رابعًا: أنطولوجيا الوجود (الجواهر)

ومبحث الجواهر هو المبحث الثالث في نظرية الوجود بعد «ميتافيزيقا الوجود» أو الأمور العامة و«فينومينولوجيا الوجود» أو الأعراض.١ وكأن مسار نظرية الوجود وهو الانتقال من المبادئ الميتافيزيقية العامة التي يتحد فيها الفكر بالوجود إلى ظواهر الأشياء كما تبدو للإنسان ثم إلى الأشياء ذاتها، وكأن الإنسانَ وجودٌ بين عالمين، عالم المبادئ العامة وعالم الأجسام المادية. ومع أن الجواهر عند المتكلمين هي الأجسام؛ الأجسام المادية الملموسة المرئية المحسوسة، وعند الحكماء الجواهر المفارقة؛ ففي كلتا الحالتين يكون الإنسان بين عالمَين.
ويشمل مبحث الجواهر مباحثَ أربعة: الجسم، وعوارض الأجسام، والنفس، والعقل. وأشملها الجسم الذي يطغى على ثلاثة أرباع المبحث، بل إن عوارض الأجسام ذاتها أشمل من النفس والعقل.٢ وأهم ما في الجسم هي قسمته وليس حقيقته أو أعراضه؛ فهي تشمل أكثرَ من نصف المبحث مما يدل على أن منهج الكلام يقوم أساسًا على القسمة العقلية أكثرَ مما يقوم على التعريف أو التحليل.٣
وتدخل مقولة الجسم مع الجوهر والعرض في قسمةٍ ثلاثية للمحدث الذي ينقسم إلى جسم وجوهر وعرض؛ فالجسم هو المؤلَّف المركَّب من جوهر وعرض، والجوهر الذي له حيز، والحيز هو المكان، والعرض الذي يعرض في الجوهر. الجسم إذن هو القابل للعرض، وهو الجوهر، وهو «الجزء الذي لا يتجزأ كجسم وجوهر.»٤ ويُطلق الجسم عند الحكماء بالاشتراك على معنيين: الأوَّل الجسم الطبيعي، وهو موضوع العلم الطبيعي، وهو جوهر له أبعاد ثلاثة متقاطعة على زاوية قائمة. والثاني الجسم التعليمي موضوع العلوم التعليمية؛ أي الرياضية، ورفضوا تصوُّر المعتزلة بأنه الطويل العريض العميق. قد يكون هو القائم بنفسه الذي لا يتجزأ أو هو الوجود الذي يعني الجسم بلا تعيُّن أو تحيُّز أو هو الشيء.٥ وهي كلها تعريفات تجعل الجسم مجسَّمًا في أغلب الأحوال، وأقرب إلى المشاهدة الحسية والبداهة العقلية، سواء في العلم الطبيعي أم في العلم الرياضي أم في العلم الإنساني. ليس الجسم مجموعة أعراض مجتمعة، بل لا بد من جوهر؛ فالعلاقة بينهما ليست علاقة حامل بمحمول. ليس الجسم مجرد صفاته، بل هو المتحيز أو المحل القابل للحال. واعتبار الجسم مجرد صفات إنكار لقوام الشيء.٦ واعتبار الأجزاء هي الأعراض كاللون والطعم والحر والبرد والخشونة واللين خلطٌ بين الصفات الأولى والثانية. فالصفات الأولى هي ما يحدِّد «الجزء الذي لا يتجزأ» كالوجود والثقل والطول والعرض والعمق. أمَّا الصفات الثانية فهي التي تظهر من خلال الحواس الخمس، وهي الأعراض لا الأجزاء. وقد يكون الجسم هو المماسة من إحدى الجهات. وهذا تحديد للجسم من الخارج، وقد تكون المماسة من أسفل حتى يمكن للجسم أن يرتكز على آخر. وقد تكون من جهاتٍ أخرى حتى يكون القديم مُحاطًا بالأجسام. ويبدو أن الذي يحدِّد التصوُّر الطبيعي للجسم هنا هو التصوُّر «الإلهي».٧ والمماسة بعد المجاورة وقبل التأليف، والمباينة ضد المجاورة. خلاصة القول أن الجسم عند المعتزلة والفلاسفة هو الطويل العريض العميق، ذي الأبعاد الثلاثة. وعند الأشاعرة هو المتحيز القابل للقسمة ولو في جهة واحدة. وعند كليهما الجسم مؤلف أو متألف ومنقسم إلى جهاتٍ ثلاثة، أو مؤلف من أربعة أجزاء أو ستة أو ثمانية أو ستة وثلاثين جزءًا أو من عدد غير محدَّد من الأجزاء.٨ فإذا ما تحدَّد الجسم بالأبعاد الثلاثة، فإنه يكون قابلًا للقسمة كما يقول الحكماء إلى ما لا نهاية، وليس له أجزاء يتوقف عليه.٩ أو يكون هو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، وينقسم إلى أجزاء صغار لا تنقسم أصلًا أو لا تنقسم فعلًا غير متناهية، وهو الجوهر الفرد الذي ينكره الحكماء.
ينقسم الجوهر عند الحكماء إلى خمسة جواهر: صورة إن كان حالًا، وهَيُولَى إن كان محلًّا، وجسمًا إن كان مركَّبًا منهما، وإن كان لا حالًا ولا محلًّا فإنه يكون نفسًا إن تعلق بالجسم تعلق التدبير، وعقلًا إن لم يكن كذلك. يمكن فهم نفس القسمة بأنه إذا كان الجوهر له أبعاد ثلاثة فهو جسم، وإن كان جزؤه به بالفعل فصورة وإلا فمادة. وإن لم يكن جزءًا وكان متصرفًا فيه فنفس وإلا فعقل. هنا تبدو القسمة وكأن غايتها الانتقال من الوجود الحسي المركَّب من مادة وصورة إلى الوجود العقلي البسيط مثل النفس والعقل، في حين أنه عند المتكلمين لا جوهر إلا المتحيز. قد يقبل القسمة وهو الجسم وقد لا يقبلها وهو الجوهر الفرد. فالجسم البسيط يقبل القسمة. وبالتالي فهناك أربعة احتمالات: الأوَّل أن الأجزاء موجودة بالفعل ومتناهية. والثاني أن الأجزاء موجودة بالفعل وغير متناهية. والثالث أن الأجزاء موجودة بالقوة ومتناهية. والرابع أن الأجزاء موجودة بالقوة وغير متناهية.١٠ ولذلك كانت الأجزاء المفردة في العالم نوعين: الأوَّل مفرد في ذاته ينتفي الانقسام عنه. والثاني مفرد في الجنس دون الذات. وهو بدوره نوعان: الأوَّل جوهر واحد وهو الجزء الذي لا يتجزأ، وكل جسم من أجسام العالم ينتهي إلى جزء لا يتجزأ. الثاني كل عرض في نفسه، فإن كل شيء واحد مفتقر إلى محل واحد.١١

(١) الجوهر الفرد

والجوهر الفرد لا شكل له.١٢ ولا يشبه شكلًا من الأشكال، لا طول له ولا عرض ولا عمق، لا يماس ولا يجاور ولا يلاصق، ومع ذلك قابل لجميع الأعراض إلا التركيب لأنه جزء لا يتجزأ. وقد يبدو ذلك متناقضًا لأن الأعراض لا يمكن حملها إلا على جسم. الحركة والسكون أعراض لا تحل إلا في محل. ولماذا تجوز عليه الحركة والسكون واللون والمماسة والطعم والرائحة ولا تجوز عليه باقي الأعراض مثل الطول والتأليف أو العلم والقدرة والحياة؟ لماذا تجوز عليه الأعراض الأولى إذا كان منفردًا ولا تجوز عليه الأعراض الثانية إذا كان منفردًا؟ والإنسان جزء لا يتجزأ ويجوز عليه الطول والعلم والقدرة والحياة.١٣ وقد قيل إن له خطًّا من المساحة، أو هو نقطة على خط. والأشكال الهندسية تعبِّر عن درجةٍ أعظمَ من التعظيم والإجلال، الدائرة أو المربع أو المثلث. فالأشكال الهندسية تعبِّر عن معانٍ إنسانية، وما هي إلا رموز لأشياء أخرى هي حقائق مستقلة. الخط هو اللامتناهي، والمثلث هي الدولة التي ترتبط بمركزٍ أعلى واحد أو العالم الذي في قمته «الله»، والمربع هو التناهي المحدَّد الواضح. أمَّا الدائرة فإشكالها أنها تعبِّر عن التناهي لأنها محددة في المساحة، وعن اللاتناهي لأنها تدور إلى ما لا نهاية، ولأن محيطها متصل إلى ما لا نهاية؛ ومِنْ ثَمَّ كانت أفضل شكل هندسي للتعبير عن قِدَم العالم.١٤ وهو حادث لأن المادة حادثة لا قديمة، ومتناهٍ لأن التناهي من طبيعة الحادث. وأجمعوا أنه إذا انضم جزء لا يتجزأ إلى آخَر حدث طول وإلا كيف تكونت الأجسام؟ وهنا تتراوح التصورات له بين التصورات الميتافيزيقية الخالصة، والتصورات المادية. والسؤال الآن: هل له وجود حقيقة، سواء كان وجودًا ميتافيزيقيًّا رياضيًّا في الأذهان أم وجودًا حسيًّا في الأعيان، أم إنه من صنْع الوهم ليخدم غاية دينية معينة؟ هل هو تحليل علمي للأجسام الطبيعية أم إنه محاولة لإرساء مقدمات لإثبات وجود «الله» كما سيبدو ذلك في إثبات الصانع في موضع الذات؟
لذلك اختلف فيه المتكلمون والفلاسفة بين الإثبات والنفي، يثبته المتكلمون وينفيه الحكماء وكأنهما هذه المرة يتبادلان الأدوار، فيُثبِت المتكلمون شيئًا من صنْع الوهم لا وجود له إلا في الأذهان، وهم الذين لا يثبتون شيئًا إلا في الحس، بينما ينفيه الحكماء، وهم الذين يُثبِتون المعاني في الذهن متجاوزين للحس. ويتبع المتكلمون في ذلك حججًا رياضية وفلسفية وطبيعية، منها ما يعتمد على الإثبات، ومنها ما يقوم على برهان الخلف؛ أي إثبات استحالة النقيض وهو الهَيُولَى والصورة عند الحكماء. مثلًا الجوهر الفرد كالنقطة في الرياضة التي منها تتكون جميع الأشكال الهندسية، الخط والزاوية والمثلث والمربع والمستطيل والدائرة … إلخ. والحقيقة أن هذه كلها موجودات ذهنية لا وجود لها في الخارج ولا تنقسم إلا بالوهم ولا تجتمع أو تفترق إلا بالخيال. وإن أصغر الزوايا مجرد افتراض عقلي لا وجود له مثل النقطة والخط والموضوعات الرياضية كلها؛ فمعظم الأدلة الرياضية مستقاة من الفكر التمثيلي. الرياضة خاصة الهندسة في النقط والخطوط والمساحات تقوم على التماس، والتماس إثبات للجواهر الفردة. وهذا أيضًا إغفال للشيء وحديث عن بديله. أمَّا إثبات الجوهر الفرد عن طريق إثبات قسمة الحركة والزمان، استحالة وجود أجزاء لا متناهية وإلا استحالت الحركة كما يفعل الأشاعرة؛ فهو إثبات خاطئ؛ وذلك لأن الزمان والحركة لا ينقسمان إلا من حيث هما مكان. ليس بالحركة ماضٍ أو حاضر أو مستقبل؛ فهذا إبدال للمكان بالزمان. الزمان إحساس بالزمان شعور به، والحركة تغيُّر في الزمان. وكلاهما وحدة واحدة لا تركيب فيها. التركيب افتراض عقلي خالص يقوم على التجزئة والتفتيت من أجل الهدم والقضاء على العالم من أجل إثبات، ولو كفاية بعيدة، إرادة مشخصة وقدرة خارجة عن العالم وعليه.١٥ وسواء كان الجوهر الفرد لا ينقسم أصلًا أو فعلًا، فهو لا ينقسم لأنه لا وجود له بالفعل. والأجسام البسيطة لا تنقسم ولا تتجزأ لأنها بسيطة. والصورة جوهر لا جسمي فكيف تنقسم الصورة؟ والعقل جوهر، والنفس جوهر فكيف تنقسم الجواهر؟ كما يثبت المتكلمون الجوهر الفرد ببرهان المماسة؛ مماسة الكرة على البسيط في الجوهر الفرد، ويثبتونه أيضًا بالقرين، وهي نقطة الخط التي يتكون منها الخط ولا ينقسم. وإن مماسة الكرة لسطحٍ لا تثبت الجزء إلا افتراضًا لأنَّا لا نرى إلا الكرة فوق السطح. ومماسة خط لخط فوقه يدل على تماس الأجزاء افتراضًا أيضًا. ويَرُدُّ المتكلمون على الاعتراض الخاص بالجوهر الفرد وإثباته بالنقطة بالنسبة للخط على أن ذلك عرض، والأعراض لا تنقسم بأن الأعراض أيضًا تنقسم.١٦ الحقيقة أنه يمكن أيضًا نفي الجوهر ببرهان المماسة؛ وذلك لأن كل جوهر فرد لا بد وأن تكون له جهات ست، يمين ويسار، وأمام وخلف، وأعلى وأسفل، يحاذي بها الجواهر الفردة الأخرى. ومِنْ ثَمَّ فكل جوهر فرد يتجزأ. ويَرُدُّ المتكلمون على الشبهة بأن الجوهر الفرد لا يتجزأ بأن كل الاعتراضات والإلزامات تقوم على افتراض الجوهر الفرد وليس على نفيه؛ ومِنْ ثَمَّ كان إثباته أقرب. وهذه الطريقة تلزم المتكلمين جميعًا في إثبات استحالة الرأي المعارض حتى يثبت الرأي المطلوب. كما يَردُّ المتكلمون على الجهات الست بأن كلَّ ما له جهة فمنقسم وهو ليس الجوهر الفرد، كما أن إثبات الجهة لا يعني الانقسام إلى ما لا نهاية؛ لأن الجهات أعراض وليست جواهر أو هي نِسب وليست ذواتٍ. ويعتمد المتكلمون في كل الأحوال لإثبات مذهبهم على مقدمتين: الأولى أن كل منقسم له أجزاء بالفعل والثانية أنها متناهية.١٧ والحقيقة أنهما مقدمتان جدليتان فارغتان لا يثبتان شيئًا بالفعل، لا تعتمدان إلا على العقل الصوري القادر أيضًا على تفنيدهما صوريًّا بنموذج صوري آخر. إن استحالة الانقسام إلى ما لا نهاية لإثبات وجود الجزء تفكير قائم على عقليةٍ مركَّبة على افتراض أن النهائي من صنو الطبيعة، وأن اللانهائي من خارجه. ويستعمل المتكلمون في ذلك حججًا خطابية صرفة مثل: لو وُجدت القسمة إلى ما لا نهاية لغمرت وجه الأرض! كأن قسمة حبة القمح إلى أقسامٍ لا متناهية تغمر حقول مصر وغيطانها، وإذن لأمكن بذلك إشباع الجياع!١٨ وبعض الحجج الصورية الأخرى تكون مليئة بالمتناقضات، مثل: كيف يتركَّب الجسم من جزءٍ لا يتجزأ ولا يتجزأ، أو لو جاز جزء على ملتقى اثنين لم يكن لا يتجزأ!…
إن حجج إثبات المتكلمين للجوهر للفرد كلها افتراضات عقلية تعبِّر عن بناء عقلي مركَّب على النهائي واللانهائي، أو على مجرد تحصيل حاصل لا يأتي بجديد، مثل: «كل منقسم له أجزاء بالفعل وأنها متناهية.» فكل منقسم له بطبيعة الحال أجزاء، وكل جزء متناهٍ. ولا غرابة في ذلك؛ إذ يؤيده الحس والمشاهدة، ولا يحتاج إلى أدلة تثبت هذه الحقيقة البينة. وكأن الفكر لا يسير إلى الأمام بل يسير إلى الوراء. والذي لا يتقدم خطوة يتراجع خطوات، وينتهي به الأمر إلى النكوص المستمر، والتعايش على ذاته والواقع منه بريء وهو غريب عليه. ومعظم الأدلة الفرعية لإثبات هذه الحقيقة البديهية تقوم على استحالة الرأي المضاد؛ فالحجة القائلة بأنه لو كان المنقسم واحدًا للزم انقسام الوحدة لا تثبت شيئًا؛ لأن البداهة لا يمكن إثباتها إلا بالدوران حولها وإثبات ما يخالفها. والحجة بأن لو كان واحدًا لكان التفريق إعدامًا له أيضًا تقوم على رفض الرأي المضاد. والحجة بأن الجسم مقاطع لأجزاء متمايزة بالفعل تحصيل حاصل؛ لأنها تعرِّف الكل بأجزائه ولم تأتِ بجديد كمن يقول: الإنسان له رأس وبطن وذراعان وساقان. ما إثبات أن الجواهر الفردية متناهية في الجسم فإنها لا تحتاج إلى دليل؛ فالجسم له طول وعرض وعمق، ويشغل مساحة ويتحيز في المكان. ومِنْ ثَمَّ فهو محدود متناهٍ. ولكن العقلية المركَّبة على بناء المتناهي واللامتناهي تتوهَّم أن الحكم على الجواهر الفردية الداخلة في تكوين الجسم بأنها متناهية لتعطي الفرصةَ لإثباتِ موجودٍ لا متناهٍ وهو إيهام تقع فيه النفس. وإثبات هذه الحقيقة البديهية، وهي أن الأجسام متناهية، لا تحتاج إلى دليل، خاصةً ولو كانت الأدلة كلها خاطئة تقوم على الخلط بين الزمان والمكان وتكرِّر حججًا دخلت من حضارات أخرى بعد تمثُّلها وأصبحت جزءًا من الثقافة الإسلامية العامة. وهي حجج تهدف إلى هدم الإلهيات وإنكار الحركة وتحويل الزمان إلى مكان. فمثلًا الحجة بأنه لو كانت الأجزاء غير متناهية لامتنع قطْع المسافة في زمنٍ متناهٍ خلطٌ صريح بين الزمان والمكان، ونظرة خارجية تقسيمية تجاورية للزمان على أنه مُدَدٌ متتالية، والمكان على أنه مسافات متتابعة.١٩ أمَّا إثبات تناهي الأجزاء بأنها محصورة فتحصيل حاصل، وكأن الإنسان يريد أن يثبت تناهي الساق لأنه محصور بين القَدَم والركبة! أمَّا التناهي عن طريق التأليف وزيادة الأجزاء فيزيد الحجم أو تنقص الأجزاء فينقص الحجم، فتحصيل حاصل، كمن يقول إن الواحد إذا أُضيف إليه واحد أصبح اثنين، وإن الاثنين إذا طرحنا منها واحدًا يبقى واحد!
وإذا كانت حجج المتكلمين ضد قسمة الجسم إلى ما لا نهاية عند الحكماء سليمة وقوية، إلا أن ذلك لا يعني صحة رأي المتكلمين في وجود الجوهر الفرد. صحيح أن ما له أطراف وأضلاع يستحيل أن ينقسم إلى ما لا نهاية، وأن الانفصال إلى ما لا نهاية يقتضي الاتصال إلى ما لا نهاية. ولما كان الجسم متصلًا إلى نهايةٍ كان انفصاله متصلًا إلى نهاية، وإن كان انقسام الجسم قسمين غير متساويين كان انقسام القسم الأصغر إلى ما لا نهاية أكبر من انقسام القسم الأكبر. ويعرف الحكماء بأن كل هذه الانقسامات بالقوة وليست بالفعل؛ أي إنها افتراضات وهمية وليست وقائع محسوسة.٢٠ وتعتمد حجة الحكماء على أن الجسم واحد متصل قابل للقسمة إلى ما لا نهاية، لا لأنه مركَّب من أجزاء لا تتجزأ. والجسم متصل بشهادة الحس وقابل للقسمة إلى ما لا نهاية. موقف الحكماء أقرب إلى بداهة الحس وأوليات العقل، وهي أن الأجسام متداخلة في نفسها، وأن قسمة الجسم إلى قسمين يفقده الجسمية ويحيله إلى جزء من الجسم، ويتحوَّل من المعنى الفلسفي إلى المعنى الطبيعي.٢١ الأجسام متصلة كما يرى الحكماء ولكنهم يجعلونها قابلة للقسمة ولانقساماتٍ غير متناهية، وهذا أيضًا افتراضٌ لا يزيد ولا ينقص شيئًا من واقع الأشياء، ومن حيث مدلولها الفلسفي، وإن كان لها مدلول علمي في البحث عن قوانين الطبيعة، ويدل على عقلية مركَّبة على بناء اللامتناهي والتناهي. لقد أصاب الحكماء في إنكارهم الجوهر الفرد، وفي تصوُّرهم أن الجسم جوهر واحد متصل، ولكنهم عادوا فهدموا ما بنوه بجعلهم الجسم منقسمًا إلى ما لا نهاية، فوقعوا في نفس الافتراض الذي لا لزوم له، والذي لا يقدِّم في كثير أو في قليل. ومع ذلك فحجج الحكماء أكثر إقناعًا، حجج المحاذاة التي تثبت جهة الجسم يمينًا ويسارًا أو أعلى وأسفل لا تدمر جسمية الأشياء ولا تحيلها هباءً منثورًا أو نقاطًا هندسية.٢٢ ومِنْ ثَمَّ كان موقف الحكماء أكثر اتساقًا مع العقل والواقع من موقف المتكلمين؛ لذلك انتشرت علوم الحكمة فوق علوم التوحيد وضمته وطوته وأعادت صياغته؛ لأنها كانت تمثِّل نسقًا عقليًّا أكثر تقدُّمًا من نسق الكلام. يعطي الحكماء تصوُّرًا أكثرَ عقلانية ولو أنه ليس أقل «إلهية» بالضرورة، وهو أن الجسم مكوَّن من مادة وصورة، المادة للانفصال والصورة للاتصال. ولما كانت الصورة لا تنفصل عن الهَيُولَى استحال انقسام الهَيُولَى، وإلا انقسمت الصورة. والدليل على إثبات الهَيُولَى والصورة هو إثبات الهَيُولَى لكل جسم، وعدم خلو الهَيُولَى عن الصورة أو الصورة عن الهَيُولَى، وأن الهَيُولَى ليست علة الصورة؛ فالأدنى لا يكون علةً للأعلى، وأن لكل جسم صورة نوعية، وأن لكل جسم حيِّزًا طبيعيًّا. والجسم الواحد لا يكون له حيِّزان طبيعيان.
والحقيقة أن إثبات الجوهر عند المتكلمين ونفيه عند الحكماء إنما ينتهي إلى حقيقة واحدة، وهي إثبات الجوهر المفارق بصرف النظر عن الوسيلة والحجة؛ إذ يريد المتكلمون إثبات تناهي الأشياء من أجل إثبات اللاتناهي، ويريد الحكماء إثبات لا تناهي الأشياء أيضًا من أجل إثبات اللاتناهي. والخلاف بينهما فقط في درجة التنظير والإحكام الجدلي. فإذا كان إثبات الجوهر بأن كل متناهٍ محصور، وبالتالي لا يمكن أن يشتمل الجوهر على ما ليس بمتناهٍ، ليس إثباتًا للجوهر الفرد، بل نفي لقسمة الشيء إلى ما لا نهاية على ما يقول الحكماء، فكذلك إثبات الجوهر الفرد من صنو إثبات الهَيُولَى والصورة التي لا تنفصل إحداهما عن الأخرى؛ ومِنْ ثَمَّ لا يتجزآن؛ فالحكماء يثبتون التجزؤ عندما ينكِرون على المتكلمين الجوهر الفرد.٢٣ ويهاجم المتكلمون البديلَ الذي يقدِّمه الحكماء في تصورهم للجسم على أنه هَيُولَى وصورة، ويعتمدون على هذا التصوُّر لرفض حججهم في إنكار الجوهر الفرد وإثبات القسمة إلى ما لا نهاية. إن تصوُّر الحكماء للهَيُولَى والصورة إثباتٌ للتناهي ورفضٌ للاتناهي؛ لأن اتصال الصورة بالهَيُولَى متناهٍ وليس لا متناهيًا وإلا كان الجسم لا متناهيًا، وهذا التناهي هو الجوهر الفرد.
ويتفق كثير من المتكلمين، وعلى رأسهم المجسمة، على نفي الجزء الذي لا يتجزأ مع الحكماء، مع أن المجسمة هم أصحاب الطبيعة ومحللوها. كما كان القول بالطفرة ردَّ فعلٍ على تجزئة الأجسام، وتصوُّرًا بديلًا عن الجزء الذي لا يتجزأ ما دامت الطبيعة ليس لها حد ولا نهاية.٢٤ ولكن رد الفعل الحاسم جاء من جانب الفقهاء الذين تمثَّلوا النظرة الحسية ودافعوا عن تصوُّر المتكلمين الحسي الدائم، والذين تخلَوا عنه هذه المرة لحساب الجزء الذي لا يتجزأ الذي هو من صنْع الوهم.٢٥ كما رفضوا الصورة باعتبارها جوهرًا وجعلها كيفيةً أو عَرَضًا. فالفقهاء الذين يُعرف عنهم بأنهم المدافعون عن «الله» هم الذين يدافعون عن الحركة والتغيُّر والمادة دون الثبات والصورة. ويَرُدُّ الفقهاء على الحجج الخمس التي يوردها المتكلمون لإثبات الجوهر الفرد، واحدة وراء الأخرى؛ فالأولى تعتمد على الحركة التي لا بد من قطعها؛ ومِنْ ثَمَّ فهي متناهية. وهذا في حقيقة الأمر خلطٌ بين المكان والحركة. يرفض الفقهاء الجوهر لأنه ليس هناك جزء لا يتجزأ لا تستطيع مقدرة «الله» أن تقسمه إلى قسمين إلى ما لا نهاية. إنكار الجوهر الفرد هنا قائم على إثبات قدرة «الله» المطلقة. وهكذا أدَّت الغايات «الإلهية» إلى تضارب في تصورات الطبيعة؛ لأنه لا يبدأ أحد من الطبيعة كما هي، بل يأخذها الجميع سُلَّمًا لإثبات الإلهيات، كلٌّ حسب تصوره لها؛ فعند البعض أن إثبات جوهر فرد فيه إثبات لله حتى يمكن فهْم الشرعية العقلية لهذا الجوهر الذي لا ينقسم. وإنكار الجوهر الفرد لإثبات قدرة الله المطلقة القادرة على قسمة ما لا ينقسم. وكيف تجتمع أبعاد الجسم، الطول والعرض والعمق، من جواهر فردة لا أبعاد لها؟ مم تنشأ الأجسام إذن وكيف يجتمع الخط من نقاطٍ لا طول لها ولا عرض ولا عمق؟ كيف تكون مساحة من نقاطٍ لا وجود لها؟ لا بد إذن من إثبات قسم له طول وعرض ومساحة تتكون منه الأجسام.

والثانية تعتمد على حجة المماسة التي تعتمد بدورها على التجاور في المكان والملاصقة في الجوهر الفرد. ولكن كيف تتم ملاصقة ما لا وجود له وما لا طول ولا عرض ولا عمق، ولا جهة من أمام أو خلف أو أعلى أو أسفل أو يمينًا أو يسارًا؟ فكل حيِّز متناهٍ في أبعاده، والتجاور هو ملاقاة الأبعاد بعضها البعض أو ملاقاة الجهات.

والثالثة قدرة الله على تفريق الأجزاء المجتمعة إلى أجزاء لا تتجزأ وإلا ثبت عجزها. وبالتالي فإن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ هو مجرد وسيلة لإثبات قدرة الله المطلقة. ولكن العالم لم يوجد من أجزاء جمعها «الله» بل العالم موجود فحسب. ولماذا يجمع «الله» أجزاء متفرقة ولا يفرِّق أجسامًا مجتمع وكلاهما إثبات للقدرة؟ إن «الله» قادر على إثبات جزء لا يتجزأ، ولكنه لم يخلقه بالفعل في بنية هذا العالم. بل إن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ قد يكون تعجيزًا «لله» لأن الله قادر على قسمته. ومِنْ ثَمَّ فإثبات القدرة يأتي عن طريق قسمة الجزء الذي لا يتجزأ إلى ما لا نهاية على قول الحكماء لو كانت الغاية إثبات القدرة الإلهية ونفي العجز. ولكن الإنسان نفسه غير قادر على قسمة الشيء إلى أجزاء لا تتجزأ. لذلك قرَّر البعض أن لقدرة الله كمالًا وآخِر لا تستطيع بعده أن تخرج إلى الفعل؛ أي إن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ أدَّى إلى تعجيز الله وإلى غير ما كان يهدف إليه منه.٢٦ وإثبات الجوهر الفرد أن الافتراق نتيجةُ الاجتماع هو دليل على مسلمة، وهي أن الأشياء قبل أن تجتمع كانت متفرقة، وهو ما يحتاج إلى دليل أيضًا كمن يريد إثبات الافتراق بأن الأشياء كانت مجتمعة من قبل، وهو ما يحتاج إلى دليل.

