سابعًا: وجوبه
(١) العامة والخاصة
يكاد يجمع القدماء على قسمة الناس إلى عامة وخاصة، يستوي في ذلك المتكلِّمون
والفلاسفة والصوفية والفقهاء؛ فالعامة غير قادرة على الاشتغال بالأمور النظرية،
ولا يجوز إدخال الشك إلى عقائدها بالبحث والنظر، أو الاستدلال على صحتها
بالبرهان كما يقول علماء الكلام، كما أنها غير قادرة على إدراك المعقولات
الخالصة والأمور المجردة؛ لأنها تحتاج إلى حس ومشاهدة، وغير قادرة على التأمُّل
العقلي، فدورها في العبادة، وإقامة الشعائر كما يقول الفلاسفة، والعامة أيضًا
غير قادرة على إدراك الحقائق القلبية والعلوم الكشفية، يكفيها مسطحات الأمور في
العقائد والفقه كما يقول الأصوليون، وهي أيضًا عاجزة عن أن تفتي أو تجتهد،
يكفيها سؤال المفتي أو المجتهد وتقليده كما يقول الفقهاء، فالعامة عند الجميع
خارجة عن نطاق العلوم كلها أيًّا كانت موضوعاتها ومناهجها، يكفيها الإيمان
والتصديق والاعتقاد، يكفيها الإذعان والانقياد والتقليد دون تشويش عليهم
بالعلوم العقلية والأمور النظرية.١
وقسمة الناس إلى عامة وخاصة قسمة ضِيزى، تقوم على الإقرار بالجهل الاجتماعي
والتسليم به دون تغييره والقضاء عليه، فالعامَّة تحتاج إلى تثقيفٍ وتنويرٍ دون
أن تُنهر عن العلم أو عن التفكير، وتلك هي مسئولية الخاصة؛ فالخاصة هم طليعة
العامة، ولا تكوِّن طبقة مستقلة عنها، متعالية عليها وأعلى منها، لكلٍّ منها
علم أو حقيقة، بل لكليهما نفس العلم، إن لم يكن بصياغته فعلى الأقل بمحتواه. إن
وجود طبقتين في المجتمع، طبقة جاهلة، وهي الأغلبية، وطبقة متعالِمة وهي
الأقلية؛ لَتؤدي بالضرورة إلى سيطرة الأقلية على الأغلبية. إن ترك العوامِّ على
ما هم عليه، وتحريم الفكر والنظر عليهم ضد التنوير، وتثبيت للأمر الواقع، ورفض
لتغييره، وإيمان على علم خير من إيمان على جهل، العامة ليست طبقة ثابتة ومعطى
كائن بذاته، بل توجد العامَّة لنقصٍ في التعليم، وتتلاشَى بالتنوير، يمكن
القضاء عليها بتثقيفها ومحو أميتها، ونقلها من الاعتقاد الأعمى إلى الإيمان
المستنير. قسمة العامة والخاصة ليست قسمة مانعة جامعة، عازلة مغلقة، بل هي قسمة
مفتوحة متحرِّكة، تسمح بالانتقال منها وإليها، فكثيرًا ما تُفرز العامة قادتها،
وكثيرًا ما ينبغ من العامة مفكروها وعلماؤها وقوادها، وكثيرًا ما يخرج من
الخاصة جهَّالها، ليست كل قسمةٍ دائرة مغلقة على نفسها تحتوي على أفرادها
بالطبيعة والضرورة، وكيف يُطلب من العامَّة السلبية التامة وقَبول ما يُعطى لهم
وعدم تجاوزها، والإيمان بالتقديس، والتصديق، والاعتراف بالعجز، والسكوت عن
السؤال، والإمساك عن التصرُّف، والكف عن التفكير، والتسليم لأهل المعرفة؟ إن
مأساتَنا مع جماهيرنا الحالية هو إيمانها بالمقدسات التي وصلت إلى حد
المحرمات Tabous التي لا يمكن تناولها أو
التفكير فيها أو التعرض لها بالبحث والتحليل، وعلى رأسها مقدسات ثلاث: الله،
والسلطة، والجنس.٢ ولن تتقدَّم الجماهير إلا بتناول هذه الأمور وعرضها عرضًا عقليًّا
خالصًا، وتحليلها تحليلًا علميًّا صرفًا حتى تخرج من دائرة الشعور إلى دائرة ما
فوق الشعور، وحتى لا تعمل كدوافع باطنية في الخفاء، وتكون علنًا ظاهرًا على
مستوى الفكر والافتراض العلمي، وإلَّا نشأت الحركات الدينية والسياسية السرية
وعمَّ المجتمع مظاهر الانحلال والفساد في الخفاء، وإن من مآسينا المعاصرة أيضًا
التصديق بما يُقال دون طلب للدليل أو البرهان في حين أن ما لا دليل عليه يجب
نفيه كما قال الأصوليُّون القدماء، وأن البرهان هو أساس اليقين، التصديق بلا
برهان عجز، وإنكار للعقل، وإهدار للنظر، وكيف نعترف بالعجز عن الإدراك
والتوصُّل إلى الحقائق العلمية، في حين أن قيمة الإنسان مرهونةٌ بثقته بالعقل
وبقدرته على الاكتشاف؟ إن التسليم بالعجز لَفيه نهاية للإنسان من حيث هو قدرة
