رابعًا: موضوعه

(١) ذات الله

يظن القدماء خطأً أن موضوع العلم هو «ذات الله»، مع أن «الذات الإلهية» لا يمكن أن تكون «موضوعًا» للعلم، فالذات لا تكون موضوعًا، حينئذٍ يكون السؤال عن الذات: هل يمكن تصوُّره؟ هل يمكن إدراكه؟ هل يمكن الإشارة إليه من أجل التصديق والتحقُّق من صدقه؟ هل يمكن الحديث أو التعبير عنه؟ هل يمكن أن يتحقق في الحياة العملية؟ «الله» كما يعرفه المتكلِّمون القدماء ذات، وذات مطلقة، والذات لا يمكن أن تكون موضوعًا، الذات تندُّ عن الموضوع وتتجاوزه، وإلَّا لما كانت ذاتًا، سواء الذات الإلهية أم الذات الإنسانية، وفي كل مرة تتحوَّل فيها الذات إلى موضوع يخطئ العلم، ويعم الخلط، فالحديث عن الله إذن خطأ في تصوُّر موضوع العلم، وجعل الذات موضوعًا في حين أن الموضوع ذات.

وتحتوي العبارة «موضوعه ذات الله» على تناقض داخلي؛ لأن الله هو المطلق، والعلم بطبيعة موضوعه ومنهجه وغايته تحويل للمطلق إلى نسبي؛ لأنه يُخضع الظاهرة العامة إلى ظاهرة خاصة في الزمان والمكان، ويميِّز بينها وبين غيرها من الظواهر، العلم تحديد للظاهرة في واقعة معينة يمكن السيطرة عليها علميًّا وتجريبيًّا والتمييز بينها وبين غيرها من الوقائع، ولا يُعمَّم بعد ذلك إلا بناءً على مسلَّمات سابقة حول الاطراد، وهو ما يحتاج إلى برهان، والله، موضوع العلم، لا يبدو في وقائع، ولا يتمايَز عن غيره في وقائع، فكيف يمكن للكليِّ أن يصير جزءًا؟ وكيف يمكن لعقل الإنسان النسبي، بحياته، وإدراكه، ومصالحه وأهوائه، ورغباته وميوله، والموقف الإنساني كله أن يُحيط بالذات المطلقة التي لا يعتريها الموت، ولا يحدُّها عقل أو إدراك، ولا تمسُّها الرغبات والميول، ولا تنتابها الدوافع والأهواء، ولا يسري عليها أي موقف إنساني؟ صحيح أن العقل يتميَّز بصفات الإدراك، وأن الحدس قادر على إدراك البديهيات، وأن أوليَّات العقل عامةً، مطلقةً وشاملةً، ولكن العقل أيضًا موجود في بيئة معينة، وصاحبه ذو مزاج معين، مرتبط بالأهواء والانفعالات، وتسيِّره المصالح الخاصة والعامة. إن صفة الإطلاق هذه كثيرًا ما تُخفي تحتها كثيرًا من المواقف الإنسانية النسبية، ولكن الغرور الإنساني أو الرغبة في التميُّز على الآخرين، وإيثار السلطة وحب التسلط يدفع الإنسان إلى خارج موقفه وبيئته ادِّعاءً وغرورًا، حتى إذا استطاع الفيلسوف بقدرته على النظر، والرياضي بقدرته على التجريد، والمنطقي بقدرته على الصورية، فإن الله لا يمكن أن يُدرَك كفكرة أو كمفهوم أو كتصور؛ لأنه «إله حي» يسمع ويُبصر ويتكلَّم ويريد، إله المؤمنين المحتاجين، وليس إله الفلاسفة والنظَّار، أمَّا إدراكه بالوجدان وبالذوق، فذاك طريق الصوفية وليس طريق المتكلمين، مكانه في علوم التصوف وليس في علم أصول الدين، ولا يعني ذلك أن الله سر، كما هو الحال في المسيحية، لا يمكن معرفته إلا عن طريق الإيمان، فالله بالنسبة لنا هو كلامه، والكلام موجود في القرآن، والقرآن كتاب صح نقله، ويمكن فهمه وتفسيره بل وتأويله طبقًا لشروط التأويل، وهو موجود أيضًا كمبدأ في المعرفة كفكرة محددة، وفي الأخلاق كمثل أعلى أو مطلب يُمكن إدراكه بالحدس والاستدلال من خلال عناصر الثبات في التجارب البشرية، وبتحليل الواقع الاجتماعي والتاريخي،١ وهو أيضًا المعنى الشائع للقول المشهور بأن العقول قاصرة عن إدراك ذات الله أو أنها محدودة أو عاجزة، فيكون العيب في نقص العقل وليس في طبيعة الموضوع، واتِّهام الذات بالجهل وليس بأن الموضوع مستحيل أو مجرد وهم، بادِّعاء معرفته.٢ لذلك احتاط القدماء مرتين؛ الأولى في عدم بحثهم ذات الله مباشرةً، بل عن طريق غيرها مثل الجواهر والأعراض؛ أي الأمور العقلية العامَّة المستقلة عن ذات الله، يُدركها العقل كعلم سابق على علم ذات الله، وهي التي أصبحت فيما بعد «المقدمات الضرورية» للعلم، خاصةً مبحث الجوهر والعرض الذي بلغ أكثر من نصف العلم، وثلاثة أرباع المقدمات النظرية كلها بنظريتيها، العلم والوجود، في القرنين السابع والثامن،٣ وهو ما حدث أيضًا في علوم الحكمة من جعل الحكمة الطبيعية سابقة على الحكمة الإلهية، وجعل الحكمة المنطقية سابقة عليهما معًا، أو وضع العلم الطبيعي والعلم الإلهي في علم واحد في تصنيف العلوم.٤ والثاني هو الإعلان المبدئي قبل الانتقال من مبحث الوجود إلى وصف ذات الله بأن الذات لا يمكن تصوُّرها أو إدراكها، وبأن «الله في ذاته» يستحيل معرفته ودون الإقرار في نفس الوقت بأنه سر مجهول؛ «فذات الله» في حقيقة الأمر هو «الله في ذاته»، وكل ما لدينا هو تقريب وقياس، وبذل الجهد العقلي قدر المستطاع بالاعتماد على النقل وعدم الخروج عليه، لا فرق في ذلك بين عقليين ونقليين، بين معتزلة وأشاعرة.٥
