشرةً كمقدمة لموضوع «الله»
وصفاته دون نظرية للعلم ودون أي عرضٍ نظري لمباحث الوجود بالرغم من استعمال
مصطلحات الجوهر والأعراض والحدوث والقدم؛ فالقول في حدث العالم أقرب إلى أن
يكون مقدمة للذات والصفات مع استعمال مصطلحات نظرية الوجود مثل الأكوان والسكون
والحركة والاجتماع والافتراق والجوهر والأعراض والحدوث والقدم.١٨ ويتركز المبحث كله على دليل الحدوث واستحالة عدم القديم. يبدأ حدث
العالم قبل البداية بالعقائد وكأنه مقدمة لها.١٩ ولما كانت نظرية الوجود أكثر تطورًا من نظرية العلم وتحليل المعلوم
بعد تحليل العلم، فإن بعض المصنفات المتقدمة مقتصرة على نظرية العلم، وتنتقل من
نظرية العلم إلى دليل الحدوث كمقدمة للإلهيات دون ذكر لنظرية الوجود. ومبحث
الجواهر والأعراض ذاته مقدمة للإلهيات وتحديد للأدلة على وجود «الله».٢٠
ويستمر إثبات حدوث العالم كباعثٍ أساسي لظهور مباحث الوجود حتى في علم الكلام
المتأخر، وكأن القول بقدم العالم ما زال خطرًا قائمًا. ويستحيل الفصل بين نظرية
الوجود وبداية الإلهيات في موضوع «القول في حدث العالم ووجود الصانع جل جلاله».٢١ وقد تكون وسيلة إثبات حدوث العالم وأن له محدثًا مجرد حججٍ نقلية
دون العقلية؛ مما يدل على أن دليل الحدوث تعبير عن إيمانٍ مسبق أكثر منه
تأصيلًا عقليًّا.٢٢ وأحيانًا تكون نظرية الوجود جزءًا من مادة المعلوم وتنفصل عن
المقدمات النظرية وتكون نظرية العلم وحدها هي المقدمة. أمَّا نظرية الوجود
فتدخل جزءًا من بناء العلم.٢٣ وقد دخلت الطبيعيات في كتب التوحيد المتأخرة في المقدمات؛ أي في
أبحاث القِدَم والحدوث، الجوهر والعَرَض، الكم والكيف في نظرية الوجود. وفي
المقدمات المتأخرة حدث فصل بين نظرية الوجود والإلهيات، في حين أنه في المقدمات
المبكرة لا يوجد مثل هذا الفصل، بل تؤدي نظرية الجوهر والأعراض تلقائيًّا بطريق
مباشرة إلى إثبات الصانع القديم الواحد الباقي الذي لا شبيه له.
ثم يظهر موضوعٌ ثالث مع مبحثَي الأعراض والجواهر، وهو أحكام العقل الثلاثة:
الوجوب والإمكان والاستحالة، لتنصهر فيها نظريتا العلم والوجود معًا. فهي
أحكامٌ عقلية وبالتالي تتعلق بنظرية العلم، وفي نفس الوقت تتعلق بالموجودات،
وبالتالي ترتبط أيضًا بنظرية الوجود. وأخذت الموضوعات الثلاثة عنوانًا آخر هو
«الأمور العامة» أو «أحكام الموجودات». فإذا اعتبر دليل الحدوث أقرب إلى
الأحكام الثلاثة فهو أدخل في نظرية الوجود، وإذا اعتبر أنه بداية لموضوع الذات
فهو أدخل في الإلهيات. وقد أظهرت أحكام العقل الثلاثة من قبل في نظرية العلم
قبل أن تتحول إلى «الأمور العامة» في نظرية الوجود. وقبل بناء العلم النهائي
يتم تفصيل نظرية الوجود كله تحت «القول في حدث العالم» في مباحثَ متفرقةٍ دون
بناءٍ نظريٍّ محكم.٢٤ فمسألة حدوث العالم هي نقطة الالتقاء بين نظرية الوجود ومبحث الذات
الهدف منها إثبات وجود «الله» أول صفة للذات وهنا يدخل تحليل مقدمات الدليل عن
حدوث الأعراض.٢٥ ولا تتعدى بعض المصنفات المتأخرة إلى إثبات الواجب بذاته وكأن
الفكر الطبيعي لا وجود له.٢٦ تكتمل عناصر نظرية الوجود إذن بظهور «أحكام الموجودات»، وفيها
يجتمع الركن الأوَّل من أركان نظرية العلم «أحكام النظر». وفي هذا العنصر تنفصل
مباحث أحكام الموجودات مثل الوجود والحال، وتقسيم الموجودات إلى واجب لذاته
وممكن لذاته أو إلى القديم والمحدث، وتفصيل القول في الجوهر والعرض والأجسام
قبل الدخول في ركني الإلهيات والسمعيات.٢٧ وأحيانًا تُسَمَّى «أحكام المعلومات» بعد المباحث المتعلقة بالعلم
والنظر أي نظرية العلم. وتضم نفس موضوعات الوجود والعدم والحال والماهية
والأحكام العقلية الثلاثة ثم مباحث الأعراض من حركة وسكون كما تظهر الكيفيات
الحسية دون تفصيل في مبحث الجواهر.٢٨ وفي بعض كتب العقائد تظل أحيانًا نظرية الوجود قائمة قبل أن تغيب
نهائيًّا وكأنها حديث عن العلم بأجزائه من محدث وأعيان وأعراض وجواهر مركبة أو بسيطة.٢٩ وهو أيضًا الغالب على الكتب المدرسة من ذكر لموضوعاتٍ متناثرة لا
بناء فيها قبل تقسيم المعلوم إلى وجود وعدم وحال، والجوهر والعرض قبل الانتقال
إلى أدلة إثبات الصانع.٣٠
لم تكن الطبيعيات في نظرية الوجود من المسائل المختلف عليها نظريًّا في نشأة
الحضارة أو حتى من اختلاف الأصول أو عمليًّا في الفروع.٣١ ولا تظهر في الموسوعات الكلامية أو في كتب العقائد الاعتزالية؛
فالأصول الخمسة خالية من الطبيعيات.٣٢ بل تظهر في ذكر آراء ممثلي الفِرَق في شتى المسائل المتفرقة وليست
غالبًا في كتب العقائد.٣٣ وقد تظهر في آخر كتب العقائد كتذييل.٣٤ كما تظهر إذا ما عرض التوحيد على أنه موضوعات لا فرق ويكون
الاختلاف في «الدقيق» أو «اللطائف». فما وضعه المعتزلة في النهاية وضعه
الأشاعرة في البداية، وما جعله المعتزلة نتيجة جعله الأشاعرة مقدمة، فالعلم عند
المعتزلة نتيجة للتوحيد وعند الأشاعرة مقدمة له.٣٥
(٤) بناء نظرية الوجود
وفي مرحلة اكتمال العلم في القرنين السادس والسابع بلغت نظرية الوجود تقريبًا نصف العلم. وتضم ثلاثة أبحاث: «الأمور العامة»، «الأعراض»، «الجواهر»، طبقًا لقسمة الوجود إلى الواجب، والعرض، والجوهر.