على البحث والتحصيل، وإعلان للهزيمة في معركة لم تبدأ بعد، وانسحاب من الأرض
والعدو لم يحتلها بعد! أمَّا السكوت عن السؤال فهو ضد التفلسف، وضد التفكير،
وضد تحديد المسئولية، التساؤل هو الكشف، ويحتوي على نصف الجواب إن لم يكن
الجواب كله، أمَّا الإمساك عن التصريف فهي عبودية للحرف، وخضوع للنص، وهدم
للعقل أساس النقل، وإنكار للمعنى الذي هو المقصود من اللفظ، وإلا فكيف يمكن
الوصول إلى المعاني العامة، والنظريات الشاملة دون جمع للألفاظ تحت موضوع واحد؟
وكيف يمكن فهم الوحي طبقًا لروح العصر دون تفسير أو تأويل؟ أمَّا الكف عن
التفكير فهو أيضًا قهر للذات بلا مبرر، وطلب المستحيل بالنسبة إلى الإنسان،
فالإنسان هو هذه القدرة الباطنة على الطرح والتساؤل، وعلى التعالي على المستوى
المادي، وتجاوز الأمر الواقع، التفكُّر الباطني هو أساس الكشف، وهو عالم النظر
والافتراض، وأخيرًا يأتي التسليم لأهل المعرفة إذ يجعل الإنسان مقلِّدًا لغيره،
والتقليد ليس مصدرًا للعلم أو للمعرفة.٣
إن أوصاف العامة من جهلٍ وتعصُّب وتقليد ليست أوصاف الجماهير الواعية التي
تقوم بنفسها بالتوجيه والإصدار، بل إنها أحيانًا تكون أكثر وعيًا من الخاصة؛
وذلك لأنها ما زالت على الطبيعة، تعبِّر عن واقعها بصدق من خلال أمثلتها
الشعبية وأغانيها التلقائية، وأساطيرها المتوارثة، وسِيَر أبطالها في مقابل
انعزالية الخاصة، واهتمامهم بمصالحهم الشخصية، وغربتهم عن الجماهير وتراثها،
وميلهم إلى تراثٍ آخرَ يجدون فيه العلمَ والمعرفة، ودورانهم حول الواقع
والالتفاف حوله، والوقوع في التبرير والتنظير لصالح السلطان، إن العامة ذكيةٌ
بطبعها بحسِّها الشعبي وإن بدت للخاصة جاهلة، ومستنيرة وإن بدَت للغير عمياء،
تفهم وتقدر، وتعرف من يتكلَّم باسمها ومن يتعايش عليها، ولكن ينقصها التنظيم
والتحزيب والتجنيد من أجل المراجعة على القادة وفرض مصالحها عليهم.٤ لا يقتصر العقل على الخاصة وحدهم دون العامة، فالعقل هو النور
الفطري الذي يوجد في كل إنسان، كل إنسان عاقل من حيث هو إنسان، تظهر البداهة
عند العامي بحسه الشعبي المرهف، ومعرفته بالواجب، بل كثيرًا ما يتعلَّم الخاصة
من العامة، ويتثقَّفون من تراثها، وكثيرًا ما تعلِّم العامة الخاصة وتعطيهم
نموذجًا للفكر والسلوك والجرأة على الحق والالتحام بالواقع. ليست العامة جاهلة
بطبعها، وليست الخاصة عالمةً بطبعها؛ فالحس البديهي موجود عند كل إنسان، وهو
القاسم المشترك بين الناس، وأحيانًا تكون الخاصة جاهلة، والعامة عالمة، فمن
جهلِ الخاصة تصوُّرهم أن هناك ثقافتين وحقيقتين الأولى لهم والثانية لغيرهم، من
جهلها هذه القسمة للناس إلى أذكياء وأغبياء، حكام ومحكومين، قادة وجماهير، ثم
تنصيب أنفسهم من الفريق الأوَّل وغيرهم من الفريق الثاني؛ فهم الأذكياء والحكام
والقادة، والعامة هم الأغبياء والمحكومون والجماهير، تنصب الخاصة نفسها كقيادة
للعامة فتخطِّط لنفسها وتعمل لحياتها، وتتصوَّر العالَم حسب تكوينها النفسي
والاجتماعي وتنسى العامة ومصالحها وإدراكها، وتصوراتها للعالم، وبواعثها على
السلوك، وهو ما يُسمَّى في عصرنا الحالي بأزمة المثقفين. ليست الخاصة هي
الوحيدة العالمة والتي تهتم بالثقافة دون العامة بل هي طليعة الجماهير
والمسئولة عن تثقيفِها، لا توجد حقيقتان؛ الأولى للعامة الدهماء والثانية
للخاصة العلماء، هناك حقيقة واحدة ينتمي إليها الجميع، ويعبِّرون عنها في ثقافة
واحدة، وبفكرة واحدة، وبتصوُّرٍ واحد، ومن ازداد وعيًا قام بتوعية غيره.
ولا يوجد فريق من الناس كافر بطبعه، يحيد عن الحق كسلوك دائم لأن العقل ليس
هبة فيهم، ويكون جزاؤه السوط أو السيف! إن نور العقل قاسمٌ مشترك بين الناس
جميعًا، وإن تغليب الهوى أو المصلحة على نور العقل أو جحد الحق دون التسليم به
كل ذلك يحدث في مواقف محدَّدة، وظروف اجتماعية خاصة، وليس جبلة في الإنسان.