والرابعة الكِبَر والصِّغَر، وأن أقسام الصغير أقل من أقسام الكبير. وهذا خلط بين المتناهي في الكِبَر والمتناهي في الصِّغَر، وخلط بين الكم والكيف. فالجزء الذي لا يتجزأ واحد في الكبير والصغير، بالإضافة إلى أن مجموع هذه الوحدات الصغيرة الكيفية التي لا طول ولا عرض ولا عمق لها نظرًا لا تنتج جسمًا له طول وعرض وعمق بالفعل. والغاية من إثبات التناهي في العالم هو الرد على الدهرية التي أخطأت، فتصوَّرت اللامتناهي موجودًا في العالم بالفعل بإثبات أن الأجزاء لا متناهية؛ لأن الله قادر على ذلك. هنا يختلف الفقهاء عن الحكماء في السبب مع اتفاقهم في الرأي.

والخامسة أن الأشياء لها كل؛ ومِنْ ثَمَّ فهي متناهية، وأن الله يعلم عددها. ويدل ذلك على أن موضوع الجزء الذي لا يتجزأ مجرد تمرين عقلي من أجل صفتَي القدرة والعلم، ولا وجود له بالفعل كموضوع مادي. وأن أقصى وجود له هو أنه موجود ذهني من اختراع الوهم ليساعد في عمليات الحساب والرياضة، وإقامة أنساق صورية خالصة يجوز استخدام البعض منها للسيطرة على قوانين الطبيعة.٢٧
يتفق الفقهاء إذن مع الحكماء وفريق من المتكلمين الحسيين في نفي الجزء الذي لا يتجزأ، وإثبات أن كل جزء يتجزأ إلى ما لا نهاية مع اختلاف الدواعي والأسباب. ولا يكتفي الفقهاء ببيان تهافت أدلة المتكلمين ونقدها، بل يوردون حججًا لنفي الجزء الذي لا يتجزأ، وإثبات أن كل جزء يتجزأ أبدًا تجمع بين البداهة والاستدلال، وتنتقل بين المستويات الرياضية والطبيعية والإلهية. مثلًا، الجزء الذي لا يتجزأ إمَّا موجود خارج العالم؛ ومِنْ ثَمَّ فالعالم يتكوَّن من أجزاء لا تتجزأ أو لا يكون موجودًا. وإمَّا أن يكون موجودًا في العالم كعرضٍ يقوم بغيره أو كجوهر يقوم بنفسه. وإن وُجد في العالم فلا بد من أن يُلاقى وأن يُماس، ولا بد له من جهات، وهي صفات لا تتوافر في الجزء الذي لا يتجزأ. وإذا كان الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق، فكيف ينتج الكم من الكيف والجسم من اللاجسم؟ وإذا كان اجتماع جزأين لا يتجزآن أطول بالضرورة من وجودهما متفرقَين كان لهما طول. وإن صغر الأجسام وكبرها يوحي بأن الجزء الذي لا يتجزأ له طول وعرض وعمق. وإذا كان الجسم يتكوَّن من أجزاء لا تتجزأ وكان للجسم لون، كان للجزء الذي لا يتجزأ لون، وكان كل ذي لون يتجزأ. وبالتالي لا ينفع دفاع الأشاعرة بأن الجزء الذي لا يتجزأ ذو لون واحد. إن كل جسم يتجزأ ضرورة. أمَّا الجزء الذي لا يتجزأ إذا كان جسمًا فإنه إن لم يتجزأ يكون باطلًا معدومًا. والجزء من على المحيط يمر بأجزاء أكثر من الجزء الذي في المركز؛ ومِنْ ثَمَّ فالجزء الذي لا يتجزأ يَتجزأ. وإذا وُضع الجزء الذي لا يتجزأ على سطح أملس إن كان لا يزيد على السطح فهو معدوم، وإن زاد عليه فله حجم؛ ومِنْ ثَمَّ ينقسم. وهل ثِقَلُ جزء لا يتجزأ من الحديد له مثل الوزن الذي لجزءٍ لا يتجزأ من القطن؟ ويمكن إقامة خطوط ساقطة إلى ما لا نهاية بين متوازيين مما يدل على نفي الجزء الذي لا يتجزأ. وفي المثلث المتساوي الأضلاع يكون الوتر أكبر من الضلعين ولا يفسِّر هذا الكِبَر إلا وجود أجزاء لها طول. ويمكن قسم الدائرة إلى قسمين متساويين حتى ولو كانت مكونة من أحد عشر جزءًا؛ ومِنْ ثَمَّ فالجزء يتجزأ. وإذا كان قصد الأشاعرة إثبات الإلهيات، فإنهم قد انتهَوا إلى مناقضتها والوقوع في الشِّرك لأنهم وصفوا الجزء الذي لا يتجزأ بأوصاف «الله»؛ إذ إنه لا طول له ولا عرض ولا عمق ولا شكل ولا لون ولا حد له، لا يُرى ولا يُحس ولا يُلمس، وليس بذي مادة. وينتهي الفقهاء إلى أن الأجسام جواهر وأعراض لا أجزاء لم تتجزأ ولا صورة ولا هَيُولَى. ويرفضون تصوُّر المتكلمين والحكماء على السواء.٢٨ فالفقهاء هم الذين دافعوا عن الجواهر والأعراض دعامة نظرية الوجود في المقدمات النظرية التي حاول المتكلمون إرساء قواعدها.
الجوهر الفرد إذن افتراض ذهني خالص يقوم على الخلط بين المنفصل والمتصل، بين الذهن والمادة، بل إنه ينشأ من عمل الوهم أو الخيال الرياضي. ولا فرق في ذلك بين تصوُّرات المتكلمين أو الحكماء للجوهر الفرد، فإنه ليس من عمل العقل. والوهم لا يمكن أن يؤيد بالدليل لأنه وهم، والوهم افتراض لا سندَ له من العقل أو من الواقع، ولكنه مجرد صورة خيالية أقرب إلى التشبيه منه إلى الاستدلال. وأدخل في الفن منه إلى العلم.٢٩ فالجزء الذي لا يتجزأ ليس اقتراحًا علميًّا يمكن التحقُّق من صدقه، وليس واقعًا حسيًّا يمكن التحقُّق من وجوده؛ لذلك اختلف في تصوُّره المتكلمون، كل يتصوره حسب خياله وما يقتضيه وهمه، وكلها تصورات لا يمكن التحقق من صدقها لا في العقل ولا في الواقع.٣٠ ومع ذلك فهو يكشف عن رغبةٍ في التمسك بالطرفين معًا بمقتضيات العقل ومتطلبات الحس. فالجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق، لا يُماس ولا يُجاور ولا يُلاصق، ومع ذلك قابل لجميع الأعراض والتركيب؛ لأنه جزء لا يتجزأ. ولما كانت الأعراض لا يمكن حملها إلا على جسم، وأن الحركة والسكون أعراض لا تَحُلُّ إلا في محلٍّ كان لا بد أن يكون جسمًا؛ فالجزء لا يتجزأ افتراض من وضع الوهم كجسم، والأعراض واقع حي مدرك بالعقل. فهو إذن جمْع بين الوهم والعقل، بين الافتراض والواقع. واعتبار الإنسان جزءًا لا يتجزأ أيضًا جمْعٌ بين العقل والوهم، بين الحس والخيال، بين الافتراض والواقع. فالإنسان وحدة واحدة لا تتجزأ إلى أعضاء أو إلى بدن وفكر، أو إلى حسٍّ وعقل أو إلى فعل وانفعال. فمجموع هذه المظاهر كلها هو الإنسان. بل إن الإنسان هو المثل الأوَّل للجزء الذي لا يتجزأ. ولكن الإنسان من ناحيةٍ أخرى له طول وعرض، ويتحيَّز في مكان. وكل هذه ليست من صفات الجزء الذي لا يتجزأ. والإنسان ليس جزءًا بل هو كل. صحيح أن العلم والقدرة والحياة والإرادة من مظاهر الإنسان، ولكن لماذا إنكار الحركة والسكون والمماسة والمباينة واللون والطعم والرائحة، وهي كلها مظاهر للبدن؟ البدن يتحرَّك، والإنسان يسكن ويماس، ويباين ويتلون، وله طعم ورائحة. وإذا كان الجزء الذي لا يتجزأ لا يوجد إلا بالوهم وإذا اجتمع جزءان يوجدان في الواقع، فإنه يكون جمعًا بين الافتراض والواقع، بين الوهم والحس. من أين يأتي الوجود باجتماع جزأين لا وجود لهما؟ وكيف يوجد الكم مع اجتماع كيف محض؟ ولماذا جزءان وليس ثلاثة أو أربعة أجزاء؟ إنه لأقرب إلى العقل باجتماع جوهرين يحدث جسم واحد. ومع ذلك لا يمكن تسمية الجوهر الفرد جسمًا؛ لأن الجسم هو المتآلف والجوهر الفرد لا يتألف.٣١ واعتبار أن الجزء لا يتجزأ له ست جهات هو أيضًا توفيق بين الوهم والعقل، بين الافتراض والواقع. ومع ذلك فالجهات الست أعراض هي غيره، وكأن الجوهر الفرد ما زال افتراضًا خالصًا للوهم.٣٢ فإذا ما أخذ بعض الحكماء حلًّا وسطًا يجعل الجزء الذي لا يتجزأ متوسطًا متجزئًا بالقوة إلى ما لا نهاية ومتجزئًا بالفعل إلى نهاية وغاية، يشير أيضًا إلى البُعد الافتراضي الأساسي الوهمي. وكيف يثبت جسم واحد متصل وفي نفس الوقت يكون متجزئًا إلى ما لا نهاية؟ أليس الأوَّل مشاهدة حس، والثاني افتراض وهم؟

والآن نأتي إلى بيت القصيد، هل الجوهر الفرد مقولة ميتافيزيقية، وبالتالي يكون أمرًا اعتباريًّا أو موجودًا ذهنيًّا، لا في الخارج شأنه شأن الأمور العامة في ميتافيزيقا الوجود والماهية، والواجب والممكن والمستحيل، والقديم والحادث، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، أم هو مقولة طبيعية؛ أي جسم موجود بالفعل، جوهر حامل لأعراض، يكون موضوعًا للعلم الطبيعي؟ أم لا هو ذا ولا ذاك، بل هو مقولة دينية صرفة، الغرض منها إثبات وجود «الله» مع أنه سابق لأوانه في هذه المرحلة من تأسيس موضوع العلم وهو نظرية الوجود؟ فإذا كان الاحتمال الأوَّل؛ أي الوجود الذهني، فلا حرج فهو تصوُّر وارد ويمكن استعماله في العلوم الرياضية. وإن كان الاحتمال الثاني؛ أي الجسم الطبيعي، فالقول الفصل في ذلك للعلم الطبيعي الرياضي أو التجريبي. وإن كان الاحتمال الثالث؛ أي التصور الديني من أجل إثبات الصانع، فهل حقق هذه الغاية أم إنه انتهى إلى أخذ صفات «الله» بدل أن يعطيها إياه؟ فإذا كان لا جسم له ولا عرض، ولا شكل، ولا لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا حركة، ولا سكون، فماذا عن صفات التنزيه «لله» وأنه ليس في محل ولا يشبه الحوادث؟ وأي الموقفين أكثر دفاعًا عن الدين وحرصًا على «الله»، إثبات الجوهر الفرد الذي يشارك «الله» في بعض صفاته، وعلى رأسها التفرُّد، أم نفي الجوهر الفرد حتى يتفرد «الله» وحدَه بصفاته وتثبت قدرته المطلقة دون ما حاجة إلى وسائل مصطنعةٍ للدفاع عنها وإثباتها؟

يبدو أن المتكلمين أعدوا «الجوهر الفرد» كمقدمة لإثبات وجود الله أوَّلًا ثم صفاته ثانيًا. فإذا ما انقسم الجسم إلى جزء لا يتجزأ لا يحتوي على سبب وجوده من ذاته، وبالتالي فإنه يحتاج في وجوده إلى غيره؛ ومِنْ ثَمَّ يثبت وجود الله. وإن انقسم إلى ما لا نهاية كما يقول الحكماء، فإن اللانهائي يقود أيضًا إلى اللا نهائية؛ ففي كلا التصورين يثبت وجود «الله». خشي المتكلمون من قسمة الجسم إلى ما لا نهاية خشيةً على العلم الإلهي الذي يحصر كل شيء، فآثروا إثبات الجزء الذي لا يتجزأ دفاعًا عن القدرة الإلهية على الإيجاد من عدم، وبالتالي يثبت شيئان في وقت واحد، قدرة «الله» وخلق العالم. وخطورة رأي الحكماء عند المتكلمين هو النيل من علم «الله» وإنكار العلم الكلي لأنه ما دامت الأجزاء لا تتناهى، فعلم «الله» بها لن يكون تفصيلًا، بل جملة وهو مرادف للجهل. كما أنه يمثل خطورة على دليل الحدوث الذي يقوم على تناهي العالم؛ فما لا نهاية له لا يدخل في الحدوث. أمَّا الحكماء فإنهم يبدون أكثر اتساقًا؛ لأن معلومات «الله» ومقدوراته لا نهاية لكل واحد منها، وبالتالي يتسق العلم والقدرة مع المعلوم والمقدور. أمَّا عند المتكلمين فيتحدد علم «الله» بنهاية الجزء الذي لا يتجزأ كما تتحدد قدرته به. وفي كلتا الحالتين ليس الغرض من المقول في الجزء الذي لا يتجزأ تأسيس العلم الطبيعي، بل تأسيس الخطاب «الإلهي». ليست النظرية وصفًا للطبيعة بقدْر ما هي وسيلة لإثبات وجود «الله» وصفاته مثل العلم والقدرة. وعلى هذا النحو يكون الفكر «الإلهي» موجِّهًا للفكر العلمي. في كلتا الحالتين الغايةُ واحدة وهو المبحث عن «الله» من خلال الطبيعة أو توجيه الذهن البشري «بالله» كوظيفة معرفية؛ فالوحدة الأولى هي الوحدة البسيطة التي منها تتركَّب الأشياء وهي مماثلة للواحد. والصورة أيضًا هو العنصر الباقي في الطبيعة الذي يدل على الخالق كما تدل النفس على البدن والمخلوق على الخالق. ومِنْ ثَمَّ انتهى المتكلمون والحكماء، كلٌّ بطريقته وبإحساسه الديني إلى إثبات المشاركة في الصفات بين الجوهر الفرد والمطلوب إثباته وهو «الله». فالجوهر الفرد لا شكل له ولا لون ولا طعم ولا رائحة ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يرى؛ ومِنْ ثَمَّ فهو يشارك «الله» في صفات التنزيه، وأنه «ليس كمثله شيء.» وإذا كان الجوهر الفرد جسمًا فإنه ينفع مَن يتصور الله على أنه «جسم»، فيشاركان معًا في صفة الجسمية؛ أي في صفات التشبيه كما شاركا من قبل في صفات التنزيه. وفي حالة التنزيه ما قيمة جوهر فرد لا شكل له ولا يُنسب إليه شكل من الأشكال، ولا يمكن التعرُّف عليه أو رؤيته؟ إنه مجرد افتراض محض من أجل غايةٍ أخرى أبعد ما تكون عن الطبيعة، وكأن علم التوحيد آثر استبدال عالم الافتراض بعالم الواقع، وعالم الوهم بعالم الحقيقة. وفي حالة التشبيه يكون «الله» قد أُثبت جسمًا مثل الجوهر الفرد. فسواء كان الجوهر الفرد لا ينقسم أصلًا أو فعلًا، فهو لا ينقسم لأنه لا وجود له. وجعل الجواهر الفردة غير متناهية في الصغر أو في العدد هو إشراك لها مع صفات «الله». وسواء كان الجسم ينقسم أو لا ينقسم أو انقسم إلى نهاية أو إلى لا نهاية أو كان مكوَّنًا من أجزاء أو وحدة واحدة، فالنهاية واحدة، وهي أنها كلها مقدمات خطابية جدلية لإثبات وجود «الله» وتصوُّر صفاته طبقًا للحساسية الدينية عند المتكلمين والحكماء، ودرجة إحساساتهم بالطهارة العقلية ودوافعهم الإيمانية. إن إثبات وجود «الله» على افتراضات عقلية هو تأسيسُ هاوٍ لا صرح له ولا بناء. وهل من الضروري تدمير العالم وتجزئته وتقطيعه إربًا إربًا إلى حد المتناهي في الصِّغر حتى يثبت «الله» على أشلاء؟ لقد استعمل الوحي عديدًا من الأدلة تعتمد على شهادات الحس وأوائل العقول وبداهات الوجدان واعتمادًا على مقاييس المنفعة والضرر وصالح الأمة.٣٣ بل يبدو الفكر الديني خاصةً عند المتكلمين وقد وقع في دور، فالجوهر الفرد وسيلة لإثبات وجود «الله» و«الله» هو الذي يمكننا من رؤية الجوهر الفرد. وكيف ترى ما لا جسم له ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا لون، وما لا يُدرك بالحواس؟٣٤
يبدو أن موضوع الجوهر الفرد كله بصرف النظر عن الخلاف حوله بين إثبات وإنكار أو حول التصورات فيه، إنما يعبِّر عن عاطفة دينية وليس عن موقف عقلي. وأن تصوُّر الجسم بين مقولتي القسمة والتناهي إنما يعبِّر عن رغبة في الوصول إلى الوحدة البسيطة الأولى التي منها تتكوَّن الأشياء. فالرغبة في الذهاب من المركَّب إلى البسيط، من المتناهي إلى اللامتناهي عاطفة دينية تعبِّر عن نفسها عقلًا وإن لم يكن لها ما يقابلها في الواقع. الجسم جسمٌ لا ينقسم إلى أجزاء متناهية أو لا متناهية. هذه الوحدة الأولى هي النقطة الهندسية التي تبدأ منها الخطوط والمساحات والحجوم، وهي اللحظة الزمانية التي يبدأ منها الحاضر والماضي والمستقبل، وهو الواحد في العدد الذي منه تبدأ العمليات الحسابية من جمْع وضرْب وقسمة، وهو الجزء الذي لا يتجزأ في الطبيعة الذي منه تتركَّب الأجسام، وهو «الله» مصدر الكون ومنشؤه وغايته ونهايته. وهنا يبدو أثر الفكر الديني الإلهي في الفكر الطبيعي والرياضي والإنساني، وكأن «الله» وظيفةٌ معرفية في تصوُّر العالم والأشياء. ولا يمكن تصوُّر أجزاء غير متناهية لأنها ستشارك الله في صفةٍ وهي اللاتناهي. ومِنْ ثَمَّ كان الجزء الذي لا يتجزأ متناهيًا. وهنا يبدو الفكر الديني الإلهي فكرًا محدِّدًا كما أنه فكرٌ موجِّه. ولا تهم الحجج التي يثبت بها تناهي الأجسام، حجة القسمة إلى النصف، ثم قسمة النصف إلى النصف، وهكذا حتى تصل إلى الجزء الذي لا يتجزأ، ولا يهم مصدرها. الجزء الذي لا يتجزأ إذن تفكير ديني لاهوتي في الطبيعة؛ فهو أحد التصورات الطبيعية للتوحيد. أمَّا الجزء الذي يتجزأ فهو تصوُّر علمي كمي للطبيعة. وقد قالت الفِرق بالتصورين، تصوُّر المتكلمين من ناحية، وتصوُّر الحكماء والفقهاء من ناحية أخرى، كلٌّ طبقًا لتصوره للتوحيد وإحساسه بالتعظيم والإجلال. وقد آثر فريق ثالث التوقُّف عن الحكم، فهو أكثر أمانة؛ إذ يدل على أن العقل هنا لا يتعامل مع واقع، بل مع عواطف التعظيم والإجلال، كلُّ مفكر ودرجته من العقلانية، يختار ما يشاء من التصورات التي تساعده على الإعلان عن تعظيمه وإجلاله في أكثر الصور إحكامًا في رأيه.٣٥
والقضية الآن هي: إذا كان مبحث الجسم وما نتج عنه من نظرية الجوهر الفرد بين الإثبات والإنكار تفكيرًا دينيًّا إلهيًّا مقنعًا، فلماذا لا يتحول إلى تفكير ديني إنساني صريح؟ أليست الإلهيات هي إنسانيات مقلوبة؟٣٦ ألم يحاول الوحي تأسيس علم إنساني؟ لقد كشف الجسم عن دائرة الأشياء أو عن بُعد الطبيعة في الحياة الإنسانية كما ستكشف باقي الأجسام؛ الأجسام التي لها مزاج عن بُعد الإنسان. وإذا كان مبحث الأعراض قد كشف عن بُعد الإنسان صراحةً، فإن مبحث الجواهر يكشف عن بُعد الطبيعة بنفس الدرجة من الصراحة والوضوح. ولما كان الإنسان ذا بُعد اجتماعي، فإن بُعدَي الإنسان والطبيعة لا يكتملان إلا ببعديهما الاجتماعي والسياسي إذا ما أراد الفكر الديني الإبقاء على مفهوم الوحدة المتمثل في الجزء الذي لا يتجزأ. ومِنْ ثَمَّ تظهر هناك مفاهيم وحدة الشخصية، والوحدة الوطنية، وحدة الشعب، ووحدة الأمة، ووحدة التاريخ. وبالتالي يصبح لكثير من مسائل الجزء الذي لا يتجزأ مدلول. ويتأسَّس الفكر العلمي مستقلًّا عن الفكر الديني، ويتحوَّل الفكر الديني إلى علوم الاجتماع والسياسة.

(٢) عوارض الأجسام٣٧

عوارض الأجسام هي الأحكام الخاصة بالأجسام أو دلالاتها، وأهمها حدوث الأجسام وتناهيها.٣٨ وهنا ينقسم الجسم إلى ذاتٍ وصفات، وهي نفس القسمة السابقة إلى جواهر وأعراض؛ فالجوهر هو الذات، والأعراض هي الصفات. ولكن هذه المرة تتخلى اللغة الطبيعية عن مكانها إلى اللغة الميتافيزيقية للاقتراب من الإلهيات وإثبات الجواهر المفارقة، وأهم أحكامها ثلاثة: الأوَّل ما يتعلق بالقِدَم والحدوث، والبقاء والفناء ثم الإعادة، والثاني ما يتعلَّق بصلة الجواهر بالأعراض وجوبًا أو إمكانًا أو استحالة، والثالث ما يتعلق بوحدة الأجسام أو تعدُّدها. ويتضح من هذه الأحكام أنها في حقيقة الأمر عود إلى «الأمور العامة» أو «ميتافيزيقا الوجود» وقراءة مبحث الجواهر من خلالها. فالقِدَم والحدوث، والوجوب والإمكان والاستحالة، والوحدة والكثرة من مباحث الأمور العامة. ويبرز السؤال القديم من جديد: هل هذه الأحكام ميتافيزيقية طبيعية خالصة أم إنها تكشف عن موجهات الفكر الديني؟ هل هي أحكام فلسفية علمية صرفة أم إنها مقولات تمهيدية للدفاع عن عقائد الإيمان، وبالتالي فهي فكر ديني مقنع؟

(٢-١) القِدَم والحدوث

لما كانت الأجسام ذوات أو صفات، وكان الاحتمالان القِدَم والحدوث، أصبحت لدينا احتمالات أربعة: الأوَّل أن تكون الأجسام محدثة بذواتها وصفاتها، وهو الحق عند المتكلمين، وبه قال الملِّيُّون من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس. والثاني أن تكون قديمة بذواتها وصفاتها، وبه قال متأخرو الحكماء.٣٩ فالأجسام فلكيات وعنصريات، والفلكيات قديمة بموادها وصورها وأعراضها إلا الحركات والأوضاع المشخصة. والعنصريات قديمة بموادها وصورها الجسمية، بنوعها وجنسها. والثالث أن تكون قديمة بذواتها محدثة بصفاتها عند أوائل الحكماء.٤٠ ثم اختلفوا في الذوات، هل هي أجسام، وأي أجسام هي؟ والرابع أن تكون حادثة بذواتها قديمة بصفاتها، وهو باطل؛ فالأصل لا يكون حادثًا والفرع قديمًا، وتناقض عقلي لأن الذات هي الأصل والصفات الفرع، ولا يكون الفرع أشرف من الأصل.٤١

والحقيقة أن الخلاف ليس بين هذه الاحتمالات الأربعة فيما يتعلق بالذات والصفات والقِدَم والحدوث، بل بين اثنين منها فحسب، بين القِدَم والحدوث، سواء كانا في الذات أم في الصفات؛ فعند الأشاعرة الأجسام حادثة لأن الأجسام لا تخلو عن الحوادث، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وتثبت المقدمة الأولى بأن الأجسام لا تخلو عن الأعراض وأن الأعراض حادثة. وإثبات الثانية بأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان. ويبدو أن دليل الحدوث قد بدأ بعد دليل الجوهر الفرد لإثبات الصانع، وهو الموضوع الأوَّل في التوحيد كاشفًا عن الغاية البعيدة من مبحث الأجسام، وهو إثبات وجود الله إمَّا عن طريق الجوهر الفرد أو عن طريق الحدوث. وخطأ هذا الدليل هو قيامه على وهم أن التغيُّر حدوث، وأن تغيُّر الأعراض تعني أنها حادثة؛ فالتغيُّر قيمة وكمال، في حين أن مفهوم الحوادث عند المتكلمين لا قيمة ونقص؛ وبالتالي فالقول بأن الأعراض حادثة يخلط بين حكمي قيمة، الأوَّل إيجابي والثاني سلبي. والقول بأن كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث تحصيل حاصل، لا يضيف جديدًا. كما أنه ينتقل من الحكم على الأعراض؛ أي الصفات، إلى الحكم على الذوات؛ أي الأجسام، مع أنه من الاحتمالات الأربعة أن تكون الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها، وهو اختيار أصحاب الطبائع من المعتزلة كحلٍّ وسط بين حدوث الأجسام بذواتها وصفاتها، وهو حل الأشاعرة، وقِدَم الأجسام بذواتها وصفاتها وهو اختيار الحكماء.