فالأمور العامة أقرب إلى المبادئ العقلية العامة التي يتوحَّد فيها العقل
والوجود، والتي يصعب فيها التفرقة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا لأنها تتعرض
للواجب أو لواجب الوجود، وهو مبدأ ميتافيزيقي وواقع أنطولوجي في آنٍ واحد. هي
بمثابة مقدمات عامة لمفاهيم الوجود الأساسية مثل: الوجود والعدم والماهية،
والوجوب والإمكان والاستحالة، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول. البعض منها
يقوم بذاته مثل الماهية والبعض الآخر عن طريق الثنائية المتقابلة، مثل: الوجود
والعدم، الوحدة والكثرة، العلة والمعلول، والبعض منها ثلاثي الوجوب والإمكان
والاستحالة. ويمكن اعتبار الوجود والعدم قسمة ثلاثية إذا أدخلنا بينهما
الواسطة، وهو الحال. البعض منها أقرب إلى الفلسفة وربما إلى الفلسفة «الإلهية»
في التصوف مثل الوجود والعدم، والماهية، والوجوب والإمكان والاستحالة، والوحدة
والكثرة، والبعض الآخر أقرب إلى أصول الفقه مثل العلة والمعلول. وقد تكون
الأمور العامة ما لا يختص بقسم من أقسام الوجود، بل منطق الوجود كله الذي يشمل
الواجب والعرض والجوهر،٣٦ أي أحكام الوجود الصوري أو العقل الوجودي وكأن «الأمور العامة»
تقوم على افتراضٍ ميتافيزيقيٍّ مسبق هو الهوية بين العقل والوجود، بين الفكر
والواقع، بين الروح والطبيعة.
ولكن يظل قلب نظرية الوجود هما مبحثا الأعراض والجواهر، يمثلان لب المقدمات
النظرية كلها وثلاثة أرباعها كمًّا؛ إذ لا تمثل الأمور العامة إلا ربعها.٣٧ وقد كانت من قبل لا تمثل إلا أقل من ثلثها.٣٨ كما أن مبحث الأعراض وحده لب نظرية الوجود، ويمثل نصف مباحث الوجود
كلها، ومرة ونصف مبحث الجوهر.٣٩ والأعراض في صيغة الجمع في حين أن الجوهر في صيغة المفرد وكأن هناك
أعراضًا كثيرةً وجوهرًا واحدًا في مبحث الأعراض والجواهر. وأحيانًا الجوهر
والأعراض وكأن الجواهر العديدة المنقسمة وغير المنقسمة ذاتها من نفس وعقل تنتهي
كلها إلى جوهرٍ واحد. والبداية بالأعراض قبل الجوهر، وكأن الحدوث والتغير
والانتقال فيهما سابق على الجواهر ومؤدٍّ إليها؛ مما يدل على البداية بالظواهر
قبل الحقائق، واكتشاف العالم الطبيعي كما يبدو قبل اكتشاف الأشياء ذاتها.
فالإنسان يعرف الظواهر قبل الأشياء ولا يدرك الأشياء إلا من خلال مظاهرها.
وتبدو القسمة الرباعية مع الثلاثية في أبحاث الأعراض (الكم، والكيف، والنسبة،
والإضافة)، وفي أبحاث الكيف (الحسية، والنفسية، والكمية، والاستعدادية)، وفي
أبحاث الجوهر (الجسم، عوارض الأجسام، النفس، العقل)، وفي أبحاث الجسم (الأفلاك،
الكواكب، العناصر، المركبات). ولما كان الغالب على الأعراض الكم والكيف والنسبة
والإضافة، وأطولها الكيف، وأهمها الكيفيات المحسوسة والنفسانية والكمية
والاستعدادية، فقد ظهر الإنسان قاصدًا نحو العالم. ولما كان الغالب على مبحث
الجواهر؛ أي عالم الأجسام النفس والعقل، فقد ظهر العالم قاصدًا نحو الإنسان.