الإنسان بطبعه ميَّال إلى الحق، فإن لم تتغلَّب الفطرة عليه سادته الظروف،
وأصبح خاضعًا للموقف، وإننا لَنعاني في عصرنا الحاضر من استعمال السيف ضد
المفكرين، خاصةً لو كانوا ممَّن غلب لديهم نور العقل على ظروفهم الاجتماعية،
وآثروا العقل على الطغيان، ومن يحكم أو يقرر أن هذا الفريق أو ذاك كافر بطبعه
لم يهبه الله نور العقل؟ الحاكم أم المحكوم؟ السلطة أم المعارضة؟ من بيده
السلطة اليوم أو من سيحصل عليها في الغد؟ إنه في الغالب إمَّا السلطة السياسية
أو السلطة الدينية أو كلاهما معًا نظرًا لتواطئهما المتواتر، ومصالحهما المشتركة.٥ إنه لا يحق لحاكم أو لمحكوم، لرئيس أو لمرءوس أن يحكم على أحد أو
على فريق بأنه كافر مبتدع، وإلا عدنا إلى تكفير الفرق بعضها للبعض، الكل مجتهد،
والمحكُّ هو البرهان، لا يمكن قهر الناس بالسيف باسم العناد أو الكفر أو
الضلال، ولكن يُترك الناس حتى تأتيهم البينة ويلتزمون بالجماعة طوعًا.٦
والشك ليس جريمة، والتساؤل ليس كفرًا يُدان صاحبه، ويُجرَّح أمام الملأ، لأن
التقليد والإيمان بالسماع لا يقوم على أساس، فإذا كان هناك فريق من الناس يشكُّ
ويتساءل ويريد أن يقيم عقائده على أساس من البرهان، فهم ليسوا مرضى يجب علاجهم
بدواء التسليم والإيمان أو بآية أو حديث، الشك عند بعض المعتزلة أول الواجبات
على المسلم قبل النظر.٧ كما يساعد طلب البرهان القلب على الاطمئنان لليقين كما حدث
لإبراهيم الخليل.٨ التصديق جزء من الإيمان، ولا إيمان بلا تصديق. ليست العقائد
الإسلامية معتقدات تعبِّر عن أفعال إرادة، بل هي مبادئ نظرية قائمة على أسس
عقلية، العقائد مجموعة من الأسس النظرية التي تقوم عليها كل العلوم، ومجموع
المبادئ العامة التي يقوم عليها تصور العالم؛ فهي تعتمد على البرهان لا على
القرار الإرادي؛ أي أنه فعل عقل لا فعل إرادة، ويتطلَّب التصديق لا الإيمان،
وهناك تكون العقائد الإسلامية والعقائد المسيحية واليهودية في جانب آخر،
فالعقائد الأخيرة قرار إرادي مثل ألوهية المسيح (الكنيسة) أو الشعب المختار
(المعبد). في حين أن العقائد الإسلامية لا أسرار فيها كما هو الحال في المسيحية
ولا تعسُّف فيها كما هو الحال في اليهودية، إن وسيلة التخاطب مع المعتقدين
بالتقليد والسماع مع ذكاء الفطرة ليس إبعاد الشك عن النفوس وإعادتهم إلى حظيرة
التقليد بل تقوية الشكوك حتى يظهر البديل وهو العقل أو العلم، أليس الشك أساس اليقين؟٩
أمَّا المرتابون في عقائدهم فلا تُعطى لهم عقائد جديدة، بل يقوُّون في
ارتيابهم، ويُعملون عقولهم كما يشاءُون، ويصلون إلى الحق بمحض بحثهم الحر دون
أن تستعمل معهم مناهج التبشير والاستمالة، وقد نشأ ارتيابهم في المقولات
الدينية، وهو ارتياب طبيعي في صور مضمرة، يكشف عن رغبة في التعقيل وبحث عن
البداهة، المنهج القويم أفضل بكثير من النتيجة الجاهزة التي يتلقَّنُها الإنسان
دون بحث أو تحصيل.١٠
(٢) أقسام الواجبات
وقد تقسم الواجبات على أنواع ثلاثة من الناس: العامة، والخاصة، والسلطان؛
فإذا كانت مهمة العامة في التصديق والإيمان من ناحية العمل والتحقيق، فإن مهمة
الخاصة المثقفة التفقه في الدين وفي الأحكام وفي القدرة على الاستدلال
والاستنباط في المسائل الجديدة التي طرأتْ على حياة الجماعة، والحقيقة أن
العامة أيضًا تكون قادرة على الاستدلال عن طريق الاتصال المباشر بالواقع، وطرق
الاستدلال الحر والصور المختلفة للمصالح المرسلة، الفلاحون أدرى بقضايا الأرض
من فقيه الأرض، والعمَّال أدرى بشئون مصانعهم من مفكِّر المصنع، والطلاب أدرى
بشئون المعاهد والجامعات من الإداريين والقائمين على إصلاح الجامعة، وكثيرًا ما
لا تهدف الخاصة في استدلالها إلى رعاية مصالح العامة، فتصدر قراراتها للحفاظ
على مكاسبها الخاصة مضحية بمصلحة المجموع، أمَّا واجب السلطان فهو تنفيذي خالص،
يُعهد إليه بتنفيذ القانون، ولا يُشرع حكمًا، هو المنفذ لأحكام الخاصة والعامة
على السواء، وكثيرًا ما كانت السلطة مع الخاصة ضد العامة، يشتري السلطان ذمم
العلماء وضمائرهم، ويبيع الخاصة للسلطان فتاويهم وأحكامهم، وينثرون تحت أقدامه
تبريراتهم للأوضاع القائمة ولأحكامه الخاطئة، باستطاعة العامَّة المشاركة في