وقد تمت إعادة صياغة هذا الدليل عدة مرات من المتقدمين والمتأخرين. وأزاد عليه البعض عدم جواز استناد القديم إلى السبب الموجب؛ فالأجسام فعل الفاعل المختار، وبالتالي تكون حادثة.٤٢ وهذا بداية بالقديم مباشرةً، وهو المطلوب إثباته، دون المحدث وهو موضوع البحث. كما أنه حكم قيمة صرف «لا يجوز …» وليس حكمًا عقليًّا أو وصفًا مرئيًّا لشيء مادي. وأحيانًا يكون الدليل ذا بداية حسية تقوم على المشاهدة للحركات وتجدُّد الأعراض على الأجسام، ثم يحدث القلب عن طريق العكس والتضاد، ويُقال: «والقديم ليس كذلك.» مع أنه لم تحدث دراسة للقديم ولا تحليل خاص له، ولكن حدث فقط إدانة الجسم الحادث ثم تبرئة القديم، وكأن الخطيئة الأولى لا تمحوها إلا البراءة الأصلية!٤٣
وحجج القِدَم أربع: الأولى أن المادة قديمة، وإلا احتاجت إلى مدة أخرى وتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وأنها لا تخلو عن الصورة، وبالتالي يلزم قِدَم الجسم مادةً وصورة. وأهمية هذا الدليل انه يقوم على مفهوم التسلسل إلى ما لا نهاية، وينفي ضرورة وجوده مادة أولى وبداية أولى، وبالتالي يكون فكرًا يقوم على التواصل لا على الانقطاع، وهي ميزة الفكر العلمي، والثانية أن الزمان قديم وإلا كان عدمه قبْل وجوده قبلية لا يجامع فيها السابق والمسبوق، وتتميز الحجة بنفس الميزة السابقة، وبالتالي تكون أقرب إلى الاتساق العقلي من افتراض لا زمان قبل الزمان. بل إن هذا اللازمان لا يُفهم إلا بالإضافة إلى الزمان وبالنسبة إليه، فيكون زمانًا بمعنًى ما أو زمانًا إضافيًّا.٤٤ والثالثة أن فاعلية الفاعل للعالم قديمة ويلزم منه قِدَم العالم. فلو كانت حادثةً لتوقفت على شرط حادث، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح ويلزم التسلسل. ومع أنها حجة تفترض المطلوب إثباته إلا أنها أقرب إلى الاتساق العقلي من أن الفاعل القديم لا يصدر عنه إلا شيء قديم، كما أن الفاعل الحادث لا يصدر عنه إلا شيء حادث. فلو كان العالم حادثًا لصدر عن موجود حادث، وبالتالي ينتفي وجود «الله». والرابعة أن صحة العالم لا أول لها وكذلك صحة تأثير الباري فيه، وبالتالي يكون كلاهما قديم لمصاحبة العلة للمعلول ولمقارنة المعلول بالعلة.٤٥ ويبدو أن المعركة احتدمت قبل أن تُبتَدأ، وأن حجج إثبات حدوث العالم أو قِدمه إنما كانت تخفي المعركة الحقيقية على وجود الصانع وقِدمه التي ستظهر في أول موضوع الذات.
فإذا كان الاحتمال الرابع متناقضًا؛ أي حدوث الذات وقِدَم الصفات، فلم يبقَ إلا الاحتمال الثالث، وهو قِدَم الذات وحدوث الصفات الذي يحاول الجمع بين المطلبين المتعارضين: الاتصال والتمايز، وأن يجمع بين التصورين المتعارضين: التصور الديني والتصور الطبيعي. فالنظريتان الأوليان: الحدوث والقِدَم، كلٌّ منهما ردُّ فعل انفعالي على الآخر، يأخذ صورة النظرية. وكل مطلب أصيل في الإنسان مطلب الحدوث ومطلب القِدَم، الرغبة في الانفصال والرغبة في الاتصال، البحث عن الأصالة والسعي نحو الجدة. وقد تم التعبير عن هذا الاحتمال الثالث بصورة إشراقية أسطورية تجعل ذات العالم قديمة وصفاته محدثة، وبالتالي يخرج العالم من أصل روحي. وتكون الصعوبة حينئذٍ في تفسير كيفية صدور هذه الأعراض المادية من هذا الجوهر الروحي. ولما كان هذا التصوُّر أقربَ إلى العاطفة الصوفية منه إلى التصوُّر العقلي، فقد اعتمد على الصور الفنية أكثر من اعتماده على الحجج العقلية، وظهرت لغة النور والفيض والإشراق والعشق والتذكُّر والمعرفة والاحتياج والشوق إلى آخر ما هو معروف من مصطلحات حكمة الإشراق. ويكون العالم رحلةً مؤقتة للروح تخلُص فيه من المادة العارضة للرجوع إلى مصدرها الروحي الأوَّل تنعم بعد بؤس، وتلتذ بعد ألم، فتسود عواطف التأليه على ما بقي من حكمة، وتتحوَّل نظرية الفيض والصدور إلى نظريةٍ في الخلاص والرجوع.٤٦ فإذا ما استطاع العقل التغلُّب على الخيال، واستطاعت التصورات السيادة على الإشراقيات، ظهرت اللغة الرياضية بدل الصور الفنية، وتحوَّل العالم كله إلى أعداد لا فرق فيه بين قديم وحادث، ويصبح الواحد هو الأصل لا فرق في ذلك بين الواحد الرياضي والواحد الطبيعي والواحد في عقيدة التوحيد.٤٧ ولكن ظهر هذا الاحتمال الثالث في صيغة علمية عند أصحاب الطبائع في الجمع بين التصورين تلبيةً للمطلبين، وهو القول بالخلق عن طريق الطبائع أو التخلق. فإذا كانت الأجسام مخلوقة، فإن الأعراض متخلقة بطباعها؛ فالإيجاب بالذات لا بالإرادة، وبالطبع لا بالقدرة.٤٨ وفي حقيقة الأمر، إن الصيغ الثلاث أقرب إلى القِدَم منها إلى الحدوث. والسؤال الآن: هل مشكلة الذوات والصفات أساسًا في الأجسام ثم نُقلت بعد ذلك إلى الله في موضوع الذات والصفات؟ وهل مشكلة القِدَم والحدوث أساسًا في الأجسام في الطبيعيات أو في الإنسانيات، ثم نُقلت بعد ذلك إلى صفات الذات في الإلهيات؟
والقضية هي: هل يمكن نقل هذه المسألة، القِدَم والحدوث من المستوى الميتافيزيقي النظري إلى المستوى الاجتماعي السياسي العملي؟ وأي الاحتمالات الأربعة أفضل وأكثر فعالية لحركات التغير الاجتماعي؟ هل المجتمعات محدثة بذاتها وبصفاتها، وبالتالي لا يكون لها وجود دائم ومستمر؟ هل هي قديمة بذاتها وبصفاتها وبالتالي يستحيل عليها التغيير؟ هل هي قديمة بذاتها محدثة بصفاتها مما يسمح ببقاء المجتمعات كذوات وتغيير الأنظمة الاجتماعية كصفات؟ أو أنها مشكلة وهمية من الأساس يحسن إلغاؤها وليس نقلها من المستوى الميتافيزيقي الطبيعي إلى المستوى الاجتماعي؟٤٩ وإذا كُنَّا ما زلنا مجتمعات تراثية، فلا سبيل إلا نقلها دون إلغائها حتى تتحوَّل إلى رصيدٍ فعَّال في حركة التغيُّر الاجتماعي.٥٠ فمهما كانت هناك محاولات لإلغائها، فإنها ستفرض نفسها. وبالتالي فالأفضل نقلها من الفكر الديني إلى الفكر الاجتماعي والسياسي.

(٢-٢) البقاء والفناء والإعادة

وينبني القول بفناء العالم على إثبات حدوثه كما ينتج القول ببقائه على إثبات قِدَمه. فمن قال بالحدوث قال بالفناء ثم الإعادة، ومَن قال بالقِدَم قال بالبقاء. فإذا كان الجسم ذا أبعاد ثلاثة أو ذا جهات ست، فالأبعاد متناهية سواء كانت في ملأ أو خلاء. ويُثبِت المتكلمون ذلك بحجج رياضية، ويردون على الحجج الرياضية للخصوم باستعمال كل المسائل الرياضية والطبيعية من أجل مسلمات الفكر الديني إثباتًا أو نفيًا. وإثبات فناء الأجسام يتضمن فناء العالم مع أنه شتَّان ما بين إعدام شيء وإعدام العالم كله. المتناهي في الصغر محسوس ومرئي، أمَّا المتناهي في الكبر فليس كذلك.٥١ وبالتالي يظهر سؤال: متى يفنى العالم وكيف؟ وتتفاوت الإجابة بطبيعة الحال بين تحديدِ عمرٍ للعالم أو ترْك ذلك للعلم «الإلهي». كما تتفاوت الإجابة عن كيفية الفناء بين القدرة «الإلهية» غير المسببة أو بخلق «الله» الفناء أو بمنع البقاء أو بقطع الأكوان.٥٢ ولا يمكن معرفة ذلك كله عقلًا أو حسًّا، بل كلها ظنون وأوهام، وهي كلها من مضادات العلم وليست من نظرية العلم. وهنا يبرز موضوع «الجنة والنار»، وهل يفنيان بفناء العالم، فإن بقيا شاركا الله في صفة الخلود، وتناقضا مع فناء العالم، وإن فنيا تناقضا مع عقيدة الثواب والعقاب الأبديين.٥٣ وهو استباق لموضوع المعاد من السمعيات، قفزًا على الإلهيات، مما يدل على تسرُّع الفكر الديني في الظهور دون ما انتظار للتأصيل. وإذا كانت الأجسام غير باقية، فعدم بقاء الأعراض أولى لما كانت الأجسام لا تخلو من الأعراض، ولما كانت الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام؛ فأحكام الأجسام أو عوارضها تصدُق بالتبعية على الأعراض.٥٤

وفي حقيقة الأمر، إن فناء العالم ليس واقعة مادية؛ فهذا ما يحدِّده العالم الطبيعي إن استطاع، ولكنه واقعة شعورية دالة. العالم يوجد في الشعور في لحظة الوعي به ويفنى لحظة فقدان هذا الوعي. وفي كلتا اللحظتين لوجوده في الشعور أو لغيابه منه له آثار على السلوك للأفراد والمجتمعات؛ إذ تمثِّل عقيدة فناء العالم خطورة بالغة على الحياة كما هو الحال في نظرية الخلق وفي دليل الحدوث؛ وذلك لأنها توحي للإنسان بأن هذا العالم لا قيمة له، وأنه ليس قائمًا بذاته، وأنه يستمد وجوده وقيمته من عالم آخر منفصل عنه، فهو سلب محض؛ ومِنْ ثَمَّ يوحي للإنسان بالتخلي عنه والاتجاه إلى الإيجاب الخالص؛ ومِنْ ثَمَّ ينشأ الاغتراب والانحراف والانعراج وكل مظاهر الاعوجاج في السلوك. توحي عقيدة فناء العالم بأن هذا العالم لا أهمية له، ولا بقاء له بذاته مما يبعث على الغثيان ويجعل العدم هو أساس وجوده ومصدره، وبالتالي تكون الأفعال فيه غير مُجدية وغير باقية، وبالتالي فهي فانية مثله. وهذا هدمٌ للعالم وتدمير له، ونظرة إعدامية لبِنيته، كما أنه إنكار للغائية وسبب وجود الإنسان فيه. كما توحي بأنه يمكن تعويضه وبالتالي انتظار عالم آخر أفضل من هذا العالم. كما أنها وسيلة رخيصة لإثبات بقاء الله وقدرته على الإعدام، وكأن الله يُعدِم ولا يُوجِد، يُعذِّب ولا يُنعِم، يَهدِم ولا يبني، وكأنه كاره للبشر، عدو للعالم، يفرح لعذاب الآخرين! وهو صورة «الطاغية» وليس «الإله»!

ومع ذلك فقد فرض البقاءُ نفسه على الفناء في القول بالإعادة. فإذا كانت الأجسام تفنى فإنها تعود. وهذا حلٌّ لإشكالٍ بإشكالٍ آخَر، وتصحيح خطأ بخطأ ثانٍ، ومجموع الخطأين لا يكوِّن صوابًا. كيف تتم الإعادة؟ وهل الذي ابتدأ في الدنيا هو الذي يُعاد في الآخرة؟٥٥ وأين تتم الإعادة؟ وهل تكون إعادة أبدية فتشارك الأجسام «الله» في صفة البقاء وإن لم تشاركه في صفة القِدَم؟ فإذا ما نجح المتكلمون في زحزحة الأجسام في البداية، فإنها تعود وتفرض نفسها في النهاية.
بقاء الأجسام إذن هو الأكثر اتفاقًا مع العقل ومع الواقع والأكثر نفعًا في الحياة الاجتماعية والسياسية. وإن كان خطأ فهو خطأ واحد وليس خطأين؛ فالأجسام باقية، هذا ما تقرِّره شهادة الحس بالرغم من التغيُّر والحركة والفناء. لا تفنى إلا الأعراض بمعنى تغيُّرها وطريانها على الأجسام. الأجسام باقية ضرورة. وعند البعض ليس بسبب بقائها في الحس لأن الأعراض كذلك، بل لأنها ضرورة عقلية. وعند البعض الآخر استدلالًا بأنه لو لم تكن الأجسام باقية لارتفع الموت والحياة والتسخن والتبرد.٥٦ والحقيقة أن بقاء الأجسام يؤدي إلى بقاء العالم، وله ميزة ضخمة وآثار إيجابية على السلوك الفردي والاجتماعي؛ فالوجود هو الأساس وليس العدم، والعمل فيه باقٍ ومنتج ولا يضيع هباءً فيه، وليس خارجًا عنه تعويضًا أو مكافأةً، يحدث فيه التراكم التاريخي ويقع فيه عمل الأفراد والجماهير، يتضمن غائية وقصدية بعيدًا عن العشوائية والمصادفة، وفيه تنزيه «لله» عن اللعب بالعالم وتدميره والتشكك فيه والقضاء على قوانينه واستقلاله. ويسترد البقاء كصفة للعالم بدلًا من عزوها للذات المشخصة، روح العالم، فلا يدفع العالم الثَّمن، ولا يخرج الإنسان منه خاسرًا، ويقوم بدوره فيه قادرًا لا عاجزًا، ومناضلًا لا هاربًا، ومُؤثِرًا الحاضر القريب على المستقبل البعيد. وما الفائدة من تدمير العالم ثم يعيش الإنسان في خراب، وعزاؤه في الإعادة؟ «وإن عادُوا عُدنا.» قد يكون الأقرب إلى التجربة البشرية والاطمئنان النفسي والروحي هو صيرورة البقاء والفناء، تجدُّد الأجسام والجواهر حالًا بعد حال، تجدُّدٌ مستمر من داخل الأشياء وليس من خارجها، وتجدُّد الحياة البشرية الفردية والاجتماعية دون نفي للمسئولية، بل توزيعها على الجماعة في العمل الجماعي المشترك. وعند الحكماء لا عالم غير هذا العالم وإن برهنوا على ذلك بأسباب رياضية طبيعية دون إشارة إلى دور الفعالية والنشاط كما يحتاج جيلنا.

(٢-٣) هل تتعرى الجواهر عن الأعراض؟

هل يمكن الجمع بين العرض وضده؟ هل يمكن وجود أعراض مجتمعة دون جواهر؟ هل يبقى العرض بعرض مثله؟ كلها تساؤلات قد لا يكون لها أي موضوع فعلي يمكن الحديث عنه وبحْثه موضوعيًّا سواء بتحليل العقل للموضوع أو بتحليل الموضوع بالتجربة. هي صياغات من وضع العقل المرتبط بالإيمان الديني من أجل أن يسمح للذهن بالإعلان عن مواقفه إمَّا بإثبات الإمكانية أو الاستحالة. في الأولى يتغلب الفكر الديني على الفكر العلمي، وفي الثانية يتغلب الفكر العلمي على الفكر الديني. أهمية هذه التساؤلات إذا كانت جادة هي في كشفها عن بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني بصرف النظر عن نوعية الإجابة، وتعرية مرحلة في تاريخ الفكر الإنساني ونموذج حضاري فريد، كيف يمكن تأسيس العلم ابتداءً من التوحيد؟ فإثبات جواز تعري الجواهر عن الأعراض لا يتم بسبب علمي، وإن بدا ذلك، بل لأن «الله» قادر على كل شيء. كما أنه قادر على الجمع بين الأضداد مثل العلم والجهل، والحياة والموت والقدرة والعجز. كما أنه قادر على أن يخلي الجسم عن العرض وضده، وأن يبقى بلا أعراض. ولا يفترق في ذلك جمهور الأشاعرة عن بعض المعتزلة. وهو أيضًا قادر على إيجاد أعراض مجتمعة دون جواهر، وعلى إبقاء العرض بعرض مثله كالساحر فاعل الأعاجيب أمام دهشة الناس!٥٧ أمَّا إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض، والجمع بين العَرَض وضده، ووجود أعراض بلا جواهر أو بقاء العَرَض بعَرَض مثله، فهو دفاع عن قوانين الطبيعة وعن استطاعة العقل الوصول إليها، وتسخيرها لصالح الإنسان، وتأسيس للفكر العلمي.٥٨ وأحيانًا يقوم المتكلمون بدور الحكماء، ويقوم الحكماء بدور المتكلمين. وفي هذه الحالة يظل المتكلمون مدافعين عن حق الذات المشخصة إثباتًا للاختيار ومنعًا لإجبار القانون العلمي لها وتحديده لقدرتها المطلقة. فلو لزم من وجود الجوهر وجود العَرَض لكان الرب مضطرًّا إلى إحداث العَرَض عند إحداث الجوهر ولانتفى الاختيار. وما من معلوم إلا ويمكن أن يخلق «الله» في العبد علمًا به. فإذا ما أراد المتكلمون خطابًا علميًّا وجدوا أن الهواء والماء خالٍ من اللون وضده أو مَن جعل قبول الأعراض معلَّلًا بالتحيُّز والدوران. بل إن لفظ العَرَض لا يمنع منه كتاب أو سُنة أو إجماع أو لغة، وليس لفظًا منقولًا، بل نابع من التراث، وليس مستعارًا بل مأخوذ من الأصول ذاتها. وتتفق بالمصادقة مع الألفاظ الجديدة مثل الجوهر والعَرَض، ثم انتقلت من التشريع الخاص إلى الوجود العام، ومن العمل إلى النظر، كما نشأت ألفاظ أصول الفقه نشأة تلقائية في «الرسالة».

(٢-٤) هل الأجسام متجانسة؟ هل الأجسام جنس واحد أم أجناس متعددة؟

والتجانس هذا لا يعني الاستغراق المنطقي، بل يعني وحدة الجوهر. هل الجوهر جنس واحد؟ هل جوهر العالم واحد؟ وهو سؤال يعيد من جديد موضوع الوحدة والكثرة على مستوى الجواهر: هل الجوهر واحد أم الجواهر متعددة؟ وبطبيعة الحال آثر البعض وحدة الجوهر دون التعدد فتنشأ معضلة التمايز، وآثر البعض الآخر التعدد إيثارًا لشهادة الحس مضحيًا بالوحدة كأمر اعتباري خالص، أو بالوحدة الكيمائية كما يحدث في التفاعل. وما زالت القضية تعبيرًا مثاليًّا عن فكرٍ لاهوتي بصدد الطبيعة. وقد يكون السبب في التركيز على أن الوحدة هي الأصل الرغبة في التمايز مع الديانات القديمة التي ترى أن الاختلاف هو الأصل بصرف النظر عن عدد الجواهر بالرغم من خطورة التماثل في الوحدة بين صفات «الله» وصفات الأجسام.٥٩

(٣) أقسام الجسم

والجسم هو العنصر الثالث في القسمة الثلاثية للوجود إلى جوهر وعَرَض وجسم. ولكن يتداخل مع الجوهر ويختلط به، فيكون الجسم داخلًا تحت الجوهر، ويكون الجوهر داخلًا تحت الجسم. فالجوهر إمَّا منقسم وهو الجسم أو غير منقسم وهو الجوهر الفرد. وهنا يبدو الجسم جسمين، جسم مادي وجسم معنوي. والجوهر إمَّا هَيُولَى وهو المحل أو صورة وهو الحال، أو مركَّب منهما وهو الجسم، أو غير مركب وهو المفارق. والمفارق إمَّا نفس أو عقل. وهنا أيضًا يبدو الجسم جسمين، جسم مركَّب وجسم بسيط، الأوَّل مادي والثانوي معنوي. والغاية من القسمة إثبات الجسم المعنوي كالنفس والعقل. والجسم المركَّب كالمعادن والنبات والحيوان، والبسيط كالعناصر الأربعة أو كري مثل الأفلاك والكواكب. البسيط إمَّا كري مرئي كالأفلاك والكواكب أو معنوي كالعقل والنفس. وهنا تدخل المباحث الكونية والمباحث الطبيعية في مباحث الوجود، واقتراب أجسام الأفلاك والكواكب من الجواهر المعنوية كالعقول والنفوس. وهنا يتسرَّب إلى علوم الكلام الفلكيات والكونيات وهو أضعف الأجزاء في علوم الحكمة، ومباحث ظنية خالصة، في حين أن علم الكلام علم قطعي.٦٠ ويبدو أن هدف القسمة كلها هو إثبات المفارقات؛ أي الجواهر الروحانية التي تتسق فيما بينها بقسمة خاصة. فالجواهر الروحانية هي التي لا تكون متحيزة ولا حالة في متحيز، وقد قال بها الحكماء، وهي الهَيُولَى والأرواح البشرية أو النفوس السماوية والعقول أو الملائكة. بل تتم قسمتها من حيث تأثيرها في الأجسام. فالجواهر المفارقة إمَّا مؤثرة كالملأ الأعلى والعقول العشرة وهي كاملة غير حادثة أو مدبرة، وهي إما علوية كالنفوس الفلكية أو سفلية للبسائط أو للأشخاص. والجواهر المفارقة للأشخاص هي النفوس الناطقة التي تشمل القوى العاقلة والإدراكات والتي تتعلق بحدوث النفس وبالبدن وبالحواس الخمس الداخلية والخارجية والتي تنتهي إلى بقاء النفس. وقد تكون الجواهر غير مؤثرة ولا مدبرة مثل الملائكة القائمة بفعل الخير أو «الشياطين» القائمة بفعل الشر أو «الجن» المستعدة للقيام بفعل الخير والشر على السواء. وهنا يبدو تأليه الطبيعة العليا، وإعطاء الأعلى قيمة أكثر من الأسفل، وتصور البسيط أشرف من المركَّب، وإعطاء الأعلى قوة وسيطرة على الأسفل. ويقترب تأليه الطبيعة من الأسطورة وتشخيص صفات الأفعال من خير وشر. ويظل هذا الجزء من مباحث الوجود أضعف الأجزاء من ناحية تحليل العقل وتحليل الوجود.٦١ ولكن القسمة الشائعة هي قسمة الجسم إلى مركَّب وبسيط. والبسيط ينقسم بدوره إلى فلكي وعنصري، والفلكي إلى الأفلاك والكواكب، والعنصري إلى العناصر الأربعة. أمَّا المركَّب فإنه ينقسم إلى ما لا مزاج له وإلى ما له مزاج. وينقسم ما له مزاج بدوره إلى ما لا نفس له وما له نفس. والنفس إمَّا نباتية أو حيوانية أو إنسانية دون الدخول في المفارقات مثل النفس والعقل.٦٢ ومِنْ ثَمَّ تكون الأجسام خمسة، ثلاثة من البسائط وهي الأفلاك والكواكب والعناصر الأربعة، واثنان من المركَّبات وهي ما لا مزاج له وما له مزاج سواء ما لا نفس له أو ما له نفس.٦٣

(٣-١) الأفلاك

والأفلاك الثابتة بالمرصد تسعة تشتمل على أربع وعشرين كوكبًا؛ الأوَّل: فلك الأفلاك، وهو الفلك الأطلسي لأنه غير مكوكب، وهو «العرش» المجيد في لسان الشرع، والجهة فيه منتهى الإشارة ومقصد المتحرك. وأوصافه أنه بسيط، شفاف، لا ثقيل ولا خفيف، لا حار ولا بارد، لا رطب ولا يابس، لا يكون ولا يفسد، لا يتحرك في الكم، فيه مَيْل مستدير دون مستقيم، يتحرك يوميًّا. وتوهم المتكلمون له خمس دوائر: دائرة الأفق، وسط السماء، أول السموات، السمت، الارتفاع. والثاني: فلك الثوابت، وله حركة بطيئة تتم الدورة في ٣٠٠٠٠ سنة أو ٣٦٠٠٠ سنة، وهو الفلك الموافق المركز؛ أي إن مركزه مركز العالم ومركز الأرض. والثالث: فلك الشمس. والرابع: أفلاك القمر. ثم تأتي بعد ذلك الأفلاك الخمس الباقية.٦٤ ويُلاحَظ على هذا المذهب أنه حاول تأليه الطبيعة الكونية وإدخالها في نظرية الوجود، وهي حركة مقابلة لتجسيم المعبود. فإذا كان المعبود لا يُجسَّم نظرًا للاعتراضات العقلية والحجج المضادة، فإن الطبيعة تُؤله بسهولة عندما يتضخم الإحساس الديني إلى أبعد صوره، فيتحول إلى خيال يُعبَّر عنه بالصور الفنية. فيأخذ فلك الأفلاك وهو أعلى الأفلاك وأشرفها دور العرش المجيد في لسان الشرع، ويأخذ «الله» الدرجة الأولى بكرسيه، وجهته منتهى الإشارة، ومقصد كل حركة، وغاية كل اتجاه، أوصافه تشارك أوصاف الذات، صورته الاستدارة، وهي صورة الأبدية واللانهائية. أفلاكه السموات كما أن كرسيه العرش. وتأتي هذه المادة كلها من علم الفلك القديم وما وصل إليه تاريخ هذا العلم عند القدماء. فالأرض مركز العالم الذي يتحد به فلك الثوابت. وتشمل الأجسام الكونيات والأرضيات معًا؛ أي تشمل دراسة الكواكب والنجوم وعالم السماء. ويكون السؤال: ما العمل إذا ما تغيَّر علم الفلك وأعطى مادة أخرى مخالفة لمدة القدماء مع تقدُّم وسائل العلم الحديث؟ وكيف تتأسس العقائد إذن، وهي اليقين المطلق على إحدى مراحل تاريخ العلم وهو اليقين النسبي؟ كيف يُقام الثابت على التغيُّر؟ ويتأسس اليقين على الظن؟ هذه الكونيات لا هي علم لأنها تغيَّرت ولا هي دين لأنه لا سند لها منه. هي مجرد نسق قديم لإكمال نظرية الوجود حتى تشمل الكونيات كجزء من الطبيعيات، فتضم السموات إلى الأرض، و«الله» إلى العالم في ملحمة واحدة بطلها الإيمان ومأساتها العقل.٦٥

(٣-٢) الكواكب

وهي كلها شفافة ومضيئة إلا القمر فإنه كمد، يستمد نوره من الشمس. تختلف أشكاله حسب قرْبه أو بُعْده منها، فيكون هلالًا أو بدرًا … إلخ. وهناك خسوف القمر ومحوه وكسوف الشمس. وقيل في محو القمر آراء كثيرة: إنه خيال أو شبح أو سواد أو تسخين النار أو جزءًا لا يقبل النور. ويبدو وجه القمر مصوَّرًا بصورة إنسان. وهذا في الحقيقة تعطيلٌ لفعل الطبيعة؛ لأن لكل عضو طلب نفع أو دفع ضرر؛ بالتالي يتم تشخيص الطبيعة وإسقاط الرؤية الإنسية عليها. أمَّا بقية الكواكب فهي أجسام سماوية حافظة لوضعها معه. وكل مجموعة في مجرة. ويعتمد المتكلمون هنا على أقوال العلماء يدخلونها في أنساقهم.٦٦ وأحيانًا لا يجدون فيها شيئًا يحولونها إلى فكر ديني صريح أو مقنع فيعودون إلى أصل الوحي في القرآن، إمَّا لإثبات الظواهر الفلكية مثل الكسوف والخسوف، أو للعودة إلى نظرية الوحي الأولى في أن الطبيعة للإنسان، والأشياء للاستعمال؛ أي الكونيات الإنسانية.٦٧ ولكن في معظم الأحوال يعتمد المتكلمون في تصوراتهم للأفلاك والكواكب لا على تحليلات العلماء ولا على أصول الوحي، بل على تصورات وهمية مستمَدة من الثقافة القديمة وخيالات الناس.٦٨ ويكون السؤال بالنسبة لنا: لماذا يكون الجسم هي أجسام الكواكب والأفلاك؟ ولماذا يتأصل علم أصول الدين في علم الفلك مثل علوم الحكمة؟ قد يكون الجسم بالنسبة لنا هو الأجسام الأرضية أو الأجسام البشرية. ولو دفع التأمُّل في الأفلاك والكواكب إلى غزو الفضاء لما كان ذلك تعويضًا عن نسيان أجسام الأرض وأجساد البشر.

