وتدخل مقولة الجسم مع الجوهر والعرض في قسمةٍ ثلاثية للمحدث الذي ينقسم إلى جسم
وجوهر وعرض؛ فالجسم هو المؤلَّف المركَّب من جوهر وعرض، والجوهر الذي له حيز،
والحيز هو المكان، والعرض الذي يعرض في الجوهر. الجسم إذن هو القابل للعرض، وهو
الجوهر، وهو «الجزء الذي لا يتجزأ كجسم وجوهر.»
٤ ويُطلق الجسم عند الحكماء بالاشتراك على معنيين: الأوَّل الجسم
الطبيعي، وهو موضوع العلم الطبيعي، وهو جوهر له أبعاد ثلاثة متقاطعة على زاوية
قائمة. والثاني الجسم التعليمي موضوع العلوم التعليمية؛ أي الرياضية، ورفضوا تصوُّر
المعتزلة بأنه الطويل العريض العميق. قد يكون هو القائم بنفسه الذي لا يتجزأ أو هو
الوجود الذي يعني الجسم بلا تعيُّن أو تحيُّز أو هو الشيء.
٥ وهي كلها تعريفات تجعل الجسم مجسَّمًا في أغلب الأحوال، وأقرب إلى
المشاهدة الحسية والبداهة العقلية، سواء في العلم الطبيعي أم في العلم الرياضي أم
في العلم الإنساني. ليس الجسم مجموعة أعراض مجتمعة، بل لا بد من جوهر؛ فالعلاقة
بينهما ليست علاقة حامل بمحمول. ليس الجسم مجرد صفاته، بل هو المتحيز أو المحل
القابل للحال. واعتبار الجسم مجرد صفات إنكار لقوام الشيء.
٦ واعتبار الأجزاء هي الأعراض كاللون والطعم والحر والبرد والخشونة
واللين خلطٌ بين الصفات الأولى والثانية. فالصفات الأولى هي ما يحدِّد «الجزء الذي
لا يتجزأ» كالوجود والثقل والطول والعرض والعمق. أمَّا الصفات الثانية فهي التي
تظهر من خلال الحواس الخمس، وهي الأعراض لا الأجزاء. وقد يكون الجسم هو المماسة من
إحدى الجهات. وهذا تحديد للجسم من الخارج، وقد تكون المماسة من أسفل حتى يمكن للجسم
أن يرتكز على آخر. وقد تكون من جهاتٍ أخرى حتى يكون القديم مُحاطًا بالأجسام. ويبدو
أن الذي يحدِّد التصوُّر الطبيعي للجسم هنا هو التصوُّر «الإلهي».
٧ والمماسة بعد المجاورة وقبل التأليف، والمباينة ضد المجاورة. خلاصة
القول أن الجسم عند المعتزلة والفلاسفة هو الطويل العريض العميق، ذي الأبعاد
الثلاثة. وعند الأشاعرة هو المتحيز القابل للقسمة ولو في جهة واحدة. وعند كليهما
الجسم مؤلف أو متألف ومنقسم إلى جهاتٍ ثلاثة، أو مؤلف من أربعة أجزاء أو ستة أو
ثمانية أو ستة وثلاثين جزءًا أو من عدد غير محدَّد من الأجزاء.
٨ فإذا ما تحدَّد الجسم بالأبعاد الثلاثة، فإنه يكون قابلًا للقسمة كما
يقول الحكماء إلى ما لا نهاية، وليس له أجزاء يتوقف عليه.
٩ أو يكون هو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، وينقسم إلى أجزاء صغار لا
تنقسم أصلًا أو لا تنقسم فعلًا غير متناهية، وهو الجوهر الفرد الذي ينكره
الحكماء.
(١) الجوهر الفرد
والجوهر الفرد لا شكل له.
١٢ ولا يشبه شكلًا من الأشكال، لا طول له ولا عرض ولا عمق، لا يماس
ولا يجاور ولا يلاصق، ومع ذلك قابل لجميع الأعراض إلا التركيب لأنه جزء لا
يتجزأ. وقد يبدو ذلك متناقضًا لأن الأعراض لا يمكن حملها إلا على جسم. الحركة
والسكون أعراض لا تحل إلا في محل. ولماذا تجوز عليه الحركة والسكون واللون
والمماسة والطعم والرائحة ولا تجوز عليه باقي الأعراض مثل الطول والتأليف أو
العلم والقدرة والحياة؟ لماذا تجوز عليه الأعراض الأولى إذا كان منفردًا ولا
تجوز عليه الأعراض الثانية إذا كان منفردًا؟ والإنسان جزء لا يتجزأ ويجوز عليه
الطول والعلم والقدرة والحياة.
١٣ وقد قيل إن له خطًّا من المساحة، أو هو نقطة على خط. والأشكال
الهندسية تعبِّر عن درجةٍ أعظمَ من التعظيم والإجلال، الدائرة أو المربع أو
المثلث. فالأشكال الهندسية تعبِّر عن معانٍ إنسانية، وما هي إلا رموز لأشياء
أخرى هي حقائق مستقلة. الخط هو اللامتناهي، والمثلث هي الدولة التي ترتبط
بمركزٍ أعلى واحد أو العالم الذي في قمته «الله»، والمربع هو التناهي المحدَّد
الواضح. أمَّا الدائرة فإشكالها أنها تعبِّر عن التناهي لأنها محددة في
المساحة، وعن اللاتناهي لأنها تدور إلى ما لا نهاية، ولأن محيطها متصل إلى ما
لا نهاية؛ ومِنْ ثَمَّ كانت أفضل شكل هندسي للتعبير عن قِدَم العالم.
١٤ وهو حادث لأن المادة حادثة لا قديمة، ومتناهٍ لأن التناهي من طبيعة
الحادث. وأجمعوا أنه إذا انضم جزء لا يتجزأ إلى آخَر حدث طول وإلا كيف تكونت
الأجسام؟ وهنا تتراوح التصورات له بين التصورات الميتافيزيقية الخالصة،
والتصورات المادية. والسؤال الآن: هل له وجود حقيقة، سواء كان وجودًا
ميتافيزيقيًّا رياضيًّا في الأذهان أم وجودًا حسيًّا في الأعيان، أم إنه من
صنْع الوهم ليخدم غاية دينية معينة؟ هل هو تحليل علمي للأجسام الطبيعية أم إنه
محاولة لإرساء مقدمات لإثبات وجود «الله» كما سيبدو ذلك في إثبات الصانع في
موضع الذات؟
لذلك اختلف فيه المتكلمون والفلاسفة بين الإثبات والنفي، يثبته المتكلمون
وينفيه الحكماء وكأنهما هذه المرة يتبادلان الأدوار، فيُثبِت المتكلمون شيئًا
من صنْع الوهم لا وجود له إلا في الأذهان، وهم الذين لا يثبتون شيئًا إلا في
الحس، بينما ينفيه الحكماء، وهم الذين يُثبِتون المعاني في الذهن متجاوزين
للحس. ويتبع المتكلمون في ذلك حججًا رياضية وفلسفية وطبيعية، منها ما يعتمد على
الإثبات، ومنها ما يقوم على برهان الخلف؛ أي إثبات استحالة النقيض وهو
الهَيُولَى والصورة عند الحكماء. مثلًا الجوهر الفرد كالنقطة في الرياضة التي
منها تتكون جميع الأشكال الهندسية، الخط والزاوية والمثلث والمربع والمستطيل
والدائرة … إلخ. والحقيقة أن هذه كلها موجودات ذهنية لا وجود لها في الخارج ولا
تنقسم إلا بالوهم ولا تجتمع أو تفترق إلا بالخيال. وإن أصغر الزوايا مجرد
افتراض عقلي لا وجود له مثل النقطة والخط والموضوعات الرياضية كلها؛ فمعظم
الأدلة الرياضية مستقاة من الفكر التمثيلي. الرياضة خاصة الهندسة في النقط
والخطوط والمساحات تقوم على التماس، والتماس إثبات للجواهر الفردة. وهذا أيضًا
إغفال للشيء وحديث عن بديله. أمَّا إثبات الجوهر الفرد عن طريق إثبات قسمة
الحركة والزمان، استحالة وجود أجزاء لا متناهية وإلا استحالت الحركة كما يفعل
الأشاعرة؛ فهو إثبات خاطئ؛ وذلك لأن الزمان والحركة لا ينقسمان إلا من حيث هما
مكان. ليس بالحركة ماضٍ أو حاضر أو مستقبل؛ فهذا إبدال للمكان بالزمان. الزمان
إحساس بالزمان شعور به، والحركة تغيُّر في الزمان. وكلاهما وحدة واحدة لا تركيب
فيها. التركيب افتراض عقلي خالص يقوم على التجزئة والتفتيت من أجل الهدم
والقضاء على العالم من أجل إثبات، ولو كفاية بعيدة، إرادة مشخصة وقدرة خارجة عن
العالم وعليه.