السلطة التنفيذية بالاشتراك في المحاكم الشعبية، وأن تُدلي برأيها في التعيين
والعزل من خلال المجالس الشعبية، فالشعب هو الحاكم والمحكوم، والأمة هي الراعي والرعية.١١
(٣) الكفاية والعين
السؤال الآن الذي طرحه القدماء: هل علم الكلام فرض عين أم فرض كفاية؟ فجواب
المعاصرين أنه إذا كان علم الكلام هو هذا الذي وصفناه، والذي لا موضوع له ولا
منهج، ولا فائدة منه فإنه لا هو فرض عين ولا فرض كفاية؛ لهذا السبب حرَّمه
الفقهاء، أمَّا إذا كان القصد منه «لاهوت الأرض» و«لاهوت الثورة» و«لاهوت
التنمية» و«لاهوت التقدم» و«لاهوت التحرر» و«لاهوت الوحدة الوطنية»؛ أي العلم
الذي يتناول مصالحَ المسلمين بالتحليل والذي يجنِّد المسلمين للدفاع عن مصالحهم
فهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، أمَّا عند القدماء فقد تفاوتت الآراء في علم
الكلام بين التحريم التام فهو بدعة وبين الوجوب ندبًا أو إباحة.١٢ أفتى القدماء بالتحريم لأنه بدعة لم تظهر إلا متأخرًا، ولم يشتغل
الجيل الأوَّل بهذا العلم ولا عرفوه بل أفتَوْا بتحريمه بقدر ما ظهر منه لديهم.١٣ وعدم انشغال الجيل الأوَّل بمباحث علم الكلام لا يعني أنهم كانوا
من العوام، بل يعني أن التوحيد كان في هذه الفترة من التاريخ توحيدًا عمليًّا
لا توحيدًا نظريًّا، وعملية توحيد لا نظرية توحيد.١٤ وعندما نشأ علم الكلام اعتبرَه قدماء الفقهاء مضادًّا للدين
واعتبروا المتكلِّمين وقد خرجوا على الدين ومِنْ ثَمَّ لا دين لهم، لا تجوز
الصلاة خلفهم، ولا تجوز شهادتهم بل ويجب عقابهم بالضرب والجر في الطرقات!١٥ لم يشتغل الجيل الأوَّل إلا بالفقه وأصول الفقه؛ لأن الفقه هو
العلم العملي الذي يظهر فيه التوحيد العملي والذي يرعى مصالح الناس؛ فقد كانت
الحاجة إلى التشريع أمَسَّ من الحاجة إلى النظريات إلا إذا كانت أسس التشريع؛
فالحاجة إلى «تفقيه» الأرض والثروات والنظم الاجتماعية والسياسية ألحُّ من
الحاجة إلى البحث عن الأصل والنشأة أو المآل والمعاد، إلا إذا كان في مثل هذا
البحث تعميق وجداني للتشريع، ويرتبط بالفقه علوم القرآن والحديث لأنهما مصدرا
الفقه وأدلة الأحكام.١٦ لم يكن المتكلمون في أول الأمر متكلمين، بل كانوا علماء لغة أو
حديث أو زهَّادًا ثم غلبت عليهم صناعة الكلام؛ علم الكلام إذن علم طارئ سببتْه
الظروف والأحداث، وليس له أصل في الوحي.١٧ إن علم الكلام لم يؤدِّ في النهاية إلا إلى التعصب والجهل، وإفساد
العقائد البسيطة، والدخول في متاهات الفلسفة، لم يؤدِّ علم الكلام إلَّا إلى
إعمال الهوى في النص، وإلى تغيير العقائد والخروج على الشرع. إن الجهل بعلم
الكلام علم، والعلم به جهل؛ لأن الجهل به رجوع إلى البديهة وعود إلى مقاصد
الوحي، الإنسان والطبيعة، العلم به انحراف عن الإنسان، وقلب لمقاصد الوحي أو
ترك للعالم، واستبدال الوقائع بموضوعات جدلية من وضع العقل الجدلي، لم يؤدِّ
الكلام إلا لغير غرضه، فإذا كان غرضه الدفاع عن العقيدة وتثبيت الإيمان، فإنه
قد أدَّى إلى إضعاف العقيدة وإلى جعلها أكثر تعرضًا للنقد والتجريح، كما أدَّى
إلى ضياع الإيمان كليةً بما يروِّجه العلم من آراء ومذاهب لا تُرضي العقل ولا
تُصلح من الأمور شيئًا.١٨ ولم يحرمه الفقهاء وحدهم بل تناوله بالنقد والتجريح الحكماء
والصوفية؛ فهو علم لا يفيد الذكي، ولا ينتفع به البليد، صعب على العامة لا
يمكنهم فهمه ولا ينفع الخاصة الذين فهموه، هو علم بلا جمهور إلا من الخاصة
المتحذلقين نظرًا، العاجزين عملًا، أو من العامة المتشبهين بالخاصة في الحذلقة
والادعاء أو في القدرة الوهمية. لا يوجد شيء في هذا العالم إلا ويمكن للعقل أن
يرفضه، ويرد عليه، ويفنِّده؛ فلا هو برهن على صدق الإيمان ولا هو ترك الإيمان
بالتسليم خاصة إذا كان من علم الكلام الأشعري.١٩ رفضه الحكماء لأنه تفكير نظري بُدائي على الدين، ما زال يستعمل لغة
الدين الخاصة، وليست لغة الفكر العامة، وما زال يعتمد على الحجج النقلية وليس
على الحجج العقلية، ما زال الله فيه ذاتًا مشخصةً أو مجردةً وليس كونًا أو
عالمًا، ما زال «ثيولوجيًّا»، ولم يتحوَّل بعدُ إلى «أنثروبولوجيًّا».٢٠ وقد نقده الصوفية من حيث منهجه الذي يعتمد على الجدل وليس على
