ثالثًا: فينومينولوجيا الوجود (الأعراض)

تعني كلمة «فينومينولوجيا» هنا ببساطة ظواهرَ الوجود لما كانت الأعراض هو ما يظهر، وما تبدو الأجسام من خلاله.١ فقد كانت «ميتافيزيقا» الوجود أو الأمور العامة المدخلَ النظري لنظرية الوجود عن طريق التوحيد الصوري بين العقل والوجود. أمَّا الآن فهو المدخل الطبيعي الواقعي الحسي الاستقرائي للوجود، الوجود كما يبدو من خلال الظواهر. ومِنْ ثَمَّ فهو مبحث في «الظاهريات». قدمت «الأمور العامة» الأطرَ النظرية لظواهر الوجود، الأولى كصورة والثانية كمضمون؛ ومِنْ ثَمَّ تتحول وحدة العقل والوجود من مستواها الصوري في «ميتافيزيقا» الوجود أو «الأمور العامة» إلى مستواها المادي في «فينومينولوجيا» الوجود.

(١) تعريف العَرَض وإثباته وقسْمته وأحكامه وغايته

العَرَض صفة للشيء، والأعراض مظاهر الطبيعة، ما يظهر للإنسان كموضوع للوصف. تتصدَّر مبحث الأعراض إذن نظرية في الصفات؛ إذ إنها أعمُّ من الأعراض، والأعراض إحدى حالاتها. وبصرف النظر عن هذا المدخل النظري للأعراض وصلتها بالصفات، وهل الصفات مادية في الشيء وبالتالي تكون موضوعًا للعلم الطبيعي أم معاني في الشعور وبالتالي تكون موضوعًا للفلسفة، فإن تعريف العَرَض عند المتكلمين هو أنه موجود قائم متحيز أو ما لو وُجد لقام بالتحيُّز لأنه ثابت في العدم.٢ وعند الحكماء ماهية إذا وُجدت في الخارج كانت في موضوع؛ أي في محل مقوم.
وإثبات الأعراض معلوم بالحس والمشاهدة. فإذا ثبتت الأعراض ثبتت الجواهر بالضرورة، فلا توجد الأعراض إلا في محلٍّ وهو الجوهر. ومِنْ ثَمَّ يستحيل إثبات الجوهر جسمًا دون إثباتٍ للأعراض؛ لأن الجوهر لا يُعرف إلا من خلال الأعراض، كما أن الوجود لا يُعرف إلا من خلال مظاهره. وإنما تعبِّر هذه المحاولة عن رغبة في إدراك الثبات لا الحركة، والدوام لا التغيير. وإثبات الأعراض أبعاضًا للأجسام مشكلةٌ لفظية؛ فسواء كان العَرَض في الجسم أو بعض الجسم فهو موجود. وإثبات الأعراض صفات للأجسام أو معاني لا هي الأجسام أو غيرها محاولة لإدراك الطبيعة في بُعْديها الصوري والمادي، العقلي والحسي. إن إثبات الأعراض في نهاية الأمر هو إثبات لبُعدي الطبيعة: الأعراض والجواهر، لما كانت الجواهر لا تتعرى عن الأعراض ولما كانت الأعراض لا تُوجَد إلا في محل. ومِنْ ثَمَّ يصعُب نفي الأعراض.٣
وتنقسم الصفات الثبوتية باعتبارها أعراضًا إلى صفاتٍ نفسية، وهي التي تدل على الذات مثل الجوهر والوجود أو الذات، وإلى صفاتٍ معنوية، وهي التي تدل على معنًى زائد كالتحيُّز والحدوث وقبول الأعراض.٤ وهي نفس القسمة القديمة للممكن عند الحكماء أو للحادث عند الفلاسفة إلى جوهرٍ وعَرَض؛ فالممكن إمَّا أن يكون في موضوعٍ وهو العَرَض أو لا في موضوعٍ وهو الجوهر. والحدث إمَّا أن يكون متحيِّزًا وهو الجوهر أو قائمًا بالتحيُّز وهو العَرَض أو لا متحيِّزًا أو لا قائمًا بالتحيُّز. وتدل هذه القسمة الأولى على الرغبة في البحث عن نقطةٍ يقينية بديهية تبدأ منها قسمة الوجود تكون هي التموضع أو التحيُّز أو الحلول أو القيام؛ أي تحقيق الوجود في صورته الأولى، ثم تتوالى التقسيمات تبعًا لضرورة العقل حتى يتم استنباط الوجود كله ظواهرَ وأجسامًا من ضرورة العقل. وقد تنقسم الصفات الثبوتية إلى صفاتٍ نفسية وصفاتٍ معنوية كالصفة المعللة، وصفاتٍ حاصلة بالفاعل وهي الحدوث، وصفاتٍ تابعة للحدوث ولا تأثير للفاعل فيها منها واجبة كالتحيُّز وممكنة تابعة للإرادة. فإذا كان القسمان الأولان يؤسِّسان العلم الطبيعي كان القسمان الآخران يؤسِّسان العلم الإنساني باعتبار كون الشيء قابلًا للفعل والأثر.٥
فإذا كانت هذه القسمة الأولى للأعراض باعتبارها صفاتٍ من أجلِ تعريف العَرَض، فإن قسمة الأعراض من أجل تصنيفها هي التي تكشف عنها؛ فالأعراض عند الحكماء تنحصر في المقولات التسع اعتمادًا على الاستقراء؛ فالعَرَض إمَّا يقبل لِذَاته القسمة وهو الكم، ويدخل فيه المتصل والمنفصل، أو يقتضي النسبة لِذَاته وهي النسبة؛ أي يكون مفهومًا ومعقولًا بالنسبة إلى الغير. والثاني ما لا يَقبل القسمة وهو الكيف الذي لا يَقبل القسمة ولا النسبة. وتشمل النسبة سبعة أعراض: الأين، والمتى، والوضع، والملك، والإضافة، وأن يفعل، وأن ينفعل؛ فالأعراض التسعة هي الكم والكيف، ثم تشمل النسبةُ باقي الأعراض السبعة. ثم انفصلت الإضافة من النسبة وكوَّنت قسمًا مستقلًّا، وبالتالي أصبحت الأعراض أربعًا: الكم والكيف والنسبة والإضافة.٦ وهنا تبدو المقولات التسع تفريعاتٍ أكثرَ مما تتحمَّل ضرورة العقل التي ترضى أوَّلًا بالقسمة الثلاثية نسبة وقسمة وسواهما بعد القسمة الثنائية للممكن في الموضوع وهو العَرَض والممكن في اللاموضوع وهو الجوهر. وهنا يتم احتواء المقولات الطبيعية في الممكن ما دامت لا تعارض العقل، خاصةً وأنه لا يُشار إلى مصادرَ تاريخيةٍ لها في حضاراتٍ أخرى قديمة أم مجاورة.٧

ليست الأعراض أجناسًا لما تحتها، أو أنواعًا لما فوقها؛ فليس الأمر هنا يتعلَّق بمنطق الدوائر المتداخلة والاستغراق، بل صفات الأشياء على مستوًى واحد في الطبيعة. ويدخل في تقسيم الإدراك داخل الكيفيات النفسانية قسْمَته إلى ظاهر وباطن؛ والباطن إلى تصوُّر وتصديق؛ والتصديق إلى جازم وغير جازم إلى آخر ما ورد من قبلُ في نظرية العلم، مما يدل على أن الفصل بين نظرية العلم ونظرية الوجود، بين الذات والموضوع لا وجود له.

أمَّا عند المتكلمِين، فتنقسم الأعراض إلى نوعين: الأوَّل ما يختص بالحي وهي الحياة وما يتبعها من الإدراكات وغيرها كالعلم والقدرة. والثاني ما لا يختص بالحياة كالأكوان والمحسوسات؛ أي الظواهر الطبيعية الصامتة. وفي حقيقة الأمر إن كلا القسمين ينتميان إلى الظواهر الحية مع اختلافٍ في الدرجة لا في النوع؛ فالمحسوسات موضوعاتٌ للحواس، والحواس أحد مظاهر الحياة النفسية والبدنية، والأكوان لا تُعرف أيضًا إلا من خلال الحواس، والحواس مظاهرُ حية للإنسان. الظواهر الحية إذن هي أول ما يعرفه الإنسان من العالم، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة تظهر الحياة للإنسان في العالم قبل أن يظهر له أي شيء أو طرف آخر مثل «الله». ويظهر الإنسان ككائن حي، ويظهر العالم كموضوع مدرك للكائن الحي؛ وبتعبير آخرَ تظهر الحياة كذات وكموضوع. وظواهر الحياة الذاتية والموضوعية معًا ظواهرُ متناهية مرئية وليست ظواهرَ افتراضية؛ أي إن الأعراض المرئية الملموسة هي موضوع العلم الأوَّل. تقسيم العَرَض إذن إلى غير حي وحي قسمةٌ متداخلة؛ فالمحسوسات جزء من الحي. والألوان والأضواء مدركات للبصر. والأصوات والحروف من مدركات السمع. والحرافة والمرارة والملوحة والحلاوة، والدسامة والحموضة والعفوصة والقبض والتفاهة مدركات للذوق. والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والثقل والخفة، والصلابة واللين مدركات اللمس. فالمحسوسات ليست أجسامًا طبيعيةً، بل هي مدركات من عضو حي وهو جسم الإنسان؛ لذلك نشأ التكرار في وصف العَرَض الحي بأنه سمعٌ وبصر. وإذا عرفنا أن الحواس الظاهرة والباطنة موضوع تحليل في العلوم الضرورية، المحسوسات والمشاهدات والتجريبيات والحدسيات وبداءات العقول وجدنا أن وصف الإنسان قد تكرَّر ثلاث، مرات مرة في نظرية العلم وأخرى في أقسام العَرَض غير الحي وثالثة في أقسام العَرَض الحي، وكأن الأولى نظرية في العقل، والثانية نظرية في الموضوع، والثالثة نظرية في الذات. ويُلاحَظ على تصنيف المتكلمين تفصيل بعض الأعراض دون البعض (الأكوان، الألوان)، ووضع عدم الأعراض مثل الجهل والصمم والعمى، ووضع موضوعات من نظرية العلم مثل الشك والاعتقاد، وترك البعض الآخر مثل الصحة والمرض.٨ ويُلاحَظ أن قسمة المتكلمين ذات طابع حسي؛ فهي تقسِّم المحدث، وليس الممكن؛ أي ما هو قائم في العالم بالفعل وليس ما هو مفترض بالذهن كما يفعل الحكماء؛ ومِنْ ثَمَّ دخلت لديهم في القسمة الأعراض «الروحانية». وقد تزيد بعض التقسيمات على العرض المشروط بالحياة التحرُّك، وتجعل مظاهر العلم كلها من حياة وعلم وقدرة وإرادة وكلام ولذة وألم وبصر وشمٍّ في قسم واحد هو الإدراك، ثم يُقسَّم الإدراك قسمين: إدراك الجزئيات بالحواس وإدراك الكليات. وهنا تقترب القسمة من قسمة الحكماء بإضافتها الحركة وهو ما سمَّاه الحكماء التهيؤ بالدفع (قوة) أو بالتأثُّر (لا قوة).
وفي كلتا القسمتين عند الحكماء والمتكلمين يبدو الإنسان والطبيعة، وتبدو الظواهر الإنسانية الطبيعية كنوعٍ من العلاقة بينهما.٩ فوجود الإنسان في الطبيعة هو أول مظاهر الوجود الإنساني. الإنسان يُوجَد مع الآخر، ويتعامل مع الأشياء. ولولا سقوط هذه المقدمات النظرية لما غاب هذا البُعد الطبيعي للإنسان أو بُعد الإنسان الطبيعي من وجداننا المعاصر، والسؤال الآن: هل هذه القسمة للأعراض طبيعية صرفة أم إنها تخدم غايةً خارج الطبيعة؟ إن إدخال قِسْمٍ لا يدخل في العَرَض أو الجوهر (الجسم) هو إفساح المجال من جديد إلى وجود عالم آخر مفارق لهذا العالم. وقد يكون الهدف من إثبات الأفعال كأعراض نزع مسئولية الإنسان عنها وحريته في الإتيان بها وممارستها.١٠ ومع ذلك فإن قسمة الأعراض على هذا النحو، خاصةً عند المتكلمين، لا توحي بهذا القصد قدْر ما توحي به قسمة الجواهر التي تسمح أكثر من الأعراض بالجواهر المفارقة.
ويتفق الحكماء والمتكلِّمون بوجهٍ عام على أحكام الأعراض؛ فهي مرة مذكورة في قسمة الحكماء ومرة أخرى في قسمة المتكلمين. ومعظمها يبدو معقولًا وإن كان يكشف عن الصراع بين الفكر العلمي الطبيعي والفكر الديني الإلهي، فمنها:
  • (أ)
    لا يجوز قيام العَرَض بالعَرَض عند أكثر العقلاء خلافًا للفلاسفة، وذلك اعتمادًا على حُجتين: الأولى أن قيام الصفة يعني تميُّزها في الموصوف وليس في الصفة، والثانية أنه لو قامت الصفة بصفةٍ لزم التسلسل إلى ما لا نهاية ولا بد من الانتهاء إلى الجوهر كحامل للأعراض. وقد احتجَّ الفلاسفة بأن السرعة والبطء قائمان بالحركة دون الجسم، والخشونة والملامسة قائمان بالسطح دون الجسم مع أن الحركة والسطح كليهما أعراض للجسم. وقد يرجع الخلاف بين المتكلمين والحكماء إلى وجود نموذج «إلهي» مسبق، وهي قضية الذات والصفات التي توازي قضية الجوهر والأعراض؛ فالقيام لا يستدعي التحيُّز عند الفلاسفة؛ لأن صفات «الله» قائمة دون تحيُّز، وبالتالي يمكن قيام العَرَض بالعَرَض! ويكون السؤال أي المسألتين هما الأصل وأيهما الفرع؟ إن الجوهر والأعراض في العلم الطبيعي هو أساس الذات والصفات في العلم «الإلهي»؛ نظرًا لنشأة المعارف في الحس، ثم قياس الغائب على الشاهد كما هو معروف من نظرية العلم.١١
  • (ب)

    لا ينتقل العَرَض من محل إلى محل عند المتكلمين، وبالتالي تبقى صفات الأشياء ملازمة لها، ولأن تشخُّصه ليس لِذَاته عند الحكماء. والحقيقة أن هذه مسألة علمية خالصة. والمشاهد أنه يجوز انتقال العَرَض من محل إلى محل كانتقال الروائح إلى ما يجاورها والحرارة إلى ما لا يلامسها بصرف النظر عن فاعل هذا الانتقال، سواء كان الفاعل المختار أو الفيض من العقل «الفعال» للاستعداد الذي يحصل من المجاورة! ويبدو أن الرغبة في تثبيت العَرَض في المحل ما زال يهدف إلى غايةٍ أبعد، وهو تثبيت العلاقة بين الذات والصفات في موضوع التوحيد.

  • (جـ)
    لا يقوم العَرَض بمحلين ضرورةً ولا يحل العَرَضان في محل واحد؛ وذلك كما لا يوجد الجسم في مكانين ولا يوجد المكانان في جسم؛ فالعَرَض يتعيَّن في محله. ولا يفصل في ذلك في حقيقة الأمر إلا الفكر العلمي. يُخشى من هذا الحكم تقطيع العالم وتجزئته وتفرُّد ظواهره منعًا لاستمرار العالم واطراده، وكأن الاستمرار والبقاء صفاتٌ للإرادة الشخصية خارج العالم وليس للظواهر الطبيعية في العالم. وقد جوَّز بعض قدماء المتكلمين قيام العَرَض بمحلين في التأليف مثل الجوار والقرب؛ فالعَرَض لا يخص المحل وحدَه بل يعم أكثرَ من محل. يوجد اللون والرائحة في أكثر من شيء. هذه التجزئة الأشعرية إضعاف للعالم وتقوية للإرادة المشخصة، في حين أن هذا إضعافٌ لها؛ لأن بقاءها مشروط بفَناء العالم وليس بقاء من ذاتها بالاستقلال عن العالم بالرغم من بقائه.١٢
  • (د)
    العَرَض لا يبقى زمانين في علم الأشعرية؛ لأنه يقتضي التجدُّد المستمر وتخصيص كل وقت بوقته بفعل القادر المختار.١٣ واعتمدت في ذلك على حججٍ ثلاث: الأولى أنه لو بقيت الأعراض لكانت باقية، والبقاء عَرَض، ولا يقوم العَرَض بالعَرَض، وهذا إدخال للعقل في دوائرَ مغلقةٍ منعكفًا على ذاته وتحويله إلى جدل فارغ بلا مضمون. والثانية أنه خلق مثله في الحالة الثانية، ولو بقي لاجتمع المثلان. وهذا افتراض مسبق لإفساح المجال للقدرة «الإلهية» التي تنفي ما قامت به أوَّلًا بلا سبب أو علة، بل لمجرد إظهار القوة على حساب العالم. والثالثة أنه لو بقيت لامتنع زوالها، وكأن وظيفة القدرة «الإلهية» تدمير العالم لتثبت ذاتها. وهذا كله يقتضي أن تكون الظواهر الطبيعية غير مستقرة بذاتها، بل تحتاج إلى بقاء وتجدُّد باستمرار بتدخُّل إرادة خارجية، وهو افتراض ميتافيزيقي خالص لا يؤثِّر في الظواهر الطبيعية ما دامت قائمة ومطردة. ولا يؤثِّر إلا إذا تجدَّدت الظواهر وتحوَّلت مما يبرِّر تدخُّل إرادة خارجية. وهو موقف يهدم العلم الطبيعي ويدافع عن الإرادة «الإلهية» على حساب استقلال الطبيعة وقوانينها، وكأن الدفاع عن الإرادة «الإلهية» لا يكون إلا بهدم أُسُس العلم وبقاء العالم. أمَّا الحكماء فقد قالوا ببقاء الأعراض، وما لا يبقى يختص بوقته لا قبل ولا بعد، وهو أقرب إلى التصوُّر العلمي وبقاء ظواهر الطبيعة. واعتمدوا في ذلك أيضًا على حُجَج ثلاث: الأولى أن المشاهدة تقرُّ استمرار الظواهر؛ أي إثبات العالم دون نفيه دون تدمير لهذا التصوُّر الحسي العلمي بأي افتراض ميتافيزيقي مسبق. والثانية أنه لا يجوز مثله في الأجسام؛ أي إثبات الأجسام وبقاؤها في العالم دون تدميرها أو إلحاقها بإرادةٍ تبرِّر وجودها في كل لحظة وجود. والثالثة أنه يجوز إعادة العَرَض في الوقت الثاني، وبالتالي فوجوده أولى.١٤ ويبدو من الموقفين الفرقُ بين الفكر الديني عند الأشاعرة وبعض المعتزلة، والفكر العلمي عند الحكماء. وقد يرجع الخلاف أساسًا إلى تصوُّر الزمان، الزمان المتقطع المتجدِّد في كل لحظة عند الأشاعرة مما يسمح بتدخُّل الإرادة «الإلهية» والزمان المتصل المستمر عند الحكماء الذي تسري فيه قوانين الطبيعة.
وبالإضافة إلى أحكام الأعراض، يعرض القدماء عدة مسائل مكملة حول بقاء الأعراض وفنائها وجنسها ورؤيتها، لم تتحول بعدُ إلى أحكامٍ صريحة عليها اتفاق أو اختلاف. يتفق الأشاعرة والمعتزلة معًا على عدم بقاء الأعراض. ويبدو أن الدافع في ذلك هو تخصيص وصف البقاء للذات «الإلهية»، كما يبدو ذلك في موضوع التوحيد. ويكون السؤال: أيهما أكثر أثرًا في حياة الناس وصالحهم، فَناءُ الأعراض أم بقاؤها؟ وهي مسألة فرعية على موضوع الفناء والبقاء بوجهٍ عام، سواء للأجسام أم للأعراض.١٥ ومِنْ ثَمَّ كان السؤال الثاني: هل تفنى الأعراض؟ وهل تفنى بفناء أو تبقى ببقاء؟ واضح أن القضية ليست سؤالًا علميًّا بقدْر ما هو تمرين عقلي سابق لأوانه على موضوع الذات والصفات في موضوع التوحيد. وبالتالي فهو ليس سؤالًا علميًّا بقدْر ما هو افتراض ميتافيزيقي.١٦ ويكشف عن ذلك السؤال الثاني بعد الإجابة المعروفة سلفًا بفناء الأعراض، وهل تجوز إعادة الأعراض؟ ولما كان المعاد ضِمن نَسق العقائد كانت الإجابة معروفة سلفًا؛ ومِنْ ثَمَّ تحوَّل السؤال العلمي في نظرية الوجود إلى إجابةٍ إيمانية صرفة، وكأن علم أصول الدين لم يصبر حتى يتم مقدماته النظرية ويستكمل أحكامها. ما دامت الأعراض لا تفنى فإنها باقية، وما دامت باقية فإنها لا تعود.١٧ والسؤال لنا نحن: أيهما أفضلُ لوجداننا القومي وصالحنا العام، تركيز الفناء أكثر وأكثر كما تكشف عن ذلك الأمثال العامية: «الدنيا فانية»، «كله فانٍ»، أم إدخال البقاء كطرفٍ ثانٍ حتى يُعاد التوازن المفقود إلى وعينا القومي؟ ليس «الباقية في حياتك» أو «البقاء لله»، وكأننا في جنازة، ولكن البقاء للبطولة والتضحية والشهادة، البقاء للأبطال وللشعوب في معارك التاريخ.
وكما تشخص الطبيعة تطبع الأشخاص وتصبح الأفعال أيضًا من الموضوعات الطبيعية. وهذا ما يبدو في السؤال عن جنس الأعراض الذي يخلط بين مقولة منطقية وبين فعل إنساني وظاهرة طبيعية. كما يكشف عن رغبة في تجاوز العالم الطبيعي وظواهره إلى العقل المنطقي بأجناسه وأنواعه كنوع من الإحكام والسيطرة عليه. والمنطق الصوري تصوُّر مثالي للعالم ويصح أن يكون قالبًا للفكر الديني. قد يكون السؤال لا معنًى ولا دلالة إلا من حيث كشف عن الصراع بين الفكر العلمي الطبيعي والفكر الديني «الإلهي»،١٨ الأوَّل لا يفرِّق بين ظاهرة وظاهرة، يضعها كلها تحت المجهر، في حين أن الثاني يرتِّب المظاهر بين الأعلى والأدنى طبقًا لمراتب الشرف والكمال.
وكيف يُثار سؤال عن رؤية الأعراض والأجسام ما دامت الظواهر والأشياء محسوسة مرئية أمامنا؟ يبدو أن كثيرًا من المسائل ليست مشاكل، بل تمرينات عقلية أو مشاكل مفتعلة لإظهار بواعث دينية تدفع إلى التعظيم والتبجيل وإحداث الفصم في الشعور بين الأدنى والأعلى، بين الناقص والكامل، لا فرق في ذلك بين الأعراض، الحركة أو السكون أو اللون. قد تكون عقيدة عدم جواز رؤية «الله» هي السبب في القول برؤية الأعراض والأجسام حتى يظهر الاختلاف والتباين بين المستويات. وإنكار الحكماء رؤيةَ الأجسام ليست بدافع ديني، بل لتوسُّط الألوان والأضواء، مما يجعل الأجسام ليست مرئية بذاتها. وإذا كانت رؤية «الله» جائزة عند الأشاعرة، فلأنه موجود وشيء؛ فالأشياء بالأحرى تكون مرئية مما يدل على حفاظ الحكماء على الفَرق بين المستويات أكثرَ من حفاظ الأشاعرة، وأن تنزيه الحكماء ظل قائمًا في حين تحوَّل تنزيه الأشاعرة إلى تشبيهٍ وتجسيم.١٩
إن معظم التساؤلات حول الأعراض والجواهر تمريناتٌ عقلية من أجل إثباتٍ صريح أو ضمني لقدرةٍ مطْلقة لإرادةٍ مشخصة.٢٠ وتكون الإجابة باستمرار إجابتين: الأولى تغليب القدرة على الطبيعة من حيث المبدأ، والحفاظ على المبدأ، والتضحية بالطبيعة، وهو موقف خاطئ؛ لأن المبدأ ليس في حاجةٍ إلى دفاع عنه، بل الذي في حاجة إلى احترام ودفاع هما الطبيعة والإنسان. ولا تكون طريقة الدفاع بالهجوم على الطبيعة والنيل منها والطعن في قوانينها والقضاء على استقلالها والتضحية بها، بل باحترامها وإدراك قوانينها الثابتة وتسخيرها لصالح الإنسان، وهو دفاع صوري بلا مضمون، دفاع مجاني بلا ثَمن، يكشف عن مزايدة رخيصة على إيمان العقلاء وعقل الحكماء ومشاهدات العلماء. ويؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى سيادة الفكر الديني على الفكر العلمي. ويؤصِّل لكل النُّظم التسلطية والأنساق المطلقة في السياسة والاجتماع والقانون والأخلاق. وهذا يعني استمرار التخلُّف؛ إذ إن التقدُّم مشروط باكتشاف الطبيعة واستقلال قوانينها. وهو وقوع في الثنائية المتعارضة التي يُعطى فيها لطرَفٍ كل شيء ويُسلب عن الطرف الآخر كل شيء، فتصبح الحياة توتُّرًا بين قطبين: إيجاب مطْلق وسلب مطلق، يتمثل الحاكم الأوَّل ولا يبقى للمحكومين إلا الثاني، والسبب إثبات قدرة «الله» على حساب عجز الإنسان! ويا ليت ذلك قد أدَّى إلى المحافظة على التنزيه، بل جعل «الله» ساحرًا وليس قادرًا. واستخدام الطبائع كبرهان على وجود «الله» قبل الأوان يكشف عن الهدف النهائي من هذا الموقف. فيُستعاض عن الحدوث بالتضاد والتنافر الذي يستحيل اجتماعهما إلا بقاهر لهما. فيؤدي ذلك إلى القضاء على الطبائع واستقلال قوانين الطبيعة، وتفسير اجتماع الطبائع بالعلل الخارجية وليس من ذوات الأشياء؛ فالهزيمة ترجِع إلى القدرة والفقر للقسمة والنصيب. وتقوم العلل الخارجية بالجمع بين الأضداد عن طريق القهر والغلبة وتأكيد السلطة على الطبيعة والبشر؛ فالدليل يثبت حق السلطة أكثر مما يثبت الذات المشخصة؛ أي إنه دليل صفة وليس دليل ذات. وكأن الهدف إثباتُ ضَعف الإنسان وعجزه أمام الطبيعة وعدم قدرته على الجمع بين الأضداد لأنه خاضع تحت القهر شأنه كالطبيعة، لا حيلة له ولا قدرة. وينتهي الأمر إلى تصوُّر «الله» على أنه قاهر للطباع، ومضاد لطبائع الموجودات، وأنه يجمع بين المتناقضات. وهو التصوُّر البدائي للألوهية تعبيرًا عن العظمة والقوة والسلطان، وإنكارًا لقوانين الطبيعة، وتأييدًا للقهر الاجتماعي في الأخلاق والسياسة، أو اغترابًا عن الواقع وجهلًا بمكوناته وبنيته أو هروبًا إليه تعويضًا عن فقد العالم وحلًّا وهميًّا لأزمات العصر. وغالبًا ما يكون حل المتناقضات عن طريق الجمع بينهما وليس عن طريق قضاء أحدهما على الآخر مما يسمح بوجود طبقات اجتماعية متنافرة في نظام اجتماعي واحد، وبالتالي يُلغى الصراع الاجتماعي.٢١ أمَّا الثانية فهي تضحِّي بالتشخيص من أجل الطبيعة وثبات قوانينها واستقلالها، وهو أقرب إلى الموقف الديني العلمي والوعي بعمليات التشخيص. وهو الموقف الأصوب؛ لأنه دفاع عن الطبيعة واستقلال قوانينها، وعن حق العلم في معرفتها والسيطرة عليها وتسخيرها. وهو في نفس الوقت دفاعٌ عن المبدأ العام على نحوٍ إيجابي وفي تنزيهٍ مطْلَق دون التضحية بحق أحد الأطراف في سبيل الآخر. كما يعبِّر عن صدق الطوية وإخلاص النية دون مزايدة تؤدي إلى نفاق. وهو أقرب إلى التوحيد منه إلى الثنائية وأكثر دفعًا نحو التقدُّم ووضع نهاية للتخلُّف وللركود الحضاري. وهو أقرب إلى نُظُم الحرية والديموقراطية والاشتراكية؛ حيث يكون الحاكم والمحكوم طرفين متساويين ليس فيهما أعلى وأدنى، بل ويكون الأدنى هو الرقيب على الأعلى وشرط وجوده.