(٣-٣) العناصر

وقد جعلها المتأخرون أربعة أقسام: الأوَّل خفيف مطلق يطلب المحيط في جميع الأحياز، حارة بالحس ويابس وهو النار. والثاني خفيف مُضاف تحت النار وفوق الآخرين، حار رطب بالطبع وهو الهواء. والثالث ثقيل مطلق في المركز، بارد يابس وهو الأرض. والرابع ثقيل مضاف فوق الأرض وتحت الآخرين، بارد رطب بالطبع وهو الماء. وهناك أقسام متوسطة مثل البخار فهو ماء وهواء، والتربة فهي أرض وهواء، والطين فهو أرض وماء، والدخان وهو نار وهواء وتراب، مما يجعل طبقات العناصر سبْعًا مثل طبقات السموات!٦٩ وهي تقبل الكون والفساد على عكس الأجسام البسيطة في السماء. الكواكب والأفلاك تتركَّب منها المركَّبات عن طريق التحليل وعن طريق التركيب. ثم يتم التركيز على الأرض، وتظهر وكأنها العنصر الرئيسي أو مركز العناصر.٧٠ فالأرض في وسط الكل؛ لأن الكواكب في جميع الجهات. وهي كروية الشكل كما أن الماء كري.٧١ وتُستعمل الريح في إثبات كروية الأرض. والكرة تعبِّر عن التناهي واللاتناهي في آنٍ واحد. ومع ذلك فالأرض متناهية الأطراف، وذلك إثبات لنهاية العالم.٧٢ وليس لها عند الأفلاك قدْر محسوس. بها ظواهر مكانية راسخة مثل الجبال، ويحلل القدماء سبب تكوُّنها. وبها ظواهر زمانية مثل الصبح، وسبب تكوُّنه، كرة البخار تتكيَّف بالضوء لقبولها نور الشمس. وبها ظواهر تجمع بين الزمان والمكان مثل خط الاستواء، وهو ما يوازي من الأرض معدل النهار. والأفق يقطع المعدل وجميع المدارات بنصفين! ثم يأخذ موضوع هل الأرض ساكنة أم هاوية حيِّزًا بارزًا وكأنه موضوع رئيسي تعم به البلوى وتتعلق به مصالح الناس. بطبيعة الحال يبدو الخيال الشعبي وأساطير القدماء لتفسير سكون الأرض.٧٣ ويكون السؤال: هل هذا الوصف كله عِلم أم فلسفة أم دين؟ فإن كان علمًا فهو يمثِّل إحدى مراحل تاريخ العلم، وإن كان فلسفة فهي تعبِّر عن تصوُّر القدماء للكون، وإن كان دِينًا فلا تعم به البلوى وليس موضوعًا للعقائد ولا تتأسَّس عليه. ولكن يبرُز أحيانًا البُعد الإنساني للكون، وأن الأرض سكنٌ للإنسان بما فيها من نبات وماء وحيوان، وأن كلَّ ما فيها إنما مسخَّر من أجله. ولكن يتدخل الفكر الديني في هذا الوصف الإنساني للكون، ويجعل كل ذلك من فعل الذات المشخصة، ويقضي على جلال الطبيعة وحكمتها.٧٤

(٣-٤) المركَّبات التي لا مزاج لها٧٥

والمزاج هو فعل الصورة الجسمية في مادتها ثم في مادةٍ تجاورها. فالمجاورة شرط التفاعل، وبالأولى المساطحة التي تكون بالسطح. وكلما كان السطح أكثر كانت المماسة أتمَّ بحسب تصغُّر الأجزاء. والعناصر المختلفة الكيفية إذا تصغَّرت أجزاؤها واختلطت حتى يحصل التماس فعلت كل صورة في مادة الآخر. وقيل هو كيفية متشابهة تحصل من تفاعل عناصر متصغرة الأجزاء بحيث تكثر صورة كل صورة كيفية الآخر. وقيل هو تفاعل أجزاء الأشياء؛ أي التفاعل الكيميائي الطبيعي بين العناصر. المزاج إذن هو حالات الأشياء. والسؤال الآن: هل المزاج حالات للأشياء بالفعل أم هو إسقاط من أحوال النفس ومزاجها على الطبيعة وتشخيصٌ لها؟

وينقسم المزاج طبقًا للكيفيات الأربعة للانفعال: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة. والاعتدال الحقيقي هو حدوث الانفعال بين طرفين على حد الوسط، وإلا فهو المعتدل بحسب الطب أو غير المعتدل. هناك فرقٌ إذن بين الاعتدال الطبيعي، وهو افتراضٌ عقلي مجرد، والاعتدال الحيوي وهو اعتدال الجسم الحي. علوم الطب والحياة إذن تدخل مع العلم الطبيعي في نظرية الوجود باعتبارها علومًا طبيعية. وإنَّ أعدلَ الأعضاء لهو الجِلد سيَّما للأنملة، سيَّما للسبابة. لذلك تُستعمل في الفَرق بين الملموسات! وأعدل أنواع المركَّبات؛ أي أقربها إلى الاعتدال الحقيقي، نوع الإنسان. فالإنسان نموذج الاعتدال بين العناصر. ثم تختلف الأصناف؛ أي الأجناس البشرية، في عملها طبقًا لموضعها الجغرافي بين خط الاستواء؛ حيث تتشابه أحوال الناس في الحر والبرد وسكان الإقليم الرابع؛ حيث تَحسُن الأحوال وتَطول الأعمار، وتَجود الأذهان وتكرُم الأخلاق.٧٦ وأعدل الأشخاص هو أعدل شخص من كل صنف. وتؤثِّر الأوضاع الجغرافية في المزاج طبقًا لموضع الإنسان من المنخفض أو الجبل أو البحر أو التربة أو الرياح أو الأشجار … إلخ.٧٧ وهنا يبدو الإنسان الطبيعي في المزاج، وتظهر معه البيئة الجغرافية، كما تبدو التجمعات البشرية الطبيعية كتعبيرٍ عن تفاعل الإنسان مع الطبيعة.
والمركَّبات التي لا مزاج لها هي الظواهر الجوية والأرضية بفعل حر الشمس؛ إذ تصعد أجزاء هوائية مائية وتصبح بخارًا، أو نارية أرضية وتصبح دخانًا. والأول من شدة الحر يتحلل إلى ماء وهواء، والثاني من شدة البرد يصبح سحابًا، فإذا بلغ درجة الزمهرير بلا جمود فهو مطر أو بجمود فهو إمَّا ثلج قبل الاجتماع أو برد بعد الاجتماع. وإن لم يبلغ درجة الزمهرير فهو الضباب، ويكون بلا جمود الطل ومع الجمود الصقيع. والثاني؛ أي النارية الأرضية وهو الدخان، إمَّا أن يكون مع سحاب أو يصل إلى كرة النار أو إلى كرة الزمهرير. فإن كان مع السحاب وبرد فهو الرعد، أو سخن وكان خفيفًا فهو البرق، أو سخن وكان ثقيلًا فهي الصاعقة. وإن وصل إلى كرة النار ولم يتصل بالأرض وكان لطيفًا فهو الشهاب، أو كثيفًا فهي الذؤابات والأذناب والنيازك وذوات القرون، أو غليظًا وهي العلامات السود والحمر. وإن اتصل بالأرض فهو الحريق. وإن وصل إلى كرة الزمهرير فهو إمَّا ريح أو زوابع وأعاصير، وإن انكسر عليه ضوء القمر فهي الهالة، أو ضوء الشمس فهو قوس قُزَح. ومن البخار والماء في الأرض إن كان خفيفًا يخرج البخار، أو كان ثقيلًا تخرج العيون. ومن البخار والدخان تخرج الزلازل والبراكين.٧٨
وفي محاولة تعريف هذه الظواهر يظهر الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني.٧٩ وأحيانًا يأتي الفكر الفلسفي بينهما وكأنه تحصيل حاصل.٨٠ وقد يتم تجاوز ذلك كله بتساؤلات نظرية صرفة عن العالم والدنيا.٨١ وفي النهاية يبدو تشخيص الطبيعة أو تطبيع الإنسان، يبرز الإنسان كبُعد للطبيعة كما تبرز الطبيعة كبُعد للإنسان في التقابل بين العالم الكبير والعالم الصغير عند الحكماء.٨٢ بل إن العالم من العلم؛ أي من الحس والشعور؛ فالعالم هو عالم الشعور، وليس للعالم زمان بل الشعور هو شعور بالزمان.٨٣ وتظل القضية أنه في حومة الصراع بين التصوُّر الديني والتصور العلمي للعالم يبرز الإنسان بين الله والطبيعة.٨٤ وفي احتدام الصراع بين التصور العلمي للطبيعة؛ الطبيعة المستقلة التي تخضع لقوانين حتمية ومطردة، وبين التصور الديني لها؛ الطبيعة التابعة لإرادة مشخصة تفعل ما تشاء بلا قانون أو علية وبلا قصد أو غائية. يبرز الإنسان من ثنايا التصورين مدركًا لقوانين الطبيعة ومسخِّرًا إياها لصالحه.

(٣-٥) المركَّبات التي لها مزاج

وهي تنقسم قسمين: ما لا نفس له، وما له نفس. وتظهر النفس هنا على أنها كيفية من المزاج.٨٥
والمركَّبات التي لا نفس لها هي المعادن، وتنقسم إلى منطرقة وغير منطرقة.٨٦ فالمنطرقة هي الأجساد السبعة المتكونة من اختلاط الزئبق والكبريت المتكونَين من الأبخرة والأدخنة، وهي: الفضة، والذهب، والخارصين، والنحاس، والرصاص، والحديد، والأسرب.٨٧ وغير المنطرقة تكون إمَّا للين مثل الزئبق، فتتحلل بالرطوبات كالأملاح والزاجات، وإمَّا كالطلق والزرنيخ. هناك إذن تصوُّران: الأوَّل يقوم على القسمة العقلية التي لا يمكنها حصر أنواع المعادن مما يدل على قصر منهج القسمة والتي لا يمكنها احتواء جميع مركَّبات الطبيعة. والثاني التصوُّر الديني الذي يجعل كل المركَّبات خاضعة للفاعل المختار؛ وبالتالي يستحيل العلم والكشف عن القانون؛ لأن كل مظاهر الطبيعة تحدث بفعل إرادة خارجية مشخصة وليس طبقًا لقوانين مستقلة ومطردة.٨٨ والحقيقة أن أصل الوحي إنما يشير إلى المعادن باعتبارها للاستعمال وللاستخدام في السلم والحرب، وهو الأساس الذي يمكن عليه بناء العقيدة.٨٩
أمَّا المركَّبات التي لها مزاج ونفس فهي النفس.٩٠ والنفس كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتغذى وينمو أو يحس ويتحرك بالإرادة أو يعقل بالكليات ويستنبط بالرأي. وقد يُعبر عنها بلازم واحد من حيث إنه ذات حياة بالقوة، وهو تعريف الحكماء، يظهر فيها الكمال والجسم والحياة، والعقل أحد مظاهرها. تتعلق بالبدن وليست مفارقة له. والنفس من حيث هي مبدأ الآثار قوة، وبالقياس إلى المادة صورة، وإلى طبيعة الجنس كمال. والتعريف أقربُ إلى النفس الحيوية، مبدأ الحس والحركة والاستدلال، تجمع بين الوظائف البدنية والوظائف النفسية.٩١
وتنقسم النفس إلى النفس النباتية، وهي كمال أول لجسم طبيعي من حيث هو يتغذى وينمو؛ فالكمال جنس، والأول تعني إخراج الكمالات الثانية كتوابع من الأوَّل من العلم والقدرة. والجسم تعني إخراج كمال المجردات، والطبيعي تعني استبعاد الصناعي، والآلي تعني العناصر. والنفس الحيوانية كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يحس ويتحول بالإرادة. فالإحساس والحركة وظيفتان أعلى من التغذي والنمو. والنفس الإنسانية كمال أول لجسم آلي من حيث يعقل الكليات ويستنبط بالرأي. هناك إذن مراتب للنفس، الكل يشترك في الكمال والجسمية والطبيعة والآلية. وكل مرتبة عليا تحتوي على وظيفة أو وظائف أكثر من المرتبة الدنيا. فالنفس الحيوانية تزيد على النفس النباتية التمتع بالحياة والتحرك والإرادة، والنفس الإنسانية تزيد على النفس الحيوانية عقل الكليات واستنباط الرأي.٩٢
وتتضمن النفس النباتية قوًى طبيعية أربعًا: اثنتان لبقاء الشخص وهي الغاذية والنامية، الغاذية تحيل الأجسام داخل الجسم، وقد يُحدِث توقفُها الموت لأنها متناهية، والنامية تُدخِل الغذاء بين الأجزاء. واثنتان يحتاج إليهما لبقاء النوع وهما المولدة والمصورة، المولدة تَفصِل من الغذاء ما يصلح أن يكون مادة للمثل، والمصورة توجد في الرحم خاصة تعطي الأجزاء الصور والقوى. وهذه القوى الأربع تخدمها قوًى أربع أخرى. القوة الجاذبة وهي التي تجذب المحتاج إليه، ويدل عليها حركة الغذاء من الفم إلى المعدة، والقيء، وجذب المعدة للغذاء في التمساح والرحم بعد الطمث للمني، وجذب الأعضاء للدم من الكبد. والقوة الهاضمة ولها أربع مراتب، في المعدة ثم الكبد ثم العروق ثم الأعضاء. والقوة الماسكة وهي التي تمسك الغذاء ريثما تفعل فيه الهاضمة فعلها. وأخيرًا القوة الدافعة، وهي إمَّا للغذاء المهيأ للعضو إليه وإمَّا للفضل عنه (التبرُّز، التقيؤ … إلخ). وقيل إن هذه الأربع تخدمها الكيفيات الأربعة. فأشد القوى حاجة إلى الحرارة الهاضمة ثم الجاذبة ثم الدافعة ثم الماسكة. وأشد القوى حاجة إلى اليبوسة الماسكة ثم الجاذبة ثم الدافعة. والهاضمة لا حاجة لها إلى اليبس، بل إلى الرطوبة. وقد تتضاعف هذه القوى في بعض الأعضاء مثل الجاذبة في المعدة.٩٣ وفي حقيقة الأمر، إن التفسير بالقوى هو نوع من الفكر الديني القائم على التشخيص. فبدل أن تكون هناك وظيفة هناك قوة مشخصة حية مريدة عاقلة. وهذا النوع من البيولوجيا العقلية يمثل أحد مراحل التفكير العلمي. ويكون السؤال: كيف تتأسَّس العقائد اليقينية على فكر تاريخي ظني؟ ألا يعني ذلك القضاء على الثابت في سبيل المتحول؟ وماذا لو انهار هذا البناء القديم كله كما انهار الآن في المرحلة الآنية لتاريخ العلوم البيولوجية؟
وتتضمن النفس الحيوانية قوَّتين مدركة ومحركة. والمدركة إمَّا ظاهرة أو باطنة.٩٤ والقوى المدركة الظاهرة تشمل المشاعر الخمس:٩٥ البصر، ويتم سواء بانعكاس صورة المرئي بتوسُّط الهواء المشف إلى الرطوبة الجلدية وانطباعها في جزء منها؛ أي الشعاع من الخارج إلى الداخل، من الموضوع إلى الذات، من الشيء إلى العين، أو يتم بالشعاع المقابل من الداخل إلى الخارج، من الذات إلى الموضوع، ومن العين إلى الشيء.٩٦ والسمع ويحلله القدماء تحليلًا ماديًّا خالصًا عن طريق الهواء والقارع والمقروع والصماخ والعصب والطبلة … إلخ. والشم قوة في زائدتَين في مقدم الدماغ، تحدث فيه الرائحة بتحلل أجزاء الجسم وسريانها في الهواء. والذوق أعصاب على اللسان من خلال الرطوبة. وأخيرًا اللمس أعصاب الجلد. وهو أربعة: المحاكة بين الحار والبارد، بين الرطب واليابس، بين الصلب واللين، وبين الأملس والخشن. وقد تكون قوة الذوق مشروطة باللمس لما كانت الحاستان تعملان عن طريق الأعصاب والاحتكاك. وهناك محسوسات مشتركة كالمقادير والأعداد والأوضاع والحركة والسكون والقُرْب والبُعد والمماسة، تشترك فيها أكثرُ من حاسة لإدراكها. وتختلف الحواس الظاهرة قوةً وضعفًا في حالة سلامتها. ويتضح من هذا التحليل سيادة النظرة العلمية الخالصة لعمل الحواس، بل والتصور المادي لوظائفها دون اللجوء إلى علل خارجية مما يسبب للمتكلمين مشكلة «نفي الفاعل المختار».٩٧ كما أنه يكشف عن حضور الإنسان كجوهر من خلال النفس كما كان حاضرًا كعَرَض من خلال الكيفيات المحسوسة؛ فالحواس نقطة التقاء بين الأعراض والجواهر، في الأعراض كمحسوسات وفي الجواهر كحواس، في الأعراض كظواهر طبيعية وفي الجواهر كقوًى للنفس، في الأعراض كموضوع وفي الجواهر كذات.
أمَّا القوى المدرِكة الباطنة فهي أيضًا خمس: الحس المشترك، وهي القوة التي تسهم فيها صور الجزئيات المحسوسة بالحواس الخمس فتطالعها النفس ثمة فتدركها؛ أي إنها أول مرحلة في النفس بعد الحس، وهي إدراك الحس، وتحويل المحسوسات إلى مدركات كما هو الحال في القطرة النازلة والشعلة الدائرة والخطوط والدوائر الهندسية. والخيال يحفظ الصور المرتسمة في الحس المشترك كالخزانة له وبه يُعرف من يُرى ثم يغيب ثم يحضر. وهنا يختلط التذكر بالتخيُّل. والوهم يدرك المعاني الجزئية كالعداوة التي تدركها الشاة من الذئب، ويكون السؤال: هل هذا وهم أم استعداد طبيعي غريزي؟ والحافظة تحفظ المعاني التي تدركها الوهمية، ونسبتها إلى الوهم نسبة الخيال إلى الحس المشترك. وأخيرًا المتخيلة وهي تتصرَّف في الصور المحسوسة والمعاني بالتركيب والتفصيل، مثل إنسان ذي رأسين. وإذا استعملها العقل سُمِّيَت مفكرة، وكأن القوة الناطقة هنا ليس لها استقلال خاص، بل هي إحدى وظائف المخيلة، وكأن النطق قد حُجز للنفس الناطقة كجوهر مفارق. ومع أن لكل قوة مركزًا في الدماغ طبقًا للنظرية المادية في عمل الحواس، إلا أن الحواس الباطنة تمثل درجة أقل في ارتباط النفس بالمادة، وتكون بمثابة حلقة اتصال بين الحواس الظاهرة وبين النفس الناطقة.٩٨ ولكن منها ما يدخل في العلم الظني مثل الوهم والخيال في نظرية العلم. ويمكن من خلال هذا التفاوت في ارتباط الحس بالمادة، والانتقال من الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة الارتفاع درجة أخرى إلى النفس الناطقة وإثبات خلود النفس؛ فبالرغم من ارتباط الحواس بالمادة، إلا أن النفس التي هي علة الحواس لا تتعلق بالمادة. وقد ظهر ذلك أيضًا في نظرية العلم عند تحليل عمل الحواس المادي لإفساح المجال لتدخُّل إرادة خارجية لذاتٍ تعطي المعاني وتؤسِّس العلوم. والمهم هو ظهور الحواس في نظرية العلم وفي نظرية الوجود في مبحثَي الأعراض والجواهر على حد سواء، وكأن علم أصول الدين كله يتأسَّس من خلال المحسوسات وبداية من العالم الحسي. وهنا أيضًا يسود التصوُّر العلمي الذي يجعل الإدراك من عمل الحواس كمظهرٍ من مظاهر النفس دون تدخُّل «القادر المختار»، سواء عند المتكلمين أو الفلاسفة.٩٩ فعند المتكلمين كل إدراك مرتبط بحسه، وآفة العضو توجِب آفة فعله، وإن عمل الحواس ببساطة هو ارتسام ما له وضع وحيز؛ أي الحاسة، مع قدرة الحواس الباطنة على التمييز بين المربعَين المجتمعَين على مربع واحد. وعند الحكماء الحواسُّ آلاتٌ والنفس مدركة لجميع صنوف المدرَكات. وهي قادرة على الحكم بالكلي على الجزئي، وبكل جزئي على أنه غير الآخر. والإنسان يدرك بوجدانه أنه يسمع ويبصر ويجوع ويشبع. والنفس مدبِّرة للبدن وفاعلة للجزئيات؛ وبالتالي فهي مدركة للجزئيات. إنما في جيلنا نحن بدأ الطعن في شهادة الحواس وإثبات خداعها إمَّا تمويهًا على الناس وتعميةً لهم أو تبعية لمذاهب غربية تدافع عن الموروث القديم، أو إحساسًا بالطهارة الفارغة وإرضاءً للذات. فالمثالية العقلية هي الوريث الطبيعي للإيمان القديم.
ولم يفصِّل القدماء في القوى الفاعلة كثيرًا، وكأن الفعل أقل أهمية من الإدراك الظاهري أو الباطني، ربما لأن ذلك أدخل في علم الأخلاق، سواء في علوم الحكمة أو علوم التصوُّف أو علم أصول الفقه. ولكن هذه العلوم قد تناولت أيضًا ظواهر الإدراك ولم يَغِب عنها الفعل. اقتصر القدماء على قسمة القوى إلى باعثة ومحرِّكة، الباعثة لجلب نفعٍ وتُسَمَّى شهوية، أو لدفع ضرر وتُسَمَّى غضبية. أمَّا المحرِّكة فهي التي تمدِّد الأعصاب فتقرِّب الأعضاء من مبادئها كما في قبض اليد وتراخيها، أو تُبعِد الأعضاء كما في البسط. وهي المبدأ القريب للحركة والمبدأ البعيد التصور، وبينهما الشوق والإرادة؛ فإن النفس تتصور الحركة فتشتاق إليها فتريدها إرادةَ قصدٍ وإيجاد فتحصُل.١٠٠ وبالرغم من أهمية البواعث، فإن القدماء أيضًا لم يفصِّلوا فيها، وركزوها كلها في جلب المنافع ودفع المضار، مع أن ذلك جزء من غائية أوسع وقصدية أشمل هو أداء الرسالة وتحقيق الغاية في التاريخ. وهل الغضب يكون فقط لدفع الضرر؟ أليس هناك غضب لجلب النفع إذا ما مُنع النفع؟ وهل النفع فردي أم اجتماعي؟ مادي أم معنوي؟ نفع ماذا ونفع مَن؟ وهل الحركة هي فقط الحركة الفيزيقية أم حركات الأفراد والشعوب وحركة التاريخ؟ ولماذا الاقتصار على الحركة البدنية، حركة الأعضاء بالرغم من الإشارة إلى دور التصوُّر؛ أي الفكر والشوق والإرادة؛ أي الوجدان والأفعال؟ إن الحركة أيضًا هي نزوع النفس واتجاه الشعور، حركة المجموعات ومسار الشعوب. والنفس الإنسانية بالرغم من أنها جوهر مفارق مع العقل إلا أنها أيضًا تتويج للنفس من حيث هي مجموع الوظائف الحية؛ فهي من المركَّبات التي لها مزاج نفسي وفي نفس الوقت جوهر مفارق. وقواها العقلية اثنتان: النظرية باعتبار إدراكها للكليات والحكم بينها إيجابًا أو سلبًا، والعملية باستنباطها للصناعات الفكرية ومزاولتها للرأي والمشورة. كما يحدث فيها من القوة هيئات انفعالية مثل الضحك والخجل والحياء دون أن يفرد القدماء قسمًا خاصًّا للقوى الانفعالية أو الوجدانية أو العاطفية. واكتفَوا بجعل القوى العملية جزءًا من قوى النفس مثل القوة النظرية.١٠١

(٣-٦) هل هناك جواهر مفارقة، النفس أو العقل؟

يبدو أن النظرة المادية الغالبة على تحليل النفس قد وجدت تعويضًا لها ورد فعل عليها في الجواهر المفارقة، النفس والعقل، آخر مباحث الجواهر وآخر موضوع في المقدمات النظرية أيضًا وربما أيضًا في خاتمتها عن الجن والشياطين! وتبدأ النفس المفارقة بالنفوس الفلكية وليس بالنفس الإنسانية؛ أي بنفس الكون أو بروح الطبيعة تريد احتواء العالم كله أوَّلًا قبل أن تتحول إلى نفس فردية مجردة. والنفوس الفلكية هي أيضًا مجردة لأن حركات الأفلاك إرادية؛ فالحركة إمَّا طبيعية أو قسرية أو إرادية. والأولان باطلان لأنها مطلوبة ومتروكة، فلا تكون طبيعية، ولأنها ليست طبيعية فلا تكون قسرية. وإرادتها ليست عن تخيُّل محض، وإلا امتنع دوامها عن نظام واحد؛ فهي إذن ناشئة عن تعقُّل كلي.١٠٢ ولها مع القوة العقلية قوًى جسمانية هي مبدأ للحركات الجزئية. ومع ذلك ليس لها حس ولا شهوة ولا غضب؛ لأن الاحتياج إليها لجلب المنافع ودفع المضار لحفظ الصورة عن الفساد، وصورتها لا تقبل الفساد. ويبدو أن القدماء هنا قد برَّءُوها من أوجه النقص الإنساني من حس وشهوة وغضب لاقترابها من الملأ الأعلى، وعدم طريان الفساد عليها أو النفع والضرر حتى يمكن الاستمرار بعد ذلك خطوة أبعد في تشخيص الذات المجردة وراء الأفلاك. وفي حقيقة الأمر، إن النفوس الفلكية إسقاط من النفس الإنسانية على الطبيعة وتشخيص حيوي للأفلاك في موضوعي النفس والإرادة، وكأن المتكلم كلما نظر إلى أعلى ألَّه وكلما نظر إلى أسفل جسَّم. وقد انتهى أحيانًا إلى الخلط بين الدورين، يجسِّم حين ينظر إلى أعلى ويؤلِّه حين ينظر إلى أسفل. أسقط المتكلم على الأفلاك الوعي الخالص الذي يبحث عنه وشخَّصه فيها قبل أن يشخِّصه في ذاته وهو لا يعلم أنه بذلك يقع في خطأي التجسيم والشرك. فالوعي الخالص ليس مجسَّمًا ويتفرد في صفاته دون أن يشاركه فيها أحد؛ لذلك رفضها الفقهاء.١٠٣ وإن كان لا بد من مفارقات فهي المبادئ الإنسانية التي تحرِّك الأفراد والجماعات، مبادئ الحرية والعدالة والمساواة التي تتراءى في كتبنا ويستشهد الشباب في سبيلها، وما زالت قادرة على نهضة أمة وتحقيق مصالح الشعوب.١٠٤