الرياضة والمجاهدة، ويعتمد على العقل كالفلسفة والأصول وليس على القلب، يستعمل
مناهج النظر وليس طريق الذوق، كما نقد الصوفية موضوعه في أنه يتناول كلام الله
وليس ذات الله، ويجعل الله تصورًا وليس وجودًا، منزَّهًا وليس مدركً محسوسًا،
ويقع في النهاية في ثنائية الإنسان والله أو العالم والله دون أن يصل إلى توحيد
شامل في أحد صورتَيْ «وحدة الشهود» أم «وحدة الوجود».٢١ فليس هناك علم أجمع العلماء على تحريمه أو نقده أو رفضه أكثر من
علم الكلام؛ فقد رفض الفقهاء والفلاسفة والصوفية جميعًا الاشتغال به لتناوله
موضوعات خاطئة، كانت بدعةً وفتنةً وكفرًا، وأفضل رد عليها هو «التوقف عن
الحكم»؛ أي إلغاء المشكلة من أساسها، والعودة إلى النص الخام دون التفريع أو
التنويع عليه.٢٢ وإذا كان الموقف هو التحريم التام لعلم الكلام باسم الشرع فلا يمكن
صياغة عقائد لأهل السنة لأن كل صياغة تعني إعمال الفكر أو تفسير النصوص، وهي
كلها اجتهادات ظنية في حين نجد بعض الفقهاء وقد حرم علم الكلام ثم صنَّف فيه
دفاعًا عن عقائد أهل السنة!
ويفضِّل بعض القدماء جَعْل علم الكلام فرض كفاية لا فرض عين، يجوز أن يشتغل
به الخواصُّ فقط دون العوام، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وهذا البعض هم
أهل العلم والفتيا، المتفقِّهون في الدين، الذين يقومون بمهمة الدفاع عن
العقائد ضد تشويش أهل البدعة لها، ولكن يظل العلم محجورًا على العوام، يقوم به
الخاصة قدر الحاجة وتحقيق المطلب، وكل زيادة على ذلك تُعتبر من فضول الكلام،٢٣ ولكن إذا كان علم الكلام ليس هو العلم التقليدي، بل هو العلم الذي
يمدُّ المسلمين بأيديولوجية العصر، يأخذ مصالحهم في الاعتبار، يدافع عن أراضيهم
وثرواتهم، يجنِّدهم في حزب، يكون إذن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ويكون واجب
كل فرد هو الفهم البسيط للأمور النظرية حتى يكون على وعي بالعمل، ولا يكون مجرد
آلة للطاعة والتنفيذ، علم أصول الدين فرض عين، لا بمعنى علم الكلام القديم،٢٤ ولكن بمعنى تأصيل النظر، وتأسيس القواعد التي يمكن بواسطتها إعادة
فهم الإسلام كنظام للحياة الفردية والجماعية، حاجة العصر فكرية واجتماعية
وسياسية، وعصرنا هو عصر الأيديولوجيات والمذاهب السياسية، وظيفة علم أصول الدين
تأسيس الأيديولوجية الإسلامية، وبيان وسائل تحقيقها بالفعل؛ وبالتالي تمَّحي
التفرقة التقليدية بين علم أصول الدين وعلم الفقه أو بين علم الأصول وعلم
الفروع أو بين علوم اليقين وعلوم الظن أو بين علوم النظر وعلوم العمل أو بين
علم التوحيد وعلم التشريع. إذا كان التوحيد تشريعًا للواقع، فالواقع توحيد
للتشريع، التشريع توحيد للواقع. إذا كان الخطر القديم قد أتى من النظر في
الحضارات المجاورة خطر التشويش على العقائد الجديدة، والطعن في الأنبياء
وصدقهم، وإنكار المعاد والحشر، فإن الخطر الآن على ثروات المسلمين واستقلالهم
وأراضيهم وشعوبهم؛ ومِنْ ثَمَّ لزم تغيير مضمون العلم طبقًا لنوعية الخطر
واتجاهه، والانتقال من «علم اللاهوت» إلى «لاهوت الأرض»، ومن «لاهوت النبوة»
إلى «لاهوت التحرُّر» ومن «لاهوت المعاد» إلى «لاهوت التنمية» أو «لاهوت
التقدُّم» أو باختصار «من العقيدة إلى الثورة»، والعلم قادر على تطوير نفسه
بنفسه طبقًا لنوعية الخطر واختلافه من المتقدمين إلى المتأخرين.٢٥
إذا كان علم الكلام قد وضع موضع الاتهام من العلوم التقليدية الأخرى، ووقع
الهجوم عليه من علوم الفقه والفلسفة والتصوف، فإنه لم يهاجم أي علم ولم يوضع أي
علم تقليدي آخر موضع الاتهام إلا في أقل الحدود؛ ربما لأن علم الكلام كان أولها
في الظهور والتكوين، فلم يتم التعرف على العلوم الأخرى إلا في وقت متأخر؛ وفي
هذا الوقت انشغل علم الكلام بحروبه الداخلية وبصراع الفرق وهجومها المتبادل أو
بالرد على الملل والنحل الخارجية التي غزَت الحضارة وانتشرت، وأصبحت تمثل خطرًا
على الفكر الجديد الناشئ؛ ربما لأنه لم يكن هناك علم كلام واحد يتحدَّث باسم
التوحيد ضد الأنماط الفكرية الأخرى، فقد اقتربت المعتزلة من الفلاسفة، واقترب