وبالتالي يكون مبحث الأعراض والجواهر هو مبحث «الإنسان في العالم» أو مبحث
الإحالة المتبادلة بين الإنسان والعالم. وإذا كانت «الأمور العامة» هي بحث في
«الواجب» طبقًا لقسمة الوجود إلى واجب وعرض وجوهر كانت نظرية الوجود مركَّزة
أساسًا على الإنسان بين الواجب والعالم؛ أي الإنسان بين عالمَين، بين المقال
والواقع، أو بين الفكر والوجود، أو بين الروح والطبيعة. وبالتالي يظهر بناء
نظرية الوجود الثلاثي في: «ميتافيزيقا الوجود» أو «الأمور العامة» (الواجب)،
وفي «فينومينولوجيا الوجود»؛ أي ظواهر الوجود (الأعراض) وفي «أنطولوجيا
الوجود»؛ أي الأجسام (الجوهر).
فما يُسَمَّى المباحث الطبيعية في علم أصول الدين هو في حقيقة الأمر نظرية
الوجود، وبوجه خاص مبحثا الأعراض والجواهر، الغرض منها دراسة المعلوم، أي
الموجود أو المعدوم إذا كان المعدوم شيئًا وليس الغرض منه المبحث الطبيعي من
أجل تأسيس علوم الطبيعة. قد يأتي المبحث الطبيعي على نحو غير مباشر بدراسة
المعلوم والمبحث في الوجود والتجرد نهائيًّا عن المبحث الديني في «الله» كذات
وصفات وأفعال التي تتلو المقدمات النظرية كلها، وليست سابقة عليها، وكأن تأسيس
العلم الطبيعي ممكن بالاستقلال عن الفكر الديني، ثم يأتي الموضوع الأوَّل في
الفكر الديني تاليًا عليه. وإن شئنا يكون البحث الطبيعي هو المدخل للفكر
الإلهي. وقد بلغ مبحثا الأعراض والجواهر حدًّا من الاستقلال لدرجة أنه أمكن
التأليف فيهما تأليفًا مستقلًّا، سواء من القدماء أو من المحدثين.٤٠ ولكننا أسقطناها من وجداننا المعاصر، فغاب العلم الطبيعي وضاع
مِنَّا الإحساس بالعالم ولم يبقَ إلا الواجب الشخصي، وأصبح الإنسان معلَّقًا في
الهواء بلا أرض تحت قدمَيه، يناجي الواجب الشخصي ويستمد منه العون والبقاء؛
ففقد التوازن حتى أمكن تعليقه بعد ذلك في غياهب السجون، قدماه إلى أعلى ورأسه
إلى أسفل وهو يصرخ من آلام التعذيب وما من مجيب!
وفي نظرية الوجود المتأخرة يُشار صراحةً إلى المباحث الفلسفية، وتوضع لها
الأقسام الخاصة وتذكر إمَّا بتأييد أو المعارضة، ويقوم الجدل بين علم أصول
الدين وعلوم الحكمة، بين المتكلمين والفلاسفة. وتتشعب التقسيمات بين المتكلمين
والحكماء. وتسود تقسيمات الفلسفة فهي أشد تنظيرًا وأوسع أفقًا وأكثر اتفاقًا مع
العقل. فإذا كان علم الكلام العقلي قد قُضي عليه مبكِّرًا، فإن الفلسفة قد أتت
في النهاية وأعطت الكلام ما فقده من قبلُ من تعقيل وتنظير، ولو أنه كان التعقيل
الفلسفي بما فيه من إشراقيات وخيال.٤١ لم تتوقف الحركة العقلية إذن في القرن الخامس بعد القضاء على
الحركة الاعتزالية. ظهر العقل متخفيًّا في علم الكلام السني بعد القرن الخامس
في هذه المقدمات النظرية، نظرية العلم وخاصةً نظرية الوجود. ولم تزد نظرية
الوجود في المصنفات المتأخرة شيئًا من مباحث الوجود المتقدمة إلا التفريعات
والحجج الواردة من الفلسفة عن الوجود والماهية والممكن والجوهر والعرض، وكأنها
أبحاث لذاتها، وفقدت دلالاتها الأولى في الفكر الديني وأصبحت أبحاثًا منطقيةً
وجوديةً خالصةً.٤٢ وقد يكون سبب الاتصال بالمباحث الفلسفية أن الفلسفة ذاتها أصبحت
تمثل خطرًا على العقيدة؛ فبعد أن راجت الفلسفة في الحضارة تحول علم الكلام إلى
هذا الخصم الداخلي بعد أن أقام معركته من قبلُ مع الخصوم الخارجية أو البدع
الأولى. فبقدر ما استفاد منها نقدها، وقام معها بعملية الاحتواء،٤٣ وبإدخال المادة الفلسفية، دخلت الثقافات الأجنبية التي كانت
الفلسفة قد تمثلتها من قبلُ، خاصةً الفلسفة اليونانية وعلى وجهٍ أخصَّ
الطبيعيات منها، فيقتبس منها في الشروح. وكثيرًا ما تؤخذ كليةً كما هو الحال في
المنطق، وتحتوي داخل المقدمات إمَّا في العلم أو في الوجود أو في النفس الناطقة.٤٤ كان هناك وعيٌ تام بأن هذه التحليلات الجديدة مستمدة من علمٍ آخر
هو علوم الحكمة؛ فهي تقسيمات لعلمٍ آخر. فتتجاوز تقسيمات المتكلمين مع تقسيمات
الحكماء. وما سماه المتكلمون المحدث سماه الحكماء الممكن. والقديم عند
المتكلمين هو الواجب عند الحكماء، والجسم عند الحكماء هو الجوهر عند المتكلمين.