(أ) النفس

وقد تفاوتت النظريات في النفس الإنسانية بين النظرية المادية الصرفة، والنظرية الحسية، والنظرية العقلية ثم النظرية المفارقة. فالنظرية المادية الصرفة عند بعض المعتزلة تجعل النفس جزءًا لا يتجزأ من القلب لدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات، أو قوة في الدماغ أو ثلاث قوًى، إحداهما في القلب وهي الحيوانية، والثانية في الكبد وهي النباتية، والثالثة في الدماغ وهي النفسانية، أو أنها أجزاء لطيفة سارية في البدن باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تخلُّل ولا تبدُّل أو أنها الدم المعتدل؛ إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس، أو أنه الهواء؛ إذ بانقطاعه طرفة عين تنقطع الحياة، أو أنها الهيكل الخصوصي أو الأخلاط المعتدلة كمًّا وكيفًا أو اعتدال المزاج النوعي.١٠٥ كل هذه النظريات هي التي سبَّبت رد الفعل المقابل التي تجعل النفس مفارقةً للبدن ومتميزة عنه، فالنقيض يولِّد النقيض.
والنظرة الحسية هي نظرية الأشعرية، والفقهاء تجعل النفس جسمًا طويلًا عريضًا عميقًا ذا مكان عاقل مصرف للجسد. النفس والروح اسمان مترادفان والمسمَّى والمعنى واحد. والدليل على ذلك انقسامها على الأشخاص، وأنها لو كانت جوهرًا والعلم من صفاتها لكانت عالمًا، وبالتالي يعلم زيد ما يعلمه عمر، وأنها إمَّا خارج الفلك أو داخله، والأول باطل لتناهي الجرم فلم يبقَ إلا الثاني وهو جسم، وأنها لا تقع تحت جنسٍ آخَر غير الجوهر، وبالتالي فهي جسم. وقد يتم تفصيل النظرية الحسية بجعلها عَرَضًا كسائر أعراض الجسم لا يُشاهد إلا بالحواس أو أنها النسيم الداخل والخارج بالتنفس.١٠٦ ويكون السؤال الآن كيف يقول أهل السنة بجسمية النفس؟ أليست هذه نظرية مادية؟ كيف يعارضون إذن أصحاب الطبائع وباقي الماديين؟ كيف يتم التوفيق بين مادية النفس وإثبات تمايزها عن البدن وإثبات خلودها من أجل الحساب والعقاب في الآخرة طبقًا لنسق العقائد لديهم؟ كيف يوافق الفقهاء عليها ويدافعون عنها ويجدون الأدلة على صدقها وفي نفس الوقت يهاجمون النظرة المثالية العقلية عند المعتزلة أو النظرية المجردة التي تثبت النفس المفارقة عند الحكماء؟ يبدو أن تبادل الأدوار بين المتكلمين والحكماء قد وصل إلى حد قلب الأدوار حتى إنه أصبح من الصعب معرفة أيُّ الفريقين المادي وأيهما المثالي.
والنظرية العقلية هي التي دافع عنها أوائل المعتزلة والتي تجعل النفس جوهرًا لا جسمًا ولا عَرَضًا لا طول له ولا عمق، لا في مكان، ولا يتجزأ، وأنها هي الفعَّال والمدبِّر للبدن وهي الإنسان.١٠٧ وهي التي أصبحت النظرة الحسية عند الأشعرية ردَّ فعل عليها كرد فعل على الخصم دون تحكيم للعقل أو انصياع للبرهان. وهي النظرية التي كانت مهمتها الدفاع عن لا مادية النفس ضد النظرية المادية. لذلك كانت الحجج كلها سلبية تقوم على برهان الخلف؛ أي استحالة كون النفس جسمًا، وإبطال موقف الخصوم حتى تثبت لا مادية النفس. فلو كانت النفس جسمًا لتحركت بتحرُّكه ولوجب أن نعلم ببعضها أو كلها، ولزادت في الكمية بجمع جسم آخر، وكانت بين الخفة والثقل، ولكانت ذات خاصية خفيفة أو ثقيلة، حارة أو باردة، لينة أو خشنة، ولكانت لها كيفيات محسوسة، ولوقعت تحت جميع الحواس أو بعضها، ولكان لها طول وعرض وعمق وسطح وشكل، ولقبلت التجزئة بين الصغير والكبير، ولكانت مستحيلة متغيرة، ولكان لها نفس أو غذاء، ولكان اتصالها بالجسم إمَّا مجاورة أو مداخلة أو ممازحة، ولكانت تُعرف بالمماسة، ولكانت مسايرة للجسم في العمر من القوة إلى الضَّعف ومن الضَّعف إلى القوة.
والحقيقة أن هذه الحجج كلها يمكن استعمالها لإثبات تمايز النفس عن البدن؛ وبالتالي الانتهاء إلى النظرية الرابعة والأخيرة، وهي تجرُّد النفوس الناطقة؛ فالنفوس الإنسانية مجردة، ليست جسمانية ولا جسمًا، تعلُّقها بالبدن تعلُّق التدبير والتصرُّف.١٠٨ ونفاها المتكلمون على الإطلاق. وحجة الحكماء أنها تعقل البسيط فتكون مجردة، وأنها تعقل الوجود وهو أمر بسيط، ولأنها تعقل المفهوم الكلي، وأنها تعقل الضدين ويستحيل ذلك إذا كانت جسمًا أو جسمانيًّا، وأنها لو كان العاقل منها جسمانيًّا لعقل محله، ولا يوجد جسمٌ فينا محل العلم كالقلب أو الدماغ.
ثم يصل المتكلم والحكيم كلاهما إلى بيت القصيد في إثبات حدوث النفس وتمايزها عن البدن، وأنها باقية لا تفنى بفنائه. فحدوث النفس يبدو متناقضًا مع إثبات جوهريتها اللاجسمية. ولما كان الجسم حادثًا فالنفس لا يمكن أن تكون كذلك. لذلك يبدو أن حدوث النفس كان الغرض منه ليس إصدار حكم طبيعي أو حتى عقلي على النفس، بل لتخصيص صفة القديم «لله» دون أن يشاركه فيها أحد. حدوث النفس إذن قلبٌ لقِدَم الله من أجل إعطاء الإنسانِ أقلَّ مما يُعطى «الله»، وإعطاء «الله» أكثرَ مما يُعطى الإنسان. لذلك كان القول بقِدَمها أكثرَ اتساقًا مع جوهريتها اللاجسمية. وكانت الحجج ضد الحدوث أقوى من الحجج لإثباته مثل أن كلَّ حادثٍ له مادة، وأنه لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية، وأنه يلزم عدم تناهي الأبدان.١٠٩ كما تُثير نظرية حدوث النفس إشكالًا ثانيًا، وهو متى يحدث الحدوث مع البدن أو قبْله؟ وكلٌّ منها تؤيده الأدلة النقلية ويصعُب إيجاد أدلة عقلية لإثبات أحد الرأيين ضد الآخر.١١٠ وتتطلب نظرية الحدوث بيان كيفية تعلُّق النفس بالبدن. ولما كان يغلب عليها النظرة التطهرية والتصور الثنائي الإيماني كان تعلُّقُها به تعلُّقَ العاشق بالمعشوق لتوقُّف كمالاتها ولذاتها عليه. وهي صورة شعرية توحي باتجاه الأدنى نحو الأعلى وتصوُّر إشراقي يرى الخلاص في التجرُّد عن العالم، سبب الشرور والآثام، والعيش مع النفس الخالصة. تدين طرفًا وتبرئ طرفًا، تجعل واحدًا سالبًا والآخر موجبًا، والعلاقة بينهما أحادية الطرف، صعودًا لا هبوطًا. وكيف تعشق النفسُ البدن ولا يعشق البدنُ النفس؟ أليس هذا العشق متناقضًا مع كمال النفس ونقص البدن، وأن الناقص هو الذي ينحو نحو الكمال؟ ويتصارع الفكر العلمي مع الفكر الديني في تفسير العشق. فهو إمَّا عشق مادي عن طريق الأعضاء، وإمَّا عشق روحي عن طريق «القادر المختار».١١١ ثم تأتي نظرية بقاء النفس تتويجًا لمباحث النفس وكأنها الغاية القصوى من إثبات تجرُّدها وحدوثها وتميُّزها عن البدن؛ فالنفس لا تفنى بفناء البدن لأنها ليست مادة مثله. لها بُعد البدن سعادة وشقاوة. وبالرغم من محاولة الحكماء والفقهاء إيراد حجج على بقاء النفس بتميُّزها عن البدن، فحظ النفس من الفضائل غير حظ البدن، وأن النفس سبب التذكُّر والعلم، في حين أن البدن سبب النسيان والجهل، وأن تجربة النوم تثبت بقاء النفس في غياب البدن، والنوم موتة صغرى. وكل هذه الحجج لا تخفي الإغراق كلية في الإيمان الديني وفي النظرة الطوباوية الأخروية للعالم، وكأن علم أصول الدين قد التحق بعلوم التصوف، وكأن المقدمات النظرية كلها؛ نظرية العلم ونظرية الوجود، قد تحوَّلت إلى تأملات إشراقية تعطي النفسَ المعرفةَ النظرية والسعادة العملية.١١٢
والحقيقة أن النفس هي مبدأ النشاط الحيوي في الإنسان من حس وتخيُّل وتذكُّر وتعقُّل وحركة وسلوك، لا فرق في ذلك بين نفس وبدن. الإنسان واحد، ونشاطه واحد، وأي تصوُّر ثنائي له يقسمه قسمين، ثم بعد ذلك تنشأ صعوبة الربط بينهما، فيستحيل ذلك لأن مجموع خطأين لا يكوِّن صوابًا. الحياة إذن لا فرق فيها بين نفس وبدن، والبقاء فيها أيضًا لا فرق بين نفس وبدن؛ فالحياة باقية، إما الحياة العضوية عن طريق النسل، أو الحياة العقلية عن طريق الذهن، أو الحياة الاجتماعية عن طريق الفعل. فالإنسان باقٍ بجسده عن طريق الخَلَف، وباقٍ بذهنه عن طريق الفكر، وباقٍ بفعله عن طريق أثره في الحياة ودوره في التاريخ.١١٣

(ب) العقل

أمَّا العقل فإنه وجود أكثر منه مَلَكة، وشيء أكثر منه فكرًا، وبالتالي أصبح العقل شيئًا ماديًّا وليس نظرًا واستدلالًا. أثبته الحكماء اعتمادًا على حجَّةٍ نقلية.١١٤ وقد لا تعني هذه الحجة خلق شيء، بل تعني أولوية الفكر على الواقع وأهميته، وبالتالي لا يمكن تفسيره حرفيًّا بمعنى خلق الشيء، بل معنويًّا بمعنى أهمية الفكر ووجوب النظر، وهو ما يتفق مع نظرية العلم. وقد اعتمد الحكماء في إثباته على أن «الله» واحد ولا يصدر عنه إلا واحد. ويستحيل أن يكون جسمًا لتركُّبه ولتقدُّم الهَيُولى والصورة عليه ضرورة ولا أحد جزأيه؛ إذ لا يستقل بالوجود عن الآخر، ولا عَرَضًا؛ إذ لا يستقل بالوجود دون الجوهر، ولا نفسًا؛ إذ لا تستقل بالتأثير دون الجسم. وإذا ثبت أن الصادر عن الأوَّل عقل فإن له اعتبارات ثلاث: وجوده في نفس تعقل، وجوبه بالغير كنفس، وإمكانه لذاته كجسم. هناك إذن عقل ونفس وفلك لكل عقل. ولما كانت هناك عقول عشرة، يفيض كلٌّ منها عن الآخر، ويفيض الأدنى عن الأعلى والأخس عن الأشرف.١١٥ حتى نصل إلى العقل العاشر، وهو العقل الفعَّال المفيض للصور والأعراض على العناصر والمركَّبات بسبب ما يحصل من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية وأوضاعها، وهي ملحمة الفيض المشهورة في الفلسفة الإشراقية التي أفرزتها علوم الحكمة وعند المتكلمين، هذه الأمور كلها إن كانت وجودية؛ أي موجودة في الأعيان، فلا بد لها من مصادر، وإن كانت اعتبارية؛ أي موجودة في الأذهان، امتنعت أن تكون مصدرًا للأمور الوجودية. وهي في حقيقة الأمر مجرد صور فنية تعبِّر عن جلال العالم العلوي بعد أن يئس الصوفي من صلاح الدنيا. وقد استطاع المتكلمون الكشف عن هذه الجوانب الإنشائية عند الحكماء في نظرية العقول العشرة والعقل الفعال.١١٦ وقد اعتبر الحكماء العقول أشرف من «الملائكة». وهذا تشريف للعقل، ولكن العيب أنه العقل باعتباره شيئًا موجودًا وليس العقل الاستدلالي. هو العقل كموضوع وليس العقل كمنهج، ويكون حديث العقل أكثر خطورة عندما يكتمل لتأييد القدَر والجبر ضد الاختيار وحرية الأفعال.١١٧ وهنا ينتهي العقل الكوني إلى الجبر الكوني، ويتحوَّل علم أصول الدين إلى الإشراقيات الكونية الخالصة.١١٨ لذلك كان موقف الفقهاء أفضلَ لنفيهم العقل الكوني وإثباتهم العقل الاستدلالي الذي يغيب ويحضر، يشتد ويضعُف. فالعَرَض له ضد، وهو قوة ممكنة وليس جوهرًا واجبًا.١١٩ إن هناك فرْقًا بين تأليه العقل الكوني عند الحكماء واستعمال العقل الاستدلالي عند المتكلمين والفقهاء. ليس كمال العقل في مرتبته بين الوجودات، بل في استعماله وآثاره وإقامة حياة الأفراد والمجتمعات عليه. وقد عرض الحكماء لأحكام العقول باعتبارها موجودات وليست باعتبارها أحكامًا عقلية. وجعلوها ليست حادثة لأن الحدوث يستدعي مادة، وليست كائنة ولا فاسدة لأنها بسيطة، وأن نوع كل عقل منحصر في شخصه؛ إذ إن تشخصه بماهيته وليس بالمادة، وأن ذواتها جامعة لكمالاتها، وأنها عاقلة لذواتها، وأنها تعقل الكليات وكل المجردات، وأنها لا تعقل الجزئيات لأنها تحتاج إلى آلاتٍ جسمانية ولأنها تتغير. ومع ذلك فقد فرض العقل الاستدلالي نفسه على العقل الكوني في الأحكام الأخيرة في تعقُّل الكليات. ولكن العقل عاد وتطهَّر وبرَّأ نفسه من العلم بالجزئيات؛ لأنها تحتاج إلى حواسَّ ولأنها متغيرة والعقل الإلهي ثابت لا يدرك إلا الكليات. وظهر على أنه صوري خالص يستنكف من المادة، كامل يستبرئ من النقص، فأصبح كماله وشموله فارغًا بلا مضمون.١٢٠

(ﺟ) هل هناك جِنٌّ وشياطين؟

ولكن العجيب أنه بعد هذا الحديث كله عن العقل والفيض والمعقولات تنتهي نظرية الوجود، بل والمقدمات النظرية كلها، بخاتمة عن «الجن والشياطين»، وهو ما ترسَّب في وجداننا القومي عندما غاب العقل وحضر الجن والشياطين! وهي عند الملِّيين وليس جمهور العلماء أو ملايين الناس «أجسام تتشكل بأي شكل شاءت»، وكأنها حُواة أو أبطال أساطير أو آلهة وثنيين. وقد أنكرها الحكماء لأنها إمَّا أن تكون لطيفة أم لا، وكلاهما باطل؛ فالأول يلزم أنها لا تقتدر على الأفعال الشاقة وتتلاشى بأدنى قوة، وهو خلاف الاعتقاد الذي يجعلها قادرة على خرق العادات؛ والثاني أنه لا يوجِب أن ترى ونحن لا نراها. ولو جوَّزنا أجسامًا كثيفة لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها، ودقَّات وطبول لا نسمعها؛ وهو سفسطة.» والعجيب أن المتكلمين يردُّون على حجج الحكماء لإثبات الجن والشياطين؛ فقد يقوى الشفاف على الأعمال الشاقة ولا ينفعل بسرعة. ولا يلزم رؤيتها، يفيض عليها «القادر المختار» مع لطافتها قوةً عظيمة؛ لأن القوة لا تتعلق بالقوام. وقد قال قوم إنها النفوس الأرضية وهي مختلفة؛ فمنها «الملائكة» الأرضية، ومنها الجن، ومنها الشياطين، فهذه «جنود ربك لا يعلمها إلا هو»، وكأن علم أصول الدين بمقدماته النظرية لتأسيس العلم آثر النكوص وإعلان العجز عن تأصيل موضوعات العقيدة فسلم واستسلم واعتقد وآمن. وقال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة؛ فالخيِّرة تتعلق بالخيرة وتعاونها على الخير وهي الجن، والشريرة تتعلق بالشريرة وتعاونها على الشر وهي الشياطين «والله أعلم بحقائق الأمور»! أي إنها النفوس المفارقة، وكأن الحساب والعقاب قد تمَّا من قبْل. وكيف تكون الجن نفوسًا خيِّرة وهي تسترق السمع بنص الوحي؟١٢١ يبدو أن تشخيص قوى الخير والشر أو التعبير عنها في صور فنية قد منع المتكلمين والحكماء معًا من البحث عن الأسس الاجتماعية للشر، واكتفَوا بتصويره عجزًا عن مواجهته وتغييره.١٢٢ ومع أنها كانت عند القدماء مجرَّد خاتمةٍ لمبحث الجواهر، إلا أنها أصبحت عند المتأخرين موضوعًا محبَّبًا إلى النفس لجذب انتباه العامة اعتمادًا على الخيال الشعبي وهدْمًا لكل المقدمات النظريات الأولى. وتساءل المتأخرون هل يأكلون (أي الجن) ويشربون ويتناكحون، أم لا؟١٢٣ هل يدخلون في الناس أم لا؟١٢٤ هل يخبرون الناس بشيء أو يخدمونهم؟١٢٥ هل هم مكلَّفون أم مضطرون؟١٢٦ هل لهم ثواب ويدخلون الجنة؟١٢٧ وانتهت النظرة الحسية والتحليل العلمي المادي الذي ساد تصوُّر المتكلمين. ولم تفلح الحركات الإصلاحية في تغيير الأمر، وتساءلت أيضًا عن الحكمة في خلق الجن!١٢٨ وتساءل القدماء أيضًا عن الشياطين ناسين المقدمات النظرية؛ نظريتي العلم والوجود، ووقعوا كليةً في الغيبيات والظنيات والسمعيات، وكأن بداهات الحس وأوائل العقول وشهادات الوجدان لم تَعُد مقياسًا للصدق وأصلًا للتأسيس، ولم يَعُد هناك إلا الروايات الظنية، المشهورات والذائعات دون المتواترات. هل يُرون في الدنيا؟١٢٩ هل يجوز انقلابهم في صور الإنس أو في أي صور أخرى إذا أرادوا ذلك؟١٣٠ هل يسترقون بعضهم البعض؟١٣١ هل يطيقون على حمْل ما لا يطيق البشر على حمله؟١٣٢ هل هم يعلمون ما في القلوب؟١٣٣ هل يوسوسون؟١٣٤ وتتراوح الإجابات بطبيعة الحال بين الإثبات والنفي؛ الإثبات تدعيمًا للتصوُّر الديني للعالم، والنفي بناء على التصوُّر العلمي الذي يعمل إلى حد تصوُّر الصرع في مقابل وسوسة الشيطان.١٣٥ وقد ظلت بعض هذه التساؤلات حتى حركات الإصلاح الأخيرة. فالشيطان هو المسئول عن البدع وعن كل مظاهر الشرور في العالم بما فيها الطاغوت. لم يستطع المتكلمون والفقهاء معًا وهم الذين دافعوا عن التصوُّر الحسي للعالم أن يحافظوا على مكتسبات نظرية العلم ونظرية الوجود، وانتهت المقدمات النظرية بالوقوع في الغيبيات المحضة، والظنيات الخالصة، والبعيدة كل البعد عن مصالح الأمة.

خاتمة

لقد استطاعت نظرية الوجود في نهاية الأمر أن تجعل العلوم هي الطبيعة، وأن يظهر الإنسان أيضًا من خلال الطبيعة في مقابل «الله» مثبتًا دوره في الكون في إدراك قوانين الطبيعة والسيطرة عليها. فموضوع علم أصول الدين كما ظهر من نظرية الوجود هو الطبيعة، وأنه لا تفكير في «الله» إلا بعد التفكير في الطبيعة، وكأن الدين لا يتأسس إلا في العلم. لا يمكن الوصول إلى «الله» إلا من خلال الطبيعة، وفي هذا تتفق كل العلوم الإسلامية الأربعة: علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلوم الحكمة، وعلوم التصوف. وهذا يعني أن الأدلة على وجود «الله» أدلةٌ بَعْدية خالصة. «الله» نتيجة وليس مقدمة، نهاية وليس بداية، غايةً وليس أصلًا، مقصدًا وليس أساسًا، اتجاه وليس شيئًا … إلخ. ولهذا السبب تتجاور الطبيعيات والإلهيات وتتداخل وكأنهما علم واحد. تُدرك الإلهيات بلغة الطبيعة، وتُدرك الطبيعة بلغة الإلهيات. «الله» جوهر، والشيء جوهر. «الله» شيء والشيء الطبيعي شيء، «الله» موجود والشيء الطبيعي موجود. وقد يصل الأمر إلى استحالة التصرُّف في أي الموضوعين يكون الحديث في «الله» أم في الطبيعة.١٣٦ والحقيقة أن كل هذا التوحيد الطبيعي، أو الطبيعة التوحيدية، لم تكن الغاية منه تحليل الطبيعة أو إثبات وجود الإنسان في الطبيعة، بل إثبات الإلهيات بصورة أخرى بطريق بَعْدي، أو إسقاط الإلهيات على الطبيعة على نحوٍ قَبْلي؛ وبالتالي جعل الطبيعة متحدِّثًا رسميًّا باسم «الله». فإذا ما انتهى الأمر إلى أن تصبح الإلهيات والطبيعيات عِلمًا واحدًا، فذاك إنما يأتي كنتيجة وبطريق المصادفة وليس كمسلَّمة أو كنتيجة قصدية. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى، ولكن المهم بالنسبة لنا هو كيف استطاع العقل التوحيدي النظر إلى الطبيعة، وهل يمكن أن يوجِّه العقل التوحيدي تحليل الطبيعة؟ إن ما ظهر في نظرية الوجود هو أن كل تحليل طبيعي كان مقدمة لإثبات صفة إلهية أو نفي أخرى. فتحليل الأعراض لإثبات حدوثها مقدمة لإثبات صفة القديم. وتحليل المِثْلين والمختلفين لنفي الشبه، وتحليل الجسم لنفي صفة الجسمية عن «الله»، وتحليل الأكوان والاعتمادات لنفي صفة المكانية عن «الله»، وتحليل الجوهر لنفي صفة الجوهرية عن «الله» وتحليل الشيء لنفي صفة الشيئية عن «الله». ومع ذلك يمثِّل الفكر الطبيعي المستقل بوادرَ صراع الفكر العلمي مع الفكر الديني، وصراع العقل لإثبات سلطته أمام طبيعة مستقلة لها قوانينها المطردة الثابتة. فالطبيعيات تدل أكثرَ ما تدل على بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني أكثر مما تدل على تحليلٍ علمي للطبيعة. وذلك موجود في تاريخ العلوم الطبيعية والرياضية وفي علوم الحياة، مثل الطب والتشريح والنبات. وبتعبيرٍ آخَر تمثِّل الطبيعيات الصراع بين تحليل الواقع والتعبير الإنشائي، وتكشف عن التباين بين الموقف العلمي والموقف الخطابي. وقد استُعملت الطبيعيات كجزء من علم التوحيد المنهجَ التأمُّلي الخالص؛ أي إنها طبيعيات عقلية وليست طبيعيات علمية تقوم على التحليل المعملي وعلى التجارب العلمية، وعلى القياس وفرْض الفروض والتحقُّق من صحَّتها. ومع ذلك إذا ما احتاج العالم إلى بعض تصوُّراتٍ نظرية تساعده على إجراء التجارب العلمية، فالطبيعيات العقلية تستطيع أن تمده بمثل هذه التصورات عن المداخلة والتركيب والمزج والاتحاد والملامسة والمجاورة … إلخ. وهذا يحدث دائمًا في تاريخ العلم المرتبط بالميتافيزيقا الخالصة أو بعلوم الحكمة. فإذا ما حدث اكتشاف علمي دائم لا يتغير، فإن ذلك يحدث بالعَرَض وليس بالجوهر، نتيجةً لعمل الذهن في التوحيد عن طريق وصف ظواهر الطبيعة وتحليل الواقع المادي. «الله» إذن رؤيةٌ موجِّهة للذهن نحو الطبيعة أو «فكرة محدِّدة»، كما يقول المناطقة. ومع ذلك، وبالرغم من أن هذا الكلام في «الدقيق» يبدو أقربَ إلى الطبيعيات منه إلى الفكر الديني، إلا أن الفكر الديني يظهر من ورائه كافتراضٍ بعيد غير محتمل الوقوع، ولا يؤثِّر وجوده في الوصف العقلي للطبيعة. أمَّا أزمات العلم التي يمكن لميتافيزيقا الطبيعة أن تمدها ببعض التصورات لحلها، فإنها لا تحدث إلا بعد نشأة العلم وتطبيق العلم وتوجيه العلم للحياة الإنسانية.
تكشف إذن هذه المقدمات النظرية كلها عن أن التوحيد يمكن أن يقوم على أصولٍ عقلية يمكن الوصول إليها مسبقًا، وهذا هو الذي أدَّى بالفعل إلى تأسيس نظريتي العلم والوجود.١٣٧ وتبدو في المؤلفات الكلامية الأولى وتظهر تدريجيًّا حتى تبتلع موضوعاتها في نظريتَي العلم والوجود الموضوعات الكلامية نفسها.١٣٨ ويصبح علم الكلام كله علمًا نظريًّا أو أنطولوجيًّا يتَّحد فيه العلم والمنطق، وتحليل العقل وتحليل الوجود، حتى ليصعُب بعد ذلك التفرقةُ بين علم الكلام والفلسفة والميتافيزيقا. ويبدو الحديث في الموضوعات الإلهية، وعلى رأسها التوحيد، وكأنه حديث عارض راجع إلى نقصٍ في قدرة العقل على التنظير، أو كأن تطور هذه الموضوعات مرتبط بمرحلةٍ معينة من تطور العلم. فإذا ما تطور العلم واكتمل أصبح الوجود هو موضوع علم الكلام، وعالم الكلام باحث الوجود، والإلهيات الأنطولوجيا العامة، والمتكلم هو الفيلسوف الميتافيزيقي الباحث في الوجود.١٣٩
ويمثِّل علم الكلام المتأخِّر محاولةً للتوحيد بين الأساس العقلي للكلام وللحكمة على السواء، ويبرز في تعريف الموضوعات أوجه التشابه والاختلاف بينهما.١٤٠ وبالرغم من اقتراب علم الكلام من علوم الحكمة إلا أنه يقوم على أساس عقلي خاص به، وكأن هذا الانتقال من النقل إلى العقل كان تطورًا طبيعيًّا من داخله وليس تبنِّيًا لعلوم الحكمة التي كانت في حقيقة الأمر إشراقية أكثر منها عقلية، وأسطورية في بعض جوانبها أكثر منها واقعية، في حين كان علم الكلام صاحب نظرة حسية عقلية لم يتخلَّ عنها إلا في النهاية عندما ضعفت عزائمه ووهنت قواه، وتسرَّب إليه الإيمان التقليدي من جديد. بل إن علم الكلام يقف أحيانًا من علوم الحكمة موقف العداء، ويرفض تصوراتها للعالم مثل قِدَم العالم والجواهر المفارقة.١٤١ ويذكر الحكماء دون تعيين. وأحيانًا يُعيِّن أحدَهم وهو الذي بين أحكام الوجود والعدم والواحد والكثير والواجب والممكن والمستحيل، والوجود والماهية، ولديه تبلغ الفلسفة أقصى ما وصلت إليه من تجريد.١٤٢ فإذا كان مسار علم الكلام التقليدي وتطوُّره في التاريخ يثبت أن النظرية العقلية، سواء في نظرية العلم أو في نظرية الوجود، تطغى على الموضوع الإلهي، أو أن الأساس العقلي يبتلع تدريجيًّا الموضوع نفسه، فإننا بتطوير علم الكلام لمرحلةٍ أخرى نصل إلى صياغة نظرية عقلية شاملة تتلاشى فيها الموضوعات الإلهية حتى يصبح علم الكلام عِلمًا عقليًّا خالصًا، وحتى يتأسس العلم في النهاية بتحويل موضوعه من موضوع حسي مادي وجداني نفسي وهو التشخيص أو التشبيه، إلى موضوع عقلي علمي خالص؛ وبالتالي يتحقق مشروع علم الكلام الذي وضعه هو لنفسه، وهو تأسيس علم أصول الدِّين في مقدمات نظرية خالصة مثل نظريتَي العلم والوجود، هذا المشروع الذي توقَّف منذ القرن الثامن حتى الحركات الإصلاحية الحديثة، وما كاد ينهض حتى خَبَا من جديد.١٤٣ ويكون أيضًا قد تخلَّى عن منهج النص الحرفي أو المعنوي (التأويل)، واعتمد على القسمة العقلية الخالصة. هذه المقدمات النظرية التي تحتوي على نظرية العلم ونظرية الوجود ليست من قبيل الترف العقلي أو الاستطراد أو الاستعارة من علوم أخرى؛ علوم الحكمة أو علوم الفقه والأصول أو علوم التصوف، بل هو آخر ما وصل إليه علم الكلام من تنظيرٍ للموضوعات الإلهية.١٤٤ وهذا لم يمنعه أنه في بعض الأحيان عندما يضعف التنظير تطل الإلهيات بين الحين والآخر، خاصةً في الصياغات الأولى لنظرية العلم، وفي الصياغات الأخيرة لنظرية الوجود.١٤٥ لذلك كان استعمال علم الكلام المتأخر للحجج النقلية قليلًا للغاية؛ لاعتماده على القسمة العقلية وحدَها، ورغبته في إقامة نظرية عقلية خالصة على عكس علم الكلام المتقدم الذي لا يتجاوز كونه تجميعًا لبعض النصوص في موضوع واحد وشرحها.١٤٦ ومع ذلك فقد انتهت نظرية العلم اعتمادًا على تحليل العقل وحدَه إلى أن صار العقل فارغًا بلا مضمون، يعيش العقل على نفسه، وتظهر قواه بفعله الخاص، فتتشعب التقسيمات حتى ولو لم تكن بذات دلالة، بالنسبة للموضوع الرئيسي، وكأن العقل عندما يبلغ حدًّا من الصورية فإنه يترك موضوعه الأساسي ويعيش على ذاته، ويخرج نسيجًا من الخطوط الهندسية المتسقة مع نفسها، وينسج شبكة من التقسيمات ونظامًا من الأبنية ينطبق على كل موضوع، ويكون هو الموضوع المثالي للعقل المتسق مع بنية العقل ذاته. فإذا ما تحوَّل العقل إلى الوجود فإنه يحوِّله أيضًا إلى وجودٍ صوري، وكأن العقل يصف ذاته؛ فالعقل الصوري والوجود الصوري صنوان.
والسؤال الآن: هل تكفي نظريتا العقل والوجود وحدهما لإقامة العلم؟ صحيح أن العقل هو العلم، والوجود هو المعلوم. ولكن العقل والوجود كليهما يظهران في الشعور، والعلم والمعلوم كلاهما بُعدان للشعور؛ ومِنْ ثَمَّ احتاجت نظرية العلم ونظرية الوجود إلى نظرية ثالثة هي نظرية الشعور. وكما تقوم نظرية العلم بتحليل العلم ونظرية الوجود بتحليل الوجود، فإن نظرية الشعور تقوم بتحليل الشعور واكتشاف العقل والوجود كبعدين للشعور. وعلى هذا النحو يمكن التغلب على هذين الانحرافين الصوري والمادي في نظريتي العلم والوجود بإيجاد الشعور كطرفٍ يظهر فيه العقل والوجود. فالعقل هو الجانب العاقل للشعور، هو الذات العاقلة، والوجود هو الجانب الوجودي للشعور أو هو الموضوع الموجود. يستطيع تحليل الشعور القضاء على صورية العلم وصورية الوجود على السواء. والشعور قادر على إعطاء مادة جديدة خصبة ومتجددة يقوم العقل بتحليلها؛ ومِنْ ثَمَّ لا يعيش العقل على ذاته، ولا يتحوَّل إلى مجرد آلة نسيج لتصورات وتقسيمات، بل يعمل في تحليل مضمون التجارب التي يقدمها الشعور والتي تكشف عن نفس التجارب التي منها تنبثق النصوص الكلامية والدينية.١٤٧ والحقيقة أن تحليل الشعور ليس غريبًا على مادة الكلام، بل متغلغل فيها مطمور داخل القسمة العقلية وتحليلات الوجود. تظهر كلمة شهادة الوجدان كثيرًا على أنها حجة. والوجدانيات، شهادة الحس الباطنة، أحد مصادر العلم طبقًا لنظرية العلم، فإذا كانت المقدمات النظرية لعلم الكلام قد أعطتنا:
  • (١)

    نظرية عقلية محكمة تعبِّر عن أقصى ما وصل إليه العلم من تنظير عقلي، ولكن تحكمها ثنائية عقلية متطهرة تعبِّر عن تصوُّر ديني للعالم، وهي المثالية العقلية التي تعبِّر عن الإيمان الديني التقليدي.