(٢) الكم

الكم هو أول أقسام الأعراض. يسبق الكيف مما يدل على أهمية الصفات الكمية والقياس والإحصاء، وأن الكيف بالرغم من أهميته يتلو الكم ثم تتلو بعد ذلك النسبة والإضافة. لا يظهر الكيف إلا بعد الكم، ولا يوجد كيف خالص إلا في كم، وكأن التراكم الكمي يؤدي إلى تغيُّر كيفي طبقًا للقول المشهور. وبلغة الحكماء تسبق المادة الروح، ويكون للواقع الصدارة على الفكر. وبلغة الفكر الديني يأتي العالم قبل «الله» والبدن قبل النفس.

وللكم خواص ثلاث؛ الأولى: القسمة، سواء وهمية (افتراض الشيء غيره) أو فعلية (الفك والفصل)، والثانية: العدُّ سواء بالوهم كالمقدار أو بالفعل كالعدد، والثالثة: المساواة ومقابلاها؛ أي الزيادة والنقصان. وهي مقولات ثلاث يمكن استخدامها لتحليل الأشياء ومعرفتها.

وينقسم الكم إلى متصل، مثل الخط، أو منفصل، مثل العدد، وهي قسمة تقوم على التواصل أو الانقطاع، وينقسم المتصل إلى غير قار الذات وهو الزمان لاشتراك الآن بين الماضي والحاضر والمستقبل، أو قار الذات وهو المقدار، وهي قسمة تقوم على الحركة والثبات، الحركة في الزمان والثبات في المكان. وينقسم المقدار إلى حجمٍ في الجهات الثلاث، أو سطح في جهتين أو خط في جهة واحدة، وبالتالي تكون أبعاد الجسم ثلاثة: الطول والعَرْض والعمق، الطول للامتداد الأوَّل، والعَرْض للامتداد الثاني، والعمق للامتداد الثالث. وينقسم العدد إلى وحداتٍ تكون نفس ذاتها؛ أي الكم بالذات، وهي الوحدة والكثرة، أو عارضة فتكون الكم بالعرض، وهي إمَّا محل الكم كالجسم أو الحال في الكم كالضوء القائم بالسطح أو الحال في محل الكم كالسواد أو المتعلق بالكم مثل القوة متناهية أو غير متناهية. وهي قسمة عقلية على أساسها تقوم العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية. وتشمل العلوم الطبيعية الفيزيقا والميكانيكا (الحركة) أو الديناميكا (الزمان)، وتشمل العلوم الرياضية الهندسة والحساب. وبالتالي تكون العلوم الطبيعية امتدادًا حقيقيًّا لقسمة الكم؛ أي لمبحث الأعراض في المقدمات النظرية في علم أصول الدين وليست علومًا مستقلةً تمامًا عن إطارها الحضاري.٢٢

(٢-١) العدد

أنكر المتكلمون العدد، وأثبته الحكماء، وذلك لسببين: الأوَّل أن العدد مركَّب من الوحدات، والوحدات ليست وجودية، وعدم الجزء يستلزم عدم الكل ضرورة، وعدم وجود الوحدات ناشئ من منْع التسلسل لأنها لو وُجدت فلها وحدة إلى ما لا نهاية ولأنها لا تنقسم. والثاني لأنه يدل على أن الكثرة عدمية. فكْرُ المتكلمين إذن أكثرُ التصاقًا بالواقع من فكر الحكماء؛ وذلك برفضهم إثبات المعقولات الذهنية في الخارج بالرغم من أن الواحد يُقال على معانٍ كثيرة كالواحد بالاتصال والاجتماع، ووحدته أمر وجودي بالضرورة حتى ولو لم ينقسم؛ لأن لا كم له بل هو أمر اعتباري، والكثرة مجموع الوحدات، وبالتالي فهي موجودة بهذا المعنى. لا يرى المتكلمون وجودًا إلا للمحسوس في حين يرى الحكماء الوجود للمحسوس وللمعقول على السواء. فإذا كان فكرُ المتكلمين حسيًّا، فإنه يصعب ابتداءً منه إثبات ما يخرج عن الحس والمشاهدة. وبالتالي تكون نتائجه مثل إثبات وجود «الله» وخلود النفس مناقضة لمقدماته ومناهجه. وتكون الحكمة أقربَ إلى إثباتها لأنها تثبت المعقولات الذهنية وتعطي لها وجودًا بالفعل؛ لذلك أسَّس الأصوليون المنطق الحسي بينما تمثل الحكماء المنطق الصوري.٢٣

(٢-٢) المقدار

أنكر المتكلمون المقدار أيضًا؛ لأن الجسم يتركَّب من الجزء الذي لا يتجزأ ولا يوجد اتصالٌ بين أجزاء الجسم. إنما يرجع التفاوت إلى قلة الأجزاء أو كثرتها. وتعني القسمةُ فرضَ جوهر دون جوهر ولا عاد له إلا الأجزاء اللهم إلا وهمًا. ولكن كيف تصدر أحكام بالوهم؟ ولقد عُرف المتكلمون من قبلُ أنهم من أنصار النظرة الحسية للعالم، فلماذا لم يُستعمل هذا المنطق الحسي لإثبات المقدار وساروا وراء افتراض الجزء الذي لا يتجزأ الذي هو من صنْع الوهم؟ الحقيقة أن إنكار المقدار هو إنكار للكم وللأجسام وللأشياء وللعالم وتفتيتٌ للجسم إلى أجزاء. هو هدمٌ للعالم وقضاء عليه حتى تتدخل الإرادة المشخصة من الخارج فيسهل القضاء على الأشياء وكأنما غرضها هو «فَرِّق تَسُد»! ولكن أثبته الحكماء لسببين؛ الأوَّل توارد مقادير مختلفة على الجسم الواحد. والثاني أن الجسم يتخلخل ويتكاثف وجوهريته باقية وكلاهما نفي للجزء الذي لا يتجزأ. والحقيقة أن إثبات المقدار لا يحتاج إلى حجج بل يثبت بالحس والمشاهدة وبالتعامل مع الأشياء في الحياة اليومية.٢٤ لقد رد الحكماء الاعتبار للعالم وأثبتوا حقيقة الأشياء مع أنهم يثبتون الموجودات في الأذهان. ولكن يبدو أنهم تبادلوا المواقف مع المتكلمين فأثبتوا الموجودات في الخارج بينما وقع المتكلمون في أسْرِ الوهم.

(٢-٣) الزمان

كما أنكر المتكلمون الزمان لسببين؛ الأوَّل أن الزمان ليس تقدُّمًا بالعلية أو الذات أو الشرف أو الرتبة مثل تقدُّم الأمس على اليوم، واليوم على الغد. هناك مجموع الزمان ولكن لا وجود للزماني الآتي بمعنى اللحظة؛ أي الزمان المحدد. والثاني أن الماضي سيحضر، والحاضر سيمضي في المستقبل. الماضي ما كان حاضرًا والمستقبل ما سيصير حاضرًا. ولما كان الحاضر غير موجود فلا ماضي ولا مستقبل. والحقيقة أن ذلك ليس إنكارًا للزمان بمعنى اللحظة والآن على ما يبدو، بل إثبات للديمومة وللاستمرار دون الانقطاع في الزمان الكوني.٢٥ وبالرغم من أنه لا توجد إشارة مباشرة لدافع ديني على إنكار الزمن بل الاعتماد على حجج فلسفية خالصة، إلا أن الدافع قد يكون لا شعوريًّا وهو إيثار الزمان؛ كل الزمان للذات المشخصة وإنكاره على العالم لما كان العالم فانيًا دون العلم بأن التزمُّن وسيلة لإثبات الفناء. والحجتان تخلطان بين الزمان بمعنى تعاقُب الليل والنهار أو الزمان الحسابي وبين الزمان كإحساس داخلي بالزمان، وهو الذي سمَّاه القدماء الوقت، سواء من الأصوليين أو الصوفية.٢٦ فالوقت لحظة شعور الفعل وليس للشيء أو للفلك. فالزمان بُعْد للإنسان وليس للأشياء وليس جوهرًا مجرَّدًا لا يقبل العدم.

أمَّا الحكماء فقد أثبتوا الزمان بحجتين؛ الأولى: أن الزمان عدد الحركة، مرتبط بها وبالمسافة والسرعة والبطء. والثانية: أن الأب مقدَّم على الابن ضرورةً في الزمان. والحقيقة أن الحجتين معًا تخلطان أيضًا بين الزمان الطبيعي الكمي والزمان الشعوري الكيفي؛ فالزمان أقربُ إلى مباحث الكيف منه إلى مباحث الكم؛ لذلك ظلَّ متأرجحًا بين المقولات؛ فهو مرة في مقولة الكم المتصل الذي لا توجد أجزاؤه معًا أو الكم غير قار الذات، ومرة يكون جوهرًا، ومرة يكون عدد الحركة أو عنصرًا من عناصرها، بل إن الزمان ذاته يتأرجح بين الإثبات والنفي؛ فإثبات الزمان النفسي يؤدي إلى إنكار الزمان الطبيعي، وإثبات الزمان الطبيعي يؤدي إلى إنكار الزمان النفسي. وكيف ينكر الأصوليون الزمان والأفعال لا تتم إلا في الزمان؟ وهنا يبدو أن علم أصول الفقه بتحليلاته للزمان، الوقت والفور والتراخي والقضاء، كان أصدق من علم أصول الدين الذي أنكر الزمان وخرج منه متوهمًا أنه بذلك يدافع عن كل الزمان عن القِدَم والبقاء كصفتين محجوزتين «لله» يُعطيان إليه فيما بعد.

(٢-٤) المكان

وبالرغم من إنكار المتكلمين العدد والمقدار والزمان إلا أنهم أثبتوا المكان وكأنهم لا يخشون منه خشيتهم من الزمان على تصورهم «لله»؛ فالمكان موجود ضرورة، مُشار إليها بهنا وهناك، تُنقل فيه الأجسام، متفاوت في الزيادة والنقصان. نظرة المتكلمين للعالم إذن مكانية كمية وليست زمانية كيفية؛ لأن «الله» هو كل الزمان أو الدهر.٢٧ وقد أثبت الحكماء المكان أيضًا وهو عند بعضهم الهَيُولى.٢٨ لذلك ارتبط المكان بالمادة وأصبح لفظًا مشتركًا يُطلَق على المكان والمادة في آنٍ واحد. وعند آخرين هو الصورة لأن المكان هو الحاوي للشيء المحوى والصورة كذلك، وهو خلط بين المكان والصورة.٢٩ فالمكان هو السطح الباطني للحاوي المماس للظاهر من المحوى، وهي صورة تجريبية للتماس وليست تعريفًا للمكان. أمَّا التعريف الثالث للمكان وهو البعد المفروض وهو الخلاء؛ فقد جوَّزه المتكلمون ومنعه الحكماء. والدافع عند المتكلمين هي قدرة «الله» على خلْق الهواء في الخلاء وملئه بوجوده وإرادته وفاعليته. كما أن «الله» قد يُعدِم الجسمَ الذي أمامه ويخلق جسمًا مكانه دون ما حاجة إلى التخلخل والتكاثُف. يريد المتكلمون إذن إثبات الخلاء حتى يملأه الله بإرادته وقدرته في حين منعه الحكماء؛ لأن العالَم مادة لا فراغ فيها. ويعطي الحكماء خمس تجارِب عملية لاستحالة الخلاء؛ فأي الفريقين أكثر تنزيهًا وتعظيمًا وإجلالًا «لله»؟٣٠
وتُثار عدة أسئلة:
  • الأوَّل: هل هناك دلالة للعلم الطبيعي على العلم «الإلهي» كما هو وارد في «اللاهوت» العلمي أو اللاهوت الطبيعي؟ وماذا يفعل العلم «الإلهي» لو تغيَّر العلم الطبيعي في تعريفاته وتصوُّراته ونظرياته ونتائجه؟ وماذا يفعل علم العقائد لو ناقضه العلم الطبيعي؟ وماذا يحدث لو أساء المتكلِّم تأويلَ العقيدة وفَهْمَ العلم معًا؟ وهل مصير العلم «الإلهي» أن يتعلَّق باستمرار على نتائج العلم الطبيعي دون أن يكون له بِنيتُه الداخلية المستقلة؟ ألا يعني ذلك ربطَ الثابت بالمتحوِّل؟ ألا يكون للعلم الطبيعي شرفُ الكشف والاختراع ولا يكون للعلم الإلهي إلا عمليات التبرير والتأويل وكأنه علمٌ «طفيلي» لا يعيش إلا على إنجازات العلوم الأخرى؟ ألا يخضع العلم كلُّه الطبيعي والإلهي معًا لظروفِ كلِّ عصر وروحه وتصوراته، وبالتالي لا يكون هناك مجال للتصوُّر المطلق أو للحقيقة المطلقة؟
  • والسؤال الثاني الأهم: هل العلم الطبيعي كما يَعرِضه المتكلمون والحكماء علم «إلهي» مقلوب؟ وهل العلم «الإلهي» علمٌ طبيعي مفارق؟ هل هناك إمكانية لقيام علم ثالث؛ علم صوري خالص يستحيل فيه التفرقة بين العلم «الإلهي» والعلم الطبيعي؟ وأي العلمين أصدق نظرًا أو أكثر تصديقًا في الواقع التجريبي؟
  • والسؤال الثالث: هل يمكن الحديث عن المكان والزمان والحركة والمسافة … إلخ، اعتمادًا على تحليل العقل الخالص أو على البواعث والموجهات الدينية دون إخضاع ذلك كله إلى التجربة في العلوم الطبيعية؟ هل موضوعات الطبيعة موضوعات للتأمُّل أم للتجريب؟ لقد حاول الحكماء استعمالَ التجربة ولكن ظل المتكلمون في نطاق التأمُّل النظري الموجَّه بالموجهات الإيمانية.
  • والسؤال الرابع والأخير: هل لهذا الحديث أثرٌ في علم العقائد؟ هل يتأثَّر تصوُّر العقيدة بمفاهيم السرعة والبطء والمسافة والبعد؟ ألهذا الحد يمكن الإيغال في التأصيل النظري للعقائد في موضوعاتٍ تخرج عن نطاق التأصيل المتسق مع العقائد ذاتها بحيث تكون موجَّهات لسلوك الناس؟ إن المكان موجود بالبديهة كأحد مجالات حركة الجسم ونشاط الإنسان. المكان مجالٌ للرؤية والحركة، وميدان للنشاط والفعل، وموطن للصراع والنضال. ولكل عصرٍ تعريفاته وتصوُّراته طبقًا لظروفه ومستواه الثقافي ولغته الحضارية. فإذا كان القدماء قد آثروا النظر ولغة الحاوي والمحوى، فإن عصرنا يفرض العمل ومفاهيم الحركة والفعل والنشاط والسعي في المكان؛ وبالتالي يكون المكان هو التاريخ الحاضر الذي يغيب فيه الفصل بين الزمان والمكان.٣١

(٣) الكيف

الكيف عَرَض لا يقبل القسمة أو اللاقسمة، ولا يُعقل بالقياس إلى الغير، بل يُدرك ويُحس ويُشعر به بالتجربة الباطنية. والكيف هو لب مبحث الأعراض، تشمل نصفه تقريبًا. يأتي بعده الكم والنسبة على قدْرين متساويين. وتأتي الإضافة في المحل الثالث.٣٢ وتنقسم الكيفيات استقراءً لها إلى أربع: المحسوسة، والنفسانية، والمختصة بالكميات، والاستعدادات؛ أي إنها تشمل الظواهر النفسية والجسمية معًا. تظهر الحياة إذن في أربع دوائر: الحس، والنفس، والقدرات، ثم المعقولات في الخارج، وهي الكيفيات المتعلقة بالكم مثل النقطة والخط والدائرة؛ فهي كيفيات محضة لا وجود لها. ليست الكيفيات إذن في الإنسان وحدَه، مع أنه هو الغالب، بل في الطبيعة أيضًا؛ فالطبيعة عالم للإنسان، والإنسان موجود في الطبيعة. ويكون السؤال بالنسبة لها: هل الكيفيات مقولات رياضية أم إنها حالات نفسية؟ وهل الحالات في الطبيعة أم في النفس؟ وتمثِّل الكيفيات المحسوسة والنفسانية تقريبًا كل الكيفيات بينما لا تمثِّل الكيفيات المختصة بالكميات والكيفيات الاستعدادية إلا أقل القليل مما يدل على أنها كيفيات بالتبعية وليست كيفيات بالأصالة.٣٣ كما أن الكيفيات النفسية تبدو أكثر امتدادًا من الكيفيات المحسوسة؛ وذلك لارتباط الحس بالشعور؛ فالشعور هو موطن الحس ومركزه.٣٤ كما أن الكيفيات الاستعدادية ضئيلة للغاية من حيث الكم مع أن الاستعداد هو بداية التحوُّل من النظر إلى العمل، ودراسة الأفعال والتحققات في مرحلة الكمون.