كما يستعمل المتكلمون «الجواهر المفارقة»
لإثبات بعض الموضوعات السمعية. وبالتالي نشأت عملية «تشكل كاذب» داخلي بين علم
أصول الدين وعلوم الحكمة. وبالرغم من اعتماد علم الكلام المتأخر على أقوال
الحكماء إلا أن الاختلاف بين العلمَين واضح، والاختلاف بينهما أكثر من الاتفاق
طبقًا لرصد المتكلمين.
والآن ما هي دلالة هذه المقدمات النظرية الخالصة؟ هل هو تفكيرٌ ديني مجرد،
وبالتالي استطاع الفكر الديني أن يصوغ نفسه صياغة عقلية مجردة؟ هل هي قسمة
عقلية مجردة لها آثار على الفكر الديني؟٤٥ هل هي قسمةٌ عقليةٌ مجردة، بحث في الميتافيزيقيا والفينومينولوجيا
والأنطولوجيا العامة؟ هل هو فكرٌ ديني مقنع لا بد من القضاء عليه كما يفعل
الفقهاء والعودة إلى علم الكلام الأشعري أو إلى عقائد السلف القائمة على النصوص
الخام؟ توحي الألفاظ المستعملة بأنها كلها تتبع قسمةً عقليةً واحدة تعبر عن
تجربةٍ دينيةٍ واحدة، يعبر عنها مرة بلغة الوجود مثل الواجب والممكن والمستحيل،
ومرة بلغة المنطق مثل الإثبات والنفي، ومرةً ثالثة بلغة الميتافيزيقا مثل
الواحد والكثير ومرةً رابعة بلغة الفلسفة مثل الوجود والماهية، ومرةً خامسة
بلغة الطبيعة مثل الجوهر والعرض، ومرةً سادسة بلغة اللاهوت مثل القديم والحادث،
وهي القسمة المباشرة التي تُعبِّر عن التجربة الدينية، نقطة البداية والنهاية.
والحقيقة أن كل هذه التقسيمات تشير إلى بُعدٍ واحد، وهو البعد الرأسي الذي
يستقطب فيه الوجود بين طرفَين موجب وسلب، وجود وعدم، واجب وممكن، واحد وكثير،
ماهية وجوهر، قديم وحادث، جوهر وعرض. فنظرية الوجود التي قدمها علم الكلام
كمقدمة لمادته هي في الحقيقة خادمة للإلهيات أو تعبير عن الإلهيات في صورةٍ
عقليةٍ خالصة.٤٦ ولكن ما مدى صدق نظرية العلم أو نظرية الوجود على المعطيات الدينية
الأخرى؟ هل تصلح هذه النظرية أو تملك أن تكون أساسًا نظريًّا لمجموع العقائد في
كل دين؟ يبدو أن المتكلمين يبحثون في الممكنات على «قانون الإسلام». فهل
استطاعت هذه المقدمات النظرية بالفعل أن تكون مبادئ أولانية لكل عقيدة؟٤٧ هل بلغت من الشمول بحيث يمكن أن تكون علمًا أولانيًّا لكل معطيات دينية؟٤٨
(٥) اختفاء نظرية الوجود
ثم انحل البناء في عصر الشروح والملخصات وتحولت نظرية الوجود إلى مجرد تجميع
لمواد القدماء عن الصفة والموصوف والعلة والقوة الجسمانية والتضايف والوحدة
والكثرة والأعراض والجواهر والقِدَم والحدوث دون إحكامٍ نظري، وانفصل المنطق عن
الطبيعة وأصبح الانتقال من الوجوب إلى الحدوث مجرد استدلالٍ صوري.٤٩ ثم عادت مصنفات العقائد كما بدأت بلا مقدماتٍ نظرية،٥٠ وأنه يجب على المؤمن أن يؤمن بخمسين عقيدة أو عشرين صفة، وأصبح عد
العقائد أو الصفات بديلًا عن الأحكام النظري.٥١ وغابت مسائل الطبيعيات من العقائد كما وصفها أهل السنة إلا من
العلم بحدوث العالم في أقسامه من أعراض وأجسام كمقدمات لإثبات الصانع وصفاته،
وكأن العلم الطبيعي ليس جزءًا أساسيًّا في العلم الديني، وكأن عقلية التوحيد لا
تبدو في تصور الطبيعة. ويبدو ذلك في بيان الأصول التي اجتمع عليها أهل السنة
(خمسة عشر أصلًا) ليس من بينها الطبيعيات.٥٢ ولا تظهر الطبيعيات في كتب التوحيد المتأخرة كموضوعٍ مستقل مثل
الإلهيات والسمعيات.٥٣ ولا تدخل في المسائل الكبرى لعلم التوحيد كالتوحيد والعدل والوعد
والوعيد والسمع والعقل.٥٤ وقد ظل هذا الاعتقاد سائرًا إلى الآن.٥٥ ولكن قد تختفي نظرية الوجود بدافعٍ إصلاحي ويوجه النص مباشرةً إلى
الواقع دون ما حاجة إلى عرضٍ نظري.٥٦ ومع ذلك تظل أحكام العقل الثلاثة هي كل ما تبقى من نظرية الوجود في
العقائد المتأخرة، وفي بعض الحركات الإصلاحية. فلم تبقَ إلا أحد موضوعات خمسة
من الأمور العامة أو ميتافيزيقا الوجود. وقد حاولت بعض مصنفات العقائد
الإصلاحية العودة إلى بعض المقدمات النظرية فلم تجد إلا مبحثًا واحدًا من
الأمور العامة أو الكلية وهي الأحكام الثلاثة وحوَّلته من أبحاث في الوجوب
والإمكان والاستحالة يتحدى فيها العقل بالوجود إلى أحكام العقل الثلاثة دون
وجود، وبالتالي سقطت مباحث القِدَم والحدوث، وانتهت مباحث الأعراض والجواهر،
وكأن أحكام العقل الثلاثة تكفي كمقدمةٍ نظرية للعقائد، وتطبيقها في الله وفي
الرسول، ما يجب اعتقاده في الله وما يستحيل وما يجوز، وما يجب اعتقاده في
الرسول وما يستحيل وما يجوز.٥٧ تقلصت نظرية الوجود كلها إلى أحكام العقل الثلاثة التي تجمع بين
العلم والوجود كما كان الحال في البداية.٥٨ بل تُسقط معظم الحركات الإصلاحية المعاصرة في رسائل التوحيد
الطبيعيات، وقد تُسقط الأحكام الثلاثة كليةً، ويكفي عرض العقائد في الله وفي
الرسول ما يجب منها وما يستحيل وما يجوز.٥٩ وعندما يبدأ العلم بأحكام العقل الثلاثة تأتي نظرية الوجود مباشرةً
دون العلم كنظريةٍ صوريةٍ خالصةٍ يجتمع فيها العلم والوجود معًا في نسقٍ صوري.