  • (٢)

    نظرية وجودية محكمة تعبِّر عما وصل إليه علم الكلام من تنظير عقلي في وصف الوجود، ولكن تحكمها نفس الثنائية المتطهرة التي تقسِّم العالم إلى قطبين: قطب موجب وآخر سالب، وتجعل العلاقة بينهما علاقة أولوية وشرف، علاقة نقص وكمال.

وعلى هذا النحو تكون مهمتنا إذن في تطوير هذه المقدمات النظرية كالآتي:
  • (١)

    تحويل القسمة العقلية، وهو الطابع الغالب على نظرية العلم التي تعبِّر عن الموقف الديني المتطهر إلى تحليل عقلي خالص لا يتبع أسلوب القسمة، بل التحليل المتشعب الاتجاه الذي يكشف عن البناء الشعوري للموضوع.

  • (٢)

    تحويل القسمة الوجودية، وهو الطابع الغالب على نظرية الوجود إلى خبرات شعورية بالعالم تكشف عن ماهيته، وتكون موضوعًا للتحليل العقلي.

فإذا كان علم الكلام القديم قد تطوَّر من مرحلة الحجة النقلية إلى مرحلة الحجة العقلية إلى مرحلة التحليل الوجودي الخالص، فإنه يمكن أن ينتقل الآن إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة التحليل الشعوري للموضوعات من خلال الخبرات الحية، ويكون المعلوم هو المشعور به. فعلم الكلام نشأ وتطوَّر ولم يتوقف تطوُّره إلا في عصر الشروح والملخصات، والعصر الثاني للنقل والترجمة عن الحضارات المجاورة.١٤٨ فمن الممكن إذن تطويره من جديد، خاصةً وأننا باحثون منتسبون إلى الحضارة ولسنا مستشرقين خارجين عنها أو عليها؛ فهي جزء مِنَّا ومن تصورنا للعالم، ومن وجودنا، ونحن جزء منها كتحقُّق تاريخي لها، ثقافةً ونظامًا ودافعًا. فتسير الحضارة من جديد وتنتقل من طورها الثاني الذي توقفت فيه في القرون السبعة الأخيرة إلى طورها الثالث الذي تلحق به بطورها الأوَّل في القرون السبعة الأولى. فلسنا أمام علم مقدس، بل أمام نتاج تاريخي خالص، صبَّ كل عصر ثقافته وتصوُّره فيه. وتصوُّر القدماء تصوُّر تاريخي خالص يعبِّر عن عصرهم ومستواهم الثقافي، كما أن تصوُّرنا تصوُّر معاصر يعبِّر عن روح عصرنا ومستوانا الثقافي. فإذا استطاع باحث أو جماعة من الباحثين الوعي بروح العصر وباحتياجاته ومتطلباته، فإنه يمكنه ويمكنهم تطوير العلم به، وأن يؤرخ لعلم الكلام بهذا التصوُّر الجديد كما تؤرَّخ حاليًّا طبقًا للمراحل القديمة، مرحلة الحجة النقلية، مرحلة التحليل العقلي، مرحلة التحليل الوجودي. ويُطبق هذا المنهج الشعوري على خطوتين:
  • (١)

    يُقرأ النص القديم، وغالبًا ما يكون نصًّا صوريًّا عقليًّا مجرَّدًا، فيشعر القارئ بشيء، ويكون هذا الشيء هو المادة الناقصة، فيكمل تحليل النص به. ولما كان الباحث هو الباحث المعاصر، فإن مادة الشعور تعبِّر عن البناء النفسي المعاصر. وكثيرًا ما يكون النص مادة صرفة مثل التحليل الفزيولوجي للحس، وهنا يبدو الشعور وكأنه يرفع هذه المادة ويضعها على المستوى العقلي الشعوري، وإعطاء نظرية في الإدراك شعورية بقدْرِ ما هي فزيولوجية. وإذا وجد الشعور نفسه أمام نص كوني يقوم على تشخيص الطبيعة من تصوُّر للأفلاك على أنها نفوس حية عاقلة وتصور للفيض وللعقول العشرة وكل ما يُقال عن المفارقات، فإن الشعور يبدأ بتحليله العقلي ويعيد بناء الموضوع على أساس عقلي حتى يتلاشى التشخيص والخيال والإشراقيات.