(٣-١) الكيفيات المحسوسة

تنقسم الكيفيات المحسوسة أوَّلًا إلى قسمين: انفعالات وانفعاليات؛ فالانفعالات هي كيفيات محسوسة غير راسخة؛ أي مجرد انطباعات حسية عن العالم الخارجي داخل عالم الحياة؛ أي المحسوسات الداخلية. فإن دامت واستقرت ورسخت تحوَّلت إلى كيفيات حسية، وإن تزمنت ولم تستقر ظلت كما هي مجرد انفعالات؛ أي انطباعات حسية، تفاعل الضوء مع البصر أو الصوت مع السمع دون أن يتحوَّل إلى مدرك حسي. وقد سُمِّيَت انفعالات النفس كذلك لأنها طارئة وسريعة؛ أمَّا الانفعاليات فهي الكيفيات المحسوسة التي رسخت وتحوَّلت إلى مدركات حسية، وهي انفعاليات؛ لأن الإحساس انفعال للحاسة. والمحسوسات إمَّا حس أو مزاج، وهي تابعة للمزاج إمَّا بشخصها كحلاوة العسل أم بنوعها كحرارة النار. فالمحسوسات مفتوحة على عالم النفس، والنفس تحتوي على المزاج والانفعالات. الكيفيات المحسوسة انفعالات للمزاج بالنوع عند الحكماء وهي محسوسات لغير الحي القائم بالتحيُّز؛ أي العَرَض أحد أقسام الحدث عند المتكلمين.٣٥ ويبدو هنا ظهور الإنسان مع الطبيعة في الكيفيات المحسوسة وظهور الإنسان بكل مكوناته من حس ونفس وعقل. والسؤال الأوَّل: هل الانفعالات سريعة طارئة غير راسخة أم إن هناك انفعالاتٍ دائمة وعواطفَ مستقرة وحاضرة؟ وهل المدركات الحسية دائمة وراسخة، أم إنها أيضًا متزمنة متغيرة؟ يبدو أن المتكلمين قد انحازوا إلى الحس على حساب الانفعال؛ فالحس مرتبط بالعالم، له مضمون في حين أن الانفعال فارغ من أي مضمون. في الحس ذات وموضوع، والانفعال ذات بلا موضوع.
والكيفيات المحسوسة الخارجية خمس: الملموسات، والمبصرات، والمسموعات، والمذوقات، والمشمومات، وهي تأتي من الحواس الخمس. والألفاظ تشير إلى الموضوعات الحسية وليس إلى مجرد الإحساسات أو الحواس؛ اللمس والبصر والسمع والذوق والشم. لقد دخلت الحواس من قبلُ في نظرية العلم كمادة بديهية له، ولكنها تَدخل هنا في نظرية الوجود كموضوعاتٍ حسية أو محسوسات، ليست كقالب للشعور بل كمضمون للشعور. وهي في صيغة الجمع وليست في صيغة المفرد، مما يدل على وظيفة الحواس الدائمة ومحسوساتها المتكررة. وتمثِّل الملموسات نصف الكيفيات المحسوسة كما وكأن اللمس عند المتكلمين وسيلة للإدراك. ثم بعد ذلك تأتي المبصرات والمسموعات. ولا تقل أهمية المذوقات عن المبصرات والمسموعات في حين تقل المشمومات للغاية مما يدل على أهمية الذوق على الشم كما دل من قبلُ على أهمية البصر على السمع. وبالتالي فقد وضع المتكلمون الحواس في نظامٍ للأولويات: اللمس، والبصر، والسمع، والذوق، والشم، مما يشير إلى أهمية الملموسات؛ أي الإحساس بالأشياء باللمس عن طريق اليد، وكأن اللمس أفضل وسيلة للمعرفة لتأسيس علم أصول الدين! فالإحساس بالعالم عن طريق اللمس ومعاشرة الأشياء قبل رؤيتها وسمعها وذوقها وشمها، وكأن الوحي يُلمس والعقائد تُحس باليد! ثم تأتي بعد ذلك المدركات البصرية قبل السمعية في مجتمعٍ كان الوحي والشعر فيه فنونًا سمعية، ولم تكن له فنون بصرية إلا فيما بعد؛ الزخرفة والعمارة. كما تبدو أولوية المذوقات في الطعوم على المشمومات في الروائح؛ فاللمس أقربُ الحواس إلى الشعور والشم أبعدُها. وتتفق آراء الحكماء والمتكلمين في تحليل الحواس الخمس وموضوعاتها.٣٦ وتتضح الأضداد في المحسوسات مثل صفات الحرافة والحرارة، الملوحة والحلاوة، الدسومة والحموضة، العفوصة والقبض؛ أو في الملموسات مثل الحرارة والبرودة، الرطوبة واليبوسة، الثقل والخفة، الصلابة واللين أو في الأكوان مثل الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، وكأن الإحساسات جوهرها التعارض، تقوم على قسمة ثنائية متعارضة تبدو فيها الطهارة الدينية مسقطة على الطبيعة. ويكون أحد طرفي القسمة المتعارضة أشرف من الطرف الثاني؛ فالحرارة أفضل من البرودة، والخفة أعلى من الثقل، والصلابة أفضل من اللين، والملاسَّة أفضل من الخشونة.
ويطرح المتكلمون عدة أسئلة حول الحواس الخمس: تعريفها وعددها وجنسها ووظيفتها وفعلها … إلخ. وتبدو جميعًا وكأنها لا دلالةَ لها في أغلب الأحيان دلالة مباشرة في علم أصول الدين ولكنها قد تكشف عن بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني، وعن هذا التوتُّر بين الفكر العلمي المستقل والفكر الديني التابع للعقائد فيما يتعلَّق بالدفاع عن قدرة «الله». وقد تكون صورة «الذات والصفات» قد ظهرت مسبقًا كصورة للحواس الخمس وعلاقة النفس بالبدن أو علاقة كلٍّ منهما بالحواس؛ فمثلًا في تعريف الحواس تتراوح التعريفات بين التعريف الأسطوري وما يقابلها من نفي لها، أو بين التعريف المثالي والتعريف المادي. الأوَّل هو التعريف الديني سواء من الديانات القديمة في الغالب أو من الفكر الديني الجديد، والثاني هو التعريف العلمي الذي حمله المعتزلة في الغالب.٣٧ كما يكشف سؤال: هل يقدِر «الباري» على خلْقِ حاسةٍ سادسة، وعلى أن يقدِر عباده على خلق الأجسام على نفس الصراع بين الفكر الديني والفكر العلمي فيما يتعلَّق بإظهار القدرة الخارقة من «الباري» ومقاومة الطبيعة لها باعتبارها قانونًا مستقلًّا ووجودًا ذاتيًّا يستعصي على الفعل الخارجي.٣٨ كما يكشف سؤال هل الحواس من جنس واحد على إسقاط مفهوم الوحدة والكثرة على الحواس. وبطبيعة الحال يفضِّل الفكر الديني وحدة الحواس في جنس واحد، بينما يؤثِر الفكر العلمي تعدُّدها في أجناس مختلفة.٣٩ وتطرح أسئلة أخرى حول وظيفة الحواس، وكيف يتم الإدراك بفعل إرادة خارجية أو بفعل إرادة الإنسان أو بفعل العضو الحاس ذاته، مما يكشف عن الصراع بين الفكر الديني والفكر الإنساني والفكر العلمي، وكأن إرادة الإنسان تتلو إرادة «الله»، ثم يأتي فعل الطبيعة كوارثٍ لإرادةِ الإنسان، وكأن مسار الفكر من «الله» إلى الإنسان، ثم من الإنسان إلى الطبيعة. مثلًا: هل الشم والذوق واللمس إدراك للمشموم والمذوق والملموس؟ أي هل يمكن الانتقال من الذات إلى الموضوع، ومن الحس إلى المحسوس، ومن الداخل إلى الخارج؟ وتتراوح الإجابة بطبيعة الحال بين الحل المثالي الذي ينفي إمكانية الخروج والحل الموضوعي الذي يبيِّن إمكانية الإدراك. ولكن كيف يقع إدراك المحسوسات؟ وهنا تتراوح الإجابة بين فعل «الله» المباشر أو فعل «الله» من خلال الحواس أو فعل الإنسان.٤٠ ولكن هل يفعل الإنسان الإدراك من خلال الحواس مختارًا؟ وهنا يعود الفكر الديني لسلب الإنسان فعله الحر حتى فعل الحواس من أجل الدفاع عن أن «الله» هو المفاعل المختار. ولكن الفكر العلمي يطرح السؤال من أجل معرفة هل للإرادة دور في فعل الحس أم إنه فعل شرطي منعكس صرف يتعلَّق بوظيفة العضو الحاس؟٤١ ويعود الفكر الديني للتشكك ويسأل: هل يقدِر العضو الحاس على الفعل دون تدخُّل الإرادة «الإلهية»؟ وهكذا يظل الصراع محتدمًا بين الفكر الديني والفكر العلمي حتى في تحديد وظيفة العضو الحاس الحيوية الصرفة، وكيف يدرك المدركُ الشيءَ ببصره، وما محل الإدراك، العضو أم جزء العضو أم الانتباه والوعي أي الشعور؟ وهل يمكن أن يحدث إدراك بلا حواس؟ وماذا عن الصورة في المرآة، هل هي شيء أم انعكاس؟٤٢ ثم يطرح الفكر الديني سؤالًا أخيرًا يكشف به من همِّه الأوَّل، وهو: هل يُعرف «الله» دون معرفة الأشياء عن طريق الحس؟ وبتعبير آخر: هل يُعرف «الله» دون المعارف الحسية؟ وقد كانت الإجابة بطبيعة الحال بالنفي نظرًا لنقل الفكر العلمي في الكيفيات الحسية، وهو ما ظهر فيما بعد في دليل الحدوث.٤٣

(أ) الملموسات

الملموسات نوعان: الحرارة وما يتبعها من رطوبة ويبوسة، والاعتماد وما يرتبط به من صلابة وملامسة. فالحرارة تفرِّق المختلفات، وتجمع المتماثلات؛ والبرودة بالعكس. التصعيد فعْلها الأوَّل، والجمع والتفريق لا زمانَ له. وقد تحدث الحرارة بالفعل من التَّماس، وبالقوة من الأدوية، ويُعرف ذلك بالتجربة والقياس، وباللون وبالطعم وبالرائحة، وبسرعة الانفعال مع استواء القوام وقوَّته. والحرارة الغريزية والكوبية النارية متخالفة بالماهية لاختلاف آثارها، والغريزية أشد الأشياء مقاومةً للنارية. والحركة تُحدث الحرارة، وذلك ثابت بالتجربة، وقد يقع العكس أيضًا. أمَّا البرودة فهي عدم الحرارة، والتقابل بينهما تقابلَ العدم والملكة. وإذا كانت الحرارة والرطوبة متقابلتين، فكذلك الرطوبة واليبوسة. والأُوليان أقرب إلى الذات والأُخريان أقرب إلى الموضوع. والرطوبة سهولة الالتصاق والانفصال، والأشد التصاقًا أرطب. والرطوبة غير السيلان. واليبوسة تقابل الرطوبة إن عسُر الالتصاق والانفصال أو عسُر التشكُّل.٤٤ ويُلاحَظ في كل ذلك اعتماد المتكلمين على طبيعيات الحكماء، بل وعلى أوائل المترجمين منهم في تعريف الألفاظ، وبالتالي يكون السؤال: هل الطبيعيات عند المتكلمين مرتبطةٌ بعلم أصول الدين كمقدمة نظرية له وكتفكير عقلاني وتطوُّر طبيعي للتفكير الديني، أم إنها مقحَمة عليه من علوم الحكمة نظرًا لسيادتها عليه بعد ضَعف علم الكلام المتأخر واستمرار العنفوان الفكري في علوم الحكمة؟ أم كان الأمران معًا تطويرًا طبيعيًّا للفكر الديني إلى فكر علمي في علم أصول الدين بالاعتماد على ما تم قبل ذلك كمشروعٍ مماثل في علوم الحكمة؟ على أية حال يكشف ذلك عن قدرة علم أصول الدين على الحديث عن الطبيعيات بصرف النظر عن الإلهيات، وضم التحليل العقلي مع التجربة، وبالتالي الاقتراب من الفكر العلمي وتأسيس علم «الديناميات الحرارية»، وهو ما سقط من وعينا القومي مستبدلين إياه بنقل العلوم من الغرب التي كانت تطويرًا لعلومنا هذه بعد أن تمَّت ترجمتها في العصر الوسيط الأوروبي.٤٥
أمَّا الاعتماد فهو ما يوجب للجسم المدافعة لما يمنعه من الحركة إلى جهةٍ ما. وقد يكون نفس المدافعة.٤٦ الاعتماد هو مقاومة الجسم لليد، ومقاومة اللمس واليد للأشياء إحساسًا بالعالم وبوجود الإنسان. والمدافعة غير الحركة لأنها توجد عند السكون بمقاومة الأشياء لليد وللجسم. ولها أنواع بحسب أنواع الحركة؛ إما إلى أعلى أو إلى أسفل أو إلى سائر الجهات. والجهات ست: الأمام والخلف واليمين والشمال والفوق والتحت، وهي الاتجاهات البديهية كما يشعر بها العامة. وقد تكون ثلاثًا طبقًا لأبعاد الجسم كما يتوهم الخاصة؛ فالعامة أصدق حسًّا من الخاصة، والتجربة البشرية في الحياة العامة أوسع نطاقًا وأشمل من التجربة العلمية الهندسية للأجسام. وقد يجعل البعض الجهة الحقيقية العلو والأسفل؛ أي الخفة والثقل في العلم، وهو ما استقر في وجداننا القومي في تصوُّر العلاقات بين الأعلى والأدنى، وليس بين الأمام والخلف (التقدم والتخلف)، أو بين اليسار واليمين (المساواة الاجتماعية والتفاوت الطبقي). ويُسَمي الحكماء الاعتماد ميلًا ويقسِّمونه إلى ثلاثة أقسام: الميل الطبيعي، وهو ميل غير مقرون بالشعور، وهو الميل الإرادي، بالإحالة إلى الإرادة. أمَّا الصلابة فهي كيفية بها تتم ممانعة الغامز، واللين عدم الصلابة. والملامسة استواء بعض الأجزاء، والخشونة عدمه عند المتكلمين وكيفيتان قائمتان بالجسم أو بسطح الجسم عند الحكماء.٤٧ ويبدو أن الاعتمادَ أقربُ إلى مباحث الأكوان؛ أي أقرب إلى العَرَض القائم بالمتحيز غير الحي. يظهر فيها الشعور والإحالة إلى موضوعات الإرادة وغيرها، ويبدو فيها الإنسان كمحور لمعرفة الجهات وتصوُّر الطبيعة. بل يبدو فيها قانون الجاذبية واضحًا بالتركيز على الخفة والثقل، تجاهي الأعلى والأدنى. ويكون السؤال: هل هذا المبحث أقرب إلى المعرفة الطبيعية التي لا شأن لها بالفكر الديني، وتخضع للتجربة والعقل والمراجعة أم إن له دلالة في الفكر الديني خاصة بالتركيز على اتجاهي الأعلى والأدنى دون باقي الاتجاهات؟

(ب) المبصرات

وتشمل المبصرات الألوان والأضواء. أمَّا موضوعات الصِّغَر والكِبَر والقُرْب والبُعْد ففروع على الألوان والأضواء، وتبصر بواسطتهما عند الحكماء. ولا يمكن تعريفهما لظهورهما. وكل محاولة للتعريف، مثل تعريف الضوء بأنه «كمال أوَّل للشفاف من حيث هو شفاف»، فإنها تقع في تعريف الأوضح بالأخفى، وبالتالي لا تستوفي شروط الحد.

وقد نفى البعض الألوان. وإنما نتخيل البياض من مخالطة الهواء المضيء للأجزاء الشفافة الصغيرة جدًّا، والسواد ضد ذلك.٤٨ وأثبتهما البعض الآخر على أنهما الأصل والباقي تركيب منهما. وقيل الأصل خمسة: السواد والبيَاض والحُمرة والصُّفرة والخُضرة.٤٩ والضوء شرطُ وجود اللون عند الحكماء. أمَّا عند الأشاعرة فهو أمر يخلقه «الله» في الحي ولا يشترط بضوء ولا مقابلة ولا غيرهما. والظلمة عدم الضوء؛ أي رد الموضوع إلى الذات والوجود إلى المعرفة، وكأن التوحيد وظيفةٌ معرفية تمكِّن العين من الرؤية كما تقول الصوفية. والظلمة مانعة من الرؤية حيث تغيب الأشعة الداخلة إلى العين. ويحدث اللمعان بوجود سطحٍ مستوٍ أملس؛ إذ إن الخشونة تباين للأجزاء وتمنع من اللمعان. ولكن الأغرب هو السؤال عن اللون هل هو الطعم أم غيره؟ وهل الطعم هي الرائحة أم غيرها؟ وكأن الحواس يمكن أن تقوم بعملِ بعضها البعض؛ فتسمع العين وتُبصِر الأذن ويُذاق اللون والرائحة والصوت. ولكن يكاد يتفق أهل النظر على تفرُّد كل حاسة بمحسوسها؟٥٠
أمَّا الأضواء، فالضوء عند بعض الحكماء أجسامٌ صغارٌ تنفصل من المضيء وتتصل بالمستضيء.٥١ وللضوء مراتب: المضيء لِذَاته وهو الضوء مثل الشمس، والمضيء لغيره، وهو النور مثل القمر ووجه الأرض.٥٢ هناك شيء غير الضوء يترقرق على الأجسام، وهو إمَّا لِذَاته وهو الشعاع، وإمَّا من غيره وهو البريق. وتشبُّه البريق إلى الشعاع تشبُّه النور إلى الضوء.٥٣ قد يتكيَّف الهواء بالضوء فيكون شرط اللون، وقد يمنع البعض الملازمة بينهما. وفي كلتا الحالتين يكون السؤال إلى أي حدٍّ استطاع الفكر العلمي أن يبزغ من ثنايا الفكر الديني؟ وما مقدار تصديق العلم لهذه التحليلات التأمُّلية لموضوعات العلم؟

(ﺟ) المسموعات

والمسموعات أيضًا نوعان: الأصوات والحروف، الأصوات العامة ثم تخصيصها في اللغة. وهنا يبدو الانتقال من الظواهر الطبيعية إلى الظواهر الإنسانية، من الصوت إلى اللغة. وقد قيل في تعريف الصوت إنه التموُّج أو القرع أو القلع. وماهيته بديهية. وهنا يبدو الصوت موجودًا في الخارج. وقيل أيضًا هو كيفيةٌ قائمةٌ بالهواء يحملها إلى الصماخ لا لتعلق حاسة السمع به كالمرئي. وقيل إن ما يُقال في البصر يُقال في السَّمع وفي سائر الحواس؛ إذ لا يتم الإدراك إلا بتوافر اتجاهين: اتجاه من الشيء المدرك نحو الشعور من خلال الحس، واتجاه مقابل من الشعور نحو الشيء المدرك أيضًا من خلال الحس. وقد منع البعض الانتقال واشترط البعض الآخر شرط المسافة بين المصوِّت وحاسة السمع.٥٤ فإذا ما صادم الهواءُ أمْلسَ كجبلٍ أو جدار رجع إلى الوراء، فيحدث صوتٌ هو الصدى مثل الكرة المرمية إلى الحائط. وليس لكلِّ صوتٍ صدًى؛ إذ لا بد من مسافةٍ وجسمٍ أمْلسَ أو صلب. ولكن السؤال هل الصدى تموُّجٌ جديد للهواء أم رجوع للهواء الأوَّل؟ يتضح من ذلك التحليل العلمي الصرف لظاهرة الصوت دون ما تدخُّل عللٌ خارجيةٌ سواء في سماع الصوت أو الصدى، بالرغم من بقاء بعض التساؤلات التي تكشف عن بقايا الفكر الديني، مثل: هل يبقى الصوت؟ هل يكون صوت واحد في مكانين؟ هل الصوت جسم؟ هل يكون لا لمصوِّت؟ وذلك كله حتى يتفرَّد «الله» بالبقاء وبالشمول وباللاجسمية وبالقدرة.٥٥
أمَّا الحروف فهي كيفية التعرُّض للصوت مدة وثقلًا، وتنقسم الحروف إلى مُصَوِّتة، وهي حروف المد واللين؛ وصامتة. وهي إمَّا زمانية صرف كالفاء والقاف، وإمَّا آنية صرفة كالتاء والطاء، وإمَّا آنية تشبه الزمانية كالراء والحاء والخاء. وهي إمَّا متماثلة كالباءيْن الساكنَين، أو متخالفة بالذات كالباء والجيم، أو بالعَرَض كالباء الساكنة والمتحركة. وقد جوَّز قومٌ الابتداء بالساكن ومنعه آخرون. ويجوز الجمع بين الساكنين في الصامت المُدغَم قبْلَه مُصوِّت. أمَّا الصامتان فقد جوَّزه قومٌ ومنعه آخرون.٥٦ يتضح من ذلك خروج علم الأصوات كجزء من علم اللغة، وكلاهما تموضع علمي لجوانب التوحيد. ويبدو الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني في عددٍ من التساؤلات قد لا تكون بذات دلالة إلا على نحوٍ يكشف عن هذا الصراع مثل: هل يتكلم الإنسان بكلامٍ غير مسموع؟ هل يتكلم بكلام في غيره؟ فقد سمع الرسول الوحي وحدَه دون غيره، وألقى في رُوعه الكلام. ومثل: هل هناك كلام بغير اللسان؟ هل يمكن إلقاء الكلام في الرُّوع بغير اللسان عن طريق اتصال الروح بالروح أو الذهن بالذهن حتى تصح النبوة في أحد معانيها وحتى يصح الإلهام؟ هل يبقى كلام العباد؟ ومِنْ ثَمَّ يمكن إفراد «الله» وحدَه بصفة البقاء. وعادةً ما تتراوح الإجابة بين النفي والإثبات. الإثبات في السؤالين الأولين والنفي في الثالث دفاعًا عن الفكر الديني، والنفي في السؤالين الأولين والإثبات في الثالث دفاعًا عن الفكر العلمي.٥٧ كما تكشف عدة تساؤلات أخرى عن طرح علمي خالص استطاع أن يفلت من حصار الفكر الديني، مثل: هل كلام الإنسان صوتٌ أم غير صوت؟ هل كلام الإنسان حروف؟ وما هو أقل الحروف لتكوين الكلام؟ هل الكلام مؤلَّف؟ هل يمكن أن ينطق كل فرد بحرف ويكون مجموع حروف الكلمة كلامًا؟ فالكلام قد لا يكون صوتًا؛ لأن هناك لغة الإشارات والرمز والحركات الإيمائية. وعدد حروف الكلمات موضوع في علم اللغة. ونطق كل فرد بحرف لتكوين كلمة موضوعٌ لعلم النغم.٥٨ ولكن يبدو أن هذا الفكر العلمي البازغ من ثنايا الفكر الديني قد تم إسقاطه من الحساب، ثم إجهاضه بسيادة الفكر الديني وحدَه. فانفصل العلم عن الدين، والشيء عن العقيدة، والبدن عن النفس، والعالَم عن «الله».٥٩