فأحكام العقل الثلاثة الواجب والممكن والمستحيل هي في نفس الوقت وصف للوجود.
فالعقل والوجود واحد. ومِنْ ثَمَّ يختفي هذا الفصل التقليدي التعسفي بين
المعرفة والوجود. وقد يتداخل دليل القِدَم والحدوث مع دليل الوجوب والإمكان، ثم
يسقط في النهاية ويتحول دليل الوجوب والإمكان إلى أحكام العقل الثلاثة، وتصبح
المقولات ثلاثة بدل اثنتين. وقد تكون الأحكام الثلاثة لا هي أحكام وجود ولا هي
أحكام عقل بل تصبح مجرد أحكام إيمان؛ فالإيمان بالله على ثلاثة أقسام: واجب
ومستحيل وجائز، كما أن الأحكام الشرعية خمسة وقواعد الإسلام خمسة وأركان
الإيمان ستة، وكأن مجرد العدد يكفي كإطارٍ نظري٦٠ أو السؤال عن الإيمان المباشر أو الجمع بين عقائد الإيمان وأحكام العقل.٦١ وقد يفيض الشُرَّاح المتأخرون في شرح أحكام العقل بشرح كلمة
«العقل» واعتباره سرًّا روحانيًّا تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية،
عمله في القلب، ونوره في الدماغ، وابتداؤه من حيث نفخ الروح في الجنين، وأوله
كمال البلوغ؛ أي تفسير العقل على أنه شيء، وضياع التأسيس النظري لوظيفة العقل؛
فيصبح عقلًا نورانيًّا إشراقيًّا بلا موضوع وبلا وجود.٦٢
١
تتداخل بعض مسائل نظرية العلم مثل دلالة الشاهد على الغائب في نظرية
الوجود عند الماتريدي في «كتاب التوحيد»، ص٢٧–٢٩، ص١٩–٢٧. كما تتداخل
عند الباقلاني بعض مسائل نظرية العلم الأخرى مثل الأدلة الشرعية
الأربعة وحجج العقول، بالإضافة إلى نظرية في فرائض الدين وشرائع
المسلمين وسائر المكلفين التي يلزم قسم منها السلطان وقسمٌ آخر العلماء
وقسمٌ ثالث العامة، وأن أول الواجبات هو النظر ومعنى الإيمان ومضمونه
ثم الدخول في عقائد الإيمان وصفات «الله»، فتتداخل المقومات النظرية
كلها مع موضوعات العلم ذاته (العقليات والسمعيات) (الإنصاف، ص١٥–١٩،
ص٣٠–٣٣؛ التمهيد، ص٤٠–٤٥).
٢
شرح الأصول، ص٨٧–١٢٢.
٣
وذلك مثل: «التنبيه والرد»، «الفقه الأكبر»، «اللمع»، «الإبانة»،
«الإنصاف»، «أصول الدين»، «لمع الأدلة»، «الإرشاد»، «بحر الكلام»،
«الاقتصاد»، «الشامل»، «المسائل الخمسون».
٤
وذلك مثل الإمام يحيى بن الحسين: الرد على المجبرة والقدرية، كتاب
فيه معرفة الله من العدل والتوحيد، وتصديق الوعد والوعيد، وإثبات
النبوة والإمامة، في النبي وآله؛ كتاب الرد والاحتجاج على الحسن بن
محمد بن الحنفية وإثبات الحق ونقض قوله؛ كتاب الجملة، جملة التوحيد؛
الرد على أهل الزيغ من المشبهة؛ وكذلك الانتصار للخياط. وأيضًا أحمد بن
حنبل: الرد على الزنادقة والجهمية؛ البخاري: خلق أفعال العباد؛
ابن قتيبة: الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة؛ الدرامي:
الرد على الجهمية؛ رد الإمام الدرامي على عثمان بن سعيد على المريسي
العنيد؛ القاسمي: محاسن التأويل؛ الرازي: أساس التقديس.
٥
وذلك مثل: «التنبيه والرد» للملطي الشافعي.
٦
وذلك مثل: «اللمع» للأشعري.
٧
وهذا هو الحال في «بحر الكلام» لأبي المعين النسفي.
٨
الاقتصاد، ص١٥–٢١.