  • (٢)
    نظرًا لأن تحليلات القدماء لا تكفي؛ إذ يغلب عليها التحليل العقلي للوجود الصوري، فإننا نضيف عليها مادة جديدة مستقاة من الوجود الإنساني، أو من روح العصر. وكما استعمل القدماء الشعر الجاهلي وشعر الفرق، فإنه يمكن استعمال الشعر الحديث باعتباره معبِّرًا عن احتياجات العصر.١٤٩ ولما كان الشعر هو الفن الغالب على تراثنا القديم، فإنه يمكن استعمال كل ضروب الفن السائدة في عصرنا من شعر ورواية وقصة ومسرحية. وإذا كان القدماء أيضًا قد استعملوا أمثال العرب، فإننا نعتمد أيضًا على الأمثال العامية، بل وعلى الأزجال التي تعبِّر عن روح الشعب على نحوٍ قد يكون أصدق من الأدب المدوَّن.
ولما كان الشعور في حقيقته وعيًا، وكان الوعي في واقع الأمر وعيًا اجتماعيًّا، فإن منهج الشعور هو منهج لتحليل الواقع الاجتماعي. فالشعور ليس وعيًا خالصًا منعزلًا عن محيطه ودوائره، عالم الأشياء، وعالم الآخرين، بل هو وعي اجتماعي يكشف عن بناء الواقع ومكوناته.١٥٠ ولما كان الواقع هو في نهاية الأمر تراكم للماضي، وأحد مراحل التاريخ، فإن الوعي الاجتماعي هو أيضًا وعي تاريخي. وعلى هذا النحو يتحوَّل علم الكلام القديم من الحجة النقلية إلى التحليل العقلي إلى وصف الوجود، ثم يصبُّ في نهاية الأمر في التحليل الاجتماعي والسياسي للوعي التاريخي في حياة الأمة. وعلى هذا النحو يعود علم الكلام إلى نشأته الأولى؛ أي إلى علم أصول الدين؛ حيث صبَّت فيه الأمة القديمة تاريخها وصراعاتها وأزماتها وقرأت واقعها في العقيدة كما يبدو ذلك في عقائد الفرق. ولربما يستطيع جيلنا نحن أن يقرأ في عقائده اليوم، كما فعل القدماء، تاريخَه وصراعاته وأزماته، فتتأصَّل ثورته من خلال عقيدته.
١  المواقف، ص١٨٢–٢٦٥.
٢  في المواقف، الجسم، ص١٨٣–٢٤٤ (٦١ص)؛ عوارض الأجسام، ص٢٤٤–٢٥٦ (١٢ص)؛ النفس، ص٢٥٧–٢٦١ (٤ص)؛ العقل، ص٢٦٢–٢٦٥ (٣ص).
٣  حقيقة الجسم، ص١٨٣–١٩٩ (١٦ص)؛ أقسام الجسم، ص١٩٩–٢٢٩ (٣٠ص)؛ عوارض الأجسام، ص٢٤٤–٢٥٦ (١٢ص).
٤  الإنصاف، ص١٦؛ التمهيد، ص٤١-٤٢؛ طوالع الأنوار، ص١٠٩؛ الشامل، ص١٤١-١٤٢. والجزء الذي لا يتجزأ يحتمل الأعراض مثل الجوهر عند أبي الحسين الصالحي (مقالات، ج٢، ص٤).
٥  القائم بنفسه عند الصالحية، والوجود عند الكرامية، والشيء عند هشام بن الحكم، ولا يلزم من ذلك بالضرورة تسمية الأعراض أجسامًا؛ فالأعراض محمولة على أجسام (الشامل، ص٤٠٦).
٦  عند النظَّام والنجار الجسمُ مجموع الأعراض مجتمعة. وعند ضرار والنجار وحفص الفردُ ماهية الجسم مركَّبة من لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وخشونة ولين (المحصل، ص٨٤). وعند ضرار بن عمرو الجسمُ أعراضٌ أُلفت (مقالات، ج٢، ص٦-٧؛ الفرق، ص٢١٤؛ الشامل، ص١٤٨-١٤٩، ص١٥٣).
٧  هذا هو رأي الكرامية (الشامل، ص٤٠١).
٨  الجسم عند الجمهور مجموع الجزأين، وعند القاضي كل واحد من الجزأين لأنه الذي قام به التأليف. عند معمر الجسمُ هو الطويل العريض العميق. وعند الفلاسفة والمعتزلة أيضًا بوجه عام الجسمُ هو الطويل العريض العميق. وبالنسبة لعدد الأجزاء أربعة عند الإيجي، وستة عند العلاف، ثلاثة على ثلاثة، وثمانية أو عشرة أجزاء عند ضرار وحفص الفرد والحسين النجار. عند الجبائي ومعمر اثنان للطول واثنان للعرض واثنان للعمق، وستة وثلاثين جزءًا، ستة أركان ولكلٍّ منها ستة أجزاء، والأركان وحدَها هي التي بها تماس وتباين (مقالات، ج٢، ص٥-٦، ص١٤-١٥؛ الفصل، ج٥، ص١٨٠-١٨١؛ الشامل، ص٤٠١–٤٠٨؛ حاشية الأسفرايني، ص٤٤-٤٥). والنظَّام هو الذي قال بأجزاء غير متناهية (المواقف، ص١٨٣–١٩٣).
٩  المحصل، ص٨٣؛ شرح المقاصد، ص١٥؛ شرح التفتازاني، ص٤٦-٤٧، ص٥٠-٥١؛ طوالع الأنوار، ص١٠٩.
١٠  الاحتمال الأوَّل عند المتكلمين، والثاني عند النظَّام، والثالث عند الشهرستاني، والرابع عند الحكماء.
١١  أصول الدين، ص٣٥-٣٦.
١٢  هذا هو رأي القاضي.
١٣  كان الجبائي يثبت الجزء الذي لا يتجزأ ويقول إنه يلقى بنفسه ست أمثاله. يجيز عليه الحركة والسكون واللون والمماسة والطعم والرائحة إذا كان منفردًا، وينكر أن يحله طول أو تأليف وهو منفرد أو يحله علم أو قدرة أو حياة وهو منفرد (مقالات، ج٢، ص١٤).
١٤  الجوهر الفرد لا شكل له. ولكن اختلف الأصوليون في تشبيهه ببعض الأشكال مثل المدوَّر أو المربَّع (القاضي) أو المثلث. وأبطل القاضي هذه الأقاويل (الشامل، ص١٥٨-١٥٩).
١٥  معالم أصول الدين، ص١٩-٢٠؛ طوالع الأنوار، ص١١٣.
١٦  نهاية الإقدام، ص٥٠٧-٥٠٨.
١٧  وتثبت المقدمة الأولى بمقدمات ثلاث: (أ) القابل للقسمة لو كان واحدًا لزم انقسام الوحدة وهو باطل. (ب) القابل للقسمة لو كان واحدًا لكان التفريق إعدامًا له. (ﺟ) مقاطع الأجزاء متمايزة بالفعل. وتثبت المقدمة الثانية بثلاث مقدمات أخرى، هي: (أ) لو كانت مركَّبة من أجزاء غير متناهية لامتنع قطع المسافة في زمنٍ متناهٍ. (ب) المحصور بين طرفين وانحصار ما لا يتناهى محال. (ﺟ) التأليف يفيد زيادة الجسم.
١٨  صياغة القدماء كالآتي: لولا انتهاء الأجسام إلى أجزاء لا تتجزأ لكان الانقسام في السماء والخردلة ذاهبًا إلى غير نهاية، ولأمكن انقسام الخردلة إلى صفائح غير متناهية فتغمر وجه الأرض.
١٩  وذلك يشابه نقْد برجسون لحجج زينون الإيلي في التراث الغربي المعاصر، الذي حاول إنكار الحركة وإثبات سبق السلحفاة لأيسخيلوس، بالإضافة إلى أنه نقْد بديهي يمكن لكل إنسان بجهده الخاص أن يكتشفه.
٢٠  نهاية الإقدام، ص٥٠٥–٥٠٧.
٢١  اختلف المتكلمون في المداخلة؛ فقد أثبتها هشام من الروافض والنظَّام من المعتزلة. وينكرها الروافض ويثبتون بدلًا عنها المجاورة والملامسة. كما أنكر ضرار المداخلة وقال بالمجاورة (مقالات، ج١، ص١٢٥؛ الفرق، ص٦٨؛ مقالات، ج٢، ص٢٣؛ الشامل، ص٤٦٨–٤٧١). كما اختلفت الروافض في الجزء الذي لا يتجزأ إلى فرقتين: الأولى (هشام) تقول بأن الجزء لا يتجزأ أبدًا، ولا جزء إلا وله جزء، وليس لذلك آخِر إلا من جهة المساحة، وأن لمساحة الجسم آخِر وليس لأجزاء آخِر من باب التجزُّؤ. والثانية تقول بأنه لأجزاء الجسم غاية من باب التجزُّؤ، وله أجزاء معدودة لها كل وجميع. ولو رفع الباري كل اجتماع في الجسم لبقيت أجزاؤه لا اجتماع فيها، ولا يحتمل لكل جزء منها التجزُّؤ (مقالات، ج١، ص١٢٤).
٢٢  طالع الأنوار، ص١١٦-١١٧؛ المواقف، ص١٨٣–١٩٣. وقد ذهب بعض المتفلسفة إلى أن الجزء يتجزأ والتجزئة غاية في الفعل. فأمَّا في القوة والإمكان فليس لتجزئته غاية (مقالات، ج٢، ص١٦). وصار معظم الفلاسفة إلى أن الأجرام لا تتناهى في تجزئتها وهو رأي النظَّام المنتسب إلى الفلسفة (الشامل، ص١٤٣). وقال الحكماء. لما تقرَّر أن الجسم لا يتفصل إلى أجزاء لا تتجزأ فقط؛ فقد ثبت أنه متصل واحد في الحقيقة كما هو عند الحي، وقابل للقسمة إلى غير النهاية (المواقف، ص١٩٣–١٩٥).
٢٣  نهاية الإقدام، ص٥٠٩–٥١٢.
٢٤  كان هشام يقول بنفي نهاية الجسم، وعنه أخذ النظَّام إبطال الجزء الذي لا يتجزأ (الفرق، ص٦٨، ص٣١). ثم بنى عليه القول بالطفرة التي لم يسبق إليها وهمُ أحدٍ من قبله. وقد وضع جعفر بن حرب كتابًا في تكفير النظَّام لإبطاله الجزء الذي لا يتجزأ (الفرق، ص١٣٣). ومن «فضائحه» قوله بانقسام كل جزء لا إلى نهاية وفي ضمن هذا القول إحالة كون الله محيطًا بآخر العالم عالمًا به (الفرق، ص١٣٩-١٤٠؛ الملل، ج١، ص٨٣).
٢٥  الفصل، ج٥، ص١٤٥.
٢٦  هذا هو رأي أبي الهذيل.
٢٧  الفصل، ج٥، ص١٦٨–١٧٤؛ الشامل، ص١٤٧.
٢٨  «فإذا بَطَل قولهم في الجزء الذي لا يتجزأ وفي كل ما أوجبوه أنه جوهر لا جسم ولا عرض، فقد صحَّ أن العالم كلَّه حامل قائم بنفسه ومحمول لا يقوم بنفسه، ولا يمكن وجود أحدهما متخليًا؛ فالمحمول هو العَرَض والحامل هو الجوهر وهو الجسم ما شئت، ولا يمكن في الوجود غيرهما وغير الخالق لهما» (الفصل، ج٥، ص١٨١-١٨٢، ص١٦٧–١٨٢؛ الشامل، ص١٤٦). وقد أفاض الشهرستاني في إثبات الجزء الذي لا يتجزأ كما فصل ابن حزم عرض الحجج وتفنيدها وإيراد حجج أخرى لإبطاله. أمَّا الإيجي في «المواقف» فإنه فضَّل عدم الدخول في المعركة، ربما توقُّفًا عن الحكم.
٢٩  يُلاحَظ أن الشهرستاني قد أفاض في الجزء الذي لا يتجزأ في «نهاية الإقدام»، فأفرد له فصلًا خاصًّا، ويركز على أنه من عمل الوهم «ثم إنا نُسَمِّي ما انتهى جزءًا فردًا اصطلاحًا، وذلك معقول الدليل وليس بمحسوس؛ ولأن ما يقدِّره الوهم ودلَّ عليه البرهان هو ذلك الجزء الذي انتهى به … فإن الذي أثبتناه معقول بالدليل غير محسوس ولا موهوم» (نهاية الإقدام، ص٥٠٩–٥١٢). «ولا يمكن فهْم الحجج نفيًا أو إثباتًا إلا بالانتقال المستمر بين العقل والوهم، بقي ها هنا في هذه الصورة وهو الانفصال في جانب الوهم أنه لا يقف حتى يقدر عالمًا متصلًا بعالم آخر إلى ما لا يتناهى، فذلك عمل الوهم المخالف لبرهان العقل، فلا نقبل ذلك، بل نقول إن الوهم إنما يصدق بشرط ألا يؤدي إلى جسم غير متناهٍ، وذلك خلاف العقل، ونقول ها هنا إن الوهم إنما يصدق بشرط ألا يؤدي إلى أجزاء غير متناهية، وذلك خلاف العقل … وقد بَيَّنَّا أن الوهم لا يقف إلى حدٍّ لا يتوهم زيادة على الجسم» (نهاية الإقدام، ص٥١٢–٥١٤).
٣٠  عند إحدى فرق الإباضية الجزء الذي لا يتجزأ جسم على مذهب الحسين (مقالات، ج١، ص١٧٥). وأحال صالح قبة أن يلقى الجزء ستة أمثاله أو مثلين؛ إذ يستحيل أن يلقى الجزء الواحد جزأين، وجوَّز عليه أن يحله جميع الأعراض إلا التركيب وحدَه (مقالات، ج٢، ص١٥). وعند معمر الإنسان جزء لا يتجزأ، وأجاز عليه أن يحل فيه العلم والقدرة والحياة والإرادة والكراهة. ولم يُجِز أن يحل فيه المماسة والمباينة والحركة والسكون واللون والطعم والرائحة (مقالات، ج٢، ص١٦). وعند عباد بن سليمان الجزء الذي لا يتجزأ شيء لا طول له ولا عرض ولا عمق، وليس بذي جهات، ولا مما يشغل الأماكن، ولا مما يسكن ولا يتحرك، ويجوز عليه أن ينفرد» (مقالات، ج٢، ص١٤). وقد يجوز عليه الطول فقط دون سائر الأحوال (مقالات، ج٢، ص١٦). وبالرغم من أنه يفتقر إلى المكان إلا أنه يتحيَّز في المكان! (الشامل، ص٢٥٩). وله جهة واحدة وهي الصفحة التي نلتقي به فيها؟ وماذا يحدث لو التقى به اثنان: الأوَّل من الأمام والثاني من الخلف في نفس الوقت، أو إذا التقى به أربعة من الأمام والخلف واليمين واليسار؟ (مقالات، ج٢، ص١٥).
٣١  عند بعض أهل السنة إذا تآلف جوهران فهما جسم واحد (مقالات، ج٢، ص١٥). وعند القاضي وبعض المحققين أن الجوهرين إذا تآلفا فهما جسمان (الشامل، ص٤٠٨).
٣٢  مقالات، ج٢، ص١٥.
٣٣  نستعمل هنا لفظ «الوحي» كشيء مادي صرف؛ أي المدوَّن في كتاب معيَّن وهو القرآن؛ ومِنْ ثَمَّ فهو موجود، ليس في حاجة إلى إثبات، وهو بخلاف نظرية النبوة.
٣٤  أجاز أبو الهذيل على الجزء الذي لا يتجزأ الحركةَ والسكونَ والانفراد، وأن يماس ستة أمثاله بنفسه. أن يجامع غيره ويفارق غيره، وأن يفرده الله فتراه العيون، ويخلق فينا رؤيةً له وإدراكًا له. ولم يَجُز عليه اللون والطعم والرائحة والحياة والقدرة والعلم؛ إذ لا يجوز ذلك إلا للجسم (مقالات، ج٢، ص١٤؛ الفصل، ج٥، ص١٨٠-١٨١؛ الشامل، ص٤٠٧).
٣٥  شكَّ شاكُّون فقالوا: لا ندري أيتجزأ أم لا يتجزأ (مقالات، ج١، ص١٢٤).
٣٦  انظر دراستنا: Theologie on Anthropologie, La Renaissance du Monde Arabe.
٣٧  في المصنفات القديمة تأتي قسمة الجسم قبل عوارض الأجسام وبعد حده مباشرةً، وقد آثرنا تركها بعد عوارض الأجسام حتى يمكن الحديث عن قسمة الأجسام مرة واحدة ابتداءً من الجواهر الجسمية حتى الجواهر المفارقة (المواقف، ص٢٤٤–٢٥٦).
٣٨  العوارض هنا تعني مجرد الأحكام والدلالات، مع أنها قد توحي بالخلط مع الأعراض التي تم تحليلها في المبحث السابق عن ظواهر الوجود.
٣٩  ومعهم أرسطو بعد أن تم تمثُّله في الحضارة الإسلامية، وأصبح أحد روافدها.
٤٠  وهم الفلاسفة السابقون على أرسطو؛ أي الطبائعيون الأوائل بعد أن أصبحوا أيضًا أحد روافد تاريخ الفكر الإنساني من خلال الحضارة الإسلامية.
٤١  يستشهد الإيجي بتاريخ الأديان في اليهودية والثنوية وغيرها مثلًا على أن الذات جسم؛ «ففي التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة ونظر إليها نظرَ الهيبة فذابت فحصل البخار، ومن زبدها الأرض، ومن دخانها السماء، وقيل الأرض، وحصلت البواقي بالتلطيف، وقيل النار، وحصلت البواقي بالتكثيف، وقيل البخار، وحصلت العناصر بالتلطيف والتكثيف، وقيل الخليط من كل شيء لحم وخبز وغير ذلك. فإذا اجتمع من جنس منها شيء له قدْر محسوس ظُنَّ أنه حدث ولم يحدث، إنما تحدث الصورة التي أوجبها الاجتماع» (المواقف، ص٢٤٥). ومنهم من قال إن الذوات ليست أجسامًا. ثم اختلفوا، فقالت الثنوية والنور والظلمة، والحرانيون النفس والهَيُولَى، عشقت النفس بالهَيُولَى لتوقف كمالاتها عليها، فحصل من اختلاطها أنواع المكونات. وقيل هي الوحدة، فتجزأت فصارت نقطًا واجتمعت النقط خطًّا، والخطوط سطحًا، والسطوح جسمًا (المواقف، ص٢٤٥).
٤٢  هذه هي صياغة الرازي.
٤٣  المواقف، ص٢٤٥–٢٤٩. أجمع أهل السنة على أن العالم كل شيء هو غير الله، وعلى أن كل ما هو غير الله وغير صفاته الأزلية مخلوق مصنوع، وعلى أن صانعه ليس بمخلوق ولا مصنوع، ولا هو من جنس العالم ولا من جنس شيء من أجزاء العالم (أصول الدين، ص٢٣، ص٣٢٨). وقد انبرى ابن حزم لإبطال قِدَم العالم محيلًا إلى كتاب «التحقيق في نقض كتاب العلم الإلهي» لمحمد بن زكريا الطبيب؛ لأن «المدة ليست للآمد. أحدث الله الفلك بما فيه من الأجسام الساكنة والمتحركة وأعراضها» (الفصل، ج٥، ص١٤٤-١٤٥). انظر أيضًا: المحصل، ص٨٤-٨٥؛ شرح التفتازاني، ص٤٣–٥١؛ طوالع الأنوار، ص٢٧؛ نهاية الإقدام، ص٥–٧؛ أصول الدين، ص٥٩، ص٧٠-٧١؛ الشامل، ص٢٢٦–٢٣٠؛ ص٢٣٨–٢٤٠.
٤٤  يقول القدماء: «وترك الجود زمانًا غير متناهٍ لا يليق بالجواد المطلق.» وهو حكم قيمة بعدم اللياقة، وليس حكم عقل أو حكم واقع، بل إن من طبيعة الجود ترك الزمان غير متناهٍ، وهو الأقرب.
٤٥  الذين قالوا بقِدَم المادة فرقٌ عديدة ترى أن أصل العالم لم يكن جسمًا حادثًا؛ فقد أثبتت الحرمانية القدماء الخمسة: الباري، والنفس، والهَيُولَى، والدهر، والخلاء. وقال ابن زكريا الطبيب بقِدَم المكان والزمان والنفس والعقل المبدع (الشامل، ص٢٢٨-٢٢٩). وقد جعل الفلاسفة العالم صادرًا عن الله، والصادر عن القديم قديم، وبالتالي فالعقل والنفس والفلك والمادة قدماء. يذكر البيضاوي أيضًا هرقليطس (أبريليطس). ويشن الباقلاني في «التمهيد» هجومًا على الفلاسفة والقول بالقدماء الأربعة (المحصل، ص٨٥-٨٦؛ طوالع الأنوار، ص١٢٧-١٢٨؛ التمهيد، ص٥٤–٦٥). ومنهم الدهرية القائلين بأن العالم كان على الأزل في هذه الصورة بأفلاكه وكواكبه وأركانه وحيواناته المتناسلة. والفلكية الذين نسبوا تدبيرَ العالم وتقدير الحوادث إلى الكواكب السبعة والطبائع الأربع (أصول الدين، ص٧٠-٧١، ص٨٣)، وكذلك هو رأي المنجمين (الشامل، ص٢٢٩؛ التمهيد، ص٦١–٦٨؛ الفصل، ج١، ص١٨-١٩؛ شرح الأصول الخمسة، ص١٢٠–١٣٢؛ الشامل، ص٢٣١-٢٣٢؛ نهاية الإقدام، ص١٢٠–١٢٢).
٤٦  وهو أيضًا تصوُّر الإسماعيلية والباطنية (أحمد الكيالي) في أساطير الخلق الشاملة التي تفسِّر كلَّ شيء: الإلهيات، والطبيعيات، والإنسانيات، والكونيات، والشرعيات، وكل نظريات العالم الأعلى والعالم الأدنى والعالم الإنساني. مثلًا أن الإله خلق النفس، وهما مدبِّران للعالم، العقل والنفس، بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأول (الفرق، ص٢٨٥، ص٢٩٣-٢٩٤؛ الملل، ج١، ص٩٥، ج٢، ص١٢٨–١٣٢، ص١٤٥–١٥١؛ اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين، ص٨٠-٨١).
٤٧  مثلًا أصحاب فيثاغورث (المحصل، ص٨٦؛ طوالع الأنوار، ص١٢٨).
٤٨  وهم أصحاب الطبائع ثمامة، والجاحظ، ومعمر والنظَّام. فعند ثمامة العالم فعل الله بطباعه كما يقول بعض الحكماء (الملل، ج١، ص١٠٧)، وهو يتهم به أيضًا الزنادقة المعطلة لقولهم حسب الخصوم، إن الأشياء كائنة من غير تكوين، أو إن الحوادث كانت قبل حدوثها أشياء (التنبيه، ص٩١-٩٢). وعند معمر أن الله خلق الأجسام دون الأعراض (أصول الدين، ص٨٣–٨٥). وعند معمر أن الجوهر الواحد لا يحتمل الأعراض، فإذا اجتمعت ثمانية أجزاء وصارت جسمًا أحدثت في أنفسها الأعراض طباعًا (أصول الدين، ص٥٧؛ مقالات، ج٢، ص١٣). وعند الحمارية (وعند الخصوم أنهم من القدرية) أن الإنسان قد يخلق أنواعًا من الحيوانات مثل الديدان في اللحم والعقارب في التبن (الفرق، ص٣٧٩؛ نهاية الإقدام، ص٢٩؛ التمهيد، ص٢٥٢–٢٦١؛ الشامل، ص٢٣٠–٢٣٧، ص٢٧٥؛ معالم أصول الدين، ص٢٥-٢٦).
٤٩  هذا هو موقف جالينوس؛ أي التوقُّف في الكل (المواقف، ص٢٤٤-٢٤٥؛ المحصل، ص٨٦)، أو أن «الله» يحفظ الجواهر بأعراضٍ متعاقبة يخلقها الله فيها، فإذا أراد أن يفني لم يخلق فيها العرض أو خلق فيها عرضًا منافيًا للبقاء، وكأن الله شاغل نفسه بالأعراض والجواهر، وكأن العالم ليس له قانون من ذاته (طوالع الأنوار، ص١٢٨).
٥٠  انظر بحثنا: «التراث والتغير الاجتماعي»، قضايا معاصرة، ج٣.
٥١  المواقف، ص٢٥٠، ص٢٥٣–٢٥٦. وعند النظَّام الأجسامُ فانية، فلو بقيت لامتنع عدمها (المواقف، ص٢٥٠). وعند معظم المعتزلة أن الله قادر على إفناء الأجسام كلها دفعة واحدة، ولا يقدر على إفناء بعضها (الفرق، ص٢١٨). الأجسام قابلة للعدم (معالم أصول الدين، ص١٢٩).
٥٢  عمر الدنيا عند اليهود ٤٠٠٠ سنة، وعند النصارى ٥٠٠٠ سنة، وعند آخرين ٧٠٠٠ سنة، وفي الهند مَن يقول بأنه ٧٠٠٠٠ سنة أو ٤٠٠٠٠٠ سنة. وكذب مَن ادَّعى لمدة الدنيا عددًا معلومًا؛ فالساعة لا يعلمها إلا «الله» (الفصل، ج٢، ص١٧-١٨، ص١٠١-١٠٢). وقد اختلف أهل السنة في كيفية الفناء؛ فعند الأشعري لا يخلق الله البقاء في الحال الذي يريد أن يكون فانيًا فيه. وعند القلانسي يخلق الله الفناء، وعند الباقلاني يقطع الأكوان عنه (أصول الدين، ص٢٣٠-٢٣١). كما اختلفت المعتزلة؛ فعند معمر: الفناء فناء إلى ما لا نهاية، وفناء الشيء غيره. وعند محمد بن شبيب: يحل الفناء في الجسم فيفنى. وعند الجبائي وابنه: يخلق الله الفناء لا في محل، وأن الله لا يقدر على فناء بعض الأجسام مع الإبقاء على البعض الآخر، وإنما يقدر على إفناء جميعها بفناء لا في محل (أصول الدين، ص٨٧-٨٨، ص٢٢٩–٢٣٢؛ الفرق، ص٣٣١، ص٣٨٤، ص١٩٧؛ معالم أصول الدين، ص١٣٣-١٣٤. العضدية، ج١، ص١٦٥؛ الكلنبوي، ج١، ص١٦٥-١٦٦؛ نهاية الإقدام، ص٤٦٧–٤٦٩).
٥٣  قال جهم بفناء الجنة والنار؛ وأبو الهذيل بانقطاع نعيم الجنة وعذاب النار (انظر الفصل التاسع عن المعاد)، بينما جعل أهل السنة الجنة والنار متناهيين (الفصل، ج٢، ص١٠١). ورفض ابن حزم أن يكون الشيء في حين خلق الله له لا باقيًا ولا فانيًا (الفصل، ج٥، ص٢٨٢-٢٨٣).
٥٤  الأعراض لا تبقى لأنها عجز وجهل وموات. عند العطوي جاهلة بمعنى ليست عالمة، وعاجزة بمعنى ليست قادرة، وموات بمعنى ليست حية. ويبدو هنا تشخيص الطبيعة ووعي الشعور بعمليات النفي والإثبات في الصفات (مقالات، ج٢، ص٧٨). انظر أيضًا الفصل السادس عن الصفات.
٥٥  إجابة على سؤال: هل الذي ابتدأ في الدنيا هو الذي يُعاد في الآخرة؟ أجاب أكثر المسلمين بنعم، باستثناء عباد بن سليمان (مقالات، ج٢، ص٥٧-٥٨).
٥٦  تقول فِرَقٌ عديدة ببقاء الأجسام؛ فمع اعتراف الكرامية بحدوث الأجسام، إلا أنهم قالوا بأنها أبدية ممتنع فناؤها بدليل امتناع بقاء الأعراض. والكرامية طردوه في الأجسام (المواقف، ص٢٥٠-٢٥١؛ المحصل، ص٩٣؛ الانتصار، ص٣٤-٣٥). وعند الكيسانية الدنيا لا تفنى أبدًا (الفصل، ج٥، ص٢٣). وعند الجاحظ يستحيل عدم الأجسام بعد حدوثها، ويشرح الخصم ذلك بأن الله يقدر على خلق الشيء ولا يقدر على إفنائه (الفرق، ص١٧٦؛ الانتصار، ص١٦٨؛ الملل، ج١، ص١١١-١١٢). وعند النظَّام قد يفنى البعض ويبقى البعض الآخر، وما يفنى يأتي غيره، يفنى الأقل ويبقى الأغلب (مقالات، ج٢، ص٧؛ الشامل، ص١٦٠)، بل إن أهل السنة أيضًا ضعفوا أمام بقاء الأجسام بالرغم من رفضهم لعدم العالم وللتجدُّد المستمر؛ فقد أجاز بعض أهل السنة فناء بعض الأجسام دون البعض، وهو موقف وسطي لا يُرضي الطرفين، فإمَّا فناء الكل إيثارًا لقدرة «الله» أو بقاء للكل إيثارًا لحياة الناس المستمرة المتجددة الفعالة. وعند الحكماء لا عالم غير هذا العالم؛ أي ما يحيط به سطح محدود الجهات لأسبابٍ رياضية وطبيعية صرفة (المواقف، ص٢٥٠-٢٥١). ومع الدهرية والكرامية أحال الحكماء العدم؛ عدم الفلك والكواكب، وجعلوها طبيعة خاصة لا تقبل الفناء أو الفساد (أصول الدين، ص٦٤–٦٧؛ الملل، ج٢، ص١٧-١٨؛ الفصل، ج٥، ص٢٣؛ المحصل، ص٩٧-٩٨). ويشارك في ذلك حكماء الهند بعد أن تم التعرُّف عليهم داخل الحضارة الإسلامية.
٥٧  عند الأشعري يجوز خلو الأجسام عن الألوان والطعوم والروائح (تلخيص المحصل، ص٩٤). وعند أبي الحسين الصالحي وصالح وأبي الهذيل والكعبي وأبي هاشم: يجوز أن يعرِّي الله الجواهر عن الأعراض، وأن يخلقها لا أعراض فيها (مقالات، ج٢، ص١٠-١١، ص٢٢٠–٢٢٣؛ الشامل، ص٢٠٥–٢١٢؛ أصول الدين، ص٥٦–٥٩). وقد جوَّز أبو الهذيل أن يفرد الله الحياة من القدرة (مقالات، ج٢، ص٢١٩). وجوَّز وجود أعراض لا في جسم وحوادث لا في مكان كالوقت والإرادة من الله. والبقاء والفناء خلْق الشيء الذي هو قول إرادة عند الله. كما جوَّز الجبائي أن يخلق الله حيًّا لا قدرة فيه (مقالات، ج٢، ص١١). وجوَّز الإسكافي أن يحل إليه علم وإدراك، وأن يجتمع النار والحطب، والحركة والسكون (مقالات، ج٢، ص١٢-١٣). وجوَّزه البصريون في غير الأكوان والبغداديون في غير الألوان (المواقف، ص٢٥٢-٢٥٣).
٥٨  منع البصريون من المعتزلة منع تعري الجواهر عن الأكوان، وجوَّزوها فيما عداه (الشامل، ص٢٠٥، ص٢١٠–٢١٣). ومنع عباد بن سلمان أن يفرد الله الحياة من القدرة (مقالات، ج٢، ص١١، ص٦، ١٩). كما منع أبو الهذيل، والجبائي، ومعمر، وهشام، وبشر وكثير من المعتزلة أن يجمع الله بين القدرة والإرادة والموت (مقالات، ج٢، ص٢١٩-٢٢٠). وأحال الصالحي أن يجمع الله بين المتضادات، وأن يوجِد أعراضًا لا في مكان، وأن يفني قدرة الإنسان مع وجود فعله (مقالات، ج٢، ص١٠-١١). ويتفق بعض أهل الحق، ومنهم ابن حزم أيضًا، أنه لا تخلو الجواهر عن الأعراض (مقالات، ج٢، ص٢٢١–٢٢٣؛ الشامل، ص٢٠٤-٢٠٥؛ الفرق، ص٣٢٩؛ أصول الدين، ص٥٦). وهو أيضًا رأي عامة أهل النظر (مقالات، ج٢، ص١٢-١٣، ص٢٢؛ الإرشاد، ص٢٢–٢٥). وقد سخِر ابن الراوندي من القائلين بالجواز بقوله: «إن طوائفَ من المنتحلين للتوحيد قالوا: لا يتم التوحيد لموحِّد إلا بأن يصف الباري بالقدرة على الجمع بين الحياة والموت، والحركة والسكون، وأن يجعل الجسم في مكانين في وقت واحد، وأن يجعل الواحد الذي لا ينقسم مائة ألف شيء من غير زيادة، وأن يجعل مائة ألف شيء شيئًا واحدًا من غير أن يُنقِص من ذلك شيئًا ولا يبطله، وأنهم وصفوا الباري بالقدرة على أن يجعل الدنيا بيضة، والدنيا على كبرها والبيضة على صغرها، وبالقدرة على أن يخلق مثله، وأن يخلق نفسه، وأن يجعل المحدثات قديمة. والقديم محدثًا» (مقالات، ج٢، ص٢٢٢). وفي هذا المعنى أنشد أحمد فؤاد نجم شاعر العامية «زغروطة للحزب الجديد». وقد أجمعت المعتزلة والأشاعرة وطوائف الأمة على أن هذا هو المقصود بالعَرَض. فقد سُمِّيَت المعاني القائمة بالأجسام أعراضًا؛ لأنها عند النظَّام وكثير من أهل النظر تقترض الأجسام وتقوم بها، فلا يوجد عَرَض لا في مكان أو لا في جسم. ولأنه لا يقوم بنفسه بل يقوم بغيره. وعند ابن كلاب هي المعاني القائمة بالأجسام أشياء وصفات. ولا يمنع ذلك عند جعفر بن حرب وطوائف من أهل النظر حجة من كتاب أو سنة أو إجماع أو لغة. بل ومذكورة في القرآن بمعنَى ما لا لُبث لها، مثل: قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا (٤٦: ٢٤)، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا (٨: ٦٧)، وذلك في مقابل الضروري: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ (٢: ١٧٣، ٦: ١٤٥، ١٦: ١٥٥)، إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ (٦: ١١٩). مع أن الاضطرار هنا فعليٌّ إنسانيٌّ وليس جسميًّا شيئيًّا (مقالات، ج٢، ص٥٣-٥٤؛ الشامل، ص١٦٧-١٦٨؛ التمهيد، ص٣٥-٣٦، ص٤٢).
٥٩  عند جمهور المتكلمين الجواهر يمتنع عليها التداخل لِذَاتها بالضرورة، باستثناء النظَّام. ووحدة الجوهر ووحدة حيِّزه مثلًا زمنان. فكما لا يجوز جوهران في حال واحد في حيز واحد فلا يجوز كون الجوهر الواحد في آنٍ واحد في حيزين (المواقف، ص٢٥١-٢٥٢). وعند النظَّام الجواهرُ أجناسٌ متضادة، منها بياض وسواد، وصفرة وحمرة وخضرة، وحرارة وبرودة، وحلاوة وحموضة، وروائح وطعوم، ورطوبة ويبوسة، وصور وأرواح. الحيوان كله جنس واحد، والجواهر أعراضٌ مجتمعة. وعند الجبائي الجواهرُ جنسٌ واحد، واختلاف الجواهر واتفاقها لما فيها من الأعراض (مقالات، ج٢، ص٩، ص٣٧-٣٨؛ أصول الدين، ص٥٣-٥٤؛ الشامل، ص١٥٣–١٥٦). وعند أصحاب أرسطو جوهر العالم واحد: «واختلاف الجواهر واتفاقها لما فيها من الأعراض. وعند أهل الإثنينية مثل الديصانية، الجوهرُ جنسان مختلفان، نور وظلمة، متضادان في الصورة والفعل، النور جنس واحد، والظلمة جنس واحد. وعند البعض الآخر أن كل واحد منهما أجناسٌ من سواد وبياض وحمرة وصفرة وخضرة. وعند المنانية والمانوية أبدان، النور والنار والريح والماء وروحه النسيم، وأبدان الظلمة والحريق والسموم والضباب وروحها الدخان. وعند المرقونية الأجسام ثلاثة أجناس نور وظلمة ومعدل ثالث سبب المزاج بينهما. وعند أصحاب الطبائع الجواهرُ أربعة أجناس متضادة من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة. وعند فريق آخر خمسة أجناس متضادة، أربعة طبائع والروح أو الريح أو الفلك. وعند أصحاب التناسخ الروحُ جسمٌ خلاف الأجسام المحسوسة. وعند فريق من أصحاب الهَيُولَى هَيُولَى العالم جوهر من جنس واحد (أرسطو). وعند فريق آخر لكل نوع هَيُولَى مخصصة، والأجناس في أصولها مختلفة. وعند فريق ثالث كانت الهَيُولَى شيئًا واحدًا ثم حدثت الأعراض فتجنست وتنوَّعت. وقد رفض أهلُ السنة والجماعة الثنويةَ والقولَ بطبائع خمسة، وقالوا بتجانس الجواهر والأجسام، وأن اختلاف الصور والألوان والطعوم والروائح لاختلاف الأعراض (الشامل، ص٢٠٥–٢٠٩؛ أصول الدين، ص٣٥-٣٦، ص٥٢-٥٣؛ الفرق، ص٣٢٨-٣٣٩). وقد أسقط الإيجي هذا الموضوع من بناء العلم نظرًا لأنه مبحث طبيعي صرف، فيما يبدو، لا دلالة له في علم التوحيد. ولم يتعرض له إلا البغدادي في «أصول الدين» وفي «الفرق»، والأشعري في «المقالات» في الجزء الثاني عن الطبيعيات، والجويني في «الشامل» باعتباره مطولًا.
٦٠  طوالع الأنوار، ص١٢٠؛ المحصل، ص٩٩–١٠١.
٦١  طوالع الأنوار، ص١٣٥.
٦٢  المواقف، ص١١٩–٢٢٩.
٦٣  طبقًا ﻟ «المواقف» للإيجي (ص١٩٩–٢٢٩)، يبدو أن الجسم البسيط الفلكي (١٥ص) أهم من البسيط العنصري (٩ص)، كما أن الجسم المركَّب ذا المزاج (٢٠ص) أهم من الجسم المركَّب غير ذي المزاج (٢ص)، وأن الجسم المركَّب ذا المزاج والنفس (١٣ص) أهم من الجسم المركَّب ذي المزاج دون النفس (٢ص)، وأن النفس النباتية (٥ص)، والحيوانية (٦ص) أهم من النفس الإنسانية (٢ص)؛ فهذه الأخيرة ستجد أهميتها كجوهر مفارق في النفس (٤ص)، وفي العقل (٣ص).
٦٤  طوالع الأنوار، ص١٢٠–١٢٤؛ أصول الدين، ص٦٤–٦٦؛ الفصل، ج٥، ص٩٥-٩٦.
٦٥  وقد اعتبر هذا الجزء كله في قسمة الجسم مع عوارض الأجسام، باستثناء النفس والعقل كجواهر مفارقة، غير مقرر نظرًا لعدم ارتباطه بالفكر الديني الصريح (المواقف، ص٢٠٠).
٦٦  الإشارة هنا إلى أقوال ابن الهيثم.
٦٧  مثلًا اعتبار الأفلاك سبعة والاستشهاد بالقرآن بآيات: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ (٢: ٢٩)، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ (١٧: ٤٤)، وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ (٢٣: ١٧)، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ (٢٣: ٨٦)، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ (٤١: ١٢)، اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ (٦٥: ١٢)، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (٦٧: ٣)، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (٧١: ١٥)، والعدد سبعة مذكور في القرآن ٢١ مرة، وسبعون ٣ مرات، وكذلك الاستشهاد بالكونيات الإنسانية مثل: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (٤١: ١٢)، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (٦٧: ٥).
٦٨  «والغرض من ثقل هذه الاختلافات إبداءُ ما ذكروه من الخرافات ليتحقق للعاقل الفَطِن أنه لا ثبت لهم فيما يقولونه ولا معوَّل على ما ينقلونه، وإنما هي خيالات فاسدة وتمويهات باردة، يظهر ضعفها بأوائل النظر، ثم البعض بالبعض يعتبر» (المواقف، ص٢١٣–٢١٥).
٦٩  هي: النارية، النارية المخلوطة بالهوائية، الهواء الصرف أو الزمهريرية، البخارية، التربة، الطين، الأرض الصرف.
٧٠  في القرآن تظهر نظريتان بشأن العنصر الأوَّل. يبدو أحيانًا أنه الأرض: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (٢١: ٣٠)، ويبدو أحيانًا أخرى أنه الماء: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (٢١: ٣٠).