(د) المذوقات

والمذوقات هي الطعوم. وأصولها تسعة حاصل ضرب ثلاثة في ثلاثة؛ فالفاعل حارٌّ أو بارد أو معتدل، والقابل إمَّا لطيف أو كثيف أو معتدل، فتخرج المذوقات التسع. ومن هذه الطعوم البسيطة تتركَّب طعوم لا نهاية لها كما تتركَّب الألوان؛ فالبشاعة مرارة وقبض. والزعوقة ملوحة وحرارة. والطعوم كلها تُردُّ إلى الحرارة والكثافة.٦٠

(ﻫ) المشمومات

قد لا تظهر المشمومات ضِمن الكيفيات المحسوسة في قسمة أعراض غير الحي، بل تظهر في أعراض الحي (الحياة والقدرة والعلم والإرادة واللذة والألم والسمع والبصر). ومع ذلك عرض لها القدماء كأحد المحسوسات. ولا بد من أن يتوافر فيها شيئان: الأوَّل: اتجاه المشموم نحو الشعور، ثم اتجاه الشعور نحو المشموم. ويتقابل كلا الاتجاهين في الحس؛ فالحاسة ما هي إلا المجال الحسي للشعور. وتنقسم المشمومات إلى ملائم طيب، ومنافر منتن. كما تنقسم حسب ما يقابلها من طَعم فيُقال رائحة حلوة أو حامضة، أو بالإضافة إلى محلها كرائحة الورد أو التفاح.٦١

لقد حلَّلت المقدمات الكيفيات المحسوسة، فكشفت عن الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني. وفي كلتا الحالتين ينفصل الفكران عن الأسس الاجتماعية للفكر؛ فالكيفيات المحسوسة مدركات اجتماعية. فالملموسات تتوقف على رقة الجلد الناعم للأيدي الناعمة للطبقة الراقية، أو خشونة الجلد الخشن في الأيدي الغليظة للطبقة العاملة. والمبصرات أيضًا مدركات اجتماعية، فتتسع حدقة الفقراء أمام قصور الأغنياء، وتضيق حدقة الأغنياء اشمئزازًا من أكواخ الفقراء. تدرك الأبصار القاذورات في كل مكان. أمَّا المذوقات فلا يدركها إلا مَن له معرفة بطعومها. والجوع يدفع إلى الالتهام دون مذوقات المترفين. والمسموعات من خلال أجهزة الإعلام وما بها من كذب ونفاق. والمشمومات للروائح الكريهة وفضلات الطعام في الطرقات وأوساخ نفايات المنازل وطفح المجاري. فإذا كان القدماء قد حاولوا إخراج الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني، فإننا نحاول إخراج الفكر العلمي الاجتماعي من ثنايا الفكر الديني العلمي. وإذا كان القدماء قد انتهَوا إلى أنه لا وجود لعلم نفس إلا من خلال علم النفس الفزيولوجي، فإن لدينا لا يوجد لعلم نفس إلا من خلال علم النفس الاجتماعي.

(٣-٢) الكيفيات النفسانية

وكما أن الكيفيات المحسوسة إذا كان راسخة سُمِّيَت انفعاليات، وإلا كانت انفعالات، فكذلك الكيفيات النفسانية إذا كانت راسخة سُمِّيَت ملكات، وإن لم تكن سُمِّيَت أحوالًا. وكل حال يصير ملكة بالتدريج قدْر رسوخه.٦٢ وتنقسم إلى عدة أنواع: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، وبقية الكيفيات النفسانية من لذة وألم، وصحة ومرض. والعلم والقدرة هما الكيفيتان النفسانيتان الغالبتان على باقي الكيفيات، كمًّا مما يدل على أهمية النظر والعلم كبُعدين للإنسان.٦٣
وفي النفسانيات يصعُب التفرقة بين نظرية العلم ونظرية الوجود، وكأن النفس ذاتٌ وموضوعٌ في آنٍ واحد؛ فالنفسانيات إمَّا حياة أو إدراكات أو قدرة وإرادة أو لذة وألم أو صحة ومرض. والإدراكات أهمها لأنها تنقسم إلى ظاهر وباطن. والباطن إمَّا تصوُّر أو تصديق، والتصديق إمَّا جازم أو غير جازم، والجازم إمَّا بموجب أو بغير موجب فيكون تقليدًا. والواجب إمَّا يقبل النقيض وهو الاعتقاد أو لا يقبل وهو العلم. وغير الجازم إن تساوى الطرفان فهو الشك، وإن كان راجحًا فهو الظن، وإن كان مرجوحًا فهو الوهم.٦٤ وهنا تبدو النفس جامعة للحياة والإدراك والإرادة والظواهر الجسمية، وتبدو الإدراكات شاملة للإحساسات الداخلية والخارجية وللمنطق؛ فالمنطق جزء من النفس، ومراتب العقل مَلَكات للنفس، وكأن الكيفيات النفسانية تبشِّر بقرب الجواهر المفارقة؛ النفس والعقل.

ويتضح أيضًا أن الكيفيات النفسية هي نفسها التي أصبحت فيما بعدُ صفات الذات أو الصفات الوجودية للذات: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة مع اختلاف الترتيب. أصبحت الحياة الصفة الثالثة، والعلم الصفة الأولى، والإرادة الثالثة، والقدرة الرابعة. أمَّا صفات السمع والبصر والكلام فقد دخلت في الكيفيات المحسوسة، المسموعات والمبصرات، والكلام في الحروف والأصوات. ويكون السؤال: كيف يُوصَف «الله» بالكيفيات النفسانية وهي أعراض؟ ألا يؤدي وصف الذات على هذا النحو بتحويل «الله» إلى مجموعة من الأعراض؟ أليس «الله» جوهرًا طبقًا للتصورات؟ أليس من الأفضل تحويل هذه الكيفيات النفسانية إلى جواهر حتى يصح تأسيس الصفات عليها؟ أليست أحق بالجواهر من الأجسام والعناصر والكواكب والأفلاك؟

(أ) الحياة

والحياة أول الكيفيات النفسية، لها السبق عليها، وكل ما سواها من علم وإرادة وقدرة وباقي الكيفيات إنما هي مظاهر لها. الحياة هي الكيفية النفسية الأولى، ولا شيء قبل الحياة. والموت عدم الحياة. ولا يوجد تعريف موجب للموت. قيل إنه كيفية وجودية يخلقها «الله» في الحي، فهو ضدها. وهنا يبدو الفكر الديني عاجزًا عن وضع تعريف نظري للحياة أو الموت، ولا يجد أمامه إلا الحجة النقلية،٦٥ وكأن «الله» يخلق الموت وهو حياة. إذا كانت الحياة تَخلُق الحياة، فالموت نقص وعيب، و«الله» كمال لا يَصدر عنه نقص أو عيب، وحياة لا يصدر عنه موت. وإلا كان «الله» جامعًا بين الأضداد. وعند الأشاعرة يجوز أن يخلق «الله» الحياة في جزء واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ، وكأن «الله» قادر على خلق حياة في اليد بمفردها دون البدن. وهي مزايدة على الطبيعة لحساب الوهم، و«الله» غني عن المزايدة، وكأن أفعال «الله» كلها معجزات ضد قوانين الطبيعة مما يعطي وجداننا القومي نفس البنية النفسية لفعل الخوارق المعجزات ضد قوانين الطبيعة، فلا نجد أمامنا إلا السحر والأوهام أو ننتظر المخلص من الشرور والآثام. أمَّا الحياة عند الحكماء والمعتزلة فهي مشروطة بالبنية المخصوصة؛ أي بالجسم والكيفيات من اعتدال وغيره. ولكن الحياة ليست وحدَها الحياة البدنية، بل هي الحياة الشعورية؛ فالنفس تتعلَّق بالبدن من حيث هو مجموع الوظائف الحيوية كما تتعلق بالشعور الخالص. الحياة عند القدماء «قوة تتبع اعتدال النوع ويفيض منها سائر القوى»؛ قوى الحس والحركة والتغذية، سواء في النبات أو الحيوان أو الإنسان. والمقصود حياة الإنسان. أمَّا حياة النبات والحيوان فلدراستها والتعلُّم منها وليس لحياتها. ولما كانت الحياة أقرب إلى الحياة العضوية بما فيها من لذة وألم وصحة ومرض أو إلى الحياة النفسية بما فيها من قوى حسٍّ وحركة، فهي ليست وصفًا للذات المشخصة الخالصة المبرَّأة عن الجسم.٦٦

(ب) العلم

والعلم الكيفية النفسانية الثانية بعد الحياة، وتتداخل موضوعاتها مع نظرية العلم؛ فالعلم ذاتٌ وموضوع في آنٍ واحد، ذات في نظرية العلم، وموضوع في نظرية الوجود. والعلم لا بد فيه من إضافة بين العالِم والمعلوم؛ أي إنه علاقة بين الذات والموضوع، وحالة شعورية تظهر فيها العلاقة بين قالب الشعور ومضمون الشعور. وعند الحكماء هو الوجود الذهني؛ إذ قد يُعقل ما هو نفي محض وعدم صرف. وقد يطابقه أمره في الخارج وقد لا يطابقه. وقد نفى ذلك المتكلمون لاستحالة أن يكون في الذهن موضوعاتٌ في الخارج، واستحالة أن تكون ماهية الجبل والسماء في الذهن. ولكن هل يجوز تعلُّق العلم الواحد بمعلومين؟ وهو سؤال يبدو في الإجابات عليه الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني. فإذا كانت الإجابة بالجواز فذلك كعلم «الله» الذي يتعلَّق بذاته وبالبشر في آنٍ واحد. وهو تمثيل بلا جامع؛ لأن علم «الله» لا يشبه عِلمنا. وإذا كانت الإجابة بالاستحالة، وإلا تعلَّق العلم بأمورٍ غير متناهية، استحال العلم «الإلهي». وبالتالي يصبح علم «الله» دافعًا للإثبات والنفي على السواء حتى يصعُب معه الفكر العلمي الخالص.٦٧ وإن قيل لا يجوز تعلُّقه بنظريين ويجوز تعلُّقه بضرورين؛ ففي الأوَّل جهد واكتساب فردي، وفي الثاني عموم وشمول، شارك الإنسان علم «الله» في الضروري وتفرَّد بعلم في النظري، وهذا أيضًا حِجْر على العلم «الإلهي» الشامل لكل شيء. وإن قيل لا يجوز تعلُّقه بمعلومين يجوز انفكاك العلم بهما، وإلا جاز انفكاك الشيء عن نفسه. الجواز الذهني لا نزاع فيه، والخارجي هو موضوع الخلاف.٦٨ والحقيقة أنه لا يجوز؛ فكل عِلمٍ متعلق بمعلومه لضبط العلم. وإلا لتنازع المعلوم علومًا كثيرةً، ولتنازعت العلوم الكثيرة معلومًا واحدًا. وكل عِلمين تعلَّقا بمعلومين فهما مختلفان تماثلًا أو اختلفا وإلا لم يجتمعا. والمتعلقان بمعلوم واحد فمثلان إن اتحد المعلوم ووقته.٦٩ ولكن هل يمكن وجود علم لا معلوم له مثل العلم بالمستحيل، فإنه ليس شيئًا والمعلوم شيء؟ هل يمكن أن تكون هناك معرفة بلا موضوع؟ فالإجابة بالإثبات تُؤثِر الجانب الصوري في العلم، والإجابة بالنفي توحِّد بين الجانبين الصوري والمادي في العلم.٧٠
وتعود بعض الموضوعات الأولى في نظرية العلم في الظهور، وكأن الفصل بين العلم والوجود إنما هو فصلٌ تعليمي صرْفٌ لا وجود له بالفعل. فالوجود يحيل إلى العلم من خلال الحواس والذات العالمة، وكأن الذات علم ووجود في آنٍ واحد؛ فالجهل المركَّب اعتقاد جازم غير مطابق وهو ضد العلم، في حين أن الجهل البسيط هو مجرد عدم العلم، ويقرُب منه السهو والغفلة والذهول والنسيان. ويظهر العلم أيضًا على أنه مجموعة من الاعتقادات تنقسم إلى ظن ويقين، ويبدو العلم وكأنه أحد صفات الوجود. وتظهر معظم مسائل نظرية العلم من جديد، حد العلم هل هو سلبي أم إيجابي، تعلُّقه بمعلوم أو بمعلومَين، إجمال المعلوم، تغاير المعلوم، العلم الضروري والعلم الاستدلالي، اجتماع الأضداد، هل المعلوم موجود أو معدوم … إلخ.٧١ وقد يكون الشيء معلومًا من وجهٍ ومجهولًا من وجه.٧٢ وقد يعلم الشيء بالفعل ويعلم بالقوة عن طريق اندراج المقدمات مما يسمح بتقسيم العلم إلى ضروري واستدلالي. كما ينقسم العلم إلى تفصيلي وإجمالي. ثم تفرض القسمة نفسها افتراضًا على العلم «الإلهي»، هل هو إجمالي دون تفصيلي وهو ما يجيز الجهل، أو هل هو تفصيلي وبالتالي يشارك العلم الإنساني وهو العلم المقرون بالجهل؛ أي العلم المقيَّد المنفي عن «الله»؟٧٣ وهل هذا تحليل علمي أم موقف وجداني خالص باتهام الإنسان بالنقص وتبرئة «الله» عنه ووصفه بصفات الكمال؟ والعلم إمَّا فعلي كما نتصور أمرًا ثم نوجده، أو انفعالي كما يوجد أمر ثم نتصوره. الفعلي قبل الكثرة، والانفعالي بعدها. الفعلي قبلي والانفعالي بعدي. وعلم «الله» عند الحكماء فعلي؛ لأنه السبب لوجود الممكنات. علم «الله» قبلي لأنه ليس في حاجة إلى الأشياء. وكأن القبلي أشرف من البعدي، والاستنباط أكمل من الاستقراء، وهو تمجيد للعقل عند القدماء. وأحيانًا يبدو المتكلمون عقليين مثل الحكماء، وأحيانًا أخرى حسيِّين مثل الأصوليين. ولكن تمتاز الصور العقلية عن الخارجية عند الحكماء بأنها غير متمانعة في الحلول، بل متفاوتة تَحُل الكبيرة محلَّ الصغيرة، ولا ينمحي الضعيف بالقوي، ولا يجب زوالها. وإذا زالت سهُل استرجاعها.٧٤
وتُثار من جديد قضية العلم الضروري والعلم النظري، وهي قسمة العلم الأساسية في نظرية العلم في صيغة سؤالين: هل يستند العلم الضروري إلى النظري؟ والإجابة بين النفي لاقتضائه توقُّف الضروري على النظري وبين الإثبات. والثاني هل ينقلب العلم الضروري والنظري؟ وتتراوح الإجابة أيضًا بين النفي، وإلا لجاز الخلوي عن الضروري وهو مُحال بالوجدان، وبين الإثبات لتجانس العلوم أو النفي في الضروري الذي هو شرطٌ لكمال العقل والإثبات فيما غير ذلك.٧٥ ويجوز انقلاب النظري إلى ضروري اتفاقًا ليس بخلق «الله» علمًا ضروريًّا كما يقول الأشاعرة، بل لتفاوت الناس في القدرة على ممارسة الحدس وإدراك البداهات. وقد منع المعتزلة هذا الخلق في العلم «بالله» وصفاته؛ لأن الإنسان مكلَّف به. والفَرق بين هذه الموضوعات في نظرية العلم وفي نظرية الوجود أنها في الأولى مستقرة من حيث البناء والحكم، في حين أنها في الثانية مجرَّد تساؤلات تثبت أن العلم أحد مظاهر الكيفيات النفسية ولا يهم بناؤه ولا أحكامه. فأحكام العلم في نظرية العلم صريحة، وهي استحالة انقلاب الضروري إلى نظري أو استناده إليه، وإلا امتنعت بداهات الحس وأوائل العقول.
كذلك يُثار موضوعا الحسِّ والعقلِ في نظرية الوجود كما أُثيرا من قبلُ في نظرية العلم مع هذا الفرق في الاستخدام بين الحالتين. فإدراكات الحواس علم بمتعلقاتها عند الأشعري. وخالفه الجمهور نظرًا لاختلاف العلم عن الرؤية نظرًا لخداع الحواس وحدود المعرفة الحسية. وهنا تبدو الأشعرية نظرة حسية للعالم في الصلة الضرورية بين الحس وموضوع الحس؛ أي بين الإدراكات والمدرَكات. وارتباط البصر بالعلم ارتباطٌ جوهري، ولكن لا يجعلهما متماثلَين. فالبصر مصدرٌ لمادة علمية دون أن يكون هو العلم؛ إذ يستطيع العلم بعد ذلك أن يستغني عن البصر. ويُعاد ذكر الفَرق بين الانطباع الحسي والإدراك في نظرية الرؤية؛ فالأول خروج شعاع من الشيء تجاه البصر، في حين أن الثاني مقابلة هذا الشعاع الأوَّل بشعاع من البصر إلى الشيء. ومِنْ ثَمَّ يتم الإدراك كوعي بالمُبْصَر. الشعاعان المتبادلان بين العين والشيء هما في الحقيقة بين الشعور والشيء. لا يتم الإدراك إذن إلا بتوجُّه الأشياء نحو الشعور، وبتوجُّه الشعور نحو الأشياء. الأوَّل دون الثاني انطباعٌ حسي، والثاني دون الأوَّل وعيٌ فارغ بلا مضمون. وقد رفض المتكلمون النظرية الضوئية في الإدراك حرصًا على تفسير صفات السمع والبصر في «الله» بلا حاسة أو شيء أو شعاع، وكأن الفكر الديني عامل محدد للفكر العلمي إن إيجابًا أم سلبًا.٧٦
ومحل العلم الحادث غير متعيَّن عقلًا عند الأشاعرة، بل يجوز أن يخلقه «الله» في أي جوهرٍ أراد. ولكن دلَّ النقل على أنه القلب.٧٧ وعند الحكماء محل الكليات النفس الناطقة المجردة لبراءتها ومحل الجزئيات المشاعر العشرة الظاهرة والباطنة؛ فالعلم في الحس والنفس والعقل ومجموع ذلك كله هو الشعور الذي سمَّاه النقل القلب أو الفؤاد. ولا يمكن أن يخلق «الله» العلم في الجماد؛ لأن شرط العلم حياة الشعور.٧٨ وقد تكون مراتب العقل هي مراتب النفس. وقد تبدو في العلم كأحد مظاهر الكيفيات النفسانية كمبحثٍ من مباحث الأعراض. وقد تبدو في النفس كجوهرٍ متصل بالبدن ومقدمة لإثبات الجواهر المفارقة؛ فعند الحكماء للعقل أربع مراتب: العقل الهيولاني، وهو الاستعداد المحض، قوة بلا فعل؛ والعقل بالمَلَكة، وهو عقل حادث، وظيفته العلم بالضروريات، ويحس بالجزئيات؛ والعقل بالفعل، وهو مَلَكة استنباط النظريات من الضروريات؛ والعقل المستفاد تحضر فيه النظريات ولا تغيب عنه. وهي نظرية أسطورية صرفة بعكس نظرية المتكلمين الحسية؛ فإذا كان العقل عند المتكلمين مرتبطًا بالحس، فإنه عند الحكماء متعلِّقًا بمصدرٍ آخر للعلم من خارج العالم، كما هو الحال في النظرية الإشراقية التي استقرت عند الحكماء من الصوفية، وهي صورة شعرية خالصة تقوم على تشبيه الضوء أو النقش، لا تعطي أيَّ دور للحس ولا للعالم الطبيعي، وتجعل النفس سلبية خالصة عليها استقبال المعارف، ولا تضع في حسابها أيَّ نقد للمعرفة من جرَّاء النسيان. وهل يمكن للنفس أن تتذكر كل شيء ما دامت في جلباب البدن؟ ولكن بالإضافة إلى نظرية المتكلمين الحسية ونظرية الحكماء الأسطورية، هناك نظرية الأصوليين العملية السلوكية؛ فالعقل مَناط التكليف إجماعًا، والنظر واجب عقلًا وشرعًا وإجماعًا.٧٩