الشيعة من الصوفية، واقترب الأشاعرة من الفقهاء وأهل السنة، فوجدت كل فرقة
حليفًا في أحد العلوم ضد الفرق الأخرى، ومع ذلك نجد إشارات بسيطة في الهجوم على
بعض النظريات الفلسفية وعلى رأسها قِدَم العالم أو قِدَم المادة أو وصف
الفلاسفة لعالم الأفلاك أو لإثباتهم وجود التصورات في الخارج، كما نجد أيضًا
نقدًا للتصوف في نظرياتهم عن الحلول والاتحاد.٢٦ ومع ذلك يظل علم الكلام في قفص الاتهام، ويظل السؤال قائمًا: هل
علم الكلام علم؟ وبأي معنى؟ وتحت أي شروط؟
١
يقسم الغزالي الناس إلى أربع فرق: الأولى العامة، وهي التي كتب لها
«إلجام العوام عن علم الكلام»، وجعل مراتب إيمانها سبعًا: التقديس،
والإيمان، والتصديق، والاعتراف بالعجز، والسكوت عن السؤال، والإمساك عن
التصرُّف في الألفاظ بلا تفسيرٍ أو تأويلٍ أو تصرُّفٍ أو تفريعٍ أو
جمعٍ أو تفريق، وكف الباطن عن التفكير في هذه الأمور، ثم التسليم لأهل
المعرفة، «إلجام العوام» في «القصور العوالي»، ص٢٤٠. ولم نشأ تحليل كل
مضمون هذا المصنف لأنه ليس مصنفًا كلاميًّا تقليديًّا، بل هو مصنف
يتناول موضوعًا جزئيًّا فقط، وهو وجوب العلم وشرعيته.
٢
انظر بحثنا: «المحرمات الثلاث»، «قضايا معاصرة (٤): في اليسار
الديني».
٣
انظر الفصل الثالث: نظرية العلم.
٤
وهذا ما أثبتته الثورة الإسلامية في إيران ودور الجماهير
فيها.
٥
ولهذا السبب قمنا في أول حياتنا العلمية السياسية بترجمة رسالة
اسبينوزا في اللاهوت والسياسة؛ انظر الرسالة؛ خاصةً من الفصل السادس
عشر حتى الفصل العشرين.
٦
هذه هي الفرقة الثانية عند الغزالي، ويقول واصفًا إياهم: «فأكثر
الكَفَرة أسلموا تحت ظلال السيوف؛ إذ يفعل الله بالسيف والسنان ما لا
يفعل بالبرهان واللسان» (الاقتصاد، ص٨). وفيهم قال الشافعي:
وبعد استعمال سلاح التكفير في عصرنا ظهرت أدبيات السلطة في تكفير
المسلِم، وأدبيات المعارضة في تحريم تكفير المسلم اعتمادًا على الآيات
مثل: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وأحاديث مثل: «من قال لأخيه أنت
كافر فقد باء بها.»
فمن منح الجهال علمًا أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
٧
انظر الفصل الثالث: نظرية العلم.
٨
يعرض القرآن لذلك في قوله: وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي (٢: ٢٦٠).
٩
هذه هي الفرقة الثالثة عند الغزالي وينصح: «فهؤلاء يجب التلطُّف بهم
في معالجتهم بإعادة طُمأنينتهم، وإماطة شكوكهم بما أمكن من الكلام
المقنع المقبول عندهم، ولو بمجرد استبعاد وتقبيح أو تلاوة آية أو رواية
حديث أو نقل كلام من شخص مشهور عندهم بالفضل» (الاقتصاد، ص٨).
١٠
هذه هي الفرقة الرابعة عند الغزالي وينصح أيضًا: «فهؤلاء يجب التلطف
بهم في استمالتهم إلى الحق، وإرشادهم إلى الاعتقاد الصحيح، لا في معرض
المحاجَّة والتعصُّب، فإن ذلك يزيد في دواعي الضلال، ويهيج بواعث
التمادي والإصرار» (الاقتصاد، ص٨-٩).
١١
الإنصاف، ص٢١-٢٢.
١٢
شرح الفقه، ص٣.
١٣
«كيف يكون لها شرف وهو بدعة مذمومة في الشرع غاية الذم حتى بالغ
الفقهاء في المنع عن الاشتغال به وطعنوا فيه» (حاشية الإسفراييني، ص٩).
«وإلى التحريم ذهب الشافعي ومحمد ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع
أئمة الحديث من السلف، وساق ألفاظًا عن هؤلاء، وأنهم قالوا ما سكت عنه
الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح، فما ترتيب الألفاظ من سائر
الخلائق إلَّا لما يتولَّد منه من الشبه؛ ولذا قال الرسول: «هلك
المتَنطِّعون»؛ أي المتعمِّقون في البحث، واحتجُّوا أيضًا بأن ذلك لو
كان من الدين لكان أهم ما يأمر به الرسول، ويعلم طريقه ويُثني على
أربابه» (شرح الفقه، ص٣). «القول بالرأي والعقل المجرد في الفقه
والشريعة بدعة وضلالة فأولى أن يكون ذلك في علم التوحيد والصفات بدعة
وضلالة، قال البزدوي في أصول الفقه إنه لم يَرِد في الشرع دليل على أن
العقل موجب، ولا يجوز أن يكون موجبًا وعلة بدون الشرع؛ إذ العلل
موضوعات الشرع، وليس إلى العباد ذلك؛ لأنه ينزع — أي يسوق — إلى الشرك؛
فمن جعله موجبًا بلا دليل شرعًا فقد جاوز حد العباد، وتعدَّى عن حدود
الشرع على وجه العناد» (شرح الفقه، ص٦-٧).