٧١  تبدأ الفقرة بلفظ «زعموا» وكأن كروية الأرض زعمٌ مع أن ابن حزم يقرها حقيقة، وآخرون يؤيدونها بالقرآن مثل: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ (الشامل، ص٤٤٢-٤٤٣، ص٤٨١–٤٨٣).
٧٢  هذا هو رأي أهل السنة والجماعة. وعند الدهرية لا نهاية للأرض إلا من الصفحة العليا. وعند القدرية لا نهاية للعالم من تحت ومن الأطراف (المواقف، ص٢١٥–٢٢٤؛ الفصل، ج٢، ص٩٤؛ أصول الدين، ص٣٨-٣٩؛ طوالع الأنوار، ص١٢٥).
٧٣  مثلًا عند البعض أن الله يخلف تحت الأرض في كل وقت جسمًا ثم يفنيه، ولا يجوز أن يهوي هذا الجسم، ويحتاج إلى مكان يقبله (مقالات، ج٢، ص٢٢، ص٢٢١-٢٢٢). وعند ابن الراوندي، خلق الله تحت العالم جسمًا صعَّادًا من طبعِه الصعود، عملُه في الصعود كعمله في الهبوط. فلما اعتد ذلك وتقادم وقف العالم ووقفت الأرض! (مقالات، ج٢، ص٢٢). وعند الفلاسفة علة وقوفها سرعة دوران الفلك حولها أو جذب الفلك لها أو دفع الفلك لها. وعند أرسطو بعد أن أصبح رافدًا في الفكر الإسلامي، علةُ وقوف الأرض أنها تطلب مركزها الذي في وسطها. وعند القدرية، علةُ وقوف الأرض أنه ليس تحتها خلاء، ولا من جانبها ملاء. وعند أبي الهذيل أن الله سكَّنها وسكَّن العالم وجعلها واقعة لا على شيء. أمَّا أهل السنة والجماعة فقد أجمعوا على وقوف الأرض وسكونها، وأن حركتها بعارض من زلزلة. وقد أدرك ابن حزم أن هذه الآراء كلها خرافات، فقال: «طائفة (غريب الحديث) … إن هي إلا خرافات موضوعة وأكذوبات مفتعلات، أدارها الزنادقة تدليسًا على الإسلام وأهله، فأطلقت هذه الطائفة كل اختلاط لا يصح من أن الأرض على حوت، والحوت على قرن ثور، والثور على صخرة، والصخرة على عاتق ملك، والملك على الظلمة، والظلمة على ما لا يعلمه إلا الله. وهذا يوجب أن جرم العالم غير متناهٍ، وهذا هو الكفر بعينه» (الفصل، ج٢، ص٩٢). ومع ذلك فمقياس ابن حزم ليس النظرية العلمية بل العقيدة الدينية؛ عقيدة تناهي العالم. انظر أيضًا: الفصل، ج٢، ص٩٥؛ أصول الدين، ص٦١-٦٢؛ الفرق، ص٣٣٠-٣٣١؛ الشامل، ص٤٤٢-٤٤٣، ص٤٨١–٤٨٣.
٧٤  يتضح ذلك من قول الإيجي: «في الأرض تلال ووهاد خارجية ومعدات متلاحقة لا بداية لها، فسال الماء بالطبع إلى الوهاد فانكشفت التلال معاشًا للنباتات والحيوان. ولم يُذكر له سبب إلا عناية الله تعالى بالحيوانات والنباتات؛ إذ كان لا يمكن تكوُّنها وبقاؤها إلا بذلك، وهذا رجوع إلى القادر المختار، فإن اختصاص جزء من البسيط باستعدادٍ دون جزء مع استواء نسبة المعدات إليها مما لا سبيل للعقل إليه، وإذا كان كذلك، فمَن طرحَ هذه المؤنات ووفِّق للاسترواح إليه واستناد الجميع إلى قدرته واختياره، فأولئك هم المفلحون» (المواقف، ص٢٢٢). «أن يتكون من اجتماع الماء والأرض والنبات، ولا بد من هواء يتخلل، وحرارة طابخة؛ إذ لو فُقِد أحدهما أو لم يكن على ما ينبغي فسد الزرع، ومن النبات يحصل بعض الحيوان لأنه غذاؤه، ومنهما يحصل الإنسان وبعض الحيوان. فالكل آيل إلى حصولها من العناصر. وأنت تعلم أن ذلك استدلال بالدوران وأنه لا يغيِّر العلية، فلمَ لا يجوز أن يكون ذلك بإجراء العادة» (المواقف، ص٢٢٣-٢٢٤). ولكن هذه الطبيعة وقصدها وجهًا إلى الذات المشخصة وليس إلى حكمة الطبيعة؛ وبالتالي يرفض الإيجي منطق الدوران؛ دوران العلة والمعلول لإيمانه بمنطق استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية من أجل الوصول إلى علةٍ أولى. وأقصى ما يصل إليه هو جريان العادة، والعادة لديه أيضًا من صنْع الذات المشخصة وليس قانونًا مستقلًّا للطبيعة. ويبدو هذا البُعد الإنساني للطبيعة في تفسير القرآن لنشأة الجبال: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (٣١: ١٠، ١٦: ١٥)، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ (٢١: ٣١).
٧٥  ويبدأ الإيجي بالمركَّبات التي لها مزاج، في حين أنه طبقًا للمنهج الصاعد تبدأ المركَّبات التي لا مزاج لها أوَّلًا (المواقف، ص٢٢٤–٢٤٤).
٧٦  الإشارة هنا إلى ابن سينا من المتقدمين، وهو لا يبعُد أيضًا عن رأي ابن خلدون من المتأخرين.
٧٧  الأوضاع الأرضية المؤثِّرة في المزاج، هي: (أ) المنخفض لانعكاس الأشعة وقلة هبوب الرياح بخلاف المرتفع. (ب) الجبل قد يعين الشعاع بعكسه، وقد يعكس الريح ويمنعه. (ﺟ) البحر، مجاورته ترطب، ويسخن بصقالته أو انعكاس الأشعة، ويبرد إذا كان شماليًّا. (د) التربة والسبخة والكبريتية والمزاجية تسخن، والصخرية والرملية تحفظ الحر والبرد. (ﻫ) الرياح الشمالية تبرد، والجنوبية تسخن. (و) مجاورة الأجسام والأشجار والمباقل تؤثِّر. (ز) الأوضاع الواقعة في طالع البقعة (المواقف، ص٢٢٤–٢٢٨).
٧٨  المواقف، ص٢٤٢–٢٤٤.
٧٩  في المطر مثلًا يتصارع الفكر العلمي مع الفكر الديني. يبزغ الفكر العلمي في جعل المطر يتصاعد من الأرض إلى الجو ثم يسقط، بينما يجعله الفكر الديني من فعل المعبود أو من اختراعه؛ فعند هشام بن الحكم ماء يصعده الله ثم يمطره أو يخترعه في الجو (مقالات، ج١، ص١٢٧). وفي الزلزال أيضًا ينتهي العلم إلى تحليل خلخلة الأرض وتفاوت قشراتها، ثم يتدخل الفكر الديني المشخَّص ويجعل الله ممسكًا بطبقات الأرض (هشام بن الحكم) (الفرق، ص١٨؛ مقالات، ج١، ص١٢٧). وهي كلها موضوعات علمية صرفة لا شأن لها بالخيال الشعبي أو صور الدين مثل القول بأن للجنة والنار نفسين، واحدة في الشتاء وواحدة في الصيف، وهو أشد ما نجد من الحر والبرد، وأن نارنا أبردُ من نار جهنم، كما تفعل الصاعقة في لحظة ما تفعله النار في الآماد الطوال (الفصل، ج٢، ص١٠٠). وعند النظَّام النار من شأنها العلو، فإذا سلمت من الشوائب جاوزت السموات والعرش (الفرق، ص١٣٧). وقد صوَّبت الكاملية إبليس في تفضيل النار على الأرض (الفرق، ص٥٤–٢٥٥). وقد أخذت الباطنية عبادة النار ليضلوا المسلمين بها، وفي العبادات تحمر المساجد وتبخر (الفرق، ص٢٨٥). والله قادر على خلق الملائكة منها! (الفصل، ج٥، ص٨١-٨٢). وأيضًا: هل يجوز أن يخلق العالم لأنه مكان أو يوجد لا في مكان؟ وبطبيعة الحال كتمرين عقلي يجوز على الله ذلك لإثبات القدرة أو لا يجوز إيثارًا لقوانين الطبيعة ووجود العالم (مقالات، ج١، ص٢٠٤). ومثل: هل يجوز أن يرفع الله ثقل السموات والأرضين حتى تكون أخف من الريشة؟ والإجابة بالإثبات والنفي إنما تهدف لنفس الغرض (مقالات، ج٢، ص٩٥).
٨٠  مثلًا: هل الظل هو الشيء أم غيره؟ (مقالات، ج٢، ص٩٥-٩٦). هل الهواء معنًى؟ هل هو جسم أو جسم رقيق (مقالات، ج٢، ص١٠٦). هل الجو جسم؟ (مقالات، ج٢، ص١٠٦).
٨١  مثل مَن مدَّ يده وراء العالم هل يمتد مع يده أم يمد يده وتتحرك لا في شيء وهو موضوع الفضاء هل هو مكان وهل به حركة؟ (مقالات، ج٢، ص١٠٧). ومثل سؤال ما هي الدنيا؟ هل هما الهواء والجو كما هو الحال عند زهير الأثري، أم كل ما خلقه الله من الجواهر والأعراض قبل الآخرة؟ (مقالات، ج٢، ص١١٧). وقد جوَّز المتكلمون وجودَ عالم آخر مماثل لهذا العالم؛ لأن الأمور المتماثلة تتشارك في الأحكام. وقال الحكماء: لا عالم غير هذا العالم؛ أي ما يحيط به سطح محدَّد الجهات الثلاثة. واختلف المفسرون في العالم؛ فمنهم مَن قال ١٨٠٠٠ عالم، كل واحد منها مثل العالم المحسوس أو أكبر منه، ومنهم مَن قال ٩٠٠٠٠ عالم، ومنهم مَن قال ١٠٠٠٠٠ عالم، وتأولوا على ما ذكروا من العدد قوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ (أصول الدين، ص٣٤).
٨٢  «وقال بعض الحكماء إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير الذي هو بدن الإنسان: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. فحواس الإنسان أشرفُ من الكواكب المضيئة. والسمع والبصر منهما بمنزلة الشمس القمر في إدراك المدركات بهما. وأعضاؤه تصير عند البلى ترابًا من جنس الأرض. وفيه من جنس الماء العَرَق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الريح والنفس. ومن جنس النار فيه مرة الصفراء، وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار؛ لأن العروق تستمد من الكبد، ومثانته بمنزلة البحر لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما ينصب الأنهار إلى البحر. وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض، وأعضاؤه كالأشجار، فكما أن لكل شجرة ورقًا وثمرة فكذلك لكل عضو خصلةً وأثرًا، والشعر على البدن بمنزلة النبات، والحشيش على الأرض. ثم إن فعل الإنسان يحكي بلسانه صوت كل حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان فهو العالم الصغير، وهو مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد» (أصول الدين، ص٣٤-٣٥).
٨٣  في رأي بعض علماء اللغة أن العالم كله ما له علم وحس، ولم يجعلوا الجمادات من العالم (أصول الدين، ص٣٤). وقيل العالم من العَلَم الذي هو العلامة؛ لأن كلَّ ما فيه علامةٌ على صانعه. وهنا يزاحم الفكر الإلهي الفكر الإنساني.
٨٤  ملخص ما ذكرناه كله آراء الفلاسفة؛ حيث نفَوا القادر المختار. فأحالوا اختلاف الأجسام بالصور إلى استعداد، واختلاف آثارها إلى صورها المتباينة وأمزجتها، وكل ذلك إلى حركات الأفلاك وأوضاعها. وأمَّا المتكلمون فقالوا: الأجسام متجانسة بالذات لتركُّبها من الجواهر والأفراد، وأنها متماثلة لا اختلاف فيها. وإنما يعرض الاختلاف للأجسام لا في ذواتها، بل بما يحصل فيها من الأعراض بفعل القادر المختار (إلا النظَّام، فإنه يجعل الأجسام نفس الأعراض، والأعراض مختلفة بالحقيقة، فتكون الأجسام كذلك) (المواقف، ص٢٤٤).
٨٥  المواقف، ص٢٢٨–٢٤٢.
٨٦  المواقف، ص٢٢٨-٢٢٩.
٨٧  الزئبق والكبريت إن كانا صافيين وتمَّا بالطبخ وكان الكبريت أبيض فالحاصل الفضة، وإن كان أحمر وفيه قوة صباغة فهو الذهب، وإن عقده البرد قبل الطبخ فهو الخارصين. وإن كان صافيًا والكبريت رديئًا فهو النحاس، وإن كانا غير جيدي المخالطة فهو الرصاص، وإن كانا رديئين وقوي التركيب بينهما فالحديد وإلا فهو الأسرب (المواقف، ص٢٢٨-٢٢٩).
٨٨  «وأنت خبير بأن القسمة غير حاصرة، وأن التكوين على هذا الوجه لا سبيل فيه إلى اليقين، ولا يُرجى فيه إلا الحدس والتخمين. وإن سلم فتكونها على غير هذا الوجه مما لم يَقُم على امتناعه دليل. كيف والمهندسون بالكيمياء لهم في الأجساد والأرواح تفنُّن؟ والكل بالفاعل المختار!» (المواقف، ص٢٢٩).
٨٩  يشير القرآن إلى الحديد بقوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (٥٧: ٢٥).
٩٠  المواقف، ص٢٢٩–٢٤٢.
٩١  المواقف، ص٢٢٩-٢٣٠. ويتحدث البغدادي عن تكوين الحيوان البيولوجي وكأنه بيولوجيا خالصة (أصول الدين، ص٣٩-٤٠).
٩٢  المواقف، ص٢٢٩.
٩٣  المواقف، ص٢٣٠–٢٣٥؛ طوالع الأنوار، ص١٤٨.
٩٤  المواقف، ص٢٣٥–٢٤١.
٩٥  وهي تسمية البيضاوي نظرًا لارتباط النفس بحياة الشعور (طوالع الأنوار، ص١٤٥).
٩٦  الأولى نظرية أرسطو، والثانية نظرية أفلاطون بعد أن أصبح كلاهما رافدَين للحضارة الإسلامية.
٩٧  ويزيد بعض المتكلمين في الدراسات البيولوجية للكائنات الحية بصرف النظر عن أسسها العلمية أم توجهاتها الدينية؛ فعند ابن حابط مثلًا كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها (الملل، ج١، ص٩٥). ويتكلم غيره عن التوالد والتولد وأنواع الحيوانات طبقًا للتولد. ويتحدث آخرون عن الذباب وأنواعه والحشرات والطيور (الفصل، ج٥، ص٢١٠-٢١١).
٩٨  المواقف، ص٢٣٨–٢٤٠؛ طوالع الأنوار، ص١٤٥–١٤٨.
٩٩  «أكثر الكلام في هذه القوى بعد نفي القادر المختار على أن النفس ليست مدركة للجزئيات» (المواقف، ص٢٤٠–٢٤١).
١٠٠  المواقف، ص٣٤١؛ طوالع الأنوار، ص١٤٨.
١٠١  المواقف، ص٢٤١-٢٤٢.
١٠٢  «ومحل العقل الكلي مجرد لما سيأتي في النفوس الإنسانية برهانه» (المواقف، ص٢٥٧-٢٥٨؛ طوالع الأنوار، ص١٣٩).
١٠٣  رفض ابن حزم آراء الحكماء في أن النجوم ناطقة ومدبرة، وكذلك الفلك وفنَّد حججهم (الفصل، ج٢، ص٩٠–٩٤، ج٥، ص١٠٧–١١١).
١٠٤  انظر بحثنا: «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي»، جامعة الدول العربية، الكويت، مارس، ١٩٨٣م.
١٠٥  النفس جزء من القلب عند ابن الراوندي، وأجزاء لطيفة سارية في البدن عند النظَّام (المواقف، ص٢٥٩-٢٦٠).
١٠٦  هي نظرية أهل السنة وسائر أهل ملة الإسلام والملل المقرَّة بالميعاد، ومن الفقهاء ابن حزم (الفصل، ج٥، ص١٤٨، ص١٦٢–١٦٧). والأصم هو الذي ينكِر النفس، فلا يوجد لديه إلا ما يُشاهد بالحواس. وعند أبي الهذيل أن النفس عَرَض كسائر أعراض الجسم. وعند الباقلاني أن النفس هو النسيم الداخل الخارج بالتنفُّس، فهو النفس والروح عَرَض، وهي الحياة. وعند جالينوس، بعد أن أصبح أحد روافد الحضارة الإسلامية بعد تمثله: النفس عرض مزاج متولد من تركيب أخلاط الجسد (الفصل، ج٥، ص١٤٧–١٦٢).
١٠٧  هذا هو موقف معمر والعطار وأوائل المعتزلة (الفصل، ج٥، ص١٤٧–١٦٢).
١٠٨  هذا هو أيضًا موقف الغزالي والراغب (المواقف، ص٢٥٨-٢٥٩؛ طوالع الأنوار، ص١٤٠–١٤٣).
١٠٩  «لا قديم إلا الله وصفاته.» والنفس عند أرسطو ومَن تبعه حادثة، لكن قبْل أرسطو قديمة (المواقف، ص٢٦٠-٢٦١). «ما سوى الواجب لِذَاته محدث فكانت النفس حادثة» (طوالع الأنوار، ص١٤٣-١٤٤).
١١٠  حدوث النفس مع البدن يعتمد على آية: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ بعد تعداد أطوار البدن، في حين يعتمد حدوث النفس قبل البدن على حديث: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» (المواقف، ص٢٦٠-٢٦١).
١١١  التفسير المادي مثل: «بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغذاء ولطيفه، وتفيد قوة بها تسري إلى جميع البدن فتفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصَّلناها من قبلُ.» والتفسير الديني: «وهذا كله عندنا القادر المختار ابتداءً، ولا حاجة إلى إثبات القوى» (المواقف، ص٢٦١؛ طوالع الأنوار، ص١٤٥).
١١٢  يقول البيضاوي مثلًا في بقاء النفس: «النفس لا تفنى بفناء البدن لأنها ليست مادية كالبدن. لها بعد البدن سعادة وشقاوة طبقًا لمعرفتها بها وفيضانها عليها. العلم يجعلها مثل الملائكة، والجهل مثل الشياطين، الكمال والنقص، الفضيلة والرذيلة.» ويقول الشارح مغرقًا في الإشراقيات: «احتج الحكماء بأن النفس غير مادي، وكل ما يقبل العدم فهو مادي؛ فالنفس لا تقبل العدم لها بعد البدن سعادة وشقاوة لأنها إن كانت عالمة بالله ووجوب وجوده وفيضان جوده وتقدس ذاته عن النقائص، وكانت نقية عن الهيئات البدنية، مُعرِضة عن اللذات الجسمانية، التذَّت بوجدانها نفسها كاملة شريفة منخرطة في سلك المجردات المقدسة نحو الملائكة المكرمة. وإن كانت جاهلة به معتقدة للأباطيل الزائفة تألَّمت بإدراك جهلها واشتياقها إلى المعارف الحقيقية ويأسها من حصولها خالدة مخلدة، وتمنَّت العود إلى الدنيا واكتساب المعالم. وإن اكتسبت من البدن هيئاتٍ كريهة وأخلاقًا ذميمة عذبت لميلانها إليها، وتعذَّر حصولها إلا بعد مدة بحسب رسوخها ودوامها فيها حتى تزول. جعلنا الله من السعداء الأبرار، وبعَثَنا من زمرة الأخيار، والسلام على مَن اتبع الهدى» (طوالع الأنوار، ص١٥٠).
١١٣  انظر الفصل العاشر عن المعاد.
١١٤  هو الحديث المشهور: «أول ما خلق الله تعالى العقل» (المواقف، ص٢٦٢–٢٦٥).
١١٥  «استنادًا إلى الأشرف إلى جهة الأشرف، والأحسن إلى الأحسن فإنه أحرى وأخلق» (طوالع الأنوار، ص١٣٦–١٣٨).
١١٦  «وحديث إسناد الأشرف إلى الأشرف خطابي … وبالجملة فلا يخفى ضَعف ما اعتمدوا عليه في هذا المطلب العالي» (المواقف، ص٢٦٣).
١١٧  صيغة الحديث الكاملة: «… فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ فقال القدَر ما كان وما هو كائن إلى الأبد.» واللوح هو الخلق الثاني، ويشبه أن يكون العرش ومتصلًا به لقول الرسول: «ما من مخلوق إلا وصورته تحت العرش» (طوالع الأنوار، ص١٣٦).
١١٨  وهنا يغرق أهل السنة في تأويلات الشيعة، ويتحول علم الكلام السني إلى إشراقيات كونية شيعية.
١١٩  يقول ابن حزم مثلًا: «فصَحَّ أن العقل فعلُ النفس، وهو عَرَض محمول فيها، وقوَّة من قواها؛ فهو عرض كيفية بلا شك. وإنما غلط في هذا؛ لأنه رأى لبعض الجهال المخلطين من الأوائل أن العقل جوهر، وأن له فلكًا، فعوَّل على ذلك مَن لا علم له، وهذا خطأ. وأيضًا فإن لفظة العقل غريبة أتى بها المترجمون، عبارة عن لفظةٍ أخرى يُعبَّر عنها في اليونانية أو في غيرها من اللغات بلفظة العقل عنه في اللغة العربية. هذا ما لا قضاء به عند أحد. ولفظة عقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل، فصَحَّ ضرورة أنها معبِّرة عن عَرَض، وكان مدعي خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء ها هنا بلا شك. وقد قال بعض النوكى الجهَّال: لو كان العَرَض عَرَضًا لكانت الأجسامُ أشرفَ منه. فقلت: وهل للجوهر شرف إلا بأعراضه؟ وهل شَرُف جوهرٌ قطُّ على جوهر إلا بصفاته لا بذاته؟ هل يخفى هذا على أحد؟ ثم قلنا: ويُلزِمهم هذا نفسه على قولهم السخيف في العلم والفضائل ألا يخالفونا في أنها أعراض، فعلى مقدمتهم السخيفة يجب أن تكون الأجسام كلها أشرف منها» (الفصل، ص١٤٥-١٤٦).
١٢٠  المواقف، ص٢٦٣–٢٦٥. وسيكون ذلك موضوع الجزء الثاني «فلسفة الحضارة».
١٢١  قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (٧٢: ١)، وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ (٤٦: ٢٩)، ولقد ذُكر لفظ الجن في القرآن بصيغتين: «جان» مفرد نكرة ٧ مرات، و«الجن» جمع معرفة ٢٢ مرة. فقد خُلق الجان من نار السَّمُوم ومن مارِجٍ من نارٍ، مخلوق لا يشارك الله في شيء، يهتز، ويتناسل، أمَّا لفظ الجن فقد ذُكر ١٤ مرة مع الإنس يفيد معاني أنه مخلوق لا يُعبد، لا يعلمون الغيب، لهم قوًى خارقة، وعلى ذلك لا يقدِرون على الإتيان بمثل القرآن، أعداء للنبيين وللمؤمنين، أمم مثل الإنس لهم رسل، إبليس منهم، وجنود سليمان منهم، يعتل مَن يستعيذ بهم، محاسبون ومعاقبون ويدخلون النار.
١٢٢  قال أهل السنة والجماعة بإثبات الملائكة والجن والشياطين في أجناس حيوانات العالم، وكفَّروا من أنكرهم من الفلاسفة والباطنية (الفرق، ص٣٢٨). ومظاهر كلام الحكماء أن الجن والشياطين أجسام لطيفة قادرة على التشكُّل بأشكال مختلفة. ولم يَضَعْها الإيجي ضِمن قسمة الجواهر، بل جعلها مجرد خاتمة (المواقف، ص٢٦٦؛ طوالع الأنوار، ص١٣٥). وقد أنكر النظَّام رؤية الجن أصلًا. ويَردُّ عليه أهل السنة بأن ذلك يلزم ألا يرى الجن بعضه بعضًا. وإن أجازه فليس هناك ما يدعو إلى تكذيب رواية ابن مسعود! (الفرق، ص١٤٩).
١٢٣  بينما قال البعض بالنفي قال الأكثرون بالإثبات، واختلفوا في الكيفية. قال البعض بالمقابلة. وقيل أكلهم وشربهم استشمام واسترواح لا بمضغٍ وبلع؛ وهو مردود بالسمع. وقيل اعتمادًا على السمع أيضًا إنهم أصناف؛ فخامستهم لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتوالدون، وجنس منهم فقط يقع منه ذلك! ورُوي: «ما من أهل بيت إلا في سقف بيتهم من الجن إذا وُضِع الغذاء نزلوا فتغذَوا معهم والعشاء.» وكل قول يستند إلى رواية. وقيل: لا يجوز الاستنجاء بالعَظْم لأنه طعام الجن! وفي قصة بلقيس، كره الجن أن يتزوجها سليمان فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية! وقيل: خافوا أن يُولد منها ولدٌ تجتمع له فطنة الجن والإنس. وقد اختلف المشايخ في المناكحة بين الإنس والجن. وقيل إن الجن يصفع السائل لحماقته! (الدر، ص١٥٨-١٥٩). وعن الكلنبوي: لا تناسل في الملك، بل فقط في الجن والشياطين (الكنلبوي، ص٢، ص٢٢٣).
١٢٤  منع ذلك البعض وجوَّزه آخرون؛ لأن أجسام الجن رقيقة، فليس بمستنكر أن يدخلوا في جوف الإنسان من خروقه كما يدخل الماء والطعوم في بطن الإنسان وهو أكثف من أجسام الجن. وقد يكون الجنين في بطن أمه وهو أكثف جسمًا من الشيطان. وليس بمستنكر أن يدخل الشيطان إلى جوف الإنسان (مقالات، ج٢، ص١٠٨).
١٢٥  منع ذلك النظَّام وأكثر المعتزلة؛ لأن في ذلك فساد دلائل الأنبياء؛ لأن من دلالتهم أن ينبِئوا بما نأكل وندخر. وجوَّزه آخرون، أن يخدم الجن الناسَ وأن يخبرهم بما لا يعلمون (مقالات، ج٢، ص١١٠).
١٢٦  عند بعض المعتزلة وكذلك هشام، هم مأمورون منهيون بنص القرآن، وأنهم مختارون. وعند آخرين أنهم مضطرون مأمورون. وقد انتقل نفس الخلاف من الجن إلى الملائكة (مقالات، ج٢، ص١١٣، ص١٢٦). ويضرب ابن حزم المثلَ بالحركات الاختيارية فعل النفوس الحية مع الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان! (الفصل، ج٥، ص١٣١-١٣٢). يضع الإنسان مع الملائكة والحيوان كما يضعه مع الجن!
١٢٧  أجمع الأشاعرة على أن مَن كان من الجن مؤمنًا فإنه يدخل الجنة. ولكن هل يكون لهم ثواب؟ أنكر ذلك أبو حنيفة. لهم الجنة ولا ثواب لهم. وعن أبي يوسف ومحمد والشافعي، لهم الثواب كالعقوبة. والأصح أن يُقال ليس لهم أكل وشرب ولكن يتمتعون بالنظر والشم والسماع كما في الدنيا. أنكر البعض عليهم الاستمتاع في الجنة مع أهل الجنة. وقال آخرون: الاستمتاع لهم بحسب طبيعتهم وعادتهم. قيل لهم الطمث مع أهليها ولا يكون مع أهل الجنة (الدر، ص١٥٨-١٥٩).
١٢٨  تساءل محمد بن عبد الوهاب عن الحكمة من خلق الجن والإنس، وفسَّر آية الجن (الكتاب، ص٣، ص٢٦).
١٢٩  جوَّز البعض ذلك على الإطلاق، ومنعه آخرون إلا أن يرزقهم الله نبيًّا أو يجعل رؤيتهم علمًا ودليلًا على نبوة نبي أو أن يقلب الله خلقهم ويخرجهم عمَّا هم عليه. وجوَّزه فريق ثالث؛ فالله قادر على أن يقدر عباده على رؤية الملائكة والشياطين من غير أن يقلب خلقهم. وقد يرى الإنسان الملائكة في حال المعاينة. وكلها تصوُّرات دينية. ولكن ذهب فريق إلى إنكار الجن والشياطين، وأنه ليس في الدنيا شياطين ولا جن غير الإنس الذين نراهم (مقالات، ج٢، ص١١٣-١١٤).
١٣٠  جوَّز ذلك البعض، فيكون الشيطان مرة في صورة إنسان، ومرة في صورة حية؛ ومنعه المعتزلة (مقالات، ج٢، ص١١١، ص١١٤).
١٣١  ويعني استرقاق الشياطين صفة ركوب بعضهم بعضًا، وهو سبب إرسال الشُّهُب؛ فتارة يدركه الشِّهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه الشهاب (كتاب التوحيد، ص٣٦). معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة ولو مسه قصد الفاعل (كتاب التوحيد، ص٤٥). إن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس (كتاب التوحيد، ص٦٩).
١٣٢  جوَّز ذلك البعض، وأن يحمل الأشياء الكثيرة، ومنعه الجبائي؛ لأن في ذلك بطلان دلائل الرسل (مقالات، ج٢، ص١١١).
١٣٣  قال إبراهيم ومعمر وهشام ومَن اتبعهم، إن الشياطين يعلمون ما يحدث في القلوب، وليس ذلك بعجب عند الأشاعرة؛ لأن الله قد جعل عليه دليلًا. ومحال أن يدخل الشيطان قلب الإنسان. مثال ذلك أن نشير إلى الرجل أقبل أو أدبر فيعلم ما تريد، فكذلك إذا فعل فعلًا عرف الشيطان كيف ذلك الفعل. فإذا حدَّث نفسه بالصدقة والبِر عرف ذلك الشيطان بالدليل فنهى الإنسان عنه. وقال آخرون من المعتزلة إن الشيطان لا يعرف ما في القلب، فإذا حدَّث الإنسان نفسه بصدقةٍ أو بشيء من أفعال البِر نهاه الشيطان عن ذلك الظن والتخمين. وعند فريق ثالث أن الشيطان يدخل في قلب الإنسان فيعرف ما يريد بقلبه (مقالات، ج٢، ص١١٠، ص١٢٦).
١٣٤  جوَّز البعض أنهم يوسوسون، وعند هشام قد يجوز أن يكون الله قد جعل الجو أداةً لهم يصل به إلى القلب من غير أن يدخل فيه، أو جعل لهم أداة غير الجو وهي متصلة بالقلب، فيحرِّك الشيطان تلك الآلة من جهة بعض خروم الإنسان فتصل الوسوسة إلى القلب بتلك الآلة، مثال ذلك أنك تأخذ الرمح وبينك وبين الإنسان عشرة أذرع، فتتكلم فيه فيسمع الإنسان إذا كان الرمح مجوَّفًا وكان متصلًا بسمعه. وعند فريق آخر أن جسم الشيطان أرقُّ من أجسامنا، وكلامه أخفى من كلامنا، فيجوز أن يصل إلى سمع الإنسان فيتكلم بكلامه الخفي، فيكون ذلك هو وسوسته. وعند فريق ثالث يدخل إلى قلب الإنسان بنفسه ويوسوس فيه (مقالات، ج٢، ص١٠٩، ج١، ص٣٢٤). وعند أهل السنة يوسوس الشيطان للإنسان ويشكِّله ويتخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية (الإبانة، ص١٢). أمَّا المعتزلة فقد قالت إن الشياطين ليس لهم عمل على بني آدم، ولا يمكنهم أن يوسوسوا، وكذلك الجن. وقال أهل السنة، لهم عملٌ على بني آدم في الظاهر والباطن؛ في الباطن لما رُوي عن الرسول «إن الشياطين تجري من بني آدم مجرى الدم»، فثبت أن لهم ولاية في الباطن فيوسوس إلى الإنسان ويدعو إلى الشر. وأمَّا في الظاهر فيزين المعاصي في قلوب العباد: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ. والحكمة في أننا لا نراهم وهم يروننا أنهم خُلقوا على صورٍ قبيحة، فلو رأيناهم لم نقدر على تناول الطعام والشراب، فسُتروا عَنَّا رحمة الله! خُلق الجن من الريح، وأصل الريح لا يُرى، وخُلق الملائكة من النور فلو رأيناهم لطارت أرواحنا. وتقع النفس في المعاصي بوسوسة الشياطين يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (بحر الكلام، ص٥٨-٥٩).
١٣٥  اختلفوا في المصروع يرى الشيطانَ أم لا؛ فعند فريق أن الشيطان يخبط الإنسان ويستهلكه ويراه الإنسان، وما يُسمع منه فهو كلام الشيطان. وعند فريق ثانٍ، بل يخبط الإنسان ويصرعه ويوسوسه ولا يراه الإنسان، وليس الكلام المسموع في وقت الصرع والاختبار كلامَ الشيطان. وعند فريق ثالث، الجن لا يخبطون الناس ولا يستهلكونهم، وإنما ذلك من جهة اختلاط الطبائع وغلبة بعض الأخلاط من المرة أو البلغم (مقالات، ج٢، ص١٠٩). وعند ابن حزم واعتمادًا على النقل، الصرعُ تأثير الشيطان في المصروع بالمماسة بعد أن يسلطه الله عليه، يثير فيه من طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف مهم، فيُحدِث الله له الصرع والتخبُّط … وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد الغرابين والكذابين … ويعتمد ابن حزم على نقل مثل: «إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا أجنحت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها.» ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات! يتضح إذن الصراع بين التصوُّر العلمي والتصوُّر الديني في تفسير الصرع بالأبخرة، وتفسيره بوسوسة الشيطان، أو وجود الجن بناءً على قدرة الله، أو عدم رؤيتهم بناءً على أنها أجسام رقيقة صافية هوائية، عنصرها النار، لا ألوان لها؛ وبالتالي لا يمكن إدراكها بحاستي البصر أو اللمس. ويقول ابن حزم: «لم ندرك بالحواس ولا عَلِمنا بوجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضًا بضرورة العقل.» ولكن كان المبدأ والقياس شيئًا، والتطبيق والنتيجة شيئًا آخَر (الفصل، ج٥، ص٨٣-٨٤).
١٣٦  مثلًا يقول الجويني: «ونحن نوضح وجوه الرد على الفلاسفة أوَّلًا (في الجزء الذي لا يتجزأ) ثم ننعطف على النظَّام ونوضح له أداء مذهبه إلى هدم قواعد الدين» (الشامل، ص١٤٣).
١٣٧  يقول الخياط مهاجمًا ابن الراوندي: «ثم إن الماجن السفيه ذكر أبا الهذيل فحكى عنه قولًا قد كان أبو الهذيل يناظر فيه على البحث والنظر، وذلك لأنه باب من أبواب الكلام شديد، وهو أصل من أصول التوحيد عظيم، وهو الكلام فيما كان ويكون، وما يتناهى وما لا يتناهى، والكلام في البعض والكل، وإنما يُعنى بهذا الباب من العلم مَن له عناية بالتوحيد وبالرد على الملحدين» (الانتصار، ص٧).
١٣٨  يقسِّم البيضاوي «طوالع الأنوار» إلى مقدمة وكتب ثلاثة؛ تستغرق المقدمة بفصولها الأربعة الكتابَ الأوَّل كلَّه ببابه الأوَّل وفصوله الستة، وبابه الثاني وفصوله الأربعة، وبابه الثالث وفصلين أكثر من نصف الرسالة. كما يقسِّم التفتازاني «المقاصد» إلى ستٍّ، تضم المقدمات الخمسة الأولى؛ الأوَّل «في المبادئ»، والثاني في «الأمور العامة»، والثالث «في الأعراض»، والرابع «في الجواهر»، والخامس «في العقليات». ولا تظهر موضوعات علم الكلام التقليدي إلا في المقصد السادس «في الإلهيات» (المقاصد، ص١١١). وقد حاولنا نحن في هذا الفصل (نظرية الوجود) ردَّه إلى حجمه الطبيعي أسوةً بباقي الفصول؛ فقد كانت المصنَّفات القديمة حبلى به، لا هروبًا من الوجود، بل لإعادة تأسيس موضوعات العلم ذاته على أساسٍ من الواقع الاجتماعي والسياسي للأمة في مرحلتها التاريخية الراهنة.
١٣٩  يقول التفتازاني: «والمتقدمون على أن موضوعه الموجود من حيث يتميز عن الإلهي» (المقاصد، ص١٧).
١٤٠  مطالع الأنوار، ص١٤٣.
١٤١  المقاصد، ص١٨.
١٤٢  هو ابن سينا (المقاصد، ص١٩).
١٤٣  انظر بحثنا: «كبوة الإصلاح»، الندوة العلمية لكلية الآداب، جامعة الرباط، أبريل ١٩٨٣م.
١٤٤  المقاصد، ص٢١.
١٤٥  طوالع الأنوار، ص٩٢؛ الشامل، ص١٠٥.
١٤٦  وذلك منذ «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة حتى «الإبانة» للأشعري.
١٤٧  «ولأن ابتناءه على الأدلة القطعية المؤيَّد أكثرها بالأدلة السمعية أشد العلوم تأثيرًا في القلب وتغلغلًا فيه، فسُمِّيَ بالكلام المشتق من الكلم وهو الجرح» (شرح التفتازاني، ص١١).
١٤٨  العصر الثاني للترجمة هو القرن الماضي، وهذا القرن في مقابل العصر الأوَّل الذي تمَّت فيه الترجمة، في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
١٤٩  انظر مثلًا نماذج من شعر الفرق في «الفرق»، ص٤١–٥٣.
١٥٠  انظر بحثنا: «من الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي»، دراسات إسلامية، ص٣٤٩–٣٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