(ﺟ) الإرادة

والإرادة عند المعتزلة هو اعتقاد النفع أو ظنه. وقيل ميْلٌ يتبع ذلك وهو مغاير للعلم. هي ميْلٌ نفسي نحو جلب نفع أو دفع ضرر؛ ومِنْ ثَمَّ فهي في حاجةٍ إلى مرجح، وهي عند الأشاعرة غير مشروطة باعتقاد النفع أو الميل إليه، هي استواء الطرفين دون ما حاجة إلى مرجِّح مثل الهارب من السَّبُع على مسافتين متساويتين، والعطشان الذي لديه قدحان من الماء متساويان من جميع الوجوه، والجائع الذي لديه رغيفان، وهو مستحيل إنسانيًّا؛ إذ يبطُل السلوك وتتوقَّف الحياة بلا دافع أو مرجح.٨٠ والإرادة مغايرة للشهوة؛ لأنها تتعلَّق بنفسها دون الشهوة. كما أنها قد تكون للكريه مثل الدواء دون أن تشتهيه بل تتنفَّر عنها. وهي في نفس الوقت غير التمني لأنها تتعلَّق بمقدور مقارن حاضر أو مستقبل غير محالٍ أو ماضٍ، ثم تُثار عدة قضايا أخرى تخرج عن نطاق هذا الوصف المادي للإرادة إلى وصفٍ تأمليٍّ خالصٍ، ثم إلى فكرٍ ديني صريح، مثل: هل إرادة الشيء كراهة لضده؟ الحقيقة أن أمور الحياة ليس فيها تضاد عقلي؛ فقد يريد الإنسان الشيء ولا يكره ضده. فالتحليل العقلي والقلب المنطقي شيء، والموقف الوجودي شيء آخر. كما تُثار عدة مسائل أخرى عقلية نظرية صرفة تفقد دلالتها على المستوى المادي، مثل: هل إرادة الضدين ذاتية أم موضوعية؟ أو تُثار قضية حرية الأفعال كاستباقٍ للموضوع الذي سيتأسَّس فيما بعدُ في نظرية الأفعال أو في أصل العدل. ثم تبدأ التساؤلات تتطور شيئًا فشيئًا حتى تخرج من التحليل المادي للإرادة إلى التأمُّلات الدينية الخالصة، مثل أن الإرادة تفيد متعلقها صفة، للفعل طاعة ومعصية، وللقول أمرٌ وتهديد، وذلك لربط الإرادة بالفعل والفعل بالصفة، وعدم الاقتصار على المَيْل أو الاعتقاد بالنفع، وبالتالي دخول حكم القيمة على حكم الواقع.٨١ ومثل تساؤل: هل تسلسل الإرادات إلى الوراء للحصول على إرادةٍ أولى ضرورية؟ وهنا يتم الخروج عن الإرادة الإنسانية إلى الإرادة «الإلهية». والعرض موضوع البحث هي الإرادة الإنسانية. أمَّا الإرادة القديمة التي توجب المراد اتفاقًا فهي مجرد افتراض عقلي يتغلب على مصاعب الإرادة الإنسانية «الحادثة»، ويتخلى عن ضَعفها ووهنها، ويقلب الضَّعف قوة، والوهن عزمًا. في حين أنه يجوز إيجاب الإرادة الحادثة للمراد إذا كان قصدًا إلى الفعل؛ فالقصد يتقدم على الفعل قبل العزم والجزم، وبالتالي يسترد المعتزلة للإنسان ما سلبه الأشاعرة منه وأعطوه لغيره وهو «الله».٨٢

(د) القدرة

والقدرة تعادل العلم في الأهمية في الكيفيات النفسانية. وهي صفة تؤثِّر وفق الإرادة، فخرج ما لا يؤثر كالعلم وما لا يؤثر لا على وفق الإرادة كالطبيعة. القدرة هي قوة الإرادة. القدرة هي القوة، والإرادة هي التنفيذ والتحقيق. هي عند البعض سلامة البنية عن الآفات، وعند آخرين بعض القادر وقيل بعض المقدور؛ حيث يصعب التفرقةُ بين القدرة كذات والقدرة كموضوع؛ أي بين الإرادة والفعل. وتنقسم الأفعال المقدورة إلى ما يحتاج إلى آلة وإلى ما لا يحتاج؛ فالقدرة أوسع وأعم وأشمل من آلات التنفيذ؛ اليد أو اللسان. والقدرة غير المزاج؛ فالمزاج من الكيفيات المحسوسة، بينما القدرة من الكيفيات النفسانية. وقد يمانع المزاج القدرة؛ إذ إن بالقدرة إرادة وروية وقصد وغائية وهدف وعلم، في حين أن المزاج أقرب إلى الخلقة والهوى. والقوة تُقال للقدرة لأنها جنسها، وهو مبدأ التغيير في آخر. وأخيرًا الخلق مَلَكة تصدر عنها الأفعال بلا روية، وتنقسم إلى فضيلة ورذيلة، الفضيلة الوسط والملكة الأطراف، وهو مغاير للقدرة لأنه طبيعة وفطرة؛ أي قوة طبيعية وليست إرادية. والعزم هو جزم الإرادة بعد التردُّد؛ أي هي الإرادة الحاسمة المنفذة. وطريقة إثباتها الوجدان؛ إذ يشعر بها كل إنسان من نفسه. وقد تثبت عندما يأتي الفعل من بعض دون البعض الآخر، فيظهر الفَرق بين القدرة والعجز.٨٣ وقد تثبت عند العلم بصحة الشخص. والحقيقة أن القدرة إحساس بديهي يدركه كل إنسان بوجدانه حتى عند وجود الموانع التي تسبب العجز الطارئ، فإذا سألنا: هل المقدور تابع للعلم أم للإرادة؟ نجد أنها نفس المسألة التي عرض لها الحكماء بالنسبة إلى الخلق: هل الخلق بالعلم ضرورة أم بالإرادة اختيارًا؟ وأصلها مسألة في القدرة الإنسانية ثم تعميمها وإطلاقها ورفعها إلى مستوًى خارج عن النطاق الإنساني. المقدور تابع للإرادة عند المعتزلة لأنها حقيقة القدرة، ولا يكون تابعًا للعلم؛ لأن صاحب المَلَكة يصدر عنه أفعال لا يقصدها. والعلم بذاته المبني على تصديقٍ يتحوَّل بالضرورة إلى فعلٍ متجاوزًا القدرةَ على خلاف العلم الأقل تصديقًا واقتناعًا، فإنه في حاجة إلى القدرة. وقد توصَّل المعتزلة في فروعهم على القدرة إلى «عتبة الجهد»؛ أي إلى آخرِ حدٍّ يمكن للقدرة أن تتحمله، وذلك في عدة تساؤلات، مثل: هل مَن يتمكن من حمل مائة وزن ويعجز عن حملِ مائةٍ أخرى يُقال له عاجز؟ كل قدرة لها حد أو عتبة لا تتجاوزها. وهذا لا يتنافى مع أصل القول بتعلُّق القدرة بجميع المقدورات. ومثل: إذا حمل شخصان مائتي وزن، هل تم الحمل بقدرة كل واحد مما يلزم اجتماع قادرَين على مقدور واحد أم بقدرة مشتركة؟ والإجابة بطبيعة الحال بالقدرة المشتركة؛ لأن اجتماع مقدورَين ممكن إذا كانت القدرة مشتركة بين قدرتَين إنسانيتَين كما هو الحال في العمل الجماعي وليس بين قدرتَين غير متكافئتين؛ حيث تبتلع القدرة الكبرى القدرة الصغرى كما هو الحال بين القدرة «الإلهية» والقدرة الإنسانية.
ولكن هل تغيب القدرة في ساعة المنع أو العجز أو النوم؟ هل الممنوع عن الفعل قادر عليه؟ منعه الأشاعرة؛ إذ إن القدرة مع الفعل، «والله» لم يخلق القدرة دون ما حاجة إلى ضد. وجوَّزه المعتزلة لأن العجز يُضاد القدرة، والمنع المقدور وجوديًّا مضاد للمقدور. والحقيقة أن العجز والمنع من الطوارئ والقدرة هي الأساس ليست بخلْق خارجي بل بفعل داخلي وبإحساس وجداني بديهي وبتمسُّك بحقوق الإنسان وبحقه في الفعل وبأدائه لرسالته. العجز عرض مضاد للقدرة أو عدم القدرة أو نفي للعرض.٨٤ فالقدرة هي الأساس، والعجز طارئ عليها. أمَّا عجز المتحدي عن معارضة القرآن فهي قدرة نسبية على التحدي والخلق والإبداع، وليست عجزًا إلا عند مَن قال بصرف الدواعي، ومَن جعل فعلَ «الله» مسبِّبًا لعجز، وإرادة «الله» نفيًا للإرادة الإنسانية فيقضي على تكافؤ الفرص منذ البداية من أجل ممارسة التحدي والإتيان بالخلق المشابه. وهل النوم ضد القدرة؟ اتفقت المعتزلة وكثير من الأشاعرة على امتناع صدور الأفعال المتقنة المقصودة من النائم، وجواز القليلة منها بالتجربة. أمَّا الرؤيا فخيالٌ باطل عند المتكلمين عامة والمعتزلة خاصة؛ لفقد شرائط الإدراك، وعند الأشاعرة لخلاف العادة. ولم يثبتها إلا بعض الأشاعرة، وهو ما ساد في وجداننا القومي حتى الآن.٨٥ وعند الحكماء يوجد المدرك في النوم في الحس المشترك يَرِدُ على النفس من العقل الفعال ثم يلبسه خيال الصور أو يرد عليه من الخيال مما ارتسم فيه من اليقظة، فمن دام في فكره شيء رآه في منامه، وذلك موضوع تفسير الأحلام في علم النفس. وللمعتزلة عدة فروع على هذا الأصل، منها: هل يخلو القادر عن جميع مقدوراته؟ جوَّزه البعض على الإطلاق وجوَّزه البعض الآخر عند المانع، ومنعه عند عدمه في المباشر دون التولُّد.٨٦ فالإنسان مهما كان عاجزًا فإنه قادر على فعل شيء، سواء كان مباشرًا أو توليدًا. لا يوجد إذن عجز مطلق. ومثل: هل التَّرْك عدم فعل المقدور؟ قيل إن كان قصدًا يتعلق به الذم. وقيل إنه من أفعال القلوب، وقيل إنه فعلُ الضد؛ لأنه مقدور والعدم مستمر. والحقيقة أن التَّرك عدمُ فعل المقدور وليس العجز عن الفعل.
وإلى هذا الحد يغلب الفكر العلمي في تحليل القدرة على الفكر الديني. ولكن تظهر عدة تساؤلات كي تعطي الغلبةَ للفكر الديني على الفكر العلمي، مثل: هل يجوز مقدر بين قادرين؟ بطبيعة الحال جوَّزته الأشاعرة مطلقًا؛ لأن قدرة العبد غير مؤثرة مع شمول قدرة «الله».٨٧ ومنعه المعتزلة لامتناعِ قدرةٍ غير مؤثرة. واتفق الأشاعرة على امتناع قدرتَين مؤثرتَين وقدرتين كاسبتين؛ لأن الكسب هو خلق «الله» للقدرة الحادثة. وقد نفى البعض القدرة الحادثة تمامًا وقال بالجبر، وهي مكابرة؛ لأن هناك فرقًا بين الصاعد بالاختيار والهابط بالضرورة.٨٨ والحقيقة أن هذه مسألة ستأتي في موضوع خلْق الأفعال، ولا تدخل في المقدمات النظرية العامة التي تحاول وضعَ أوليات للفكر والوجود دون أن تدخل بعدُ في موضوع العقائد. ومع ذلك، وفي هذا الوقت المبكر في تحليل القدرة كأحد الكيفيات النفسانية يظهر الصراع بين نظريتي الجبر والكسب من ناحية، وحرية الأفعال من ناحية أخرى؛ نظرًا لاستحالة تعلُّق مقدور بين قادرين؛ فالجبر يضحِّي بقدرة الإنسان لإثبات قدرة «الله». ويحاول الكسب إدخال قدرة الإنسان في الحساب، ولكنه يجعلها مشروطة بقدرة «الله» وينفي استقلالها. وتدافع حرية الأفعال وحدَها عن القدرة الإنسانية بصرف النظر عن أي اعتبار آخر؛ فقدرة الإنسان وحريته هما الأَولى بالدفاع. يمكن تعلُّق المقدور بقادرين إنسانيين، مثل اشتراك اثنين أو أكثر في عمل واحد في آنٍ واحد أو على فترات، وبالتالي يكون العمل الجماعي مقدورًا لأكثر من قدرة، ولكنها قدرات على مستوًى واحد، وليست قدرة حادثة وقدرة قديمة أو قدرة نسبية وقدرة مطلقة. ولا تتعلَّق القدرة بالضدين، بل بمقدورين مطلقًا عند الأشعري بناءً على أن القدرة مع الفعل بينما تتعلق بجميع مقدوراته عند المعتزلة. وعند فريق ثالث قد تتعلق القدرة القائمة بالقلب بجميع متعلقاتها دون الجوارح، كل واحدة منها تتعلق بجميع متعلقاتها، إمَّا دون متعلقات الأخرى أو فكلٌّ منها لا يؤثر في متعلقات الأخرى نظرًا لغياب الأدلة، أو تتعلق القدرة القلبية بمتعلقها دون العضوية.٨٩ والقدرة هي مجرد القوة على مبدأ الأفعال المختلفة، نسبتها إلى الضدين، سواء قبل الفعل. وتُطلَق أيضًا على القوة المشجعة لشرائط التأثير، وهي لا تتعلق بضدين في حال الفعل.٩٠ والحقيقة أن القدرة على عمل الضد ممكنة نظرًا من حيث القوة الجسمية، ولكنها قد تكون مستحيلة من حيث القصد والهدف والغاية والمصلحة؛ فالقدرة على القتل موجودة جسمانيًّا، ولكنها تعارض الهدف والقصد، وهي المحافظة على الحياة. ولا فرق في ذلك بين أفعال الشعور وأفعال الجوارح، بين الأفعال الداخلية والأفعال الخارجية.٩١ ولا يوجد حل نظري ومقياس مجرَّد لصدق الآراء، بل يوجد وصف القدرة على الفعل في موقفٍ محدد.
وفي موضوع القدرة تُبحث عدة مسائل تدخل في الجبر والاختيار، مثل: حد القدرة بأنها سلامة الأعضاء كما هو الحال عند الأشاعرة، أو أنها شيء متحيز يدل على الاختيار كما هو الحال عند المعتزلة، أو بحث صلتها بالفعل هل هي مع الفعل مثل الأشاعرة أو قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل؛ أي القصد والتحقيق والإيقاع مثل المعتزلة. وكذلك العجز هل هو صفة وجودية أم صفة عدمية؟ وتتم التساؤلات على نحوٍ مادي صرف بتحليل القدرة الإنسانية ككيفية نفسانية مع تواري الفكر الديني إلى أقل حجم؛ فالقدرة مع الفعل لا قبله ولا بعده في نظرية الكسب الأشعري المشهورة. وعند المعتزلة قبل الفعل. ومنهم مَن قال ببقائها حال الفعل. وإن لم تكن قدرة عليه فهي شرط البنية. ومنهم مَن نفاه لأن إيجاد الموجد محال، ولأنه يلزم القدرة على الباقي ولأنه يوجب حدوث قدرة «الله»، وأنه يلزم تكليف الكافر بالإيمان. لا تبقى القدرة غير متعلقة؛ فهي تتعلق بالفعل قبلها وبعدها، الفاعل في الأولى يفعل، وفي الثانية فعل، وفي الثالثة مفعول.٩٢ وقد تولد القدرة في محالَّ متفرقة حركات إلى جهات مختلفة، وأمَّا في محالَّ مجتمعة فلا. وذلك يتوقف على نطاق الفعل يمكن أن يكون في جهات مختلفة أو في محالَّ مجتمعة إثر محاضرة في طلاب متفرقين أو متجمعين.٩٣
وبالرغم من أن الكلام لا يدخل ضمن الكيفيات النفسانية، بل ضمن الكيفيات المحسوسة، نظرًا لارتباطه بالسمع، الأصوات والحروف، إلا أنه يُشار إليه كملحق للكيفيات النفسانية؛ نظرًا لأنه أيضًا كلام نفساني؛ أي معانٍ في الشعور قبل أن تتخارج إلى أصوات وحروف. وقبل أن يتحول إلى صفة مطلقة لذاتٍ مشخصة في التوحيد، كما تظهر بعض الكيفيات النفسية الأخرى المتصلة بالإرادة مثل المحبة وقيل هي الإرادة، محبة «الله» لنا إرادته لكرامتنا، ومحبتنا «لله» إرادتنا لطاعته؛ فالمحبة عاطفة. وكذلك الرضا وهو الإرادة عند المعتزلة وترْك الاعتراض عند الأشاعرة. وكلاهما جانبان للإرادة المعارضة والتسليم؛ فالرضا فعل وليس ترْك فعل، إيجاب وليس سلبًا.٩٤ وعلى هذا النحو يمكن الاستمرار في تصنيف العواطف والانفعالات الإنسانية حول الكيفيات النفسية، وبالتالي تمحي التفرقة الأولى بين الانفعاليات والانفعالات.

(ﻫ) بقية الكيفيات النفسانية

يذكر القدماء منها ما يكون أدخل إلى الحالات الجسمية منها إلى الكيفيات النفسانية مثل اللذة والألم، والصحة والمرض، وترْك العواطف والانفعالات الإنسانية، وهو ما عرضه الصوفية في الأحوال والمقامات، وما عرض له الحكماء باسم انفعالات النفس أو قوى النفس أو فضائل النفس.

فاللذة والألم بديهيان يشعر كل إنسان بهما؛ لذلك لا يُعرفان. قيل اللذة إدراك الملائم، والملائم كمال الشيء. وعند بعض الأطباء لا توجد لذة، بل يوجد فقط دفْع الألم.٩٥ واللذة والألم صفتان مختلف في نسبتهما إلى الذات المشخصة لوضوح أساسها الإنساني الخالص وما بهما من نقص وعيب وسلب وعدم. ولكن لما ظهر الإنسان داخل الكيفيات فقد ظهر بكل أبعاده النفسية والجسمية، الحسية الانفعالية.
أمَّا الصحة والمرض، فالصحة ملكة أو حالة تصدر عنها الأفعال من الموضوع، تنطبق على الحيوان وعلى الإنسان. هي كيفية للبدن في مقابل المرض، حالتان له مثل اللذة والألم.٩٦ ويظل السؤال لمَ التوقُّف عند هذا الحد في الكيفيات النفسية؟ أين الاحترام والتبجيل، الفرح والحزن، القبض والبسط، الخوف والرجاء، إلى آخر ما قاله الصوفية والحكماء في انفعالات الحس أو حالات الوجدان أو فضائل النفس؟ لقد بدأت الكيفيات تأخذ طابعًا حسيًّا ماديًّا مما كان يؤهل لتأسيس علم النفس «الفيزيقي» والانتقال من دراسة النفس إلى البدن كما هو واضح في اللذة والألم، وفي الصحة والمرض. ولكن يبدو أن الفكر الديني أوقف الاتجاه حتى يستطيع بعد ذلك رفع هذه الكيفيات النفسانية إلى درجة الصفات المطلقة للذات المشخصة. وهل يمكن إعادة التصنيف والاختيار بين هذه الكيفيات النفسانية دون حدٍّ أدنى ودون حدٍّ أعلى، خاصةً لو كانت النية إسقاطها على الذات المشخصة، واستعمالها لوصفها قياسًا للغائب على الشاهد؟ ولقد بدأت باقي الكيفيات النفسانية في صورة ثنائية متعارضة مما كان يؤهل إلى البحث عن الأسس الاجتماعية للحالات النفسية؛ فاللذة والألم، والصحة والمرض تشير إلى أوضاعٍ اجتماعية؛ أوضاع الترف والفقر، النعيم والبؤس، البطنة والجوع، التخمة والشظف، أمراض الوفرة وأمراض الحرمان. وهو ما لم يتم في الكيفيات النفسانية الأولى؛ فقد ظهرت الحياة دون الموت، والعلم دون الجهل، والإرادة دون الوهن، والقدرة دون العجز، وكأن صحوة المثال جعلت المتكلم ينسى الواقع، وبالتالي يعجز عن قياس المسافة بين الواقع والمثال.