وإذا كان «ذات» الله لا يمكن تصوره أو إدراكه، فإنه أيضًا لا يمكن الإشارة إليه حتى يمكن أن يتم به تصديق أو تحقق في العلم.٦ ليس هناك شيء في العالم يُسَمَّى «ذات الله» يمكن الرجوع إليها أو تكون مقياسًا للتحقُّق وللصدق، وبعبارةٍ منطقيةٍ نقول إن «ذات الله» مفهوم بلا ماصدق؛ فهو بحسب تعريفه ليس متعينًا في زمان أو مكان، والعلم لا يكون إلا لموضوعات متعينة وإلا كان علمًا صوريًّا خالصًا لا شأن له بالكثرة، وهو ما لا يمكن استعماله لموضوع «ذات الله» التي هي على اتصال بالعالم من خلال «الصفات والأفعال»، لا يدرس العلم إذن إلا موضوعًا موجودًا بالفعل وإلا لكان أدخل في الفلسفة التي تدرس التصوُّرات الشاملة أو في علم النفس الذي يدرس نشأة هذه التصوُّرات وتكوينها في الظروف النفسية أو في علم الاجتماع الذي يحلل الظروف الاجتماعية التي تساعد على ظهور مثل هذه التصورات أو في علم تاريخ الأديان لدراسة التصورات المختلفة للموضوعات الدينية حسب الزمان والمكان، والملل والنحل، والشعوب والأجناس، والبيئات الثقافية والحضارات البشرية على مختلف العصور أو في علم الجمال لدراسة التعبيرات الجمالية والشعر الصوفي والفن الديني الذي يعبِّر عن التصوُّرات المختلفة لله. الحديث عن «ذات الله» إذن خطأ في نظرية الصدق في المنطق القائمة في أحد معاييرها التقليدية على ضرورة تطابق المفهوم مع الماصدق، حتى ولو أمكن إثبات موجود كامل لا متناهٍ يحوي جميع صفات الكمال كيف يمكن إذن الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان؟ بل إن «الدليل الأنطولوجي» نفسه افتراض محض؛ لأن الانتقال من الفكر إلى الوجود لا يمكن أن يتم نظرًا، بل لا يتم إلا عملًا من خلال جهد الفرد وفعل الجماعة وتحقيق الأيديولوجية في التاريخ، وتحويل المثال إلى واقع، والإمكانية إلى وجوب.٧
وإذا كان «ذات» الله لا يمكن تصوره أو إدراكه أو الإشارة إليه، فإنه لا يمكن أيضًا التعبير عنه لأن اللغة الإنسانية لا يمكن أن تعبِّر إلا عن التصورات أو الإدراكات أو الموضوعات أو المعاني الإنسانية، كيف يمكن إذن التعبير عن المطلق بلغة نسبية؟ كيف يتم للإنسان التعبير عن شيء لا يقدر على التعامل معه أو ضبطه ولا يمكن العثور له على صياغة؟ الحديث عن «ذات» الله إذن خطأ في تصور وظيفة اللغة، فأي دراسة لموضوع «الله» لا بد وأن تقع بالضرورة في التشخيص لأنه لا يمكن الحديث عن «الله» إلا باستعمال اللغة الإنسانية، وبإعمال الجهد الإنساني والذهن الإنساني، فتصوُّر الله على أنه صانع وعلى أن له أحوالًا وصفات، إيجابية أو سلبية، تصور إنساني خالص، وقد تكون لغة الصمت هي أقدر لغة على التعبير عن «ذات» الله هروبًا من قضية اللغة.٨ وقد حاول الصوفية حل الإشكال عن طريق الرمز، ولكن اللغة الرمزية أيضًا ينطبق عليها قصور اللغة التقليدية، فمهما كان للرمز من قدراتٍ تعبيريةٍ فائقةٍ فإنه يظل محدودًا بما يثيره في الذهن من معانٍ مرموز إليها، ويظل الفرق شاسعًا بين الرمز والمرموز، وبين المرموز وموضوع الرمز، وإن ما يُوحي به الرمز من حسٍّ وتخييل وتصوير يُثبت أنه لا يمكن الحديث عن «ذات» الله إلا بطريق التخييل والتصوير الفني كما لاحظ ذلك قدماء النقاد والمحدثون المعاصرون.٩ ليس أمام الإنسان إذن، إذا ما أراد الحديث عن «ذات» الله إلَّا التشبيه والقياس، التشبيه بنفسِه والقياس على العالم، وإثبات أوصاف الإنسان الإيجابية كصفات ثبوتية لله، ونفي أوصاف الإنسان السلبية كصفات سلبية عن الله؛ وبالتالي يكون كل حديث عن الله هو حديث عن الإنسان، يتوهَّم الإنسان أنه يتحدث عن الله في حين أنه يتحدَّث عن نفسه.١٠
لذلك قد تكون اللغة الوحيدة الممكنة للحديث بها عن الله هي لغة الإشارة أو الحركة أي لغة الجسد كما هو واضح في الرقص الديني ومظاهر الطقوس وشعائر العبادات، ولكنها أيضًا لغة رمز تعبِّر عن مرموز، فالرمز قد يكون باللفظ أو بالحركة، أمَّا الفعل غير الرمزي فهو «الشهادة»؛ أي لغة المقاومة، وظهور «الذات» الإلهي في الذات الإنساني كحركة ونشاط وفعل ومقاومة وجهاد ونصر.