١٤
«ولهذا لم يُنقل عن الصحابة الخوض في هذا الفن لا بمباحثه ولا بتدريس
ولا بتصنيف بل كان شغلهم بالعبادة والدعوة إليها وحمل الخلق على
مراشدهم ومصالحهم في أحوالهم وأعمالهم ومعاشهم فقط» (الاقتصاد، ص٧-٨).
«إنه بدعة لم ينقل عن النبي والصحابة والاشتغال به، وكل بدعة ردة.»
(المواقف، ص٥٩).
١٥
«قال الشافعي: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المُسَمَّى أو غير
المُسَمَّى فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له، وعند أبي يوسف أنه لا
تجوز الصلاة خلف المتكلِّم، وإن تكلَّم بحقٍّ لأنه بدعة، وقال بعض
السلف: من طلب التوحيد بالكلام فقد تزندق» (حاشية الإسفراييني، ص١٤).
«وعنه أيضًا (أبو يوسف): من طلب العلم بالكلام تَزَنْدق، ومن طلب المال
بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث فقد كذب. وقال الإمام الشافعي:
حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في
العشائر والقبائل، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على
كلام أهل البدعة. ومن كلامه أيضًا: لئن يلقى الله العبد بكل ذنب خلا
الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام. وقال: لقد اطلعت من أهل
الكلام على شيء ما ظننت مسلمًا يقوله. وذكر أصحابنا في الفتاوى أنه لو
أوصى لعلماء بلد لا يدخل المتكلمون، ولو أوصى إنسان أن يوقفَ من كتبه
ما هو من كتب العلم فأفتى السلف أنه يُباع ما فيها من كتب الكلام …
وقال مالك لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء … أراد بأهل الأهواء أهل
الكلام على أي مذهب كانوا. وقال أحمد بن حنبل: علماء الكلام زنادقة،
ولا يصلح صاحب الكلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في علم الكلام إلا
وفي قلبه غل» (شرح الفقه، ص٣–٥).
١٦
«من أنس من نفسه تعلم الفقه أو الكلام، وخلا الصقع عن القائم بهما،
ولم يتسع زمانه للجمع بينهما، واستفتى في تعيين ما يشتغل به منهما
أوجبنا عليه الاشتغال بالفقه، فإن الحاجة إليه أعم، والوقائع فيه أكثر،
فلا يستغني أحد في ليله ونهاره عن الاستعانة بالفقه، واعتوار الشكوك
المحوجة إلى علم الكلام بادٍ بالإضافة إليه، كما أنه لو خلا البلد عن
الطبيب والفقيه كان التشاغل بالفقه أهم لأنه يشترك في الحاجة إليه
الجماهير … ويدلك على أن الفقه أهم العلوم اشتغال الصحابة بالبحث عنه
في مشاوراتهم ومفاوضاتهم، ولا يغرنك ما يهول به من يعظِّم صناعة الكلام
من أنه الأصل والفقه فرع له، فإنها كلمة حق ولكنها غير نافعة، فإن
الأصل هو الاعتقاد الصحيح والتصديق والجزم، وذلك حاصل بالتقليد والحاجة
إلى البرهان ودقائق الجدل» (الاقتصاد، ص١٠). «من العقائد الباطلة الخوض
في علم الكلام، وترك العلم بأحكام الإسلام المستفادة من الكتاب والسنة
وإجماع الأمة حتى إن بعضهم يجتهد ثلاثين سنة ليصير كلاميًّا ثم يدرس
فيه ويتكلَّم بما يوافقه، ويدفع ما ينافيه، ولو سُئل عن معنى آيةٍ أو
حديث أو مسألة مهمة من الفروع المتعلِّقة بالطهارة والصلاة والصوم كان
جاهلًا عنها وساكتًا فيها مع أن جميع العقائد الثابتة موجودة في الكتاب
قطعيًّا وفي السنة ظنيًّا» (شرح الفقه، ص٥). وقال الإمام
الشافعي:
وذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية، وهو كلام مستحسن عند أرباب
العقول إذ كيف يُرام الوصول إلى علم الأصول بغير اتِّباع ما جاء به
الرسول. ولله در القائل في هذا القول:
(شرح الفقه، ص٢-٣).
كل العلوم سوى القرآن مَشْغَلة
إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدَّثَنا
وما سوى ذاك وسواس الشياطين
أيها المغتدي لتطلب علمًا
كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحِّح أصلًا
كيف أغفلت علم أصل الأصول
١٧
كان واصل بن عطاء عالم لغة، ثم غلب عليه الكلام، وكان عمرو بن عبيد
زاهدًا.
