ليلة

في ليلة من ليالي ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة للهجرة، كانت مدينة باجة بالأندلس يلفُّها ظلام دامس بعد أن ظهر القمر في طليعة الليل قليلًا، يرسل شعاعه في رعدة وضعف، حتى إذا دنا من الغرب، التقمته لُجَّة الليل، فغاص فيها وترك وراءه المدينة في تجهم وسكون وحداد، وكانت الرياح تعصف من الجنوب والشرق شديدة عاتية، فتسوق السحائب أمامها بسياط من البروق، وتزجرها بهزيم من الرعد غاضب عنيف، وكانت النجوم لا تكاد تطلُّ من بين ثنايا هذه السحائب الراجفة المسرعة حتى تختفي، كأنها لمحات الأمل الكاذب يلتمع في سواد الخطوب، أو تلويح الغريق جاءه الموج من كل مكان، فهو يرسب ويطفو، حتى يحول الموج بينه وبين الحياة.

فزع الناس إلى بيوتهم في هذه الليلة الليلاء، والتجأ المسافرون إلى فنادقهم، وخلت الدروب من السابلة، فلا يجد المطل من خلال نافذته، إلا العسس والحرَّاس يذهبون ويجيئون، وبأيديهم العصي الغليظة يضربون بها الأرض في عنف وقوة، حتى يعلم من لم يكن يعلم من اللصوص وقطَّاع الطرق، مقدار صولتهم ومدى فتكهم.

وكان يُسمع بين الحين والحين عواء كلب أضرَّ به البرد، وآذاه المطر، فالتجأ إلى حائط يعصمه من الماء، وأخذ يرتعد ارتعاد المقرور، ويرسل صوتًا مستطيلًا حزينًا، زاده سواد الليل وهدوءه همًّا وحزنًا.

وسكتت الطيور في عشاشها فوق أشجار الزيتون والتين، إلا بومة سكنت في جحر من بيت خرب، راحت ترسل نعيبًا مؤلمًا، تنقبض له النفس وتضطرب الأعصاب، ويوحي بالموت والفجيعة والدمار.

في تلك اللحظة — وكان الليل في منتصفه — التقى أحد العسس بزميل له في أثناء دورته، فما كاد يراه حتى سُرّي عنه، وتولى من نفسه عارض الهمّ والخوف؛ لأنه في الحق كان خائفًا، على أنه يرضى أن يموت بين براثن الأخطار المحدقة، ولا يرضى أن يقول قائل: إن أبا عوف الخزاميَّ خاف مرة في حياته!

إنه جندي قديم خاض غمار الحروب الطاحنة المستمرة بين المسلمين ومغيرة الإسبان، وطالما قذف بنفسه بين الصفوف، والموت جذلان ينظر، فلم يبال بالموت، ولم يأبه للحياة.

كان أبو عوف قوي العضل، ضخم الجسم شعشاعًا، دبّ الشيب قليلًا في عوارض لحيته، ولكنه كان على قوته الجسمية التي كانت في مقتبل شبابه مضرب الأمثال، ساذجًا بطئ الفهم قليل التفكير؛ كثير الغفلة، يؤمن بالخرافات إيمان الواثق، ويصدِّق أقاصيص الجن والشياطين تصديق العجائز.

وقد عرف مخالطوه فيه هذا الضعف، فأكثروا من تنميته واستغلاله.

أحس أبو عوف في هذه الليلة خوفًا ورهبة، زاد فيهما نعيب البومة، وهدوء الليل، وانقطاع الطريق من السابلة، فبدت أمام عينيه أشباح مخيفة غريبة الخلق، مرة تبتسم له، وأخرى تعبس مهددة متوعدة، وهو بين ذلك يحاول أن يغمض عينيه؛ ليفر من هذه المخلوقات المنكرة، فلا يزيده الإغماض إلا نكالًا؛ لأنه إذا أغمض رأى أصنافًا أشد بشاعة، وأعظم نكرًا. أخذ يهز رأسه هزًّا شديدًا، وحاول أن يرفع صوته بأنشودة فلم يستطع، ثم شرع يضحك ضحك الهاذي المحموم؛ ليقوي من نفسه، وليدعو إليه شجاعته، وليظهر عدم مبالاته، فكانت الضحكات خافتة، أشبه بفحيح الأفاعي أو نقيق الضفادع، منها بضحك المرح والسرور.

كان في تلك الحال حينما التقى بزميله أبي عبد الله الشنتمريّ، فما كاد يراه حتى أخذ يبل شفتيه بلسانه، ويمسح بيديه على وجهه مسحًا عنيفًا، كأنه كان يريد أن يمحو منه كل أثر للخوف، ثم تنحنح قليلًا باحثًا عن صوته الذي كاد أن يذهب به الفزع، وبعد أن حيَّا صاحبه قال: يا لهذه الليلة!! كأن أرواح الجن جميعًا انطلقت فيها من قماقم سليمان بعد طول احتباسها.

– أتصدّق أبا عوف، أن سليمان بن داود كان يحبس الجن في قماقم؟

– أأصدق؟! إن هذا السؤال منك لعجيب. إن سليمان مُنح من الملك والقوة، ما لم يُمنحه أحد فيما كان، أو فيما يكون.

– هل كان الجن صغارًا أقزامًا، لا يزيد الواحد منهم على قبضة اليد؟

– لا. إن الجن خلق ضخام الأجسام جدًّا، حتى إنهم ليستطيعون أن يصلوا بأيديهم إلى الشمس، ليقتبسوا منها جذوة إذا أرادوا.

– وهل تظن أن هؤلاء — مع ما ذكرت من ضخامتهم — يُستطاع حبسهم في قماقم لا تكاد تتسع لهريرة؟

– إن القماقم تتسع، أو هم يصغرون.