١١ الله إذن ليس موضوعًا للمعرفة أو للتصوُّر أو للإدراك أو للتصديق أو للتعبير، بل هو باعث على السلوك، ودافع للممارسة، وقصد للاتجاه، وغاية للتحقيق، الله طاقة حالَّة في الإنسان من أجل أن يحيا ويسلك ويعمل، ويحس ويشعر ويتخيل وينفعل أيضًا، الله طاقة حيوية يحوِّلها الإنسان إلى فعل، الله ليس موضوعًا ثابتًا للمعرفة بل حركة ممكنة تتم من خلال فعل الإنسان، ومشروع يمكن أن يتحقَّق بجهده، الله ليس تصوُّرًا بل فعل، ليس نظرًا Logos بل عمل Praxis، الله ليس موضوعًا لنظرية المعرفة إلَّا من حيث وجودُ مبدأ واحد شامل، بل هو باعث سلوكي في علم الأخلاق، الله ليس موضوعًا لفهم العالم بل وسيلة لتغييره، الله ليس موجودًا وجودًا نظريًّا يمكن إثباته بالدليل العقلي، بل هو عملية إيجاد وتحقُّق وخلق وتقدُّم، الدليل الوحيد على وجوده هو دليل عملي لا نظري، والبرهان الوحيد على وجوده هو إيجاده بالفعل عندما يحقِّقه الفرد كغاية والإنسانية كمشروع، الحديث عن «ذات» الله إذن خطأ آخر في نظرية السلوك الفردي الإنساني أوَّلًا والاجتماعي التاريخي ثانيًا؛ فتصور الله على أنه موجود كامل هو في الحقيقة تعبير عن رغبة، وتحقيق لمطلب، وتمنٍّ لأمل، ونظرة بعيدة إلى هدف، وسير حثيث نحو غاية، وليس حكمًا على وجود في الخارج، فنحن بهذا التصوُّر نعبِّر عن أعزِّ ما لدينا، وعن أعمق تمنياتنا في أن نكون كاملين عاملين قادرين، ونُبعد عن أنفسنا عيوبَنا ونقائصَنا من موت وعجز وجهل، فذات الله هو ذاتُنا مدفوعًا إلى الحد الأقصى، ومُثُلنا بعد أن شخصناها ماثلة أمام الأعين، «ذات» الله المطلق هو ذاتنا نحو المطلق، ورغبتنا في تخطِّي الزمان وتجاوز المكان، ولكنه تخطٍّ وتجاوز على نحو خيالي، وتعويض نفسي عن التحقيق الفعلي لهذه المثل في الحياة الإنسانية.١٢ والله ليس موضوعًا عقليًّا يمكن أن يوجد أو لا يوجد، يمكن إثباته أو نفيه بل هو مشروع الإنسانية والذي تحاول تحقيقَه منذ وجودها حتى الآن، الله هو تقدُّم التاريخ الذي يُساهم البشر في صنعه، الله ليس موضوعًا للبرهنة العقلية على وجوده بل هو تاريخ يتقدَّم وواقع يتحرَّك، وجماهير تثور، ودول تقوم، ونهضات تؤسس. الحديث إذن عن «ذات» الله خطأ آخر في تصور التاريخ، وإذا كان من مآسينا المعاصرة غياب البعد التاريخي من وجداننا المعاصر فإن ذلك يرجع إلى ظهور «الله» كبعد رئيسي إن لم يكن البعد الأوحد كما هو الحال في تراثنا القديم، فظهور البعد الرأسي فيه كان بديلًا عن ظهور البعد الأفقي في وجداننا المعاصر؛ «فالله» بديل التاريخ، والتاريخ وريث «الله»، الله هو غائية التاريخ كما تبدو في التقدُّم، وإن اكتشاف مجتمعات أخرى في حضارات مجاورة للتقدُّم والتاريخ إنما كان تحوُّلًا طبيعيًّا لتصوُّرهم لله، وكما نفعل نحن الآن، في تراثهم القديم.١٣
والتفكير في الله كموضوع خاص في المجتمعات النامية اغتراب بمعنى أن الموقف الطبيعي للإنسان هو التفكير في المجتمع وفي العالم، وكل حديث آخر في موضوع يتجاوز المجتمع والعالم يكون تعميةً تدلُّ على نقص في الوعي بالواقع لو كان الحديث طبيعيًّا غير مقصود أو على رغبة في التستُّر والتغطية على ما يدور فيه أو إعطاء لمن يعيشون عليه أمانًا وهميًّا وتعويضًا نفسيًّا عما ينقصهم وعما يُسلب منهم لو كان الحديث مصطنعًا مقصودًا، والشواهد في البلاد النامية على ذلك كثيرة عندما نُكثر من بناء المساجد في أقات الهزيمة، وعندما نُكثر الحديث عن الله في أوقات الضنك، كما يحدث ذلك أيضًا في النظم الرأسمالية عندما يأخذ الدفاع عن رأس المال صورة الدفاع عن الله، وعندما يتأكد التفاوت بين الطبقات وحق صاحب رأس المال المطلق في أن يفعل ما يشاء في صورة تأكيد للمراتب الإلهية وتثبيت لسلطة الله المطلقة، وحقه الذي لا ينازعه أو يشاركه فيه أحد، الحديث عن الله في المجتمعات النامية في الغالب نقص في الوعي بالواقع إذا كان من الناس وتستُّر على الواقع إذا كان من السلطة السياسية،١٤ كما يُستغل الدين أيضًا في تدعيم النظم السياسية الوراثية، ملك عن ملك أو أمير عن أمير أو ضابط عن ضابط، فالملك واحد سواء كان الله أو الأمير، فكلاهما «صاحب الجلالة» لتدعيم شرعيتها بعد أن نقصتها الشرعية عن طريق عقد البيعة واختيار الأمة، الدين هنا يُستعمل «أفيونًا للشعب» من السلطة الحاكمة وإن لم يُستعمل بعدُ «صرخة للمضطهَدين» في تراث المعارضة.١٥

(٢) الصفات والأفعال

وقد يصبح موضوع العلم الذات بعد أن تتشخَّص أكثر فأكثر، ويُصبح لها صفات وأفعال تتعلَّق بالدنيا وأحوال الناس كما تتعلَّق بالآخرة وأمور المعاد من حشرٍ وحسابٍ وجزاء، تُسيَّر أمور الدنيا من معرفة وسلوك ونبوة وسياسة، وأمور الآخرة من ثواب وعقاب.