(٣-٣) الكيفيات الكمية

قد يبدو التعبير متناقضًا؛ فالكيفيات لا تكون كمية، والكميات لا تكون كيفية؛ نظرًا للتقابل التقليدي بين الكيف والكم. ومع ذلك فالكيفيات الكمية تمثِّل مرحلة انتقال من الكيفيات المحسوسة والنفسانية إلى النسبة والإضافة اللذين يبدو فيهما اجتماعٌ عَرَضَي الكم والكيف معًا لحقًا بالكم واستردادًا له. وهي باختصار الكيفيات التي تعرض للكم، إمَّا وحدَها فتكون المنفصلة كالزوجية والفردية أو المتصلة مثل التثليث والتربيع، وإمَّا مع غيرها كالحلقة والزاوية. ويعتمد القدماء على تعريفات المهندسين للخط والدائرة والكرة والأسطوانة والمخروط. هل يعني ذلك أن المفاهيم الرياضية في الحساب والهندسة هي نموذج الكيفيات الكمية؛ أي حال الأعداد والأشكال؟ وأيهما أقرب لها مباحث الكيف مع المحسوسات والنفسانيات، أم مباحث الكم مع العدد والمقدار والزمان والمكان؟ ولماذا هذا الاقتضاب التام فيها بالمقارنة إلى الكيفيات المحسوسة والنفسانية؟ هل يفقد الصوري دلالته إلى هذا الحد؟٩٧

(٣-٤) الكيفيات الاستعدادية

وقد يبدو التعبير أكثر قبولًا من التعبير السابق؛ وذلك لأن الاستعداد كيفٌ وليس كمًّا. وهي مثل القبول ويُسَمَّى ضعفًا أو مَيْلًا أو تأثُّرًا أو الدفع ويُسَمَّى قوة. القبول من الملاءمة والدفع من المفاخرة، وهذا بخلاف قوة الفعل. يبدو أن الكيفيات الاستعدادية أقلُّ بكثير مما يمكن أن تكون؛ فهي التي توصل التهيؤ والإمكانية والتحقق وكأن المحسوسات والنفسانيات والكيفيات الكمية ما هي إلا مقدمات لإعداد النفس وتهيئتها إلى شيء؛ ولذلك تبدو مباحث الكيف مفلطحة للغاية في المحسوسات والنفسانيات ومضمرة للغاية في الكيفيات الكمية والاستعدادية؛ أي في التعامل مع صور الأشياء وفي إعداد النفس. وهل هي القبول والدفع فقط أم هناك الإقدام والإحجام وغيرها؟ وما صلتها بالعواطف والانفعالات؟ وما عددها وما تصنيفها؟ هل هي فطرية أم مكتسبة؟ هل هي حالات أم ملكات؟ هل فقدت دلالتها بالنسبة للفكر الديني؟ هل أحجم الفكر العلمي من الدخول في الفكر الرياضي في الكيفيات الكمية وفي علم النفس في الكيفيات الاستعدادية؟ هل يمكن للفكر المتوقِّف في هذه المقدمات النظرية أن يستعيد نشاطه ويستأنف تقدُّمه؟٩٨

(٤) النسبة

وبعد الكم والكيف تأتي النسبة. وتأتي وحدَها عند القدماء في صيغة الجمع «النِّسَب»، في حين أن الكم والكيف والإضافة في صيغة المفرد. والنِّسَب من الأعراض لأنها متغيرة. وهي أقرب إلى مباحث الكم لأنها تشمل الأكوان على مصطلح المتكلمين والأين على مصطلح الحكماء، وبالتالي فهي أقرب إلى المكان، وهو من مباحث الكم كالعدد والمقدار والزمان. والأين أكبر من مبحث الأكوان مما يدل على انتشار المكان على الأكوان وامتداد أقوال الحكماء على أقوال المتكلمين.٩٩ يتحدث المتكلمون عن الأكوان ويَعنُون بها الجواهر، في حين يتحدث الحكماء عن الأين ويَعنُون به الحركة. لذلك ارتبطت المباحث والنِّسبة أيضًا بمبحث الجواهر لأنها تتعلق بأعراض الأجسام مثل الحركة والسكون والمماسة والمجاورة، والاجتماع والافتراق والتأليف. كما أنها ترتبط بالكيفيات المحسوسة في الملموسات واعتماد اليد ومقاومة الأشياء لها. ومِنْ ثَمَّ ارتبطت الأكوان بالكيفيات المحسوسة لأنها مدركة حسيًّا عن طريق البصر أو اللمس.
وقد أثبت الحكماء المقولات النسبية وأنكرها المتكلمون إلا الأين لعدة وجوه: منها أنها لو وُجدت لزم التسلسل لأن محلها يتصف بها، ووجودها إليه نسبة؛ لأن أجزاء الزمان بعضها لبعض نسبة. ولو وُجدت لوُجدت الإضافة، وهي لا تتحقق إلا بوجود المنتسبين، فيوجد التقدُّم والتأخُّر معًا. ولو وُجدت لزم اتصاف الباري بالحوادث لأن له مع كل حادث إضافة بأنه موجود معه وقبله، بأنه متقدم عليه وبعده لأنه متأخر عنه.١٠٠ والحقيقة أن الإضافة للأشياء ونسبتها فيما بينها ليست من الذات المشخصة التي هي حتى الآن افتراض خالص أو إيمان صرف، وبالتالي فلا خوف عليها من الحوادث؛ لأنها لا صلة لها بالعالم. واحتج الحكماء بأن كون السماء فوق الأرض ومقابلة الشمس لوجه الأرض تُعلم ضرورة. وتنفي أدلة المتكلمين وجود النِّسب في الخارج وتجعلها مجرَّد وجود في العقل من وضْع الذهن ومن نسيج الشعور لما كان الإنسان بؤرةً للعلاقات بينه وبين الأشياء، وبينه وبين الآخرين.

والسؤال الآن: هل هناك دلالات دينية لهذه الموضوعات؟ هل تكشف أيضًا عن الصراع بين الفكر والدين؟

ويدخل في مباحث الأكوان عند المتكلمين مواضيع الحركة والسكون والتأليف والمجاورة والممارسة والمباينة والافتراق، وكرد فعل عليها تظهر مفاهيم الكون والطفرة والتولُّد كتصوراتٍ بديلة للحركة والسكون، وكأن هناك تصورَين للأكوان: تصوُّر كمي للأجزاء، وتصوُّر كيفي للكليات. فما هي الأكوان؟ إن حصول الجوهر في الحيز معلل بصفة قائمة بالجوهر يُسَمَّى بالكائنية، والصفة التي هي علَّتها تُسَمَّى بالكون. منعه البعض إمَّا لوقوع في الدور وإمَّا لأن الحصول في الحيز المخصوص من خلق «الله» وكأن «الله» يتدخل في تكوين الأشياء وكينونتها وسكنها في المكان!١٠١ والأكوان أربعة؛ لأن الحصول في الحيز إمَّا أن يُعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أوَّلًا. والثاني إن كان مسبوقًا بحصوله في ذلك الحيز فسكونٌ، وإن كان مسبوقًا بحصوله في حيزٍ آخر فحركة. السكون حصولٌ ثانٍ في حيِّزٍ أوَّل، والحركة حصولٌ أول في حيزٍ ثانٍ. وأمَّا القسم الأوَّل فإن كان بحيث يمكن أن يتخلل بينه وبين الآخر ثالث فهو الافتراق وإلا فهو الاجتماع. والاجتماع واحد والافتراق مختلف؛ لأن منه قرْبٌ وبُعدٌ ومجاورة. وإذا تحرَّك الاختلاف فإنه يأخذ صورتين: الأولى إذا تحرَّك الجسم تحرَّك الجوهر الظاهر منه اتفاقًا، ثم اختلف في المتوسط المباين. والثاني إذا كان الجوهر مستقرًّا في مكانه وتحرَّك عليه آخر بحيث تتبدل المحاذاة، فالمستقر يتحرك. ثم يتغيَّر موضوع الحركة والسكون إلى موضوع التأليف والمجاورة والمماسة؛ وذلك لأن كل جوهر فرد محفوف بستة جواهر أخرى من جهاته الست؛ فالجوهر الفرد له ستُّ مماسات وستُّ مباينات، وقد منع ذلك بعض المتكلمين. التأليف والمجاورة إذن جائزان. ثم وقع الاختلاف: هل المجاورة غير الكون؟ هل التأليف والمماسة غير المجاورة؟ هل المجاورة واحدة بينما يتحد التأليف والمماسة؟ هل المجاورة تأليف؟ هل المماسة نفس المجاورة أم متعددان؟ هل يتغير الكون إذا تعرَّض لمماسات ومجاورات؟ هل المتوسط من الجوهرين كلما قرُب من أحدهما بعُد عن الآخر؟ هل يُقال للجوهر إذا ماس من جهةٍ إنه مباين من الجهة الأخرى؟ هل تجوز المباينة والافتراق في جملة جواهر العالم؟ هل يُطلق القول بتضاد الأكوان عند مَن لم يجعل المماسة كونًا؟ بل تصبح الأسئلة نظرية خالصة مثل: ماذا تعني الحركة والسكون؟ هل يحلان في الجسم؟ هل هما في المكان الأوَّل والثاني؟ هل يكون الساكن في حال سكونه متحرِّكًا بوجهٍ من الوجوه؟١٠٢ وما دلالة هذه التساؤلات كلها؟ وهل تكشف عن الصراع الدائم بين الفكر الديني والفكر العلمي؟ هل هو فكر علمي خالص بعد أن قد توارى الفكر الديني إلى أقل حجم له؟ هل يختفي الفكر الإلهي أوَّلًا بالفكر الميتافيزيقي ثم يختفي الفكر الميتافيزيقي ثانيًا بالفكر العلمي؟١٠٣ هل الفكر العلمي الخالص دلالة على التوحيد؟ هل الفكر العلمي نفسه هو الفكر الديني، وبالتالي يكون التوحيد هو الطبيعة كموضوع ومنهج ونتيجة؟ فإذا كان الرد بالإيجاب يكون الفكر العلمي تأصيلًا للفكر الديني وتطويرًا له، ويكون الفكر الديني مقدمة للفكر العلمي وجزءًا من تاريخه وأحد مراحله التاريخية. ونكون بإسقاطنا الفكرَ العلمي كليةً ودعوتنا إلى الفكر الديني، بل وإلى الفكر «اللاهوتي» المشخص، قد عُدنا إلى الوراء، وانتهينا إلى حيث كُنَّا في البداية، وتكون الحضارة قد أدَّت دورتها وعُدنا من جديد كما بدأنا إلى نقطة الصفر الأولى.
وبالإضافة إلى النظرية الآلية للأجزاء مداخلة ومجاورة ومماسة، اجتماعًا وافتراقًا، بل وتأليفًا، حتى في دراسة أفعال القلوب من الإرادات والكراهات والعلوم والنظر ظهرت نظرية حيوية أخرى للأجسام تقوم على الكمون والطفرة والظهور تتحدى الفكر الديني في نظرية «الخلق من عدم»، والذي انتهى بدوره إلى اتهامها بالدهرية وإنكار الخلق مع أنها تصوُّر جديد للخلق، وهو التخلُّق الذاتي. «فالله» خلق الأشياء دفعة واحدة، وأكمن بعضها في بعض أصلًا، وهو مُلاحَظ في ظواهر الحياة مما أدَّى إلى اعتراف الفقهاء بها اعتمادًا على الحس والمشاهدة ومجرى العادات.١٠٤ وإثبات الطفرة يؤدي إلى إنكار الجزء الذي لا يتجزأ الذي يقوم عليه التصوُّر الآلي الأوَّل. وفي حقيقة الأمر، إن إثبات الكمون والطفرة يساعد على الخلق والإبداع ومعرفة المراحل والإحساس بالتاريخ والشعور بالزمان وأخذ رؤية مستقبلية غائية، بدلًا من النظر إلى الماضي والتقدُّم إلى الوراء. يمكن أن يكون الكمون والطفرة جزءًا من الثقافة الوطنية للشعوب النامية إذا كان ينقصها الحركة والتغيُّر ويعوزها التخطيط المتصل القائم على التسلسل والرؤية المستقبلية والإحساس بالمراحل، وتساعدها على الإبداع الذاتي. كما أنها تساعد الفكر العلمي الآلي في الشعوب الصناعية على تجاوز الآلية وحتمية الطبيعة والتحليل الكمي إلى مزيد من التحليل الكيفي، والتمييز بين المستويات دون أن تنقلب إلى ضدها وتتحول إلى إشراقات صوفية في النفس وفي الطبيعة؛ ومِنْ ثَمَّ يتحول العلم إلى تصوُّف بتحويل المادة إلى روح، والديمومة إلى انقطاع.
وتعادل مباحثُ الحكماء في الأين مباحثَ المتكلِّمِين في الأكوان؛ فكلاهما مبحث في الحركة. والحركة عند الحكماء كمالٌ أَوَّل بالقوة من حيث هو بالقوة. وهو تعريفٌ يقوم على إسقاطِ وجدانياتٍ من لفظِ كمالٍ أَوَّل كمقولة دينية أخلاقية. ويتضح ذلك أيضًا من تعريفهم للنفس بأنها كمالٌ أوَّل. تعريف الأين إذن إسقاطٌ من تعريف النفس على الطبيعة، ومن الذات على الموضوع، وهو ما يُشير إليه الحكماء بحديثهم عن وظيفة التوهم. وللحركة معنيان: الأوَّل التوجُّه، وهو كيفيةٌ بها يكون الجسم أبدًا متوسطًا بين المبدأ والمنتهى. والثاني الأمر الممتد من أوَّل المسافة إلى آخرها ولا وجود له إلا في التوهم. كل هذه التقسيمات إذن من صنْع الفكر المثالي وريث الفكر الديني قبل أن يتحوَّل إلى فكرٍ علمي. ومقولات الحركة أربع: الأولى الكم، وهو التخلخل، وضده التكاثف، والنمو وعكسه الذبول. والثانية الكيف والحركة فيه تُسَمَّى استحالة. والثالثة الوضع مثل حركة الفلك. والرابعة الأين، وهو النقلة التي يسميها المتكلم حركة. وباقي المقولات لا تقع فيها الحركة مثل الجوهر والمضاف والملك والمتى وأن يفعل وأن ينفعل. فالجوهر تتبدل صورته، والمضاف طبيعة غير مستقلة، والمتى وجود الجسم فيه يتبع الحركة وكذا الملك، وأن يفعل وأن ينفعل أثبت البعض فيهما حركة. وفي حقيقة الأمر إن الجوهر مبحث خاص، والمضاف مع الملك أحد أقسام الأعراض بعد النسبة، والمتى أي الزمان دخل في الكم مع العدد والمقدار والمكان. أمَّا أن يفعل وأن ينفعل فهو جزء من مباحث الكيف في الكيفيات الاستعدادية. ومِنْ ثَمَّ تُوضع مقولة الأين موضع الصدارة وتتفاوت المقولات الأخرى بين الإثبات والإنكار؛ إذ يتداخل الأين والمكان والحركة والسكون والقوة والفعل والكمال الأوَّل والكمال الثاني معًا لِتُكوِّن أبحاثًا في المكان والحركة تحت عرض الأين. يبدو الوجود وكأنه وصفٌ لوجود دينامي تتقلب عليه الأعراض. والعلة للحركة الطبيعية ليست الجسمية وإلا دامت الحركة بدوامها، وليست الطبيعية لأنها ثابتة. فإن لم تكن المادية أو الصورية فلم تبقَ إلا الفاعلة أو الغائبة. آثر المتكلمون الأولى نظرًا لسيطرة الفكر الديني، والحكماء الثانية نظرًا لسيادة الفكر الفلسفي. وتقتضي الحركة أمورًا ستة: ما به أي الفاعل، ما له أي المحل، ما فيه أي المقولة، ما منه أي المبدأ، وما إليه أي المنتهى، ثم المقدار أي الزمان. وقد زادت هذه القسمة على القسمة الرباعية الأولى شيئين: المقولة والزمان. ومع ذلك فالحركة واحدة. ووحدة الحركة إمَّا شخصية أو نوعية أو جنسية؛ الأولى وحدة ما له، والثانية وحدة ما فيه وما منه وما إليه، والثالثة وحدة ما فيه. وقد تكون الحركات متضادة بشرط دخولها تحت جنس واحد، وتضادُّ الحركات ليس لتضادِّ ما فيه، بل لتضادِّ ما إليه؛ أي الغاية والمنتهى. والحركة ليست كمًّا بالذات، بل بالعرض، وتنقسم ثلاثة أقسام: إمَّا بحسب المسافة، أو بحسب الزمان، أو بحسب المتحرك. وما يُوصف بالحركة إمَّا أن تكون الحركة فيه بالحقيقة أو بالعرض مثل السفينة والراكب. والأول إمَّا أن تكون الحركة في غيره وهي الحركة القسرية أو فيه إمَّا مع الشعور وهي الإرادية، أو لا وهي الطبيعية مثل حركة النبات. والحركة إمَّا سريعة أو بطيئة. وعلة البطء في الطبيعية ممانعة المخروق، وفي القسرية والإرادية ممانعة الطبيعة. وبين كل حركتين مستقيمتين كصاعدة وهابطة سكون، وكل حركة مستقيمة قد تنتهي إلى سكون.١٠٥
والآن، ما دلالة هذا الحديث المطوَّل كله عن الحركة؟ هل لها دلالة في الفكر الديني حيث تكشف كيف تحول الفكر الديني إلى فكر مثالي؟١٠٦ هل لها دلالة في الفكر العلمي؛ حيث تكشف كيف استقى المتكلمون والحكماء أبحاثهم من العلماء التجريبيين؟ هل لهذه البحوث كلها أهمية من أجل تأسيس نظرية في المعلوم تصلح لأن تكون مع نظرية العلم مقدماتٍ نظريةً لتأسيس علم أصول الدين؟ وما المطلوب الآن؟ هل يُترك مبحث النسبة على هذا المستوى الطبيعي العلمي من التحليل أم يُرفع من جديد إلى مستوى الفكر المثالي أم يُعاد بناؤه في الشعور كبواعث على الفعل؟ وهل يمكن الانتقال من العلم الطبيعي إلى العلم الاجتماعي والسياسي؟ هل الحركة حركة الأجسام، أعراضًا وجواهر أم حركة المجتمعات شعوبًا وتاريخًا؟ هل يمكن الاستفادة من تقسيمات القدماء لأنواع الحركة وعللها خاصةً العلة الغائية، القصد والاتجاه في التخطيط وتحديد الأهداف وصياغة رؤًى مستقبلية؟ هل يمكن أن تتحوَّل هذه التمرينات العقلية كلها التي تكشف عن الصراع بين المستويات في تحليلٍ بين الإيمان والحكمة والعلم إلى حركاتٍ واقعية بالفعل للشعوب في التاريخ؟١٠٧ هل يمكن الاستفادة من قسمة الحركة إلى يمين ويسار أو إلى خلف وأمام؛ للمساهمة في حركات التغيُّر الاجتماعي، ودفع الأمة نحو مزيد من التقدم، والقضاء على معوقاته، وإنهاء التخلف من جذوره بعد أن استقر الأعلى والأدنى في وجداننا القومي؟ ألا يترك تحليل القدماء للحركة وجدان المحدثين فارغًا بلا مضمون؟ ويكون السؤال: كيف يمكن إدخال المضمون الاجتماعي والسياسي لوجدان المحدثين في تحليل القدماء للحركة في الأكوان عند المتكلمين والأين عند الحكماء؟

(٥) الإضافة

والإضافة آخر قسمة للعرض بعد الكم والكيف والنسبة. ويعني إضافة شيء لشيء آخر مثل أن الأبوة هي المعقولة بالنسبة إلى الغير؛ أي البنوة. وأهميتها لتأصيل الفكر الديني هو أن كثيرًا من الموضوعات الدينية لا تُعقَل إلا بالإضافة. وقياس الغائب على الشاهد بالإضافة. وقد يكون تصوُّر «الله» هو في حقيقة الأمر تصوُّر بالإضافة إلى الإنسان؛ فالإضافة أساس القياس والنسبة، وهو جوهر منطق العلاقة. وخواص المضاف اثنتان: الأولى التكافؤ في الوجود والعدم بحسب الذهن والخارج، والثانية وجود التكافؤ في النسبة وهو الانعكاس. ولا تستقل الإضافة بوجودهما؛ فحصولها يتبع لحوقها بالغير. وتُقسم الإضافة إلى عدة تقسيمات؛ الأولى: التوافق كالجوار والتخالف كالابن والأب. الثانية: الإضافة لصفة واحدة من المضافين مثل العشق، أو لصفة في أمرهما كالعاطفية. والثالثة: أقسام المعادلة مثل الغالب والقاهر والمانع، وفي الفعل والانفعال مثل القطع والكسر، وفي المحاكاة مثل العلم والخبر، وفي الاتحاد مثل المجاورة والمشابهة. والرابعة: المقولات كلها مثل الجوهر في الأب والابن، والكم مثل الصغير والكبير. والخامسة: وجود اسم لها من الطرفين أو من أحدهما أعدم وجوده منهما. والسادسة: وضع اسم لها ولموضوعها يدل عليها بالتضمن. واضح من هذه القسمة أنها قسمة صورية خالصة بالرغم من وجود بعض الأمثلة الشارحة. ومع ذلك فالأمثلة قد تُفرض بذاتها على الممثول؛ فالعشق ليس مثلًا لإضافة من طرف واحد؛ لأنه قد يكون متبادلًا وإلا كان حركة العاشق نحو المعشوق كما هو الحال في علوم الحكمة وفي علوم التصوف، وهو ما استقر في وجداننا القومي حتى الآن في صيغةِ علاقة التبعية بالاستقلال. ويغلب على القسمة الفكر المثالي الخالص دون أثر للفكر الديني أو للفكر العلمي فيه.١٠٨
ولكن الأهم من ذلك كله في الإضافة هو إدخال التقدُّم والتأخُّر من أقسام المضاف؛ فعند الحكماء التقدم والتأخر على خمسة أوجه: الأوَّل بالعلية مثل تقدُّم المضيء على الضوء. والثاني بالذات مثل تقدُّم الواحد على الاثنين. والثالث بالزمان مثل تقدُّم موسى على عيسى. والرابع بالشرف مثل تقدُّم أبي بكر على عمر. والخامس بالرتبة مثل أن يكون أقرب إلى مبدأ معين. والترتيب إمَّا عقلي كما في الأجناس أو وضعي كما في صفوف المسجد. أمَّا عند المتكلمين فهناك تقدُّم كما لأجزاء الزمان بعضها على بعض طبقًا للتصوُّر الآلي لحركة الأجسام. ولما أراد بعض الحكماء الحصر قالوا إن التقدُّم إما أن يكون حقيقيًّا أو اعتباريًّا، والأول يتوقف فيه المتأخر على المتقدم من غير عكس، والثاني لا بد من مبدأ تعتبر إليه النسبة، وذلك إمَّا كمال أو لا. وعند هذا الحدث يتوقف وصفُ القدماء للتقدُّم والتأخُّر دون تدخُّل موضوعات عقائدية أو تاريخية وتبقى صورية منطقية محايدة، خارج المكان والزمان بعد أن وضع الحكيم والمتكلم نفسيهما خارج التاريخ.١٠٩

والأمر بالنسبة لنا يختلف؛ فالتقدُّم والتأخُّر أزْمةُ العصر ووجدانُ الجيل كله، وهدفٌ قوميٌّ يسعى إليه الجميع يخطط له، ويعمل على تحقيقه. ومِنْ ثَمَّ فإننا نحوِّل تصنيف القدماء من المستوى الصوري المنطقي إلى المستوى المادي التاريخي العملي؛ فالتقدُّم بالعلية لا يعني فقط تقدُّم المضيء على الضوء، بل تقدم العلة على المعلول في إمكانيات العمل والمحاربة. والتقدُّم بالذات لا يعني فقط تقدُّم الواحد على الاثنين، بل يعني أولويات التخطيط لصالح الأغلبية. والتقدم بالزمان لا يشير فقط إلى تقدُّم موسى على عيسى، بل يشير إلى مراحل التاريخ وتطور النبوة وقانون التقدم. والتقدُّم بالشرف ليس فقط تقدُّم أبي بكر على عمر كما هو الحال في عقائد القدماء، بل هو التفاضل في النقاء والطهارة والأسبقية للجهاد. والتقدُّم بالرتبة، سواء العقلية أو الوضعية، لا يعني تقدُّمًا في الأجناس أو في ترتيب الصفوف، بل يعني التقدُّم في درجة العلم والفضل والأهلية. إن التقدُّم لا يعني تقدُّم الزمان في حركات الأجسام، بل تقدم التاريخ في حركات الشعوب. وقد يكون تقدُّمًا اعتباريًّا وهو تقدُّم الذهن، التصورات والمناهج، أو حقيقيًّا فهو تقدُّم الواقع والأبنية الاجتماعية. وفي كلتا الحالتين هو تقدم حقيقي وليس وهمًا. ومِنْ ثَمَّ فالتقدم بالذات ليس مجرد تقدم صوري ماهوي، بل بحسب الوجود والتاريخ، تقدم الشعوب والمجتمعات، تقدم الإنتاج وتقدم الخدمات.