١٥ وسواء كان الجوهر الفرد لا ينقسم أصلًا أو فعلًا، فهو لا ينقسم
لأنه لا وجود له بالفعل. والأجسام البسيطة لا تنقسم ولا تتجزأ لأنها بسيطة.
والصورة جوهر لا جسمي فكيف تنقسم الصورة؟ والعقل جوهر، والنفس جوهر فكيف تنقسم
الجواهر؟ كما يثبت المتكلمون الجوهر الفرد ببرهان المماسة؛ مماسة الكرة على
البسيط في الجوهر الفرد، ويثبتونه أيضًا بالقرين، وهي نقطة الخط التي يتكون
منها الخط ولا ينقسم. وإن مماسة الكرة لسطحٍ لا تثبت الجزء إلا افتراضًا لأنَّا
لا نرى إلا الكرة فوق السطح. ومماسة خط لخط فوقه يدل على تماس الأجزاء افتراضًا
أيضًا. ويَرُدُّ المتكلمون على الاعتراض الخاص بالجوهر الفرد وإثباته بالنقطة
بالنسبة للخط على أن ذلك عرض، والأعراض لا تنقسم بأن الأعراض أيضًا تنقسم.
١٦ الحقيقة أنه يمكن أيضًا نفي الجوهر ببرهان المماسة؛ وذلك لأن كل
جوهر فرد لا بد وأن تكون له جهات ست، يمين ويسار، وأمام وخلف، وأعلى وأسفل،
يحاذي بها الجواهر الفردة الأخرى. ومِنْ ثَمَّ فكل جوهر فرد يتجزأ. ويَرُدُّ
المتكلمون على الشبهة بأن الجوهر الفرد لا يتجزأ بأن كل الاعتراضات والإلزامات
تقوم على افتراض الجوهر الفرد وليس على نفيه؛ ومِنْ ثَمَّ كان إثباته أقرب.
وهذه الطريقة تلزم المتكلمين جميعًا في إثبات استحالة الرأي المعارض حتى يثبت
الرأي المطلوب. كما يَردُّ المتكلمون على الجهات الست بأن كلَّ ما له جهة
فمنقسم وهو ليس الجوهر الفرد، كما أن إثبات الجهة لا يعني الانقسام إلى ما لا
نهاية؛ لأن الجهات أعراض وليست جواهر أو هي نِسب وليست ذواتٍ. ويعتمد المتكلمون
في كل الأحوال لإثبات مذهبهم على مقدمتين: الأولى أن كل منقسم له أجزاء بالفعل
والثانية أنها متناهية.
١٧ والحقيقة أنهما مقدمتان جدليتان فارغتان لا يثبتان شيئًا بالفعل،
لا تعتمدان إلا على العقل الصوري القادر أيضًا على تفنيدهما صوريًّا بنموذج
صوري آخر. إن استحالة الانقسام إلى ما لا نهاية لإثبات وجود الجزء تفكير قائم
على عقليةٍ مركَّبة على افتراض أن النهائي من صنو الطبيعة، وأن اللانهائي من
خارجه. ويستعمل المتكلمون في ذلك حججًا خطابية صرفة مثل: لو وُجدت القسمة إلى
ما لا نهاية لغمرت وجه الأرض! كأن قسمة حبة القمح إلى أقسامٍ لا متناهية تغمر
حقول مصر وغيطانها، وإذن لأمكن بذلك إشباع الجياع!
١٨ وبعض الحجج الصورية الأخرى تكون مليئة بالمتناقضات، مثل: كيف
يتركَّب الجسم من جزءٍ لا يتجزأ ولا يتجزأ، أو لو جاز جزء على ملتقى اثنين لم
يكن لا يتجزأ!…
إن حجج إثبات المتكلمين للجوهر للفرد كلها افتراضات عقلية تعبِّر عن بناء
عقلي مركَّب على النهائي واللانهائي، أو على مجرد تحصيل حاصل لا يأتي بجديد،
مثل: «كل منقسم له أجزاء بالفعل وأنها متناهية.» فكل منقسم له بطبيعة الحال
أجزاء، وكل جزء متناهٍ. ولا غرابة في ذلك؛ إذ يؤيده الحس والمشاهدة، ولا يحتاج
إلى أدلة تثبت هذه الحقيقة البينة. وكأن الفكر لا يسير إلى الأمام بل يسير إلى
الوراء. والذي لا يتقدم خطوة يتراجع خطوات، وينتهي به الأمر إلى النكوص
المستمر، والتعايش على ذاته والواقع منه بريء وهو غريب عليه. ومعظم الأدلة
الفرعية لإثبات هذه الحقيقة البديهية تقوم على استحالة الرأي المضاد؛ فالحجة
القائلة بأنه لو كان المنقسم واحدًا للزم انقسام الوحدة لا تثبت شيئًا؛ لأن
البداهة لا يمكن إثباتها إلا بالدوران حولها وإثبات ما يخالفها. والحجة بأن لو
كان واحدًا لكان التفريق إعدامًا له أيضًا تقوم على رفض الرأي المضاد. والحجة
بأن الجسم مقاطع لأجزاء متمايزة بالفعل تحصيل حاصل؛ لأنها تعرِّف الكل بأجزائه
ولم تأتِ بجديد كمن يقول: الإنسان له رأس وبطن وذراعان وساقان. ما إثبات أن
الجواهر الفردية متناهية في الجسم فإنها لا تحتاج إلى دليل؛ فالجسم له طول وعرض
وعمق، ويشغل مساحة ويتحيز في المكان. ومِنْ ثَمَّ فهو محدود متناهٍ. ولكن
العقلية المركَّبة على بناء المتناهي واللامتناهي تتوهَّم أن الحكم على الجواهر
الفردية الداخلة في تكوين الجسم بأنها متناهية لتعطي الفرصةَ لإثباتِ موجودٍ لا
متناهٍ وهو إيهام تقع فيه النفس. وإثبات هذه الحقيقة البديهية، وهي أن الأجسام
متناهية، لا تحتاج إلى دليل، خاصةً ولو كانت الأدلة كلها خاطئة تقوم على الخلط
بين الزمان والمكان وتكرِّر حججًا دخلت من حضارات أخرى بعد تمثُّلها وأصبحت
جزءًا من الثقافة الإسلامية العامة. وهي حجج تهدف إلى هدم الإلهيات وإنكار
الحركة وتحويل الزمان إلى مكان. فمثلًا الحجة بأنه لو كانت الأجزاء غير متناهية
لامتنع قطْع المسافة في زمنٍ متناهٍ خلطٌ صريح بين الزمان والمكان، ونظرة
خارجية تقسيمية تجاورية للزمان على أنه مُدَدٌ متتالية، والمكان على أنه مسافات متتابعة.
١٩ أمَّا إثبات تناهي الأجزاء بأنها محصورة فتحصيل حاصل، وكأن الإنسان
يريد أن يثبت تناهي الساق لأنه محصور بين القَدَم والركبة! أمَّا التناهي عن
طريق التأليف وزيادة الأجزاء فيزيد الحجم أو تنقص الأجزاء فينقص الحجم، فتحصيل
حاصل، كمن يقول إن الواحد إذا أُضيف إليه واحد أصبح اثنين، وإن الاثنين إذا
طرحنا منها واحدًا يبقى واحد!
وإذا كانت حجج المتكلمين ضد قسمة الجسم إلى ما لا نهاية عند الحكماء سليمة
وقوية، إلا أن ذلك لا يعني صحة رأي المتكلمين في وجود الجوهر الفرد. صحيح أن ما
له أطراف وأضلاع يستحيل أن ينقسم إلى ما لا نهاية، وأن الانفصال إلى ما لا
نهاية يقتضي الاتصال إلى ما لا نهاية. ولما كان الجسم متصلًا إلى نهايةٍ كان
انفصاله متصلًا إلى نهاية، وإن كان انقسام الجسم قسمين غير متساويين كان انقسام
القسم الأصغر إلى ما لا نهاية أكبر من انقسام القسم الأكبر. ويعرف الحكماء بأن
كل هذه الانقسامات بالقوة وليست بالفعل؛ أي إنها افتراضات وهمية وليست وقائع محسوسة.