١٦ فتصبح أمور الدنيا والآخرة كلها من الممكنات، وتصبح الذات وَحْدها الواجب الأوحد، لم تكتفِ الذات بأن تكون تشخيصًا لمُثُل الإنسان وغاياته التي لم تتحقَّق بعدُ ولكنها تضخَّمت حتى شملت كل شيء، فيصبح كل ما عداها ممكنًا فانيًا، وهي الوحيدة الموجودة الباقية إلى الأبد، وقد يكون ذلك أحد الجذور التاريخية مما نُعاني منه في حياتنا المعاصرة من تركيز لأمانينا القومية وتشخيصها في مركز واحد، يكون هو القادر وكل ما سواه تنفيذًا لهذه القدرة، في حين أن البحث في العالم ممكن سواء في حوادثه أو في وضع الإنسان فيه، كما أن البحث في مصير الإنسان، في موته وبقائه في التاريخ من خلال آثاره وأعماله ممكنٌ أيضًا، ولكن باعتباره موضوعًا مستقلًّا غير ملحق بموضوع آخر يكون هو الشيء والإنسان ظلًّا له. الحقيقة أن «علم الكلام» عند القدماء علم «لاهوتي» بالمعنى المسيحي الغربي للكلمة Théologie أي نظرية في «الله» أو «علم الله» أو «الإلهيات» بالمعنى الفلسفي، وكل المشاكل الأخرى، ولو أنها تبدو إنسانية في مظهرها إلا أنها لا تُوضَع إلا في علاقة مع الله، فالله طرفٌ في الطبيعة في صورة معجِزة، فقد تصوَّر المتكلم القديم أن الله قادر على خرق قوانين الطبيعة في حين أنها نواميس ثابتة يُمكن للعقل إدراكُها وللإرادة السيطرة عليها في عالم مسخَّر للإنسان، والله طرف في الحرية في صورة إرادة، فتصور المتكلم القديم أن الحرية تدخل كطرف مقابل للإرادة الإلهية في حين أن طرفها المحدد هو الموقف أو العالم وليست الإرادة الإلهية، والله طرف في العقل في صورة شرع ووحي ونقل، فتصوُّر المتكلم القديم أن النقل هو الطرف المقابل للعقل في حين أن الواقع هو الطرف الآخر للعقل وليس النقل. والله طرف في الخير والشر في صورة خلق شامل لكل شيءٍ بما في ذلك أفعال الإنسان، فتصوُّر المتكلِّم القديم أن الخير والشر من الله في حين أنهما مسئولية إنسانية واختيار حر للإنسان كخالق لأفعاله في أوضاع اجتماعية معينة هو مسئول عنها. والله طرف في المعاد ومستقبل الإنسان، فتصور المتكلم القديم أن الله يتدخَّل في تحديد مستقبل الإنسان ومصيره في حين أن الإنسان وتحقيق رسالته في الحياة هو الذي يحدِّد مستقبلَه وكيفية خلوده. والله طرف في السياسة في صورة تعيين الإمام، فتصور عالم الكلام القديم أن الله يعيِّن الإمام، وأن علاقة الرئيس تتحدَّد برئيس آخر له، هو الله، وليس الشعب الذي يعقد البيعة والذي منه تُستمدُّ السلطة، وهكذا دخل الله بصفاته وأفعاله طرفًا في كل المشاكل الإنسانية والطبيعية، ووُضعت المسائل كلها وضعًا لاهوتيًّا؛ فمسألة خلق القرآن مثلًا وُضعت وضعًا خاطئًا بجعل الله طرفًا فيها، في حين أن الوحي كلامٌ موجود، مقروء ومسموع، متلوٌّ ومحفوظ، يحتوي على تصوُّر للعالم بعد فهمه، وعلى باعث على السلوك بعد ممارسته، فهو موضوع مادي وليس صفة مطلقة لذات مشخصة، والخلق في نهاية الأمر صفة إنسانية لفعل إنساني كما هو واضح عند الفنان.١٧
علم الكلام إذن مسئول عن القضاء على النظرة العلمية للظواهر، وذلك بالقضاء على استقلال الموضوعات وربطها دائمًا بطرف آخر هو الله؛ إذ لا يتحدَّد أي موضوع مثل الوجود أو الحياة أو الحرية أو السياسة أو الأخلاق … إلخ إلَّا إذا كان الله طرفًا فيه ثم تفسير هذه الظواهر باللجوء إلى العلَّة الأولى دون العلل المباشرة؛ ومِنْ ثَمَّ يجعل علم الكلام موقف الإنسان في العالَم موقفًا مغتربًا لأنه يتصور أن أمور الدنيا إنما تتحدَّد بأفعال ذات مشخصة من خارج العالم وليس بأوضاع العالم الفعلية، يمكن إذن تغيير علاقات الأطراف في المسائل الكلامية وجعل الإنسان في علاقات مع الآخرين ومع الأشياء، ووصف الإنسان في العالم كطرف فيه؛ ومِنْ ثَمَّ تتغيَّر مادة العلم من مادة لاهوتية إلى مادة اجتماعية، ومن علاقات غيبية إلى علاقات مرئية، وقد يتغيَّر فهم الدين التقليدي الوارد من تاريخ الأديان من عبادة ومعجزة وتشخيص وطقوس وعقائد وسلطة، وسحر وخرافة وغيب وأسرار، ويعود إلى أصلِه من كونه وصفًا للإنسان في العالم كفعل وشعور وفعل وذات. الوحي نفسه مجموعة مواقف إنسانية نموذجية تتكرَّر في كل زمان ومكان، تصف الإنسان في العالم، فالعالم هو الوطن الأوحد للإنسان، أمَّا علم الكلام فإنه يعرض الوحي في صورة أخرى مخالفة لتلك الصورة التي عرض الوحي بها نفسه. في علم الكلام يضمر الوحي، ويتحجر، ويتقوقع على نفسه، ويصبح لاهوتًا في حين أن الوحي نظرية في الإنسان وقصد نحوه. في علم الكلام ينقلب الوحي من الإنسان إلى الله، ويصبح «علمًا إلهيًّا»، في حين أن الوحي بناءٌ إنساني ووصف لوضع الإنسان في العالم، بل إن المشكلة الأولى في علم الكلام، وموضوعه الأوَّل، وهو ذات الله وتشخيص ماهيته وأفعاله، موضوعة وضعًا خاطئًا؛ فالوحي قصد نحو الإنسان، ووصف لوضعه في العالم، وليس وصفًا لذات مشخص يدور حول نفسه، يضع المتكلِّم المشكلة وضعًا خاطئًا، ويقلب الوضع بتحويل الوحي إلى قصدٍ من الإنسان نحو الله وبتغيير اتجاهه من حيث هو قصدٌ من الله نحو الإنسان إلى قصدٍ من الإنسان نحو الله؛ الوحي قصد موجه نحو الإنسان، يعطيه نظامًا لحياته ومعاشه، هو وصف للعالم وللإنسان في العالم، وصف واقعي حسي، بديهي وجداني، وليس قصدًا من الإنسان نحو الله يعطي نظرية في الذات والصفات والأفعال على نحو غيبي افتراضي خالص يقع في التشبيه، وقياس الغائب على الشاهد لا محالة، فما كان في الوحي بداية وهو الله أصبح في علم الكلام نهاية، وما كان في الوحي نهاية وغاية ومقصدًا وهو الإنسان أصبح في علم الكلام بدايةً ومنطلقًا. علم الكلام إذن تدمير للوحي كما أن الوحي تدمير لعلم الكلام؛ الوحي تعبير عن وضع الإنسان الأمثل في الجماعة ليدرك المسافة بين الواقع والمثال ويقوم بتحقيق رسالته في التوحيد بينهما بالفعل وعلم الكلام اغتراب للإنسان وقذف به خارج العالم من أجل عبور المسافة من الواقع إلى المثال عن طريق التمنِّي والخيال أو الوهم والخداع، فأيهما موقف صحيح وأيهما موقف مزيف؟١٨