ولقد استطاع القدماء في تنبيههم في آخر مباحث الأعراض التنويهَ بفضل التقدم على التأخُّر، وأن الأصل هو المستقبل ثم يصير حاضرًا فماضيًا.١١٠ كما أن للتقدم معنًى زائدًا على التأخُّر، سواء من حيث الذات فهو مقدم عليه، أو من حيث العلة فهو موجد، أو من حيث الزمان من حيث أن له زمانًا أكثرَ، ومن حيث الشرف فهو أكمل، وفي الرتبة من حيث وصوله إلى الغاية أوَّلًا.١١١ يمكن إذن البحث والخوض في أعماق المقدمات النظرية لعلم أصول الدين، والعثور على شروط التقدم وأسس النهضة، بعيدًا عن الأفكار الشائعة عن النظرة إلى الماضي والحنين إليه الذي يمثِّل الفكر الديني كما يبدو في الحركة السلفية. وقد لا يكون فضل التقدم على التأخر بعيدًا عن مقصد الوحي ونصوصه الصريحة.١١٢
١  لا يعني استعمال لفظ «الفينومينولوجيا» هنا أي إشارة إلى المنهج المعروف بهذا الاسم في الحضارة الأوروبية والذي كتبنا فيه رسالتنا الثانية: L’Exégèse de la Phénoménologie بل يعني استعمال اللفظ صوتيًّا بمعنى «ظواهر» كما استعمل القدماء ألفاظ قاطيغورياس، باري أرمنياس، أنالوطيقا … إلخ. وكان يمكن تسميتُها ببساطة «ظواهر الوجود»، ولكننا آثرنا اتساق الأسماء الثلاثة «ميتافيزيقا الوجود»، «فينومينولوجيا الوجود»، «أنطولوجيا الوجود».
٢  التعريف الأوَّل للأشاعرة والثاني للمعتزلة (المواقف، ص٩٦-٩٧).
٣  لم ينكر وجود العَرَض ككل إلا ابن كيسان، إمَّا لحساب الجواهر أو إيثارًا للثبات وتطهرًا من التغيُّر والزوال. ونفى أبو هاشم الجبائي جملةً من الأعراض كالبقاء والإدراك والكدرة والألم والشك (الفرق، ص١٩٦-١٩٧؛ الملل، ج١، ص١١٦؛ الشامل، ص١٧٧–١٧٩). ونفى أبو الحسين البصري كونَ الأكوانِ أعراضًا (الملل، ج١، ص١٢٦). وقد اتُّهم نفاةُ الأعراض بالإلحاد (الإرشاد، ص١٨-١٩). وإنكار البعض للأعراض النسبية قد يكون راجعًا إلى الإلهيات؛ فالله لا شيء معه ولا شيء يدخل في نسبة مع الله (المحصل، ص٥٨–٦٣؛ طوالع الأنوار، ص١٠٠). وقد اختلف الناس في الحركات والسكون والأفعال بين الإثبات والإنكار. لم يُثبِت الأصم إلا الجسم (مقالات، ج٢، ص٣٤، ص٣٧؛ أصول الدين، ص٣٦–٣٨؛ الشامل، ص١٦٨؛ الاقتصاد، ص١٦؛ الفصل، ج٥، ص١٢٨–١٤١، ص١٤٠–١٤٢)، وقد أثبت هشام بن الحكم وجهم الحركة والسكون إلا أنهما اعتبرا الحركات أجسامًا (الفرق، ص١٩٦-١٩٧). وعند ضرار: الألوان والطعوم والأراييح والحرارة والبرودة أبعاضُ الأجسام (مقالات، ج٢، ص١٣٥؛ الفصل، ج٥، ص١٤٠–١٤٢)، وعند هشام بن الحكم: الأعراض صفاتُ الأجسام (مقالات، ج٢، ص٣٤-٣٥، ص٥٢-٥٣). كما اختلف الناس في المعاني؛ فعند معمر: الأعراض معانٍ (الفرق، ص١٥٣-١٥٤؛ الفصل، ج٥، ص١١٨–١٢٠)، وعند الجبائي وأحمد الفراتي: الحركة لا لنفسها ولا لمعنًى (مقالات، ج٢، ص٥٦)، وعند عباد: الأعراض غير الأجسام (مقالات، ج٢، ص٣٧). ويثبت الأعراض بالإضافة إلى أهل السنة هشام وبشر وجعفر بن حرب والإسكافي (الفرق، ص٣٢٨؛ الفصل، ج٥، ص١٣١؛ مقالات، ج٢، ص٣٥-٣٦؛ أصول الدين، ص٣٧؛ التمهيد، ص٤٢–٤٤؛ الشامل، ص١٦٨). ولاستعراض حجج النفي والإثبات انظر: الشامل، ص١٦٨–١٨٦.
٤  هذه القسمة الثنائية الأولى عند الأشاعرة (المواقف، ص٩٦).
٥  هذه القسمة الرباعية الثانية للمعتزلة، والنفسية منها عند الجبائي خاصة (المواقف، ص٩٦).
٦  يرى الرازي أن الكم خاص بالمتصل وحدَه (طوالع الأنوار، ص٧١؛ المحصل، ص٥٧–٦٣).
٧  وبالتالي لا شأن للمقولات التسع بأرسطو أو بفورفوريوس، فلا يذكرهما أحدٌ لا من الحكماء ولا من المتكلمين. ولفظ «العَرَض» قرآني؛ فقد ذُكر ستَّ مراتٍ مفعولًا به بمعنى الزوال: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ (٤: ٩٤)، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ (٨: ٦٧)، لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (٣٤: ٣٣)، وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ (٧: ١٦٩)، لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ (٩: ٤٢)، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا (٧: ١٦٩). والعَرَض هنا بمعنى الدنيا في مقابل الآخرة وهي الجوهر دون استعمال اللفظ الأخير.
٨  يُورِد البغدادي أعراضًا ثلاثين دون تصنيف، وهي: (١) الأكوان. (٢) الألوان. (٣) الحرارة. (٤) البرودة. (٥) الرطوبة. (٦) اليبوسة. (٧) الرائحة. (٨) الطعوم. (٩) الصوت. (١٠) البقاء. (١١) الحياة. (١٢) الموت. (١٣) العلم. (١٤) الجهل. (١٥) النظر. (١٦) الشك. (١٧) السهو. (١٨) القدرة. (١٩) العجز. (٢٠) الإرادة. (٢١) السمع. (٢٢) الصمم. (٢٣) البصر. (٢٤) العمى. (٢٥) الكلام. (٢٦) الخاطر. (٢٧) الألم. (٢٨) اللذة. (٢٩) الفكر. (٣٠) الاعتقاد.
٩  اتبعنا في هذا المصنَّف قسمةً مركَّبة بين قسمة الحكماء وقسمة المتكلمين، أسوةً بالإيجي في «المواقف».
١٠  هذا هو ما يفعله شيطان الطاق والجواليقية (مقالات، ج٢، ص٣٦).
١١  يرفض ابن حزم الفكرة القائلة بأن العَرَض لا يحمل العَرَض (الفصل، ج٥، ص١٨٣-١٨٤؛ الشامل، ص١٩٨–٢٠٤)، انظر أيضًا: المواقف، ص٩٩–١٠١. وجوَّز أبو الهذيل إرادة عرضية تَحدث لا في محل أرادها الباري، وذلك مزايدة على الطبيعة واغترابًا عن العالم، وإثباتًا لإرادة خارجية مشخصة قادرة على كل شيء. وجوَّز الجبائي أن يكون العَرَض الواحد في حالة واحدة موجودًا ومعدومًا (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ص٤٣).
١٢  الذي جوَّز ذلك هو أبو هاشم (المواقف، ص١٠٣-١٠٤؛ المحصل، ص٨٠-٨١؛ طوالع الأنوار، ص٧٤). وينفي أبو الهذيل أن يَحُلَّ عرضان في مكان واحد (مقالات، ج٢، ص١٦-١٧).
١٣  ووافقه في ذلك النظَّام والكعبي من المعتزلة، وقد أطلق النظَّامُ الدليلَ الثالث في الأجسام وجعَلها غير باقية، بل تتجدَّد حالًا بعد حال، وكأن القضاء على الظواهر لا يكفي لإثبات القدرة الخارجية المشخصة، بل لا بد من تدمير الجواهر أيضًا. وقد رفض ابن حزم ذلك، وكان أقرب إلى الحكماء مما يدل على أن الموقف الفقهي ليس بالضرورة أشعريًّا (الفصل، ج٥، ص١٨٢؛ المواقف، ص١٠١–١٠٣)، الأعراض لا تبقى وقتين (مقالات، ج٢. ص٤٤-٤٥؛ أصول الدين، ص٥١-٥٢؛ الشامل، ص٤٧٩-٤٨٠).
١٤  منع الأشعري جواز إعادة الأعراض، وبالتالي يكون الحكماء أقدرَ على إثبات المعاد.
١٥  أجازت الكراميةُ بقاءَ جميع الأعراض على عكس الأشاعرة والمعتزلة (أصول الدين، ص٥٠–٥٢؛ المحصل، ص٧٩-٨٠)، وجوَّز الرازي بقاءَ الأعراض (معالم أصول الدين، ص٢١)، وجوَّز محمد بن شبيب عدم بقاء الحركات والسكون فقط، وجوَّز بشر وأبو هاشم بقاء السكون، وعند أبي الهذيل منها ما يبقى ومنها ما لا يبقى (مقالات، ج١، ص١٧٤-١٧٥).
١٦  اختلفت الأقوال في معنى الفناء والبقاء، وفيما يفنى وما يبقى؛ فعند البعض تفنى بمعنى تقدم (مقالات، ج٢، ص٤٦)، وعند معمر الفناءُ صفةٌ قائمة بغير الفاني (الفصل، ج٥، ص١١٣)، وعند هشام بن الحكم البقاءُ صفةٌ لا هو هو ولا غيره، وكذلك الفناء (مقالات، ج١، ص٥١)، وعند النظَّام والجبائي الباقي يبقى لا ببقاء، والفاني يفنى لا بفناء (مقالات، ج٢، ص٥١)، وعند البعض تبقى الأعراض ببقاء الجسم وتفنى بفنائه (مقالات، ج٢، ص٤٦)، وعند معمر للفاني فناء وللفناء فناء لا إلى غاية. ومُحال أن يُفني «الله» الأشياء كلها (مقالات، ج٢، ص٥١)، وعند البعض الآخر ما جاز أن يفنى جاز أن يبقى وبالتالي لا تفنى (مقالات، ج٢، ص٤٥-٤٦).
١٧  قال محمد بن شبيب بإعادة الحركات. وعند الإسكافي ما يبقى من الأعراض تجوز إعادته (مقالات، ج٢، ص٥٧).
١٨  ترى الأشاعرة (أهل السنة والجماعة) اختلافَ أجناس الأعراض، وكفَّروا النظَّام (الفرق، ص٣٢٩)، أمَّا عند النظَّام فحركات الإنسان وأفعاله من جنس واحد، والحركات هي الأكوان (الشامل، ص٤٧٦-٤٧٧؛ مقالات، ج٢، ص٣٩–٤١؛ الفرق، ص١٣٧–١٣٩)، وأن الحيوان كله جنس واحد لاتفاقه جميعًا في التحرُّك والإرادة، وكذلك الأصوات (الأصول، ص٤٦–٥٠)، وقد اتُّهم النظَّام بالإلحاد؛ لأن ذلك يعني في رأي الأشاعرة أن الكفر من جنس الإيمان، وهو تابع للديانات الأخرى؛ فالحي لا يصير ميِّتًا، والميت لا يصير حيًّا من الديصانية، وعدم وقوع عملين مختلفين من فاعل واحد هو قول الثنوية. وبالتالي يُتَّهم النظَّام بأنه صاحب أفكار «مستوردة»! أمَّا المعتزلة البغداديون فيرون أن الطاعة ليست من جنس المعصية احترازًا من نقد الأشاعرة، وعند النجار وضرار كلام الله إذا قُرئ فهو عَرَض، وإذا كُتب فهو جسم (الفرق، ص٣٢٩).
١٩  مقالات، ج٢، ص٤٧-٤٨؛ الشامل، ص٤٧١–٤٨٥؛ المحصل، ص٩٤-٩٥. ومنع أبو هاشم تعلُّق الإدراك بالأكوان. كما بيَّن النظَّام وعباد بن سليمان استحالةَ رؤية الأعراض. وعند معمر تُرى الأعراض دون الأجسام؟ وأنكر ابن حزم رؤية الحركة (الفصل، ج٥، ص١٣١). وتقول الأشاعرة عند إثبات الرؤية في الله إن مصحح الرؤية هو الوجود والجسم موجود فيكون مرئيًّا (التلخيص، ص٩٥).
٢٠  مثلًا: هل يُوصَف الربُّ بالاقتدار على إحداث ما يخرج من القسمين: الجوهر والعَرَض؟ هل يُوصف الباري بالقدرة على أن يرفع جميع اجتماع الأجسام حتى تكون أجزاء لا تتجزأ؟ هل يُوصف الله بالتَّرك؟ هل يجوز أن يقلب الله الأعراضَ أجسامًا والأجسامَ أعراضًا؟ فالإجابة بالإيجاب تمثِّل الموقف الأوَّل (وهي في الغالب للأشاعرة)، والإجابة بالنفي تمثِّل الإجابة الثانية (وهي في الغالب للمعتزلة والحكماء) (مقالات، ج٢، ص٢١٨-٢١٩؛ ص٥٤-٥٥) (الجبائي وحفص الفرد مع الأشاعرة في السؤال الثالث)، انظر أيضًا الفصل السادس في الصفات، القدرة.
٢١  يصوغ النظَّام الدليلَ كالآتي (الانتصار، ص٤٥–٤٨؛ الإنصاف، ص١٧-١٨؛ ص٣٠–٣٢؛ التمهيد، ص٣٣):
  • (أ)

    وجود الحر والبرد على ما هما من التضاد والتنافر مجتمعين في جسم واحد.

  • (ب)

    لم يجتمعا بأنفسهما إذا كان شأنهما التضاد.

  • (جـ)

    الذي جمعهما هو الذي اخترعهما مجتمعين وقهرهما على خلاف ما في جوهرهما؛ فاجتماعهما على تضادهما يدل على أن الذي جمعهما مخترِع لهما. وقد تصبح هذه النتيجة مقدمة في دليلٍ آخرَ على النحو الآتي:

  • (أ)

    إن ما جرى عليه القهر والمنع ضعيف.

  • (ب)

    حدوثه دليل على أنه حادث.

  • (جـ)

    وكل حادث له محدِث، وكل مخترَع له مخترِع.