٩
وهذا هو الحال في «اللمع»، «الإبانة»، «الكلام»، «الاقتصاد»،
«الانتصار».
١٠
أصول الدين، ص٣٣–٦٧.
١١
يجعل الفارابي العلم الطبيعي والعلم الإلهي علمًا واحدًا في تصنيف
العلوم. انظر: «إحصاء العلوم»، تحقيق د. عثمان أمين. وفي موسوعات
ابن سيناء الثلاث «الشفاء»، و«النجاة»، و«الإشارات والتنبيهات»، تسبق
الطبيعيات الإلهيات. أمَّا علوم التصوف فإنها وحدت بين الخلق والحق،
ورأت «الله» في آيات الكون وأصبح الصوفية من كبار علماء الطبيعة كما هو
الحال عند عمر الخيام. كما استطاع علم أصول الفقه ومعرفة قوانين
الطبيعة من خلال مباحث العلة ونشأة العلم التجريبي.
١٢
التمهيد، ص٣٥-٣٦، ص٤١-٤٢؛ الشامل، ص١٢٣؛ النسفي، ص٤٢.
١٣
بعد أن يتحدث ابن حزم عن نظرية العلم ضد مبطلي الحقائق، وهم
السوفسطائية، يبدأ الحديث «عمن قال إن العالم لم يزل وأنه لا مدبر له»
(الفصل، ج١، ص٩–١٩) «وهم الدهرية»، والرد على اعتراضاتها الخمس ثم
«إيراد البراهين الضرورية على إثبات حدث العالم بعد أن لم يكن وتحقيق
أن له مُحدِثًا لم يزل لا إله إلا هو»، وهي خمسة براهين، وكذلك الرد
على من قال: «إن العالم لم يزل وله مع ذلك فاعل لم يزل» (ص١٩-٢٠). أي
الرد على القول بقدم العالم وقدم الله في آنٍ واحد، وكذلك الرد على من
قال: «إن للعالم خالقًا لم يزل وأن النفس والمكان المطلق الذي هو
الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل موجودة، وأنها غير محدثة».
(ص٢٠–٢٧). أي رفض صفة القدم لكل ما سوى الله من زمان ومكان ضد الحكماء.
ثم يتم الرد على من قال: «إن فاعل العالم ومدبره أكثر من واحد»
(ص٢٧–٣٨). لإثبات الوحدانية ضد الشرك وهي أحد أوصاف الذات والتفريع على
ذلك بالحديث عن الملل، خاصةً النصارى واليهود، ثم الرد على إنكار
النبوة والملائكة دون فصل بين الإلهيات والسمعيات، ودون فصل بين تاريخ
العقائد. ص٣٨–١٦٠. ج٢، ص٣–١٠٥.
١٤
شرح الأصول الخمسة، ص٨٧–١٢٢.
١٥
المحيط، ص٣٦–٧٥. ولم نستطع للأسف تحليل كتاب «المغني في أبواب
التوحيد والعدل» نظرًا لفقدان الأجزاء الثلاثة الأولى وبداية الموسوعة
الضخمة بالجزء الرابع عن رؤية «الله» تعالى.
١٦
هذا هو الحال في الأصل الثاني «في بيان حدث العالم» في أصول الدين
للبغدادي (الأصول، ص٣٣–٦٧). وفي الشامل للجويني: «القول في حدث العالم»
(الشامل، ص١٣–٢٨٧). وفي «نهاية الإقدام» للشهرستاني.
١٧
وهو الحال في الشامل، النهاية، الاقتصاد.
١٨
لمع الأدلة، ص٧٦–٨١.
١٩
الإرشاد، ص١٧–٢٧. «ومن الأركان الخمسة عشر التي اجتمع عليها أهل
السنة الركن الثاني منها، وهو العلم بحدوث العالم في أقسامه من أعراضه
وأقسامه» (الفِرَق، ص٣٢٣، ص٣٢٨–٣٣١).
٢٠
وهو الحال في «أصول الدين» للبغدادي. «ولا بد قبل التكلم على إثبات
الصانع من التكلم على الجوهر والعَرَض؛ لأن لهما مدخلية تامة في
الأدلة» (التحقيق التام، ص٤٢).
٢١
كتاب البداية، ص٣٤–٣٨.
٢٢
الاعتقاد، ص٦–١١. «باب ذكر بعض ما يستدل به على حدوث العالم وأن
محدثه ومدبره إلهٌ واحدٌ قديم لا شريك له ولا شبيه» (نهاية الإقدام،
ص٦–١٢، ص٥–٥٣). «في حدث العالم وبيان استحالة حوادث لا أول لها
واستحالة وجود أجسام لا تتناهى مكانًا».
٢٣
هذا هو الحال في «طوالع الأنوار» للبيضاوي. فنظرية العلم في المقدمة،
والممكنات الكتاب الأوَّل، والإلهيات الكتاب الثاني، والنبوة الكتاب
الثالث. وكذلك الحال في «المقاصد» للتفتازاني فنظرية العلم في المقصد
الأوَّل، ونظرية الوجود «الأمور العامة» في المقصد الثاني، والأعراض في
الثالث، والجواهر في الرابع. أمَّا مادة العلم نفسها ففي المقصدَين
الخامس «الإلهيات»، والسادس «السمعيات».
٢٤
الشامل، ص١٢٣–٢٨٧. وتدخل الموضوعات المتناثرة في محاورَ سبعةٍ: القول
في الشيء وحقيقته (العدم والجوهر والعرض)، القول في إثبات العرض، القول
في إثبات حدث الأعراض، استحالة تعرى الجوهر عن الأعراض، استحالة حوادث
لا أول لها، معنى الحادث، إثبات العلم بالصانع، وذلك دون بناءٍ نظريٍّ
مُحكَم.