٢٠ وتعتمد حجة الحكماء على أن الجسم واحد متصل قابل للقسمة إلى ما لا
نهاية، لا لأنه مركَّب من أجزاء لا تتجزأ. والجسم متصل بشهادة الحس وقابل
للقسمة إلى ما لا نهاية. موقف الحكماء أقرب إلى بداهة الحس وأوليات العقل، وهي
أن الأجسام متداخلة في نفسها، وأن قسمة الجسم إلى قسمين يفقده الجسمية ويحيله
إلى جزء من الجسم، ويتحوَّل من المعنى الفلسفي إلى المعنى الطبيعي.
٢١ الأجسام متصلة كما يرى الحكماء ولكنهم يجعلونها قابلة للقسمة
ولانقساماتٍ غير متناهية، وهذا أيضًا افتراضٌ لا يزيد ولا ينقص شيئًا من واقع
الأشياء، ومن حيث مدلولها الفلسفي، وإن كان لها مدلول علمي في البحث عن قوانين
الطبيعة، ويدل على عقلية مركَّبة على بناء اللامتناهي والتناهي. لقد أصاب
الحكماء في إنكارهم الجوهر الفرد، وفي تصوُّرهم أن الجسم جوهر واحد متصل،
ولكنهم عادوا فهدموا ما بنوه بجعلهم الجسم منقسمًا إلى ما لا نهاية، فوقعوا في
نفس الافتراض الذي لا لزوم له، والذي لا يقدِّم في كثير أو في قليل. ومع ذلك
فحجج الحكماء أكثر إقناعًا، حجج المحاذاة التي تثبت جهة الجسم يمينًا ويسارًا
أو أعلى وأسفل لا تدمر جسمية الأشياء ولا تحيلها هباءً منثورًا أو نقاطًا هندسية.
٢٢ ومِنْ ثَمَّ كان موقف الحكماء أكثر اتساقًا مع العقل والواقع من
موقف المتكلمين؛ لذلك انتشرت علوم الحكمة فوق علوم التوحيد وضمته وطوته وأعادت
صياغته؛ لأنها كانت تمثِّل نسقًا عقليًّا أكثر تقدُّمًا من نسق الكلام. يعطي
الحكماء تصوُّرًا أكثرَ عقلانية ولو أنه ليس أقل «إلهية» بالضرورة، وهو أن
الجسم مكوَّن من مادة وصورة، المادة للانفصال والصورة للاتصال. ولما كانت
الصورة لا تنفصل عن الهَيُولَى استحال انقسام الهَيُولَى، وإلا انقسمت الصورة.
والدليل على إثبات الهَيُولَى والصورة هو إثبات الهَيُولَى لكل جسم، وعدم خلو
الهَيُولَى عن الصورة أو الصورة عن الهَيُولَى، وأن الهَيُولَى ليست علة
الصورة؛ فالأدنى لا يكون علةً للأعلى، وأن لكل جسم صورة نوعية، وأن لكل جسم
حيِّزًا طبيعيًّا. والجسم الواحد لا يكون له حيِّزان طبيعيان.
والحقيقة أن إثبات الجوهر عند المتكلمين ونفيه عند الحكماء إنما ينتهي إلى
حقيقة واحدة، وهي إثبات الجوهر المفارق بصرف النظر عن الوسيلة والحجة؛ إذ يريد
المتكلمون إثبات تناهي الأشياء من أجل إثبات اللاتناهي، ويريد الحكماء إثبات لا
تناهي الأشياء أيضًا من أجل إثبات اللاتناهي. والخلاف بينهما فقط في درجة
التنظير والإحكام الجدلي. فإذا كان إثبات الجوهر بأن كل متناهٍ محصور، وبالتالي
لا يمكن أن يشتمل الجوهر على ما ليس بمتناهٍ، ليس إثباتًا للجوهر الفرد، بل نفي
لقسمة الشيء إلى ما لا نهاية على ما يقول الحكماء، فكذلك إثبات الجوهر الفرد من
صنو إثبات الهَيُولَى والصورة التي لا تنفصل إحداهما عن الأخرى؛ ومِنْ ثَمَّ لا
يتجزآن؛ فالحكماء يثبتون التجزؤ عندما ينكِرون على المتكلمين الجوهر الفرد.
٢٣ ويهاجم المتكلمون البديلَ الذي يقدِّمه الحكماء في تصورهم للجسم
على أنه هَيُولَى وصورة، ويعتمدون على هذا التصوُّر لرفض حججهم في إنكار الجوهر
الفرد وإثبات القسمة إلى ما لا نهاية. إن تصوُّر الحكماء للهَيُولَى والصورة
إثباتٌ للتناهي ورفضٌ للاتناهي؛ لأن اتصال الصورة بالهَيُولَى متناهٍ وليس لا
متناهيًا وإلا كان الجسم لا متناهيًا، وهذا التناهي هو الجوهر الفرد.
ويتفق كثير من المتكلمين، وعلى رأسهم المجسمة، على نفي الجزء الذي لا يتجزأ
مع الحكماء، مع أن المجسمة هم أصحاب الطبيعة ومحللوها. كما كان القول بالطفرة
ردَّ فعلٍ على تجزئة الأجسام، وتصوُّرًا بديلًا عن الجزء الذي لا يتجزأ ما دامت
الطبيعة ليس لها حد ولا نهاية.
٢٤ ولكن رد الفعل الحاسم جاء من جانب الفقهاء الذين تمثَّلوا النظرة
الحسية ودافعوا عن تصوُّر المتكلمين الحسي الدائم، والذين تخلَوا عنه هذه المرة
لحساب الجزء الذي لا يتجزأ الذي هو من صنْع الوهم.
٢٥ كما رفضوا الصورة باعتبارها جوهرًا وجعلها كيفيةً أو عَرَضًا.
فالفقهاء الذين يُعرف عنهم بأنهم المدافعون عن «الله» هم الذين يدافعون عن
الحركة والتغيُّر والمادة دون الثبات والصورة. ويَرُدُّ الفقهاء على الحجج
الخمس التي يوردها المتكلمون لإثبات الجوهر الفرد، واحدة وراء الأخرى؛ فالأولى
تعتمد على الحركة التي لا بد من قطعها؛ ومِنْ ثَمَّ فهي متناهية. وهذا في حقيقة
الأمر خلطٌ بين المكان والحركة. يرفض الفقهاء الجوهر لأنه ليس هناك جزء لا
يتجزأ لا تستطيع مقدرة «الله» أن تقسمه إلى قسمين إلى ما لا نهاية. إنكار
الجوهر الفرد هنا قائم على إثبات قدرة «الله» المطلقة. وهكذا أدَّت الغايات
«الإلهية» إلى تضارب في تصورات الطبيعة؛ لأنه لا يبدأ أحد من الطبيعة كما هي،
بل يأخذها الجميع سُلَّمًا لإثبات الإلهيات، كلٌّ حسب تصوره لها؛ فعند البعض أن
إثبات جوهر فرد فيه إثبات لله حتى يمكن فهْم الشرعية العقلية لهذا الجوهر الذي
لا ينقسم. وإنكار الجوهر الفرد لإثبات قدرة الله المطلقة القادرة على قسمة ما
لا ينقسم. وكيف تجتمع أبعاد الجسم، الطول والعرض والعمق، من جواهر فردة لا
أبعاد لها؟ مم تنشأ الأجسام إذن وكيف يجتمع الخط من نقاطٍ لا طول لها ولا عرض
ولا عمق؟ كيف تكون مساحة من نقاطٍ لا وجود لها؟ لا بد إذن من إثبات قسم له طول
وعرض ومساحة تتكون منه الأجسام.
والثانية تعتمد على حجة المماسة التي تعتمد بدورها على التجاور في المكان
والملاصقة في الجوهر الفرد. ولكن كيف تتم ملاصقة ما لا وجود له وما لا طول ولا
عرض ولا عمق، ولا جهة من أمام أو خلف أو أعلى أو أسفل أو يمينًا أو يسارًا؟ فكل
حيِّز متناهٍ في أبعاده، والتجاور هو ملاقاة الأبعاد بعضها البعض أو ملاقاة
الجهات.
والثالثة قدرة الله على تفريق الأجزاء المجتمعة إلى أجزاء لا تتجزأ وإلا ثبت
عجزها. وبالتالي فإن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ هو مجرد وسيلة لإثبات قدرة الله
المطلقة. ولكن العالم لم يوجد من أجزاء جمعها «الله» بل العالم موجود فحسب.