١٨
«وما نُقل عن السلف من الطعن فيه فمحمول على ما إذا قصد التعصب في
الدين وإفساد عقائد المبتدئين، والتوريط في أودية الضلال بتزيين ما
للفلسفة من مقال» (شرح المقاصد، ص١٧). «وأمَّا ما ورد عن السلف من
النهي عنه فمحمول عند المحققين على ما يكون على وجه التعصُّب لا على
وجه طلب الحق، وعلى وجه إفساد عقائد المبتدئين بإلقاء الشبه بدون حلها،
وعلى وجه تزيين الآراء الفاسدة إفسادًا للدين، وغشًّا لعامة المسلمين»
(أشرف المقاصد، ص١٧). وأمَّا ما دفع من كراهة أكثر أهل السلف وجمع من
الخلق ومنعهم من علم الكلام، وما يتبعه من المنطق، وما يقربه من المرام
حتى قال الإمام أبو يوسف لبشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل
بالكلام هو العلم. وكأنه أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته فإذ ذلك علم
نافع، أو أراد به الإعراض عنه، وترك الالتفات إلى اعتباره، فذلك يصون
علم الرجل وعقله فيكون علمًا بهذا الاعتبار.
١٩
هذا هو نقد ابن رشد لعلم الكلام في «مناهج الأدلَّة» من وجهة نظره
كفقيه؛ إذ يتفق مع نقد الفقهاء له، ونتائجه تتفق مع نتائج الفقهاء لا
مع نتائج الحكماء التي عبَّر عنها ابن رشد في «تهافت التهافت»، وفي
«فصل المقال» وفي شروحه على أرسطو، ولم نشأ الإفاضة في نقد ابن رشد
لعلم الكلام لأننا لم نتناول بالتحليل إلا المصنفات الكلامية دون
الأعمال الجزئية، ومحاولة ابن رشد يمكن أيضًا وضعُها على حساب موقف
ابن رشد الفيلسوف، وتدخل ضمن نقد الفلسفة لعلم الكلام وتجاوزها
له.
٢٠
هذا هو نقد ابن سينا لعلم الكلام المتناثر في موسوعاته الثلاث:
«الشفاء»، «النجاة»، «الإشارات والتنبيهات»، وهو أدخل في نقد الفلسفة
لعلم الكلام، موضوع الجزء الثاني «فلسفة الحضارة».
٢١
يعتبر نقد الغزالي لعلم الكلام في «إلجام العوام عن علم الكلام» من
وجهة نظره كفقيه مثل باقي الفقهاء. ولكن نقد الصوفية للعلم فمتناثر في
معرض نقدهم لأساليب النظر وضمن نقدهم للفلسفة.
٢٢
هذا هو موقف ابن حنبل في توقُّفه عن القول بخلق القرآن أو
قدمه.
٢٣
«اعلم أن التبحُّر في هذا العلم والاشتغالَ بمجامعِه ليس من فروض
الأعيان، وهو من فروض الكفايات؛ إذ ليس يجب على كافة الخلق إلا التصديق
الجازم، وتطهير القلب عن الريب والشك في الإيمان، وإنما تصير إزالة
الشك فرض عين في حق من اعتراه الشك، إزالة الشكوك في أصول العقائد
واجبة، واعتوار الشك غير مستحيل، وإن كان لا يقع إلا في الأقل، ثم
الدعوة إلى الحق في البرهان مهمة في الدين، ثم لا يبعد أن يثور مبتدع
ويتصدَّى لإغواء أهل الحق بإفاضة الشبهة فيهم، فلا بد ممن يقاوم شبهته
بالكشف، ويُعارض إغواءه بالتقبيح، ولا يمكن ذلك إلا بهذا العلم، ولا
تنفكُّ البلاد عن أمثال هذه الوقائع، فوجب أن يكون في كل قطر من
الأقطار، وصقع من الأصقاع قائم بالحق، مشتغل بهذا العلم، يقاوم دعاة
المبتدعة، ويستميل المائلين عن الحق، ويصفي قلوب أهل السنة عن عوارض
الشبهة، فلو خلا عنه القطر خرج به أهل القطر كافة كما لو خلا عن الطبيب
والفقيه» (الاقتصاد، ص٩-١٠). «فصل: اعلم أن المناظرة في الدين جائزة …»
(البحر، ص٤). «تعلُّم علم الكلام والنظر فيه والمناظرة وراء قدر الحاجة
منهي عنه، وتعلُّم علم النجوم قدر ما يعلم به مواقيت الصلاة والقبلة
لا بأس به، والزيادة حرام» (شرح الفقه، ص٥).
٢٤
«وحكم الشارع فيه الوجوب العيني على كل مكلف من ذكر وأنثى» (التحفة،
ص١٣).
٢٥
«فالحزم ترك التواني، وفي الكشف عن حقيقة هذا الأمر، فما هؤلاء مع
العجائب التي أظهروها في إمكان صدقهم بالبحث عن تحقيق قولهم بأقل من
شخص واحد يُخبرنا عن خروجنا من دارنا ومحل استقرارنا بأن سبعًا من
السباع قد دخل الدار فخذ حذرك، واحترز منه لنفسك جهدك فإنَّا بمجرد
السماع إذا رأينا ما أخبرنا عنه في محل الإمكان والجواز لم نقدم على
الدخول وبالغنا في الاحتراز، فالموت هو المستقر والوطن قطعًا فكيف لا
يكون الاحتراز لما بعده مهمًّا» (الاقتصاد، ص٦). «فهذه عبارة
المتقدمين، أمَّا عبارة المتأخرين …» (جامع زبد، ص٢٩).
٢٦
سنخصص الجزء الثامن: «الإنسان والتاريخ من هذا القسم الأوَّل:
«موقفنا من التراث القديم» لصراع العلوم التقليدية الأربعة مع بعضها
البعض محاولين إيجاد وحدة الحضارة من جديد من خلال وحدة العلم. انظر
أيضًا: «التراث والتجديد»، (ص١٩٩–٢٠٣)، (ص٢٠٨-٢٠٩).