(٣) ذات الرسول

وقد يُضاف إلى «ذات» الله «ذات» الرسول، فيكون موضوع العلم قطبين: الله والرسول؛ وهو ما وضح أساسًا في علم الكلام المتأخِّر في عصر الشروح والملخصات وفي كتب العقائد بعد القرن الثامن الهجري.١٩ صحيح أن ذات الرسول مخلوق بشري فانٍ، ولكن التركيز على هذين القطبين، الله والرسول، يوحي بعقائد ملل أخرى تعقد رباطًا جوهريًّا بين الشخصين.٢٠ بالإضافة إلى أن هذين القطبين يمثِّلان مصدر الوحي ورسول الوحي فقط وغياب المرسَل إليهم كليةً في هذه العلاقة الثنائية وهم الناس والشعب والأمة، وكأن هذا الطرف الثالث لا وجود له كمحورٍ في العقائد كما أن لا وجود له في حياتنا السياسية المعاصرة. إن العلاقة الكاملة ثلاثية: مرسِل، ومرسَل إليه، ثم رسول يتم بواسطته التبليغ وحمل الرسالة، والمرسَل إليه هم الناس، والناس يعيشون في عالم، ويبحثون عن نظام، والرسول ليس له هذه الأهمية التي تجعله محورًا من محاور العلم مع الله كمحور أول، فالرسول ما هو إلَّا مبلغ؛ أي أنه وسيلة وليس غاية، وما على الرسول إلا البلاغ، وإلا وقعنا في «علم السيرة»، وهو من العلوم النقلية الخالصة كما وقعنا في «علم الكلام» الذي يأخذ المرسِل موضوعًا له، أي الله. الغاية هم الناس، وهم البشر، وهو العالم، فكيف نُسقط الغاية من الحساب، ونجعل الوسيلة جزءًا من موضوع العلم؟ وإذا كان التصوف قد ركز على الوسيلة إلى حد الإطلاق فيما سمَّاه «الحقيقة المحمدية»، فإن علم الكلام حتى في حركات الإصلاح الديني الأخيرة يكون قد انتهى إلى مثل ما انتهى إليه التصوُّف من التركيز على شخص الرسول حتى ضاعت الرسالة وضاع المرسَل إليهم، إن الرسول ليس موضوعًا مستقلًّا لعلم أصول الدين لأنه وسيلة إيصال الوحي فقط، ووسيلة تبليغ، فهو وسيلة لا غاية، وطريق لا هدف، وحامل لا محمول، أمَّا الوحي فإنه موضوع مستقل غير مشخص، وإدخال الرسول كجزء من الوحي تشخيص للوحي، وتركيز للتشخيص الذي حدث بتحويل الوحي إلى ذات، في الموضوع الأوَّل وهو «ذات» الله، والانتقال من كلام الله إلى ذات الله؛ وبالتالي تصبُّ علوم الحكمة وعلوم التصوُّف مع علم الكلام في نفس الاتجاه، وهو تشخيص الوحي، والتشخيص هو أحد مآسينا المعاصرة، التشخيص السياسي في صورة القائد أو الزعيم، والتشخيص الاجتماعي في صورة الأب أو رئيس المصلحة، والتشخيص الاقتصادي في صورة اللصوص والمرتشين وبطانة السوء، ويلتحم ذلك كله بالدين «الشعبي» القائم على تشخيص الأفكار والمبادئ والعقائد في الرسول وآل البيت والأولياء.٢١ شخَّصنا الأفكار في القادة والزعماء، وحوَّلنا صراع الأفكار والمذاهب إلى صراعات بين أفراد، وحوَّلنا الاعتقاد بالنظريات إلى إيمان بالأفراد، وأصبح كل نقدٍ للأفكار هو نقد للأفراد، والولاء للأفكار هو ولاء للأشخاص، هنا تكمن الجذور التاريخية إذن «لعبادة الأشخاص» وهو العيب الرئيسي في الحياة السياسية لدى الشعوب المتخلِّفة.٢٢ إن إدخال الرسول كجزءٍ من موضوع العلم هو تحويل للتوحيد من أساسه الأفقي — الوحي في التاريخ — إلى أساسه الرأسي، الصلة بين الله والنبي وذلك بالحديث عن نظرية الاتصال، ووسائل الاتصال، والحجاب، والملاك، والمخيلة كما حدث في علوم الحكمة في حين أن ما يهمنا نحن هو الوحي بعد إعلانه — وليس قبله — وفهمه وتفسيره وتأويله من أجل الاستفادة منه في حياتنا العملية كما حرص على ذلك علم أصول الفقه في تحويل الوحي إلى علم دقيق ابتداءً من لحظة الإعلان عنه وليس قبل ذلك حتى لحظة تحقُّقه في الحياة العملية كسلوك للأفراد وكنظام للجماعة، سواء فيما يتعلَّق بالصحة التاريخية للنصوص من خلال مناهج الرواية أو الفهم لها من خلال مبادئ اللغة وأسباب النزول أو تحويلها إلى سلوك في الحياة العملية من خلال المقاصد والأحكام.