ولماذا يجمع «الله» أجزاء متفرقة ولا يفرِّق أجسامًا مجتمع وكلاهما إثبات
للقدرة؟ إن «الله» قادر على إثبات جزء لا يتجزأ، ولكنه لم يخلقه بالفعل في بنية
هذا العالم. بل إن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ قد يكون تعجيزًا «لله» لأن الله
قادر على قسمته. ومِنْ ثَمَّ فإثبات القدرة يأتي عن طريق قسمة الجزء الذي لا
يتجزأ إلى ما لا نهاية على قول الحكماء لو كانت الغاية إثبات القدرة الإلهية
ونفي العجز. ولكن الإنسان نفسه غير قادر على قسمة الشيء إلى أجزاء لا تتجزأ.
لذلك قرَّر البعض أن لقدرة الله كمالًا وآخِر لا تستطيع بعده أن تخرج إلى
الفعل؛ أي إن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ أدَّى إلى تعجيز الله وإلى غير ما كان
يهدف إليه منه.
٢٦ وإثبات الجوهر الفرد أن الافتراق نتيجةُ الاجتماع هو دليل على
مسلمة، وهي أن الأشياء قبل أن تجتمع كانت متفرقة، وهو ما يحتاج إلى دليل أيضًا
كمن يريد إثبات الافتراق بأن الأشياء كانت مجتمعة من قبل، وهو ما يحتاج إلى
دليل.
والرابعة الكِبَر والصِّغَر، وأن أقسام الصغير أقل من أقسام الكبير. وهذا خلط
بين المتناهي في الكِبَر والمتناهي في الصِّغَر، وخلط بين الكم والكيف. فالجزء
الذي لا يتجزأ واحد في الكبير والصغير، بالإضافة إلى أن مجموع هذه الوحدات
الصغيرة الكيفية التي لا طول ولا عرض ولا عمق لها نظرًا لا تنتج جسمًا له طول
وعرض وعمق بالفعل. والغاية من إثبات التناهي في العالم هو الرد على الدهرية
التي أخطأت، فتصوَّرت اللامتناهي موجودًا في العالم بالفعل بإثبات أن الأجزاء
لا متناهية؛ لأن الله قادر على ذلك. هنا يختلف الفقهاء عن الحكماء في السبب مع
اتفاقهم في الرأي.
والخامسة أن الأشياء لها كل؛ ومِنْ ثَمَّ فهي متناهية، وأن الله يعلم عددها.
ويدل ذلك على أن موضوع الجزء الذي لا يتجزأ مجرد تمرين عقلي من أجل صفتَي
القدرة والعلم، ولا وجود له بالفعل كموضوع مادي. وأن أقصى وجود له هو أنه موجود
ذهني من اختراع الوهم ليساعد في عمليات الحساب والرياضة، وإقامة أنساق صورية
خالصة يجوز استخدام البعض منها للسيطرة على قوانين الطبيعة.
٢٧
يتفق الفقهاء إذن مع الحكماء وفريق من المتكلمين الحسيين في نفي الجزء الذي
لا يتجزأ، وإثبات أن كل جزء يتجزأ إلى ما لا نهاية مع اختلاف الدواعي والأسباب.
ولا يكتفي الفقهاء ببيان تهافت أدلة المتكلمين ونقدها، بل يوردون حججًا لنفي
الجزء الذي لا يتجزأ، وإثبات أن كل جزء يتجزأ أبدًا تجمع بين البداهة
والاستدلال، وتنتقل بين المستويات الرياضية والطبيعية والإلهية. مثلًا، الجزء
الذي لا يتجزأ إمَّا موجود خارج العالم؛ ومِنْ ثَمَّ فالعالم يتكوَّن من أجزاء
لا تتجزأ أو لا يكون موجودًا. وإمَّا أن يكون موجودًا في العالم كعرضٍ يقوم
بغيره أو كجوهر يقوم بنفسه. وإن وُجد في العالم فلا بد من أن يُلاقى وأن يُماس،
ولا بد له من جهات، وهي صفات لا تتوافر في الجزء الذي لا يتجزأ. وإذا كان الجزء
الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق، فكيف ينتج الكم من الكيف والجسم من
اللاجسم؟ وإذا كان اجتماع جزأين لا يتجزآن أطول بالضرورة من وجودهما متفرقَين
كان لهما طول. وإن صغر الأجسام وكبرها يوحي بأن الجزء الذي لا يتجزأ له طول
وعرض وعمق. وإذا كان الجسم يتكوَّن من أجزاء لا تتجزأ وكان للجسم لون، كان
للجزء الذي لا يتجزأ لون، وكان كل ذي لون يتجزأ. وبالتالي لا ينفع دفاع
الأشاعرة بأن الجزء الذي لا يتجزأ ذو لون واحد. إن كل جسم يتجزأ ضرورة. أمَّا
الجزء الذي لا يتجزأ إذا كان جسمًا فإنه إن لم يتجزأ يكون باطلًا معدومًا.
والجزء من على المحيط يمر بأجزاء أكثر من الجزء الذي في المركز؛ ومِنْ ثَمَّ
فالجزء الذي لا يتجزأ يَتجزأ. وإذا وُضع الجزء الذي لا يتجزأ على سطح أملس إن
كان لا يزيد على السطح فهو معدوم، وإن زاد عليه فله حجم؛ ومِنْ ثَمَّ ينقسم.
وهل ثِقَلُ جزء لا يتجزأ من الحديد له مثل الوزن الذي لجزءٍ لا يتجزأ من القطن؟
ويمكن إقامة خطوط ساقطة إلى ما لا نهاية بين متوازيين مما يدل على نفي الجزء
الذي لا يتجزأ. وفي المثلث المتساوي الأضلاع يكون الوتر أكبر من الضلعين ولا
يفسِّر هذا الكِبَر إلا وجود أجزاء لها طول. ويمكن قسم الدائرة إلى قسمين
متساويين حتى ولو كانت مكونة من أحد عشر جزءًا؛ ومِنْ ثَمَّ فالجزء يتجزأ. وإذا
كان قصد الأشاعرة إثبات الإلهيات، فإنهم قد انتهَوا إلى مناقضتها والوقوع في
الشِّرك لأنهم وصفوا الجزء الذي لا يتجزأ بأوصاف «الله»؛ إذ إنه لا طول له ولا
عرض ولا عمق ولا شكل ولا لون ولا حد له، لا يُرى ولا يُحس ولا يُلمس، وليس بذي
مادة. وينتهي الفقهاء إلى أن الأجسام جواهر وأعراض لا أجزاء لم تتجزأ ولا صورة
ولا هَيُولَى. ويرفضون تصوُّر المتكلمين والحكماء على السواء.
٢٨ فالفقهاء هم الذين دافعوا عن الجواهر والأعراض دعامة نظرية الوجود
في المقدمات النظرية التي حاول المتكلمون إرساء قواعدها.
الجوهر الفرد إذن افتراض ذهني خالص يقوم على الخلط بين المنفصل والمتصل، بين
الذهن والمادة، بل إنه ينشأ من عمل الوهم أو الخيال الرياضي. ولا فرق في ذلك
بين تصوُّرات المتكلمين أو الحكماء للجوهر الفرد، فإنه ليس من عمل العقل.
والوهم لا يمكن أن يؤيد بالدليل لأنه وهم، والوهم افتراض لا سندَ له من العقل
أو من الواقع، ولكنه مجرد صورة خيالية أقرب إلى التشبيه منه إلى الاستدلال.
وأدخل في الفن منه إلى العلم.
٢٩ فالجزء الذي لا يتجزأ ليس اقتراحًا علميًّا يمكن التحقُّق من صدقه،
وليس واقعًا حسيًّا يمكن التحقُّق من وجوده؛ لذلك اختلف في تصوُّره المتكلمون،
كل يتصوره حسب خياله وما يقتضيه وهمه، وكلها تصورات لا يمكن التحقق من صدقها لا
في العقل ولا في الواقع.
٣٠ ومع ذلك فهو يكشف عن رغبةٍ في التمسك بالطرفين معًا بمقتضيات العقل
ومتطلبات الحس. فالجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق، لا يُماس ولا
يُجاور ولا يُلاصق، ومع ذلك قابل لجميع الأعراض والتركيب؛ لأنه جزء لا يتجزأ.