٢٥
المسائل الخمسون، ص٣٣٢–٣٤٠.
٢٦
غاية المرام، ص٧–٢٣.
٢٧
المحصل، ص٣٢–١٠٦.
٢٨
معالم أصول الدين، ص٩–٢١.
٢٩
العقائد النسفية، ص٤٢–٥٢.
٣٠
التحقيق التام، ص٢١–٤٨.
٣١
الأصول النظرية مثل التوحيد والعدل والفروع العملية مثل الخلاف في
الوصية، وتجهيز جيش أسامة، وموت الرسول، وموضوع دفنه، والإمامة، وقتال
مانعي الزكاة، وتنصيص أبي بكر على عمر، والشورى، وحرب الجمل، وحرب
صفين، والخلاف بين علي والخوارج.
٣٢
مثل: «المغني»، «المحيط»، «شرح الأصول الخمسة».
٣٣
مثل: «مقالات الإسلاميين»، «الفَرق بين الفِرَق»، «الملل والنحل»،
«اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين».
٣٤
نهاية الإقدام، ص٥٠٥–٥١١.
٣٥
يتضح هذا الجزء الثاني من «مقالات الإسلاميين» (مقالات، ج٢، ص٤).
وكذلك في الفصل في الجزء الخامس «المعاني التي يسميها علماء الكلام
اللطائف»، ويتحدث ابن حزم عن السحر والمعجزات والجن ووسوسة الشياطين
وفعلها في الصروع وفي الطبائع ونبوة النساء والرؤيا وأفضل الخلق والفقر
والغنى والاسم والمسمى، وقضايا النجوم، والبقاء والفناء، والمعدوم
والحال، والحركة والسكون، والتولد والمداخلة والمجاورة، والسكون
والاستحالة والطفرة والإنسان والجواهر والأعراض، وما الجسم وما النفس
وإبطال الجزء الذي لا يتجزَّأ وفي أن العرض لا يبقى وقتين، ويعود إلى
بعض موضوعات العلم مثل المعارف وتكافؤ الأدلة وينتهي بالألوان (الفصل،
ج٥، ص٧١–٢١١). وهناك فرق يغلب عليها الطبيعيات أكثر من الأخرى مثل
المعتزلة والكرامية والرافضة، وأبعدها عنها الخوارج والمرجئة. تغلب
الموضوعات الطبيعية كما هو الحال عند الأشاعرة. فموضوعات الطفرة
والكمون والتولد والحركة والزمان كلها موضوعات تطرق إليها الفكر الديني
العقلي عند المعتزلة أساسًا.
٣٦
المواقف، ص٤١.
٣٧
المواقف، المقدمات النظرية كلها، ص٤١–٢٦٥ (٢٢٤ص). الأمور العامة،
ص٤١–٩٥ (٥٤ص)، مبحث الأعراض، ص٩٦–١٨١ (٨٥ص). مبحث الجواهر، ص١٨٢–٢٦٥
(٨٣ص).
٣٨
طوالع الأنوار، الأمور الكلية، ص٣٥–٧١ (٣٦ص)، الأعراض، ص٧١–١٠٩
(٣٨ص)، الجواهر، ص١٠٩–١٥١ (٤٢ص)، وهي نفس القسمة المتبعة في «المقاصد»
وفي «تهذيب الكلام».
٣٩
هذا هو الحال في «المواقف» للإيجي.
٤٠
مثلًا مبحث: «الجواهر والأعراض» لابن متويه من القدماء و«التحقيق
التام» للظواهري من المحدثين، ص٤٤.
٤١
يصدر الرازي مباحث الجوهر والعرض بتقسيم الممكنات على رأي الحكماء
قبل تقسيم المحدثات على رأي المتكلمين. (المحصل، ص٥٧، ص٦٣؛ حاشية
الإسفراييني، ص١٣-١٤؛ مطالع الأنوار، ص٧). ويُشار أساسًا إلى ابن سينا
ثم يتلوه الفارابي، ولا يُشار إلى الكندي أو ابن رشد وباقي فلاسفة
الأندلس؛ كما يُشار أحيانًا إلى الأطباء والرياضيين والعلماء
والمترجمين المسلمين.
٤٢
المحصل، ص١٠٠؛ شرح التفتازاني، ص١٤.
٤٣
انظر «التراث والتجديد» العلوم الإسلامية الأربعة. (٢) علوم الحكمة.
ص١٧٩–١٨٢؛ وأيضًا التطبيقات العملية لظاهرة الاحتواء في بحثنا
«الفارابي شارحًا أرسطو»، «ابن رشد شارحًا أرسطو» في «دراسات إسلامية»،
ص١٤٥–٢٠٢، ص٢٠٣–٢٧٢.
٤٤
يبدأ ذلك من أوائل القرن الخامس؛ إذ لا يظهر بصورته المبدئية إلا عند
الباقلاني في «التمهيد»، «الإنصاف»، ثم يظهر بصورةٍ كاملة لأول مرة في
«أصول الدين» للبغدادي.
٤٥
انظر: «(٥) الطهارة الدينية والقسمة العقلية» في «نماذج من الفلسفة
المسيحية»، ص٢٣٣–٢٣٩.
٤٦
المقاصد، ص١٥٠، ص١٦٣.
٤٧
المقاصد، ص٧–٢٠.
٤٨
انظر بحثنا: Hermeneutics as Axiomatics, in
Religious Dialogue and Revolution.