٢٣ خلط علم الكلام إذن بين النبي والرسول، وتعرض للنبي كما تعرضت له علوم الحكمة وعلوم التصوُّف وعلم السيرة، ولم يتعرَّض إلى الرسول من حيث الرسالة كما هو الحال في علم الحديث أو علم أصول الفقه. فإذا كان الدافع على إقامة علم الكلام هو وقوع أخبار تتعلَّق بحياة الناس فيمكن تحويل هذه الأخبار إلى علم عن طريق التحقُّق من صدقها كما هو الحال في علم الحديث أو معرفة معانيها كما هو الحال في علوم التفسير أو الاستفادة منها في الحياة العملية كما هو الحال في علوم الفقه أو التصوُّف، ولا محل لعلم الكلام، هذا بالإضافة إلى أن كل ما وصل إليه علم الكلام في حديثه المنعرج عن النبي هي صفات النبي الأربعة مثل صفات الله السبعة، وخصال الرئيس العديدة أي التركيز على السمات الرئيسية في الشخص، إذا صلح الشخص انتظم الواقع وصلح الناس، فخصال الأفراد هي التي تحدِّد طبيعة النظم الاجتماعية، وهو تحليل ناقص يغفل دور المؤسسات والشعوب والأفكار ومِنْ ثَمَّ فهو غير علمي، النظم الاجتماعية لها استقلالها عن خصال الأفراد حتى ولو كانت خصال الرؤساء، بل إن شخص الرسول سيتدخَّل في الجزاء ويخرق قانون الاستحقاق عن طريق الشفاعة كخرق الله لقانون الطبيعة عن طريق المعجزات، لقد ركز العلم على ضرورة المعجزة لإثبات النبوة وتأييدًا للأخبار التي أتى بها الرسول؛ وذلك عن طريق أفعال خارقة للعادة في حين أن الوحي في آخر مراحله، وهو الوحي الإسلامي، له يقينه الداخلي، وصدقه الذاتي، ولا يحتاج إلى برهان خارجي، فضلًا عن أن المعجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة ربما كانت موجودة في المراحل السابقة للوحي من أجل تحرير الشعور الإنساني من سيطرة الطبيعة أو من سلطة الحاكم المطلق، فالله وحده هو القادر على كسر كل القوانين الطبيعية وعلى كل النظم السياسية القائمة على حكم الفرد المطلق، ولكن في آخر مرحلة من مراحل الوحي تتحوَّل المعجزة إلى إعجاز، ويكون الفكر والفن، وهما دعامتا الوحي، المضمون والصورة، الموضوع والأسلوب هما موضوعا الإعجاز؛ فالمعرفة الإنسانية مهما تقدَّمت فإنها ستظل تجد في الوحي نظريات صادقة، وأن الخلق الفني الإنساني مهما عظم فإنه سيظل يجد في أسلوب الوحي عملًا فنيًّا باقيًا على كل العصور، الوحي في آخر مراحله إعلان لاستقلال الإنسان عقلًا وإرادةً دونما حاجة إلى تدخُّل خارجي في عقله أو في إرادته من أجل الحصول على معرفة أو تحقيق فعل، مهمة الوحي وضرورته هي في إعطاء مجموعة من الافتراضات النظرية تسهِّل عمليات فهم الواقع بعد التحقُّق من صدقها بالدليل العملي أو البرهان النظري، كما أنها تقصِّر الطريق بإعطائها الأساس النظري من أجل أن يكرِّس الإنسان كل جهده وطاقته في التحقيق، بالإضافة إلى أن هذا الأساس النظري شاملٌ وعامٌّ ومحايد، لا يخضع لهوى أو مصلحة، بل يحقق مصالح الفرد والجماعة أيًّا كانت، وذلك بخلاف المعرفة الإنسانية التي قد يطول البحث عنها والتي قد تقع في التجزئة وأحادية الطرف والتحيُّز والتي قد لا يتم الوصول إليها قبل نهاية حياة الإنسان والتي قد تنعزل وتنحصر عن الواقع، وتظل في حدود النظرية. وقوع المعجزات الآن إمَّا شعوذة أو سحر أو خرافة أو وهم، ويمكن القضاء على كل ذلك بالنظرة العلمية للواقع، وبتوجيه الجماعة نحو الثقافة النظرية العلمية، وقد تخلَّفت حركاتنا الإصلاحية الحديثة عن دعوتها وذلك لاستمرار إيمانها بالمعجزات بمعانيها التقليدية كدليل على صدق النبوة، وكخبر متواتر، وإن كانت قد حاولت أن تجعل منها باعثًا على الفكر والتأمُّل في الطبيعة، وكشفًا عن مجاهل العلم، ويظل الخوف قائمًا من أن يتحوَّل هذا البحث إلى تسليم بالأسرار طالما ظل الإيمان سائدًا على العقل.

(٤) الأمور العامة

وقد يكون موضوع العلم هو الوجود بما هو موجود على قانون الإسلام وليس بحثًا إلهيًّا عامًّا ودون الوقوع في التشخيص، والموجود هو الذي يمكن إدراكُه بالأمور العامة مثل الوجود والماهية، الجوهر والعرض، الوجوب والإمكان، العلة والمعلول، الواحد والكثير … إلخ، وهي آخر ما وصل إليه علم الكلام من تطور نظري من أجل إدراك معنى الوجود والاستدلال به على مدلوله، وهو أكثر الموضوعات تجريدًا وصوريةً، لقد استطاعت هذه الأمور العامة تحويلَ الوحي إلى علم أوليات Axiomatique أي إلى مجموعة من المبادئ العقلية العامة الواضحة بذاتها، أوليات خالصة لا يسبقها شيء كما هو واضح في نظريتَيِ العلم والوجود.٢٤ موضوع العلم إذن هو «المعلوم»، الذي يمكن معرفته؛ لذلك اشتمل المعلوم على نظرية العلم إجابةً على سؤال: كيف أعلم؟ كما اشتمل على نظرية الوجود إجابةً على سؤال: ماذا أعلم؟ ولو أن العلم تطوَّر ولم يتوقَّف من القرن الثامن حتى الآن لَكانت تلك الأمور العامة قد ابتلعت الإلهيات وأصبح العلم صوريًّا خالصًا؛ فالإلهيات قد أصبحت عقليات ولم يعد باقيًا إلا النبوات أو السمعيات التي عادت من القرن الثامن حتى الآن وابتلعت العلم كله بما في ذلك المقدِّمات النظرية عن «الأمور العامة» والعقليات وريثة الإلهيات.