ولما كانت الأعراض لا يمكن حملها إلا على جسم، وأن الحركة والسكون أعراض لا
تَحُلُّ إلا في محلٍّ كان لا بد أن يكون جسمًا؛ فالجزء لا يتجزأ افتراض من وضع
الوهم كجسم، والأعراض واقع حي مدرك بالعقل. فهو إذن جمْع بين الوهم والعقل، بين
الافتراض والواقع. واعتبار الإنسان جزءًا لا يتجزأ أيضًا جمْعٌ بين العقل
والوهم، بين الحس والخيال، بين الافتراض والواقع. فالإنسان وحدة واحدة لا تتجزأ
إلى أعضاء أو إلى بدن وفكر، أو إلى حسٍّ وعقل أو إلى فعل وانفعال. فمجموع هذه
المظاهر كلها هو الإنسان. بل إن الإنسان هو المثل الأوَّل للجزء الذي لا يتجزأ.
ولكن الإنسان من ناحيةٍ أخرى له طول وعرض، ويتحيَّز في مكان. وكل هذه ليست من
صفات الجزء الذي لا يتجزأ. والإنسان ليس جزءًا بل هو كل. صحيح أن العلم والقدرة
والحياة والإرادة من مظاهر الإنسان، ولكن لماذا إنكار الحركة والسكون والمماسة
والمباينة واللون والطعم والرائحة، وهي كلها مظاهر للبدن؟ البدن يتحرَّك،
والإنسان يسكن ويماس، ويباين ويتلون، وله طعم ورائحة. وإذا كان الجزء الذي لا
يتجزأ لا يوجد إلا بالوهم وإذا اجتمع جزءان يوجدان في الواقع، فإنه يكون جمعًا
بين الافتراض والواقع، بين الوهم والحس. من أين يأتي الوجود باجتماع جزأين لا
وجود لهما؟ وكيف يوجد الكم مع اجتماع كيف محض؟ ولماذا جزءان وليس ثلاثة أو
أربعة أجزاء؟ إنه لأقرب إلى العقل باجتماع جوهرين يحدث جسم واحد. ومع ذلك لا
يمكن تسمية الجوهر الفرد جسمًا؛ لأن الجسم هو المتآلف والجوهر الفرد لا يتألف.
٣١ واعتبار أن الجزء لا يتجزأ له ست جهات هو أيضًا توفيق بين الوهم
والعقل، بين الافتراض والواقع. ومع ذلك فالجهات الست أعراض هي غيره، وكأن
الجوهر الفرد ما زال افتراضًا خالصًا للوهم.
٣٢ فإذا ما أخذ بعض الحكماء حلًّا وسطًا يجعل الجزء الذي لا يتجزأ
متوسطًا متجزئًا بالقوة إلى ما لا نهاية ومتجزئًا بالفعل إلى نهاية وغاية، يشير
أيضًا إلى البُعد الافتراضي الأساسي الوهمي. وكيف يثبت جسم واحد متصل وفي نفس
الوقت يكون متجزئًا إلى ما لا نهاية؟ أليس الأوَّل مشاهدة حس، والثاني افتراض
وهم؟
والآن نأتي إلى بيت القصيد، هل الجوهر الفرد مقولة ميتافيزيقية، وبالتالي
يكون أمرًا اعتباريًّا أو موجودًا ذهنيًّا، لا في الخارج شأنه شأن الأمور
العامة في ميتافيزيقا الوجود والماهية، والواجب والممكن والمستحيل، والقديم
والحادث، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، أم هو مقولة طبيعية؛ أي جسم موجود
بالفعل، جوهر حامل لأعراض، يكون موضوعًا للعلم الطبيعي؟ أم لا هو ذا ولا ذاك،
بل هو مقولة دينية صرفة، الغرض منها إثبات وجود «الله» مع أنه سابق لأوانه في
هذه المرحلة من تأسيس موضوع العلم وهو نظرية الوجود؟ فإذا كان الاحتمال
الأوَّل؛ أي الوجود الذهني، فلا حرج فهو تصوُّر وارد ويمكن استعماله في العلوم
الرياضية. وإن كان الاحتمال الثاني؛ أي الجسم الطبيعي، فالقول الفصل في ذلك
للعلم الطبيعي الرياضي أو التجريبي. وإن كان الاحتمال الثالث؛ أي التصور الديني
من أجل إثبات الصانع، فهل حقق هذه الغاية أم إنه انتهى إلى أخذ صفات «الله» بدل
أن يعطيها إياه؟ فإذا كان لا جسم له ولا عرض، ولا شكل، ولا لون، ولا طعم، ولا
رائحة، ولا حركة، ولا سكون، فماذا عن صفات التنزيه «لله» وأنه ليس في محل ولا
يشبه الحوادث؟ وأي الموقفين أكثر دفاعًا عن الدين وحرصًا على «الله»، إثبات
الجوهر الفرد الذي يشارك «الله» في بعض صفاته، وعلى رأسها التفرُّد، أم نفي
الجوهر الفرد حتى يتفرد «الله» وحدَه بصفاته وتثبت قدرته المطلقة دون ما حاجة
إلى وسائل مصطنعةٍ للدفاع عنها وإثباتها؟
يبدو أن المتكلمين أعدوا «الجوهر الفرد» كمقدمة لإثبات وجود الله أوَّلًا ثم
صفاته ثانيًا. فإذا ما انقسم الجسم إلى جزء لا يتجزأ لا يحتوي على سبب وجوده من
ذاته، وبالتالي فإنه يحتاج في وجوده إلى غيره؛ ومِنْ ثَمَّ يثبت وجود الله. وإن
انقسم إلى ما لا نهاية كما يقول الحكماء، فإن اللانهائي يقود أيضًا إلى اللا
نهائية؛ ففي كلا التصورين يثبت وجود «الله». خشي المتكلمون من قسمة الجسم إلى
ما لا نهاية خشيةً على العلم الإلهي الذي يحصر كل شيء، فآثروا إثبات الجزء الذي
لا يتجزأ دفاعًا عن القدرة الإلهية على الإيجاد من عدم، وبالتالي يثبت شيئان في
وقت واحد، قدرة «الله» وخلق العالم. وخطورة رأي الحكماء عند المتكلمين هو النيل
من علم «الله» وإنكار العلم الكلي لأنه ما دامت الأجزاء لا تتناهى، فعلم «الله»
بها لن يكون تفصيلًا، بل جملة وهو مرادف للجهل. كما أنه يمثل خطورة على دليل
الحدوث الذي يقوم على تناهي العالم؛ فما لا نهاية له لا يدخل في الحدوث. أمَّا
الحكماء فإنهم يبدون أكثر اتساقًا؛ لأن معلومات «الله» ومقدوراته لا نهاية لكل
واحد منها، وبالتالي يتسق العلم والقدرة مع المعلوم والمقدور. أمَّا عند
المتكلمين فيتحدد علم «الله» بنهاية الجزء الذي لا يتجزأ كما تتحدد قدرته به.
وفي كلتا الحالتين ليس الغرض من المقول في الجزء الذي لا يتجزأ تأسيس العلم
الطبيعي، بل تأسيس الخطاب «الإلهي». ليست النظرية وصفًا للطبيعة بقدْر ما هي
وسيلة لإثبات وجود «الله» وصفاته مثل العلم والقدرة. وعلى هذا النحو يكون الفكر
«الإلهي» موجِّهًا للفكر العلمي. في كلتا الحالتين الغايةُ واحدة وهو المبحث عن
«الله» من خلال الطبيعة أو توجيه الذهن البشري «بالله» كوظيفة معرفية؛ فالوحدة
الأولى هي الوحدة البسيطة التي منها تتركَّب الأشياء وهي مماثلة للواحد.