٤٩
الدر النضيد، ص١٣٩–١٤٣.
٥٠
مثلًا الصابوني: عقيدة السلف أصحاب الحديث. الصنعاني: تطهير الاعتقاد
من أدران الإلحاد. المقريزي: تجريد التوحيد. محمد بن عبد الوهاب: عقيدة
الفرقة الناجية، مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد. الشوكاني: التحف
في مذهب السلف. العقيدة الطحاوية، العقائد العضدية، الجواهر
الكلامية.
٥١
كفاية العوام، عقيدة العوام، قلائد الخرائد.
٥٢
هذا هو موقف «أصول الدين» للبغدادي.
٥٣
لم يزد شرح القاري على الفقه الأكبر لأبي حنيفة إلا مسألتين: الحر
والمعدوم! (شرح القاري، ص٦١–٦٤).
٥٤
الملل، ج١، ص١٠–١٢، ص٦١–٦٤.
٥٥
وقد وقعت في هذا الخطأ الشائع مدة من الزمان منذ دراستي الجامعية
الأولى حتى الصياغة الأولى لهذا المصنف. فقد حدثت لي التجربة الآتية:
لم أكن أظن وأنا طالب بالجامعة ما بين ١٩٥٢–١٩٥٦م أن الطبيعيات جزء من
علم التوحيد ما دام موضوعه كما علمت خطأ في ذلك الوقت وطبقًا للتعريف
التقليدي الدفاع عن الدين أو إثبات وجود «الله»؛ ولذلك فلا مكان
للطبيعيات. فإذا ما ذكرت بعض الآراء الطبيعية للمعتزلة وعلى رأسهم
النظام، لم أفهم سياقها، وظننت أن عالم التوحيد قد حاد عن الطريق وخرج
عن الموضوع، وضاعت الأمة! وكنت أتساءل: وما صلة نظريات الجوهر الفرد
والكمون والحركة والطفرة والمماسة والمجاورة والتأليف والاعتماد
والتوليد بعلم التوحيد؟ وفي الدراسات «الثانوية» والكتب المدرسية
المقرَّرة في علم الكلام عادةً ما تسقط الطبيعيات من الحساب اتفاقًا مع
الاعتقاد الخطأ السابق من أنها خارجة عن علم التوحيد الذي يتركز أساسًا
على الله، والطبيعة ليست هي الله خاصةً وأن عددًا من ألفاظها كان
شبيهًا بالفلسفة، وكانت الفلسفة كما نأخذ امتدادًا للفلسفة اليونانية.
ولما كان التوحيد علمًا إسلاميًّا استقطع هذا الجزء اليوناني منه بحق
وجدارة. فلما حدث لي وعي بالحضارة، وانفتح ما أُغلق عليَّ وأنا طالب
نتيجة لعقم مناهج التعليم الجامعي القائمة على التكرار والحفظ، رأيت
الطبيعيات وقد طغت على الجزء الثاني من «مقالات الإسلاميين» للأشعري،
وفي نفس الوقت بقيت في كتب العقائد القديمة في آخر علم التوحيد بعد
الإمامة. وبدأت الفصل الأوَّل عن «الذات»، والثاني عن «الصفات»، كما
أخذتُ وورثتُ عما هو متناقَل بين المعاصرين من جيلي. ولكن بعد البدء في
التحليل والاستقصاء عرفت أن الطبيعيات تأتي في أول علم الكلام بعد
نظرية العلم في نظرية الوجود، والتي بها دليل الحدوث والإمكان كمقدمة
لإثبات الذات. وأمام دهشتي من طول الوقوع في الخطأ الشائع، علمت أن
الطبيعيات سابقة على الإلهيات في علم التوحيد كما هو الحال في علوم
الحكمة، وتكون نظرية العلم في التوحيد بمثابة المنطق في الفلسفة، ويكون
العلمان، التوحيد والفلسفة قد كشفا نفس البناء وهو من المنطق إلى
الطبيعيات إلى الإلهيات. وقد كنت أتساءل من قبلُ: أين البراهين على
وجود «الله» في التوحيد؟ ولماذا لم تدخل في مسألة الذات والصفات؟
وأخيرًا وجدت أنها ضمن نظرية الوجود إجابةً على سؤال ماذا أعرف؟ بعد
الإجابة على سؤال كيف أعرف؟ في نظرية العلم. وقد وصلت إلى ذلك وعمري
واحد وأربعون عامًا وأنا بالولايات المتحدة الأمريكية، كما عرفت أبعاد
الشعور الثلاثة في علم أصول الفقه وعمري واحد وعشرون عامًا في فرنسا.
انظر رسالتنا: Les Méthodes
d’Exégèse.
٥٦
مثل «كتاب التوحيد» لمحمد عبد الوهاب.
٥٧
السنوسية؛ رسالة الباجوري؛ جوهرة التوحيد؛ الخريدة البهية؛ وسيلة
العبيد؛ الحصون الحميدية.
٥٨
كانت البداية في «العقيدة النظامية» للجويني.
٥٩
وهذا هو الحال في «العقيدة التوحيدية».
٦٠
وهذا هو الحال في «جامع زبد العقائد».
٦١
وذلك مثل «مسائل أبي الليث».
٦٢
«في بيان ما اعتبره الشرع منافيًا للإيمان ومبطلًا له والعياذ بالله
تعالى» (الجوهرة، ص٦-٧). «في بيان حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام»
(الجزيرة، ص٥-٦). وذلك كنقطة انتقال من العلوم إلى أحكام العقل
الثلاثة.