وبالرغم من مزايا هذا الموضوع التجريدي إلَّا أنه يعبِّر عن إيمان باطني، ويهدف إلى شيء آخر، إمَّا إلى حدوث العالم من أجل إثبات أن الله قديم أو لإثبات أن الوجود متميِّز عن الماهية في هذا العالم من أجل إثبات أن ماهية الله هو وجوده، وأن وجوده هي ماهيته، ولإثبات أن هذا العلم منقسمٌ إلى جواهر وأعراض من أجل إثبات أن الله هو الجوهر الخالص لا أعراض فيه، ويحدث نفس الشيء بالنسبة إلى الوحدة والكثرة والعلة والمعلول،٢٥ وكلها تصدر عن إحساس مرهف بالإيمان معروضًا عرضًا عقليًّا صرفًا، وفي هذا الإحساس قد يختلف الناس، فقد يرى البعض أن إثبات حدوث العالم هو المعبِّر عن هذا التنزيه العقلي، وقد يرى آخر أن قِدَم العالم هو الأكثر تعبيرًا عن ذلك، قد يرى فريقٌ أن عدم الربط بين العلة والمعلول ربطًا ضروريًّا تعبير أصدق عن التصوُّر الإيماني للعالم، بينما يرى فريق آخر أن الربط الضروري بين العلة والمعلول هو أصدق تعبيرٍ عن وجود الله وحكمته، وهكذا يختلف الناس في تعبيرهم عن إحساساتهم الدينية بالصور العقلية. وإنما يرجع اتهام بعضهم لبعض بالخروج عن الدين في أحسن الأحوال، ومع توافُر حسن النيَّة، إلى تعدُّد هذه الصور العقلية أو تضاربها، مع أنها كلها صور إيمانية تعبر عن عواطف إيمانية بالرغم من اختلاف ظروف نشأتها.٢٦ هذا بالإضافة إلى أن هذه الأمور الصورية العامة ما زالت مرتبطة بالجو العام لبيئة ثقافيةٍ معينة هي البيئة اليونانية ومفاهيمها، وهي بطبيعتها مثالية، والمثالية والعواطف الدينية صِنْوان، والخلاف بينهما في الدرجة وليس في النوع، فقط في درجة التجريد.
ولما كانت هذه الصور الدينية ليست وليدة البيئة الثقافية المعاصرة، فإنه لزم ملؤها بمادة معاصرة حتى يمكن أن تعبِّر عن مضمون معاصر، وإلَّا ظلت صوريةً فارغةً تعبِّر عن الطهارة الدينية والتقوى الباطنية التقليدية، إن «الأمور العامة» اليوم ليست هي أفكار الوجود والعدم والماهية، والجوهر والعرض، الواحد والكثير، العلة والمعلول، الوجوب والإمكان، القِدَم والحدوث … إلخ، فقد كانت هي المفاهيم السائدة في الثقافة القديمة بعد ترجمة الثقافة العصرية آنذاك، وكان مصدرها الرئيسي من اليونان، أمَّا اليوم فقد أصبحت أفكار الحرية والعدالة والمساواة والتحرُّر والتقدُّم والنهضة بل والثورة والتغيُّر الاجتماعي هي الأفكار السائدة في ثقافتنا المعاصرة منذ فجر نهضتنا الحديثة، والتي أصبحت جزءًا من الثقافة العصرية بعد الترجمات عن الثقافات العصرية الحالية ومعظمها وارد من الغرب، وكما عبَّرت الأمور العامة القديمة عن مقتضيات ثقافتنا القديمة وحاجاتها، فإن الأفكار المعاصرة تعبِّر أيضًا عن مقتضيات ثقافتنا الحالية وحاجات مجتمعاتنا المعاصرة.٢٧
١  وهذا هو أيضًا موقف المهندسين في الإلهيات في إنكارهم أن النظر في الإلهيات يُفيد العلم «لأن التصديق موقوف على التصوُّر، وذات الله غير معقولة ولا جائزة التعقُّل» (طوالع الأنوار، ص٣٠). «الطائفة الثانية من منكري النظر المهندسون قالوا إنه يُفيد العلم في الهندسيات دون الإلهيات، والغاية فيها الظن والأخذ بالأحرى والأخلق، واحتجُّوا بوجهَيْن:
  • (أ)

    الحقائق الإلهية لا تُتصور، والتصديق بها فرع التصور، فإمكان طلب التصديق موقوف على تصور الموضوع والمحمول، والحقائق الإلهية غير متصوَّرة لنا لما سبق أنَّا لا نتصوَّر إلا ما نجده بحواسِّنا أو نفوسنا أو عقولنا، وإذا فقد التصوُّر الذي هو شرط التصديق امتنع التصديق أيضًا.

  • (ب)

    أقرب الأشياء إلى الإنسان هُويته التي يُشير إليها بقوله أنا، وأنا غير معلومة؛ إذ قد كثر الخلاف فيها كثرةً لا يمكن معها الجزم بشيء من الأقوال المختلفة … وإذا كان أقرب الأشياء إليه كذلك فما ظنُّك بأبعدِها؟» (المواقف، ص٢٦). نفس الحجتين موجودتان في: المحصل، ص٢٤؛ طوالع الأنوار، ص٣٠.

٢  «لأن عقولنا لا يمكن أن تدرك ذات الله ولا كُنه صفاته، وكُنه الذات وكنه الصفات العلية خارج عن طور العقول البشرية، وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، ولذلك ورد: «تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذاته فإنكم لن تقدروا الله حق قدره.» وقال المرتضى:
العجزُ عن دَرَك الإدراكِ إدراكُ
والبحثُ عن سرِّ كُنه الذاتِ إشراكُ
لا يحسن من أحد أن يقول في الله سبحانه أو يعتقد فيما يتصل بالعدل والتوحيد بظنٍّ ولا حدسٍ ولا تقليدٍ ولا توهُّم ولا تصور، وإن كُنَّا قد بَيَّنَّا في نفي التشبيه أن التصور فيه تَعالٍ يستحيل لنقد الشرائط التي لها يصح التصور» (المغني، ج١٢؛ النظر والمعارف، ص٥٣٢).
٣  انظر فيما بعد الفصل الثاني: بناء العلم، الفصل الرابع: نظرية الوجود. ويشكك الإيجي صاحب المواقف بأن هذه الأمور العامة ليست بينة في ذاتها، وبالتالي لا بد لها من العلم، وهذا في الحقيقة تسلسل إلى ما لا نهاية في تأسيس العلم؛ بحيث يكون كل علم في حاجة إلى علم سابق، ولكن «الأمور العامة» أو «المقدمات النظرية» هي البدايات اليقينية العقلية التي جعلها القدماء مقدمة العلم ولا علم قبلها. (المواقف، ص٧).
٤  الأوَّل موقف ابن سينا في «الشفاء»، وفي «النجاة»، والثاني موقف الفارابي في «إحصاء العلوم».
٥  انظر فيما بعد الفصل الخامس: الوعي الخالص «أوصاف الذات».
٦  يُستعمل لفظ «ذات» مؤنثًا ومذكرًا في آنٍ واحد طبقًا للسياق، وكلاهما صحيح مثل لفظ «روح».