والصورة أيضًا هو العنصر الباقي في الطبيعة الذي يدل على الخالق كما تدل النفس
على البدن والمخلوق على الخالق. ومِنْ ثَمَّ انتهى المتكلمون والحكماء، كلٌّ
بطريقته وبإحساسه الديني إلى إثبات المشاركة في الصفات بين الجوهر الفرد
والمطلوب إثباته وهو «الله». فالجوهر الفرد لا شكل له ولا لون ولا طعم ولا
رائحة ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يرى؛ ومِنْ ثَمَّ فهو يشارك «الله» في صفات
التنزيه، وأنه «ليس كمثله شيء.» وإذا كان الجوهر الفرد جسمًا فإنه ينفع مَن
يتصور الله على أنه «جسم»، فيشاركان معًا في صفة الجسمية؛ أي في صفات التشبيه
كما شاركا من قبل في صفات التنزيه. وفي حالة التنزيه ما قيمة جوهر فرد لا شكل
له ولا يُنسب إليه شكل من الأشكال، ولا يمكن التعرُّف عليه أو رؤيته؟ إنه مجرد
افتراض محض من أجل غايةٍ أخرى أبعد ما تكون عن الطبيعة، وكأن علم التوحيد آثر
استبدال عالم الافتراض بعالم الواقع، وعالم الوهم بعالم الحقيقة. وفي حالة
التشبيه يكون «الله» قد أُثبت جسمًا مثل الجوهر الفرد. فسواء كان الجوهر الفرد
لا ينقسم أصلًا أو فعلًا، فهو لا ينقسم لأنه لا وجود له. وجعل الجواهر الفردة
غير متناهية في الصغر أو في العدد هو إشراك لها مع صفات «الله». وسواء كان
الجسم ينقسم أو لا ينقسم أو انقسم إلى نهاية أو إلى لا نهاية أو كان مكوَّنًا
من أجزاء أو وحدة واحدة، فالنهاية واحدة، وهي أنها كلها مقدمات خطابية جدلية
لإثبات وجود «الله» وتصوُّر صفاته طبقًا للحساسية الدينية عند المتكلمين
والحكماء، ودرجة إحساساتهم بالطهارة العقلية ودوافعهم الإيمانية. إن إثبات وجود
«الله» على افتراضات عقلية هو تأسيسُ هاوٍ لا صرح له ولا بناء. وهل من الضروري
تدمير العالم وتجزئته وتقطيعه إربًا إربًا إلى حد المتناهي في الصِّغر حتى يثبت
«الله» على أشلاء؟ لقد استعمل الوحي عديدًا من الأدلة تعتمد على شهادات الحس
وأوائل العقول وبداهات الوجدان واعتمادًا على مقاييس المنفعة والضرر وصالح الأمة.
٣٣ بل يبدو الفكر الديني خاصةً عند المتكلمين وقد وقع في دور، فالجوهر
الفرد وسيلة لإثبات وجود «الله» و«الله» هو الذي يمكننا من رؤية الجوهر الفرد.
وكيف ترى ما لا جسم له ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا لون، وما لا يُدرك بالحواس؟
٣٤
يبدو أن موضوع الجوهر الفرد كله بصرف النظر عن الخلاف حوله بين إثبات وإنكار
أو حول التصورات فيه، إنما يعبِّر عن عاطفة دينية وليس عن موقف عقلي. وأن
تصوُّر الجسم بين مقولتي القسمة والتناهي إنما يعبِّر عن رغبة في الوصول إلى
الوحدة البسيطة الأولى التي منها تتكوَّن الأشياء. فالرغبة في الذهاب من
المركَّب إلى البسيط، من المتناهي إلى اللامتناهي عاطفة دينية تعبِّر عن نفسها
عقلًا وإن لم يكن لها ما يقابلها في الواقع. الجسم جسمٌ لا ينقسم إلى أجزاء
متناهية أو لا متناهية. هذه الوحدة الأولى هي النقطة الهندسية التي تبدأ منها
الخطوط والمساحات والحجوم، وهي اللحظة الزمانية التي يبدأ منها الحاضر والماضي
والمستقبل، وهو الواحد في العدد الذي منه تبدأ العمليات الحسابية من جمْع وضرْب
وقسمة، وهو الجزء الذي لا يتجزأ في الطبيعة الذي منه تتركَّب الأجسام، وهو
«الله» مصدر الكون ومنشؤه وغايته ونهايته. وهنا يبدو أثر الفكر الديني الإلهي
في الفكر الطبيعي والرياضي والإنساني، وكأن «الله» وظيفةٌ معرفية في تصوُّر
العالم والأشياء. ولا يمكن تصوُّر أجزاء غير متناهية لأنها ستشارك الله في صفةٍ
وهي اللاتناهي. ومِنْ ثَمَّ كان الجزء الذي لا يتجزأ متناهيًا. وهنا يبدو الفكر
الديني الإلهي فكرًا محدِّدًا كما أنه فكرٌ موجِّه. ولا تهم الحجج التي يثبت
بها تناهي الأجسام، حجة القسمة إلى النصف، ثم قسمة النصف إلى النصف، وهكذا حتى
تصل إلى الجزء الذي لا يتجزأ، ولا يهم مصدرها. الجزء الذي لا يتجزأ إذن تفكير
ديني لاهوتي في الطبيعة؛ فهو أحد التصورات الطبيعية للتوحيد. أمَّا الجزء الذي
يتجزأ فهو تصوُّر علمي كمي للطبيعة. وقد قالت الفِرق بالتصورين، تصوُّر
المتكلمين من ناحية، وتصوُّر الحكماء والفقهاء من ناحية أخرى، كلٌّ طبقًا
لتصوره للتوحيد وإحساسه بالتعظيم والإجلال. وقد آثر فريق ثالث التوقُّف عن
الحكم، فهو أكثر أمانة؛ إذ يدل على أن العقل هنا لا يتعامل مع واقع، بل مع
عواطف التعظيم والإجلال، كلُّ مفكر ودرجته من العقلانية، يختار ما يشاء من
التصورات التي تساعده على الإعلان عن تعظيمه وإجلاله في أكثر الصور إحكامًا في رأيه.
٣٥
والقضية الآن هي: إذا كان مبحث الجسم وما نتج عنه من نظرية الجوهر الفرد بين
الإثبات والإنكار تفكيرًا دينيًّا إلهيًّا مقنعًا، فلماذا لا يتحول إلى تفكير
ديني إنساني صريح؟ أليست الإلهيات هي إنسانيات مقلوبة؟
٣٦ ألم يحاول الوحي تأسيس علم إنساني؟ لقد كشف الجسم عن دائرة الأشياء
أو عن بُعد الطبيعة في الحياة الإنسانية كما ستكشف باقي الأجسام؛ الأجسام التي
لها مزاج عن بُعد الإنسان. وإذا كان مبحث الأعراض
قد كشف عن بُعد الإنسان صراحةً، فإن مبحث
الجواهر يكشف عن بُعد الطبيعة بنفس الدرجة من الصراحة والوضوح. ولما كان
الإنسان ذا بُعد اجتماعي، فإن بُعدَي الإنسان والطبيعة لا يكتملان إلا ببعديهما
الاجتماعي والسياسي إذا ما أراد الفكر الديني الإبقاء على مفهوم الوحدة المتمثل
في الجزء الذي لا يتجزأ. ومِنْ ثَمَّ تظهر هناك مفاهيم وحدة الشخصية، والوحدة
الوطنية، وحدة الشعب، ووحدة الأمة، ووحدة التاريخ. وبالتالي يصبح لكثير من
مسائل الجزء الذي لا يتجزأ مدلول. ويتأسَّس الفكر العلمي مستقلًّا عن الفكر
الديني، ويتحوَّل الفكر الديني إلى علوم الاجتماع والسياسة.
خاتمة
لقد استطاعت نظرية الوجود في نهاية الأمر أن تجعل العلوم هي الطبيعة، وأن
يظهر الإنسان أيضًا من خلال الطبيعة في مقابل «الله» مثبتًا دوره في الكون في
إدراك قوانين الطبيعة والسيطرة عليها. فموضوع علم أصول الدين كما ظهر من نظرية
الوجود هو الطبيعة، وأنه لا تفكير في «الله» إلا بعد التفكير في الطبيعة، وكأن
الدين لا يتأسس إلا في العلم. لا يمكن الوصول إلى «الله» إلا من خلال الطبيعة،
وفي هذا تتفق كل العلوم الإسلامية الأربعة: علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه،
وعلوم الحكمة، وعلوم التصوف. وهذا يعني أن الأدلة على وجود «الله» أدلةٌ
بَعْدية خالصة. «الله» نتيجة وليس مقدمة، نهاية وليس بداية، غايةً وليس أصلًا،
مقصدًا وليس أساسًا، اتجاه وليس شيئًا … إلخ. ولهذا السبب تتجاور الطبيعيات
والإلهيات وتتداخل وكأنهما علم واحد. تُدرك الإلهيات بلغة الطبيعة، وتُدرك
الطبيعة بلغة الإلهيات. «الله» جوهر، والشيء جوهر. «الله» شيء والشيء الطبيعي
شيء، «الله» موجود والشيء الطبيعي موجود. وقد يصل الأمر إلى استحالة التصرُّف
في أي الموضوعين يكون الحديث في «الله» أم في الطبيعة.