٢٢  المواقف، ص١٠٤–١٠٦؛ طوالع الأنوار، ص٧٥-٧٦. وقد يعرض لبعض الأمور وجهان كالحركة وانطباقها على المسافة والزمان. كما قد يعرض الكم المنفصل بالمتصل كقسمة الزمان بالساعات. وقد يكون الشيء كمًّا بالذات وبالعَرَض كالزمان؛ أي إن الأعراض متداخلة، وأن المحل يقبل أكثر من عرض، وأن تعدُّد الأعراض يتوحَّد في جوهر (المواقف، ص١٠٦).
٢٣  المواقف، ص١٠٦-١٠٧.
٢٤  المواقف، ص١٠٧-١٠٨.
٢٥  المواقف، ص١٠٨–١١٢؛ طوالع الأنوار، ص٧٨.
٢٦  واختلف المتكلمون في الوقت إلى ثلاثة مذاهب: الأوَّل أن الوقت عَرَض، لا يُقال ما هو ولا تُعرف حقيقته، وهذا إنكار للإحساس الداخلي بالزمان. والثاني أنه ما توقِّته للشيء، فالأوقات حركات الأفلاك؛ لأن الله وقَّتها للأشياء (الجبائي)، وهذا خلط بين الوقت كشيء والوقت للاستعمال كما هو واضح في القرآن: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (٢: ١٨٩). والثالث فهو الفرق بين الأعمال ومدى ما بين عمل وعمل، يحدث مع كل وقت فعل (أبو الهذيل) وهو رأي علماء أصول الفقه. كما طرح القدماء سؤالين: هل يكون الوقت شيئين؟ هل يجوز وجود أشياء لا في أوقات؟ وهما موجَّهان نحو الوقت الشيئي، فهو خطأ في وضع السؤالين. ومع ذلك فتراوحت الإجابة عليهما بين النفي والإثبات (مقالات، ج٢، ص١١٦-١١٧). وقد ورد لفظ الوقت ومشتقاته خاصةً «ميقات» ١٣ مرة في القرآن يدل على معنى الوقت الآني؛ أي اللحظة والزمان الشعوري الذي ينكِره المتكلمون؛ فكل رسول أتى في وقت: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ (٧٧: ١١–١٣)، والشيطان قد أُمهل: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (١٥: ٣٧-٣٨)، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨: ٨٠-٨١)، ويوم القيامة يحدثٍ في وقت معلوم: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ (٧: ١٨٧)، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (٧٨: ٢٧)، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٤: ٤٠)، ويجتمع الأنبياء مع الله في الوقت: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (٧: ١٤٢)، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (٧: ١٤٣)، وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا (٧: ٢٥٥)، ومع بعضهم البعض في الوقت: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٢٦: ٣٨)، لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٦: ٥٠)، والأهم من ذلك كله الوقت كلحظة للفعل: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (٤: ١٠٣).
٢٧  وذلك طبقًا للحديث المشهور: «لا تَسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر.» وهذا هو السبب في رفض المتكلمين والفقهاء لقِدَم الزمان والمكان (الفصل، ج١، ص٢٠–٢٧)، ورفض قِدَم العالم ووجوب العالم بإيجاب الباري وليس بإيجاد الباري (نهاية الإقدام، ص٢١–٣٠). انظر الفصل الخامس عن الذات، دليل القدم والحدوث.
٢٨  هذا هو مذهب أفلاطون بعد أن عُرف في الحضارة الإسلامية.
٢٩  هذا هو مذهب أرسطو الذي عُرف في الحضارة الإسلامية وتمثَّله الفارابي وابن سينا.
٣٠  رفض ابن حزم الخلاء (الفصل، ج٥، ص١٤٤-١٤٥)، وهو جائز عند الإيجي وعند كثير من الفلاسفة (المحصل، ص٩٥-٩٦؛ التلخيص، ص٩٦). وتجارب العلماء هي السراقات، الزرافات، ارتفاع اللحم في المحجمة بالمص، والماء في الأنبوبة مع ثقله، وأنبوبة مسدودة في قارورة.
٣١  اختلف المتكلمون في المكان؛ فهو عند البعض مكانُ الشيء، ما يقله ويعتمد عليه ويكون الشيء متمكنًا فيه. وعند البعض الآخر ما يماسه، فإذا تماسَّ الشيئان فكلُّ واحد منهما لصاحبه، وعند فريق ثالث هو ما يمنعه من الهوى معتمدًا كان عليه الشيء أو غير معتمد. ويرى آخرون أنه الجو؛ لأن الأشياء كلها فيه، بينما يجعله آخرون ما يتناهى إليه الشيء (مقالات، ج٢، ص١١٥-١١٦).
٣٢  في المواقف، الكم، ص١٠٤–١٢٠ (١٦ص)؛ الكيف، ص١٢٠–١٦١ (٤١ص)؛ النسبة، ص١٦١–١٧٧ (١٦ص)؛ الإضافة، ص١٧٧–١٨١ (٥ص). انظر أيضًا نفس النسبة تقريبًا في المحصل، ص٦٣–١٧٨، ص٩٩–١٠١؛ النسفي، ص٤٢–٤٨؛ معالم أصول الدين، ص١٥-١٦. وتشمل الكيفيات في المواقف نصف مبحث الأعراض، وتقع في أكبر المراصد، وهو المرصد الثالث الذي يمثل حجمه ضعف كل مرصد من المراصد الأربعة الأخرى التي تكون الموقف الثالث عن «الأعراض». انظر أيضًا: المواقف، ص١٢٠-١٢١؛ طوالع الأنوار، ص٨٥–٩٢.
٣٣  يتضح ذلك أيضًا في المواقف، فالكيفيات المحسوسة، ص١٢٢–١٣٩ (١٧ص)، والنفسانية، ص٣٩–٦٠ (٢١ص)، والمختصة بالكميات، ص١٦٠-١٦١ (٢ص)، والاستعدادية، ص١٦١ (ثلاثة أسطر).
٣٤  ويتضح ذلك في عديد من الآيات القرآنية مثل: إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٢٢: ٤٦)؛ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً (٤٥: ٢٣)؛ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا (٧: ١٧٩)؛ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا (٢٢: ٤٦)؛ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٤٧: ٢٤)؛ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ (٤: ١٥٥)؛ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (٢: ٧)؛ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا (٦: ٢٥)؛ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٧: ١٠٠)؛ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٩: ٨٧).
٣٥  المواقف، ص١٢٢؛ أصول الدين، ص٤٤.
٣٦  في «المواقف» مثلًا الملموسات، ص١٢٢–١٣١ (٩ص)؛ المبصرات، ص١٣١–١٣٥ (٤ص)؛ المسموعات، ص١٣٥–١٣٨ (٣ص)؛ المذوقات، ص١٣٨-١٣٩ (صفحة واحدة)؛ المشمومات، ص١٣٩ (ثلاثة أسطر)!
٣٧  اختلفت الآراء في الحواس. فبينما تجعل «المنانية» الإنسان هو الحواس الخمس، وأنها أجسام وأنه لا شيء غير الحواس؛ لأن الأشياء اثنان: نور وظلمة؛ النور خمس حواس، والظلام خمس حواس، وبينما تجعل «الديصانية» الظلام موتًا وجهلًا، وأن النور حاس، النور بياض والظلام سواد، وبينما تجعل «المرقونية» البدن به روح وحواس خمس، والروح غير الحواس والبدن؛ أنكر كثير الحواس كرد فعل على هذه الآراء التي تجعل الحواس «آلهة» وهم نفاة الأعراض. فليس هناك إلا السميع البصير الذائق الشام اللامس أي ذوات بلا موضوعات. في حين جعل أبو الهذيل ومعمر الحواس أعراضًا غير البدن، وللنفس عَرَض غيرها وغير البدن. وعند النظَّام تُدرك المحسوسات من هذه الخروق. أمَّا عباد بن سليمان فإنه جعل الحواس ستًّا؛ فالفرج حاسة سادسة.
٣٨  فأجاب البعض بالإيجاب تأييدًا للفكر الديني مثل جمهور الأشعرية وضرار، وحفص، وسليمان بن سمعان. وأجاب البعض الآخر بالنفي دفاعًا عن الفكر العلمي كما هو الحال عند أكثرِ أهل الكلام من المعتزلة والخوارج وكثير من الشِّيع والمرجئة. وقد دفع ذلك فريقًا ثالثًا إلى حلٍّ وسط، وهو أن «الله» قادر على أن يقدِر عباده على خلق الأجسام (مقالات، ج٢، ص٣٠–٣٣).
٣٩  أجاب الجاحظ بأن الحواس كلها جنس واحد، في حين يرى الجبائي مع كثير من المعتزلة أن الحواس أجناسٌ مختلفة. أمَّا أبو الهذيل فيكتفي بالقول بأن كل حاسة خلاف الأخرى.
٤٠  اختلف المتكلمون فيما يقع بالحواس؛ فعند صالح قبة: الحواسُّ فعْلُ «الله» يبتدئه ابتداءً. وعند محمد بن جربي الصيرفي أنَّ فعْلَ الحواسِّ «لله» طبيعةٌ يُحدِثها في الحواس. وعند النظَّام فعْلٌ «لله» بإيجاب خلقه الحواس. وعند آخرين فعلٌ اللهُ يخترعه وليس للإنسان فيه شيء. في حين يرى ضرار أن فعْلَ الحواس كسبٌ للعبد خُلق لله. ويرى آخرون أن الإدراك يكون سواء من الحواس أو من «الله» أو من غيرهما. وعند بعض البغداديين أنها فعل للعبد دون الله. أمَّا معمر فيرى أنها من فعل الطباع (مقالات، ج١، ص٦٤–٦٨).
٤١  اختلف القائلون إن الإنسان قد يفعل الإدراك مختارًا له في سبب الإدراك؛ فعند البعض أنَّ سبب الإدراك متقدم له وهو الإرادة. وعند البعض الآخر أنه فتْح الجفن. وعند فريق ثالث اعتماد الجفن. وعند النظَّام يدرك المدرك للشيء، ببصره بالمداخلة، بينما ينفي ذلك البعض الآخر (مقالات، ج٢، ص٦٥).
٤٢  اختلف المتكلمون في الإدراك، هل يكون فعلًا للشيء الذي أدركه المدرك بين الإثبات والنفي. كما تساءلوا: هل يجوز خلقُ العلم بالألوان في قلب الأعمى؟ واختلفت الإجابة أيضًا بين الإثبات والنفي. كما اختلفوا في الذي يراه الرائي في المرآة. فأجاب صالح بأنه إنسان مثله اخترعه الله في المرآة، بينما رأى آخرون أنه إنسان بانعكاس الشعاع (مقالات، ج٢، ص١٠٧-١٠٨).
٤٣  عند النظَّام لا يُعلم القديم بعلم واحد بل بعلوم كثيرة. وعند آخرين لا يعرف الله مَن يجهل أنه يعرف الأشياء (الفكر العلمي)، بينما عند آخرين قد يَعرف الله مَن لا يعرف أنه أحدث شيئًا (الفكر الديني) (مقالات، ج٢، ص٧٢–٧٥).
٤٤  المواقف، ص١٢٢–١٢٥.
٤٥  في نفس الوقت أُلغيَ فيه هذا الفصل من المقررات حسب منهج ١٩٣٦م لقانون رقم ٢٦ لبُعد هذا الفكر العلمي عن الفكر الديني التقليدي؛ أي الإلهيات، وكأن الطبيعيات لا شأن لها بها؛ أخذ الغرب بهذا الجانب وطوَّره تجريبيًّا. والسؤال الآن: هل أزمة المنهج التجريبي في الغرب وأزمة العلوم التجريبية ناشئة عن الفصل بين هذين الجانبين؟
٤٦  نفى الاعتماد أبو إسحق، وأثبته المعتزلة والقاضي بالضرورة الحسية، ثم اختلفت المعتزلة في الاعتمادات بعد اتفاقهم على قسمتها إلى لازم وهو النقل والخفة ومجتلب وهو ما عداهما. واختلفوا حول وجود التضاد فيها، فأثبته الجبائي ونفى بقاءها، وأثبته ابنه في المجتلبة دون اللازمة (المواقف، ص١٢٥–١٣١؛ الشامل، ص٤٩٣–٥٠٢؛ مقالات، ج٢، ص٩٥).
٤٧  وهذه أقوال ابن سينا خاصة.
٤٨  هذا هو موقف الأشاعرة.
٤٩  «الأرض غبراء، وفيها حمراء وبيضاء وصفراء وخضراء وسوداء.» والماء أبيض إذا صُبَّ في الهواء أو إذا جُمِّد ثلجًا بان البياض. النار لا لون لها، والهواء لا لون له (الفصل. ج٥، ص٢٠٦–٢١١). البياض لون يفرِّق البصر والسواد يجمع البصر (الفصل، ج٥، ص٢٠٧–٢٠٩). وقد أجمع جميع المتقدمين بعد التحقيق بالبرهان على أنه لا يرى إلا الألوان، وأن كلَّ ما يرى فليس إلا لونًا واحدًا. والسؤال: هل الأصل في الألوان واحد أم اثنان أم خمسة أم سبعة، وهي ألوان الطيف؟
٥٠  عند الديصانية اللون هو الطعم والرائحة والصوت والجو. وكذلك قولهم في السمع والبصر والذائق والشام (مقالات، ج٢، ص٣٨).
٥١  ويرفض الأشاعرة ذلك.
٥٢  ويستشهدون بآية: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا.
٥٣  المواقف، ص١٣١–١٣٥؛ أصول الدين، ص٤١.
٥٤  عند النظَّام ينتقل الصوت في الجو فيصل إلى السمع، بينما لم يجوِّز عليه آخرون الانتقال؛ إذ يسمع الصوت ألف إنسان. وعند فريق ثالث لا يسمع الصوت إذا كان بعيدًا عن سمْع الإنسان (مقالات، ج٢، ص٩٩-١٠٠).
٥٥  جوَّز البعض بقاء الصوت دون ما مراعاة لتفرُّد «الله» بصفة البقاء، بينما منعه آخرون. وقد اعتبر النظَّام الصوت جسمًا، واعتبره آخرون عَرَضًا، وعند فريق ثالث لا جوهر ولا عَرَض، وعند فريق رابع أنه لا صوت في الدنيا. وقد منع البعض ألا يكون هناك صوت إلا بصوتٍ إيثارًا لقانون العلة والمعلول، بينما جوَّزه آخرون إيثارًا للقدرة «الإلهية» (مقالات، ج٢، ص١٠١). انظر في الموضوع كله: المواقف، ص١٣–١٣٧؛ أصول الدين، ص٤٢؛ المحصل، ص٧٧-٧٨.
٥٦  المواقف، ص١٣٧-١٣٨.
٥٧  عند أبي الهذيل قد يبقى كلام العباد (مقالات، ج٢، ص١٠٦؛ ص٢٤٩-٢٥٠).
٥٨  قال البعض إن الكلام حروف. وعند ابن كلاب هو معنًى قائم بالنفس. وعند بعض الأوائل إخراج ما في الضمير بالنطق. وعند المعتزلة حروف، وكذا كلام «الله»، وعند النظَّام كلام الله صوت قطع بالحروف (مقالات، ج٢، ص٢٤٧). وعند البعض أقلُّ الكلام حرفان، وعند الجبائي حرف واحد (مقالات، ج٢، ص٢٤٨). وفي تحديد كلام الإنسان هل هو صوت وهل الصوت جسم أم عَرَض، اعتبره البعض صوت عَرَض، مسموع مكتوب محفوظ، بينما اعتبره البعض الآخر ليس بصوتٍ وعَرَض ولا يوجب إلا باللسان. وعند النظَّام هو جسم لطيف، وكلام الإنسان تقطيع الصوت وعَرَض. وعند فريق رابع هو معنًى قائمٌ بالنفس لا يحل في اللسان، وهو عَرَض في صوت (مقالات، ج٢، ص٩٩). وإذا نطقت جماعة بكلمة، كل فرد بحرف، فعند الجبائي كل حرف كلمة، بينما يمنع ذلك أحمد بن علي الشطوي (مقالات، ج٢، ص١٠١).
٥٩  المواقف، ص١٣٧-١٣٨.
٦٠  المواقف، ص١٣٨-١٣٩.
٦١  المواقف، ص١٣٩. أصول الدين، ص٤٢.
٦٢  المواقف، ص١٣٩؛ طوالع الأنوار، ص٩٢–١٠٠.
٦٣  الحياة، ص١٣٩-١٤٠ (٢ص)؛ العلم، ص١٤٠–١٤٨ (٨ص)؛ الإرادة، ص١٤٨–١٥٠ (٢ص)؛ القدرة، ص١٥٠–١٥٨ (٨ص)؛ باقي الكيفيات، ص١٥٨–١٦١ (٣ص).
٦٤  انظر الفصل الثالث: نظرية العلم.
٦٥  يعتمد القدماء على آية: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ.
٦٦  المواقف، ص١٣٩-١٤٠؛ أصول الدين، ص٤٢–٤٤.
٦٧  الإجابة الأولى مذهب بعض الأشاعرة، والثانية إجابة الأشعري وكثير من المعتزلة.
٦٨  الرأي الأوَّل لأبي الحسن الباهلي، والثاني للقاضي وإمام الحرمين. والخلاف متفرع من تفسير العلم عند الرازي.
٦٩  مثلان عند الأشاعرة، إن اتحد المعلوم ووقته عند الآمدي.
٧٠  الإثبات أبو هاشم، والنفي عند الرازي، ولا يسميه الآمدي معلومًا.
٧١  المحصل، ص٦٨–٧٢. وانظر سابقًا: الفصل الثالث: نظرية العلم.
٧٢  عند القاضي المعلوم غير المجهول ضرورة.
٧٣  جوَّز القاضي والمعتزلة إثبات العلم الإجمالي لله، ومنعه كثير من الأشاعرة وأبو هاشم.
٧٤  المواقف، ص١٤٠–١٤٥.
٧٥  هذا هو رأي القاضي وإمام الحرمين.
٧٦  «والمتكلمون محتاجون إلى القدح في هذا الاحتمال؛ ليمكنهم بيانُ أنه تعالى سميع بصير» (المحصل، ص٧٦–٧٧).
٧٧  مثل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا.
٧٨  العقل هو العلم ببعض الضروريات عند الأشعري؛ أي العقل بالمَلَكة وليس العلم بالنظريات؛ لأنه مشروط بكمال العقل. وعند الرازي غريزة يتبعها العالم بالضروريات عند سلامة الآلات؛ فالنائم لم يزل عقله وإن لم يكن عالمًا.
٧٩  المواقف، ص١٤٥–١٤٨؛ طوالع الأنوار، ص٩٧؛ أصول الدين، ص٤٥.
٨٠  في التراث الغربي استعمل «بيوريدان» (من فلاسفة القرن الرابع عشر) نفس الأمثلة لبيان استحالة حرية استواء الطرفين بلا مرجح. ولكننا لا نحيل إلى هذا التراث نظرًا لأنه موضوع القسم الثاني من «التراث والتجديد»، وهو «موقفنا من التراث الغربي».
٨١  هذا هو موقف القاضي وأبي عبد الله البصري (المواقف، ص١٤٨–١٥٠؛ المحصل، ص٧٤-٧٥).
٨٢  هذا هو موقف النظَّام.
٨٣  يأتي الفعل من البعض دون البعض عند الهمداني من المعتزلة، والعلم بصحة الشخص عند الجبائي.
٨٤  العجز عند أبي هاشم هو عدم المقدرة، وعند الأصم من حيث نفيه للأعراض. والاجتماعُ يمنع التحريكَ عند الجبائي وهو فرع أن المعدوم مقدور مع أنه قد يجوِّز الاجتماعُ التحريكَ أكثرَ مما تجوِّزه القدرة الواحدة كما هو الحال في العمل الجماعي.
٨٥  ومنعه من الأشاعرة الأستاذ والأسفرايني.
٨٦  جوَّزه أبو هاشم وأتباعه مطلقًا، وجوَّزه الجبائي عند المانع.
٨٧  جوَّزه أبو الحسين البصري مطلقًا.
٨٨  هو القول المشهور لجهم بن صفوان.
٨٩  هذا هو رأي أبي هاشم الجبائي.
٩٠  القدرة مع الفعل عند الرازي.
٩١  القدرة على أفعال القلوب معها وعلى أفعال الجوارح قبلها عند العلاف؛ أي إن أفعال الشعور الداخلية تصاحبها القدرة معها لا قبلها. هذا في أفعال الشعور المباشرة الحدسية وليست الإرادية التي تتبع الإرادة والعزم والتصميم.
٩٢  الفاعل في الحالة الأولى يفعل، وفي الثانية فعل عند الجبائي، وسيفعل في الأولى، والثانية يفعل عند ابنه، ويفعل مطلقًا عند ابن المعتمر.
٩٣  انظر الموضوع كله في المواقف، ص١٥٠–١٥٧؛ المحصل، ص٧٢–٧٤؛ أصول الدين، ص٤٤–٤٦.
٩٤  المواقف، ص١٥٧؛ المحصل، ص٧٥.
٩٥  هو ابن زكريا الرازي الطبيب.
٩٦  المواقف، ص١٥٨–١٦٠؛ أصول الدين، ص٤٥. والمباحث كلها ابتداءً من هنا حتى آخر مبحث الجواهر أصبحت بلا دلالة عند المحدثين دون تطوير لهذا الموقف الذي لا يظهر إلا في حذف هذه الأجزاء من المقرر حسب منهج ٩٣٦ لقانون رقم ١٣٦. المواقف، ص١٥٦.
٩٧  المواقف، ص١٦٠-١٦١؛ طوالع الأنوار، ص١٠٠.
٩٨  المواقف، ص١٦١؛ طوالع الأنوار، ص١٠٠.
٩٩  في المواقف، الأكوان، ص١٦١–١٦٧ (٦ص)، والأين، ص١٦٧–١٧٧ (١٠ص).
١٠٠  أثبتها ضرار بن عمرو والتزم التسلسل؛ ومِنْ ثَمَّ أثبت أعراضًا غير متناهية. وقد اختلف المعتزلة بناءً على أصولهم (المواقف، ص١٦٦-١٦٧). ولهم شبه في أن الكون غير الحركة والسكون والاجتماع والافتراق (الشامل، ص٤٣٣–٤٣٩). وعند أكثر أهل النظر أن الحركة غير السكون (مقالات، ج٢، ص٢٢؛ الشامل، ص٤٤٤–٤٤٧). وإذا كان الجبائي يرى أن الحركة والسكون أكوان (مقالات، ج٢، ص٢٠–٢٢، ص٤١) في حالة خلق «الله» الكون ساكنًا (الشامل، ص٤٨٥-٤٨٦)، فعند أبي الهذيل الحركاتُ والسكون غير الأكوان والمماسات (الشامل، ص٤٢٩–٤٣١). الحركة والسكون مدركات بالبصر واللمس والتأليف ملموس ومبصَر عند الجبائي، وهو مختلف لديه باختلاف الأشكال وقد يقع مباشرًا. وقد يتولَّد التأليف من مجاورة الرَّطْب لليابس دون أن يكونا شرطين له عند أكثر المعتزلة. وإذا كان هناك اتفاق على بقاء الأعراض عند المعتزلة، فإن الاختلاف في بقاء الحركة. نفاها الجبائي وأكثر المعتزلة. وأثبت أبو هاشم وأكثر المعتزلة بقاء السكون واستثنى الجبائي صورتين (المواقف، ص١٦٦-١٦٧؛ أصول الدين، ص٤٠-٤١؛ طوالع الأنوار، ص١٠١؛ الدر النضيد، ص١٤٠).
١٠١  منعه الرازي لوقوع الدور، ومنعه الإيجي لأن الحصول في الحيز المخصوص من خلق الله.
١٠٢  عند الأشعري والمعتزلة المجاورة غيرُ الكون. وعند الأشعري وحدَه المجاورة واحدة في حين يتعدَّد التأليف والمماسة. وعند المعتزلة المجاورةُ بين الرَّطب واليابس تأليف. وفي رأي الأستاذ المماسةُ نفس المجاورة ومتعددتان ضرورة. وعند القاضي لا يتغير الكون إذا تعرَّض لمماسات ومجاورات (مقالات، ج٢، ص٤١؛ المواقف، ص١٦٢–١٦٧؛ الشامل، ص٤٢٧، ص٤٢٩–٤٤٧).
١٠٣  مثلًا عندما يُقال إن التَّرك معنًى لأن كلَّ مَن دون «الله» تَرْك، وبالتالي يخطئ مَن يجعل التَّرك لا معنى (الفصل، ج٥، ص١٢٨-١٢٩). كما يبدو أن الدافع لإنكار الأعراض راجع إلى أن «الله» لا شيء معه ولا شيء يدخل في نسبة معه (المحصل، ص٥٨–٦٨؛ طوالع الأنوار، ص١٠٠). وقد يُستعمل الفكر العلمي لفهم موضوعات الفكر الديني؛ فعند أبي علي الجبائي وابنه أبو هاشم أن «الله» إذا أراد أن يفني العالم خلق عرضًا لا في محل أفنى به الأجسام والجواهر، ولا يصح في قدرة «الله» أن يفني بعض الجواهر مع بقاء بعضها وقد خلقها تفاريق ولا يقدر على إفنائها تفارق (الفرق، ص١٨٤؛ الشامل، ص١٦١-١٦٢).
١٠٤  هذه هي نظرية النظَّام المشهورة، والتي يؤيدها ابن حزم في الحياة وليس في الجماد (الفصل، ج٥. ص١٣٤–١٣٨). وقد أيَّدها الإسكافي أيضًا في الجماد؛ فالنار كامنة في الحطب، ونفاها الأصم وأبو الهذيل والسكاك (مقالات، ج٢، ص٢٣-٢٤؛ الفرق، ص١٣١، ص١٤٢، ص١٩٨؛ الملل والنحل، ج١، ص٨٣-٨٤؛ الانتصار، ص١٣٢؛ الفصل، ج٥، ص١٢٧-١٢٨؛ الشامل، ص٤٣٤–٤٣٦؛ مقالات، ج١، ص١٢٦، ص١٨-١٩).
١٠٥  هذا رأي بعض الحكماء، والجبائي من المعتزلة (المواقف، ص١٦٧–١٧٧).
١٠٦  يضرِب ابن حزم المثلَ بالحركات الاختيارية «فعل النفوس الحية من الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان كله»! يضع الإنسان مع الملائكة والحيوان كما يضعه مع الجن! والملائكة في هذه اللحظة من تأسيس العلم تخرج عن مباحث الأعراض، ولا يمكن تأصيلها بالعقل، وكذلك الجن. أمَّا الحيوان فليس له حركة إرادية واعية مقصودة، وتختلف حركته نوعًا وكيفًا عن الحركة الإرادية الإنسانية (الفصل، ج٥، ص١٣١-١٣٢).
١٠٧  مثلًا هل الأجسام كلها متحركة أو ساكنة؟ عند معمر الأجسامُ كلُّها ساكنة على الحقيقة (مقالات، ج٢، ص١٩–٢١). ويجوِّز أبو الهذيل والنظَّام تحرُّكَ الجسم لا عن شيء ولا إلى شيء (مقالات، ج٢، ص١٩، ص١٠٥). والأجسام بأثرها متماثلة خلافًا للنظَّام (المحصل، ص٩٢-٩٣؛ الشامل، ص٤٥١–٤٥٣). ويستحيل اجتماع الضدين عند الأشاعرة (الشامل، ص٤٥٠). هذه كلها أمثلة صورية خالصة امتدت إلى المستوى الإنساني عند النظَّام عندما اعتبر أفعالَ العباد كلها حركات فحسب (الملل، ج١، ص٨٢؛ مقالات، ج٢، ص٣٦، ص٤١-٤٢؛ الفرق، ص١٥٨-١٥٩؛ الفصل، ١٢٨–١٣٠؛ الشامل، ص٤٥٣–٤٥٥).
١٠٨  المواقف، ص١٧٧–١٨١؛ طوالع الأنوار، ص١٠٧-١٠٨.
١٠٩  المواقف، ص١٨٠-١٨١.
١١٠  «الماضي مقوم على المستقبل عند الجمهور نظرًا لذاتيهما. ومنهم مَن عكس الأمر نظرًا إلى عارضيهما، فإن كان زمانٌ يكون أوَّلًا مستقبلًا ثم يصير حالًا ثم يصير ماضيًا؛ فكونه مستقبلًا يَعرِض له قبل كونه ماضيًا» (المواقف، ص١٨١).
١١١  «جميع أنواع التقدُّم مشترك في معنًى واحد، وهو أن للمتقدم أمرًا زائدًا ليس للمتأخر؛ ففي الذاتي كونه مقدَّمًا، وفي العلي كونه موجودًا، وفي الزماني كونه مضى له زمان أكثر لم يمضِ للمتأخر، وفي الشرف زيادة كمال، وفي الرتبي وصل إليه من المبدأ أوَّلًا» (المواقف، ص١٨١). ولغويًّا قد يكون «القدم» و«التقدم» من نفس اللفظ «قدم». فالقدم يعني التقدم وليس التأخر، وتعني قدَّم أعطى إلى الأمام وليس ذهب إلى الخلف.
١١٢  ذلك واضح في القرآن القديم من آيات: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٤٤: ٣٧)، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ (١٥: ٢٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