٧  «وقد اتفق علماء الكلام جميعًا على إنكار الوجود الذهني، ولا يعترفون إلا بالوجود العيني» (المقاصد، ص١٩). «إن موضوع العلم لا يبين فيه وجوده فيلزم إما كون إثبات الصانع بيِّنًا بذاته أو كونه مبينًا في علم أعلى والقسمان باطلان» (المواقف، ص٧)، كذلك يعترض الإيجي على جعل موضوع العلم الموجود بما هو موجود لأنه «قد يبحث فيه عن المعدوم والمحال وعن أمور لا باعتبار أنها موجودة في الخارج كالنظر والدليل، وأمَّا الوجود في الذهن فهم لا يقولون به» (المواقف، ص٨). انظر أيضًا مقدمتنا لكتاب «الإيمان باحثًا عن العقل» لأنسليم في «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، (ص١١٨–١٣٤)، الإسكندرية ١٩٦٨م، القاهرة ١٩٧٨م، بيروت ١٩٨١م.
٨  «التراث والتجديد»، منطق التجديد اللغوي، (١) قصور اللغة التقليدية، ص١٢٧–١٣٥.
٩  من القدماء عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز»، ومن المعاصرين الإمام الشهيد سيد قطب في المرحلة الأدبية الإسلامية من حياته في «التصوير الفني في القرآن»، «مشاهد القيامة في القرآن»؛ وأيضًا «في ظلال القرآن».
١٠  انظر الفصل الخامس: «الوعي الخالص»؛ الفصل السادس: «الإنسان الكامل»؛ وأيضًا بحثنا: «الاغتراب الديني عند فيورباخ»، عالم الفكر، ١٩٧٩م.
١١  لا يعني ذلك أي تشابه بين وحدة «الذات» الإلهي والذات الإنساني وبين الحلول أو الاتحاد عند الصوفية، إنما يعني استمرار الحركة الإصلاحية الحديثة خاصةً عند محمد إقبال في تصوره للذاتية.
١٢  انظر الفصلين الخامس «الوعي الخالص»؛ والسادس «الإنسان الكامل».
١٣  انظر كتابنا: «لسنج: تربية الجنس البشري»، المقدمة؛ وأيضًا: «لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم» في دراسات إسلامية.
١٤  انظر بحثنا: «الأيديولوجية والدين»، «قضايا معاصرة (١)»؛ «الدين والرأسمالية»، «قضايا معاصرة (٢)»؛ «الإسلام على الطريقة الرأسمالية»، «قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني».
١٥  «اليسار الإسلامي» بوجهٍ خاصٍّ والديني بوجهٍ عامٍّ يهدف إلى سد هذا النقص أي الدين كتراثٍ للمعارضة.
١٦  الاقتصاد، ص٥؛ المواقف، ص٧؛ المقاصد، ص٢٠؛ شرح المقاصد، ص٢٢؛ أشرف المقاصد، ص٢٠؛ إتحاف المريد، ص٢٤-٢٥؛ شرح الخريدة، ص٩.
١٧  انظر بحثنا: Théologie ou Anthropologie? La Renaissance du Monde Arabe. وأيضًا: «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» دراسات إسلامية.
١٨  «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» دراسات إسلامية.
١٩  ويتضح ذلك في التاوية، والكونفوشيوسية والبوذية، ثم المسيحية؛ فقد كان لاوتزي، وكونفوشيوس، وبوذا، والمسيح؛ أشخاصًا تاريخيين، أنبياء ورسلًا ودعاة قبل أن يتحولوا آلهة. انظر رسالتنا الثانية: La Phénoménologie de l’Exégése. essai d’une hermeneutique existentielle à partir du Nouveau Testament.
٢٠  الخلاصة، ص٢؛ تحفة المريد، ص١٢؛ وسيلة العبيد، ص٣؛ رسالة التوحيد، ص٤، ٢٣؛ التحقيق التام، ص١٥٢–١٧٧.
٢١  انظر: «محمد، الشخص أم المبدأ»، «قضايا معاصرة (٤): في اليسار الديني»، وقد نبَّه القرآن على ذلك وكان أول من نقد «عبادة الشخص» في شخص الرسول بقوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (٣: ١٤٤)، كما ركز على صفته البشرية في: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا (٢٥: ٧-٨)، وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (١٧: ٩٠–٩٥).
٢٢  الاقتصاد، ص٦. والقرآن أيضًا يشير إلى ذلك بقوله: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ. انظر أيضًا: الفصل التاسع عن النبوة؛ انظر أيضًا حديثنا عن المعجزات في مقدمتنا لرسالة اسبينوزا في اللاهوت والسياسة، ص٦٥–٦٩.
٢٣  المقاصد، ص٢١؛ شرح المقاصد، ص٢٢؛ أشرف المقاصد، ص٢١؛ التحقيق التام، ص٢. ويعترض صاحب المواقف على ذلك باعتراضين: (أ) قد يبحث فيه عن المعدوم والحال وعن أمور لا باعتبار أنها موجودة في الخارج كالنظر والدليل، وأمَّا الوجود في الذهن فهم لا يقولون به. (ب) قانون الإسلام هو ما هو الحق في هذه المسائل، وبهذا القدر لا يتخيل العلم (المواقف، ص٨).
٢٤  وهي التي سمَّاها الإيجي «مسائله التي هي المقاصد وهي كل حكم نظري لمعلوم هو من العقائد الدينية أو يتوقف عليها إثبات شيء منها، وهو العلم الأعلى؛ فليست له مبادئ تبين في علم آخر بل مباديه إمَّا مبينة بنفسها أو مبينة فيه، فهي مسائل له ومبادئ لمسائل أخرى عنه لا تتوقف عليها لئلا يلزم الدور؛ فمنه تُستمدُّ العلوم وهو لا يستمد من غيره، فهو رئيس العلوم على الإطلاق» (المواقف، ص٨).
٢٥  ويتَّضح ذلك من تعريف الإيجي: «هو المعلوم من حيث يتعلَّق به إثبات العقائد الدينية تعلقًا قريبًا أو بعيدًا» (المواقف، ص٧).
٢٦  انظر مقدمتنا لكتاب «الوجود والماهية» لتوما الإكويني في «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، ص٢٣٣–٢٣٩.
٢٧  هذا هو موضوع الجزء الثاني «فلسفة الحضارة»؛ من تمثُّل اليونان إلى رفض الغرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