١٣٦ والحقيقة أن كل هذا التوحيد الطبيعي، أو الطبيعة التوحيدية، لم تكن
الغاية منه تحليل الطبيعة أو إثبات وجود الإنسان في الطبيعة، بل إثبات الإلهيات
بصورة أخرى بطريق بَعْدي، أو إسقاط الإلهيات على الطبيعة على نحوٍ قَبْلي؛
وبالتالي جعل الطبيعة متحدِّثًا رسميًّا باسم «الله». فإذا ما انتهى الأمر إلى
أن تصبح الإلهيات والطبيعيات عِلمًا واحدًا، فذاك إنما يأتي كنتيجة وبطريق
المصادفة وليس كمسلَّمة أو كنتيجة قصدية. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل،
والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى، ولكن المهم بالنسبة لنا هو كيف استطاع
العقل التوحيدي النظر إلى الطبيعة، وهل يمكن أن يوجِّه العقل التوحيدي تحليل
الطبيعة؟ إن ما ظهر في نظرية الوجود هو أن كل تحليل طبيعي كان مقدمة لإثبات صفة
إلهية أو نفي أخرى. فتحليل الأعراض لإثبات حدوثها مقدمة لإثبات صفة القديم.
وتحليل المِثْلين والمختلفين لنفي الشبه، وتحليل الجسم لنفي صفة الجسمية عن
«الله»، وتحليل الأكوان والاعتمادات لنفي صفة المكانية عن «الله»، وتحليل
الجوهر لنفي صفة الجوهرية عن «الله» وتحليل الشيء لنفي صفة الشيئية عن «الله».
ومع ذلك يمثِّل الفكر الطبيعي المستقل بوادرَ صراع الفكر العلمي مع الفكر
الديني، وصراع العقل لإثبات سلطته أمام طبيعة مستقلة لها قوانينها المطردة
الثابتة. فالطبيعيات تدل أكثرَ ما تدل على بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر
الديني أكثر مما تدل على تحليلٍ علمي للطبيعة. وذلك موجود في تاريخ العلوم
الطبيعية والرياضية وفي علوم الحياة، مثل الطب والتشريح والنبات. وبتعبيرٍ آخَر
تمثِّل الطبيعيات الصراع بين تحليل الواقع والتعبير الإنشائي، وتكشف عن التباين
بين الموقف العلمي والموقف الخطابي. وقد استُعملت الطبيعيات كجزء من علم
التوحيد المنهجَ التأمُّلي الخالص؛ أي إنها طبيعيات عقلية وليست طبيعيات علمية
تقوم على التحليل المعملي وعلى التجارب العلمية، وعلى القياس وفرْض الفروض
والتحقُّق من صحَّتها. ومع ذلك إذا ما احتاج العالم إلى بعض تصوُّراتٍ نظرية
تساعده على إجراء التجارب العلمية، فالطبيعيات العقلية تستطيع أن تمده بمثل هذه
التصورات عن المداخلة والتركيب والمزج والاتحاد والملامسة والمجاورة … إلخ.
وهذا يحدث دائمًا في تاريخ العلم المرتبط بالميتافيزيقا الخالصة أو بعلوم
الحكمة. فإذا ما حدث اكتشاف علمي دائم لا يتغير، فإن ذلك يحدث بالعَرَض وليس
بالجوهر، نتيجةً لعمل الذهن في التوحيد عن طريق وصف ظواهر الطبيعة وتحليل
الواقع المادي. «الله» إذن رؤيةٌ موجِّهة للذهن نحو الطبيعة أو «فكرة محدِّدة»،
كما يقول المناطقة. ومع ذلك، وبالرغم من أن هذا الكلام في «الدقيق» يبدو أقربَ
إلى الطبيعيات منه إلى الفكر الديني، إلا أن الفكر الديني يظهر من ورائه
كافتراضٍ بعيد غير محتمل الوقوع، ولا يؤثِّر وجوده في الوصف العقلي للطبيعة.
أمَّا أزمات العلم التي يمكن لميتافيزيقا الطبيعة أن تمدها ببعض التصورات
لحلها، فإنها لا تحدث إلا بعد نشأة العلم وتطبيق العلم وتوجيه العلم للحياة
الإنسانية.
تكشف إذن هذه المقدمات النظرية كلها عن أن التوحيد يمكن أن يقوم على أصولٍ
عقلية يمكن الوصول إليها مسبقًا، وهذا هو الذي أدَّى بالفعل إلى تأسيس نظريتي
العلم والوجود.
١٣٧ وتبدو في المؤلفات الكلامية الأولى وتظهر تدريجيًّا حتى تبتلع
موضوعاتها في نظريتَي العلم والوجود الموضوعات الكلامية نفسها.
١٣٨ ويصبح علم الكلام كله علمًا نظريًّا أو أنطولوجيًّا يتَّحد فيه
العلم والمنطق، وتحليل العقل وتحليل الوجود، حتى ليصعُب بعد ذلك التفرقةُ بين
علم الكلام والفلسفة والميتافيزيقا. ويبدو الحديث في الموضوعات الإلهية، وعلى
رأسها التوحيد، وكأنه حديث عارض راجع إلى نقصٍ في قدرة العقل على التنظير، أو
كأن تطور هذه الموضوعات مرتبط بمرحلةٍ معينة من تطور العلم. فإذا ما تطور العلم
واكتمل أصبح الوجود هو موضوع علم الكلام، وعالم الكلام باحث الوجود، والإلهيات
الأنطولوجيا العامة، والمتكلم هو الفيلسوف الميتافيزيقي الباحث في الوجود.
١٣٩
ويمثِّل علم الكلام المتأخِّر محاولةً للتوحيد بين الأساس العقلي للكلام
وللحكمة على السواء، ويبرز في تعريف الموضوعات أوجه التشابه والاختلاف بينهما.
١٤٠ وبالرغم من اقتراب علم الكلام من علوم الحكمة إلا أنه يقوم على
أساس عقلي خاص به، وكأن هذا الانتقال من النقل إلى العقل كان تطورًا طبيعيًّا
من داخله وليس تبنِّيًا لعلوم الحكمة التي كانت في حقيقة الأمر إشراقية أكثر
منها عقلية، وأسطورية في بعض جوانبها أكثر منها واقعية، في حين كان علم الكلام
صاحب نظرة حسية عقلية لم يتخلَّ عنها إلا في النهاية عندما ضعفت عزائمه ووهنت
قواه، وتسرَّب إليه الإيمان التقليدي من جديد. بل إن علم الكلام يقف أحيانًا من
علوم الحكمة موقف العداء، ويرفض تصوراتها للعالم مثل قِدَم العالم والجواهر المفارقة.
١٤١ ويذكر الحكماء دون تعيين. وأحيانًا يُعيِّن أحدَهم وهو الذي بين
أحكام الوجود والعدم والواحد والكثير والواجب والممكن والمستحيل، والوجود
والماهية، ولديه تبلغ الفلسفة أقصى ما وصلت إليه من تجريد.
١٤٢ فإذا كان مسار علم الكلام التقليدي وتطوُّره في التاريخ يثبت أن
النظرية العقلية، سواء في نظرية العلم أو في نظرية الوجود، تطغى على الموضوع
الإلهي، أو أن الأساس العقلي يبتلع تدريجيًّا الموضوع نفسه، فإننا بتطوير علم
الكلام لمرحلةٍ أخرى نصل إلى صياغة نظرية عقلية شاملة تتلاشى فيها الموضوعات
الإلهية حتى يصبح علم الكلام عِلمًا عقليًّا خالصًا، وحتى يتأسس العلم في
النهاية بتحويل موضوعه من موضوع حسي مادي وجداني نفسي وهو التشخيص أو التشبيه،
إلى موضوع عقلي علمي خالص؛ وبالتالي يتحقق مشروع علم الكلام الذي وضعه هو
لنفسه، وهو تأسيس علم أصول الدِّين في مقدمات نظرية خالصة مثل نظريتَي العلم
والوجود، هذا المشروع الذي توقَّف منذ القرن الثامن حتى الحركات الإصلاحية
الحديثة، وما كاد ينهض حتى خَبَا من جديد.
١٤٣ ويكون أيضًا قد تخلَّى عن منهج النص الحرفي أو المعنوي (التأويل)،
واعتمد على القسمة العقلية الخالصة. هذه المقدمات النظرية التي تحتوي على نظرية
العلم ونظرية الوجود ليست من قبيل الترف العقلي أو الاستطراد أو الاستعارة من
علوم أخرى؛ علوم الحكمة أو علوم الفقه والأصول أو علوم التصوف، بل هو آخر ما
وصل إليه علم الكلام من تنظيرٍ للموضوعات الإلهية.
١٤٤ وهذا لم يمنعه أنه في بعض الأحيان عندما يضعف التنظير تطل الإلهيات
بين الحين والآخر، خاصةً في الصياغات الأولى لنظرية العلم، وفي الصياغات
الأخيرة لنظرية الوجود.
١٤٥ لذلك كان استعمال علم الكلام المتأخر للحجج النقلية قليلًا للغاية؛
لاعتماده على القسمة العقلية وحدَها، ورغبته في إقامة نظرية عقلية خالصة على
عكس علم الكلام المتقدم الذي لا يتجاوز كونه تجميعًا لبعض النصوص في موضوع واحد وشرحها.
١٤٦ ومع ذلك فقد انتهت نظرية العلم اعتمادًا على تحليل العقل وحدَه إلى
أن صار العقل فارغًا بلا مضمون، يعيش العقل على نفسه، وتظهر قواه بفعله الخاص،
فتتشعب التقسيمات حتى ولو لم تكن بذات دلالة، بالنسبة للموضوع الرئيسي، وكأن
العقل عندما يبلغ حدًّا من الصورية فإنه يترك موضوعه الأساسي ويعيش على ذاته،
ويخرج نسيجًا من الخطوط الهندسية المتسقة مع نفسها، وينسج شبكة من التقسيمات
ونظامًا من الأبنية ينطبق على كل موضوع، ويكون هو الموضوع المثالي للعقل المتسق
مع بنية العقل ذاته. فإذا ما تحوَّل العقل إلى الوجود فإنه يحوِّله أيضًا إلى
وجودٍ صوري، وكأن العقل يصف ذاته؛ فالعقل الصوري والوجود الصوري صنوان.
والسؤال الآن: هل تكفي نظريتا العقل والوجود وحدهما لإقامة العلم؟ صحيح أن
العقل هو العلم، والوجود هو المعلوم. ولكن العقل والوجود كليهما يظهران في
الشعور، والعلم والمعلوم كلاهما بُعدان للشعور؛ ومِنْ ثَمَّ احتاجت نظرية العلم
ونظرية الوجود إلى نظرية ثالثة هي نظرية الشعور. وكما تقوم نظرية العلم بتحليل
العلم ونظرية الوجود بتحليل الوجود، فإن نظرية الشعور تقوم بتحليل الشعور
واكتشاف العقل والوجود كبعدين للشعور. وعلى هذا النحو يمكن التغلب على هذين
الانحرافين الصوري والمادي في نظريتي العلم والوجود بإيجاد الشعور كطرفٍ يظهر
فيه العقل والوجود. فالعقل هو الجانب العاقل للشعور، هو الذات العاقلة، والوجود
هو الجانب الوجودي للشعور أو هو الموضوع الموجود. يستطيع تحليل الشعور القضاء
على صورية العلم وصورية الوجود على السواء. والشعور قادر على إعطاء مادة جديدة
خصبة ومتجددة يقوم العقل بتحليلها؛ ومِنْ ثَمَّ لا يعيش العقل على ذاته، ولا
يتحوَّل إلى مجرد آلة نسيج لتصورات وتقسيمات، بل يعمل في تحليل مضمون التجارب
التي يقدمها الشعور والتي تكشف عن نفس التجارب التي منها تنبثق النصوص الكلامية والدينية.
١٤٧ والحقيقة أن تحليل الشعور ليس غريبًا على مادة الكلام، بل متغلغل
فيها مطمور داخل القسمة العقلية وتحليلات الوجود. تظهر كلمة شهادة الوجدان
كثيرًا على أنها حجة. والوجدانيات، شهادة الحس الباطنة، أحد مصادر العلم طبقًا
لنظرية العلم، فإذا كانت المقدمات النظرية لعلم الكلام قد أعطتنا:
- (١)
نظرية عقلية محكمة تعبِّر عن أقصى ما وصل إليه العلم من تنظير
عقلي، ولكن تحكمها ثنائية عقلية متطهرة تعبِّر عن تصوُّر ديني
للعالم، وهي المثالية العقلية التي تعبِّر عن الإيمان الديني
التقليدي.
- (٢)
نظرية وجودية محكمة تعبِّر عما وصل إليه علم الكلام من تنظير
عقلي في وصف الوجود، ولكن تحكمها نفس الثنائية المتطهرة التي
تقسِّم العالم إلى قطبين: قطب موجب وآخر سالب، وتجعل العلاقة
بينهما علاقة أولوية وشرف، علاقة نقص وكمال.
وعلى هذا النحو تكون مهمتنا إذن في تطوير هذه المقدمات النظرية
كالآتي:
- (١)
تحويل القسمة العقلية، وهو الطابع الغالب على نظرية العلم التي
تعبِّر عن الموقف الديني المتطهر إلى تحليل عقلي خالص لا يتبع
أسلوب القسمة، بل التحليل المتشعب الاتجاه الذي يكشف عن البناء
الشعوري للموضوع.
- (٢)
تحويل القسمة الوجودية، وهو الطابع الغالب على نظرية الوجود إلى
خبرات شعورية بالعالم تكشف عن ماهيته، وتكون موضوعًا للتحليل
العقلي.
فإذا كان علم الكلام القديم قد تطوَّر من مرحلة الحجة النقلية إلى مرحلة
الحجة العقلية إلى مرحلة التحليل الوجودي الخالص، فإنه يمكن أن ينتقل الآن إلى
مرحلة جديدة، وهي مرحلة التحليل الشعوري للموضوعات من خلال الخبرات الحية،
ويكون المعلوم هو المشعور به. فعلم الكلام نشأ وتطوَّر ولم يتوقف تطوُّره إلا
في عصر الشروح والملخصات، والعصر الثاني للنقل والترجمة عن الحضارات المجاورة.
١٤٨ فمن الممكن إذن تطويره من جديد، خاصةً وأننا باحثون منتسبون إلى
الحضارة ولسنا مستشرقين خارجين عنها أو عليها؛ فهي جزء مِنَّا ومن تصورنا
للعالم، ومن وجودنا، ونحن جزء منها كتحقُّق تاريخي لها، ثقافةً ونظامًا
ودافعًا. فتسير الحضارة من جديد وتنتقل من طورها الثاني الذي توقفت فيه في
القرون السبعة الأخيرة إلى طورها الثالث الذي تلحق به بطورها الأوَّل في القرون
السبعة الأولى. فلسنا أمام علم مقدس، بل أمام نتاج تاريخي خالص، صبَّ كل عصر
ثقافته وتصوُّره فيه. وتصوُّر القدماء تصوُّر تاريخي خالص يعبِّر عن عصرهم
ومستواهم الثقافي، كما أن تصوُّرنا تصوُّر معاصر يعبِّر عن روح عصرنا ومستوانا
الثقافي. فإذا استطاع باحث أو جماعة من الباحثين الوعي بروح العصر وباحتياجاته
ومتطلباته، فإنه يمكنه ويمكنهم تطوير العلم به، وأن يؤرخ لعلم الكلام بهذا
التصوُّر الجديد كما تؤرَّخ حاليًّا طبقًا للمراحل القديمة، مرحلة الحجة
النقلية، مرحلة التحليل العقلي، مرحلة التحليل الوجودي. ويُطبق هذا المنهج
الشعوري على خطوتين:
ولما كان الشعور في حقيقته وعيًا، وكان الوعي في واقع الأمر وعيًا
اجتماعيًّا، فإن منهج الشعور هو منهج لتحليل الواقع الاجتماعي. فالشعور ليس
وعيًا خالصًا منعزلًا عن محيطه ودوائره، عالم الأشياء، وعالم الآخرين، بل هو
وعي اجتماعي يكشف عن بناء الواقع ومكوناته.
١٥٠ ولما كان الواقع هو في نهاية الأمر تراكم للماضي، وأحد مراحل
التاريخ، فإن الوعي الاجتماعي هو أيضًا وعي تاريخي. وعلى هذا النحو يتحوَّل علم
الكلام القديم من الحجة النقلية إلى التحليل العقلي إلى وصف الوجود، ثم يصبُّ
في نهاية الأمر في التحليل الاجتماعي والسياسي للوعي التاريخي في حياة الأمة.
وعلى هذا النحو يعود علم الكلام إلى نشأته الأولى؛ أي إلى علم أصول الدين؛ حيث
صبَّت فيه الأمة القديمة تاريخها وصراعاتها وأزماتها وقرأت واقعها في العقيدة
كما يبدو ذلك في عقائد الفرق. ولربما يستطيع جيلنا نحن أن يقرأ في عقائده
اليوم، كما فعل القدماء، تاريخَه وصراعاته وأزماته، فتتأصَّل ثورته من خلال
عقيدته.