– إذا اتسعت القماقم لم تكن قماقم، وإذا صغرت الجنّ لم تكن جنًّا.

– إن لعقلك أبا عبد الله لفتات ودورات، وفروضًا تدعو إلى الحيرة والارتباك، وإني لا أحب أن يتخذ الحوار هذه الطرق الملتوية؛ لأنني أفكر في طريق مستقيم، ولا أريد أن أجهد عقلي بهذا التشعب الذي لا يؤدي إلى شيء. الجن جنّ، والقماقم قماقم، وقد سمعنا من أمهاتنا، ومن شيوخ القصاصين: أن سليمان كان يحبس الجن في قماقم، وهذا كافٍ، فدعنا من هذا بحقك … أرأيت في حياتك مثل هذه الليلة؟

– إنها — بلا شك — ليلة شديدة الأنواء، عاصفة الرياح منهمرة المطر، وقليلًا ما نجد لها مثيلًا في هذه الولاية من الجزيرة … غير أني علمت من أبي: أنه في شتاء السنة التي حدثت فيها الفتنة بقرطبة، اشتدت الأنواء، وأنذرت السماء بالصواعق، وكاد المطر يهدم الدور، حتى ظنّ بعض الناس أن ذلك كان غضبًا من السماء، وإنذارًا بالويل والعذاب، لما شاع بين المسلمين — وبخاصة الأمراء والوزراء وجماعة المثرين المستهترين — من الانغماس في الشهوات، والاستسلام للنعيم، وإهمال شئون الدولة إهمالًا كاد يذهب بريحها، ويلقي بها في أيدي أعدائنا الإسبان الذين يتربصون بنا الدوائر، والذين لا ينسون أن لهم عندنا ثارًا. بعد هذه الحادثة السماوية، وقعت الفتنة بقرطبة، بين محمد بن هشام المهدي وسليمان الملقب بالمستعين، وقد كانت فتنة شعواء ضلَّت فيها العقول وانحطّت الدولة، واستعان كلا الأميرين بالأذفونش (الفونسو) على صاحبه، واشتد الحصار على قرطبة ونهبها البربر وعرب زناتة والرعاع.

– حقًّا إنها لحادثة مفجعة … لقد كنت في الخامسة عشرة في ذلك العهد، وأذكر أن أبي كان كثير الاهتمام بالأمر، يستطلع الأخبار من البريد القادم من قرطبة في كل يوم، وكان أبي جنديًّا شجاعًا، ولكنه كان مولعًا بقراءة التاريخ، وقد أنفق نصف ماله على الوراقين الذين كانت لهم أساليب الأبالسة في اجتذابه إليهم، لشراء كتب عتيقة بالية، يزعمون أنها جاءت من المشرق، حتى لقد ضاقت نفسي بذلك الإسراف يومًا فلم أستطع عليه صبرًا، فقلت: يا أبي لقد أضعفت بصرك بقراءة هذه الكتب، وهؤلاء الورّاقون لصوص أدنياء، وقد استلانوا منك مغمزًا فأخذوك بحيلهم الخدّاعة، وكتبهم الكاذبة الزائفة.

فاتجه إليّ ولمحات الغضب في عينيه، وقال: اعلم يا بني أن العقل عقلان: مولود، ومكتسب. فأخذتني الدهشة، وقلت: إذا كانت عقبى قراءة الكتب يا أبي، أن تزعم أن العقل عقلان، فهذا في الحق ما كنت أخشى عليك منه؛ فضحك أبي، وهزَّني من كتفي، وقال: هوّن عليك أبا عوف، أنت ثور وحشي صغير!

– وقد أصبحت الآن ثورًا كبيرًا.

– ذاك مزاح مضى وقته … أليس من العجب ألا يفهمني الناس؟، وأنني كلما صدعت برأي، تهامسوا أو ابتسموا كأن الله أنزل عليهم حكمة داود دوني!! منذ شهرين عزم ابني محمد على التزوج بفتاة نصرانية شغفته حبًّا، فذهبنا إلى قاضي العقود، فلما همّ بعقد الزواج طلب شاهدين، فبصَّرته بأنه يجب أن يكون أحدهما نصرانيًّا؛ ليكون المسلم شاهدًا على الزوج، والنصراني شاهدًا على الزوجة. فابتسم وصرف وجهه عني في صلف وغرور يعرف هؤلاء الفقهاء كيف يتقنونه، فلما ألححت، مد عينيه فيّ من قمة رأسي إلى جوف أخمصي، وقال: ما لك ولهذا أبا عوف؟! إنما أنت رجل حرب وجلاد، فدع ما لغيرك لغيرك. فغضبت وقلت: لو لم أكن رجل حرب، ولو لم أدفع عنك وعن أمثالك صولة الإسبان بسيفي وبساعدي، لكنت اليوم من سكان القبور، وما استطعت أن تنظر إليّ — كما تفعل الآن — نظراتك إلى حيوان عجيب الخلق، ولذهب علمك وفقهك اللذان تتبجح بهما طعمة للسيف والنار. فسكت الرجل على دخل، ومن العجب أنه تمسّك برأيه، وعقد الزواج بشاهدين مسلمين.

– دعنا من هؤلاء الفقهاء أبا عوف، فإن بينك وبينهم بعد ما بين باجة وأربونة … أسمعت تلك البومة التي أخذت تولول بصوت مفزع مليء بالأحزان؟!

– سمعتها وتشاءمت منها أشد التشاؤم، وأعتقد أنها نذير سوء.

– تلك أوهام أبا عوف، فإن ما كان يكون:

وما غراب البين
إلا ناقة أو جمل

وبينما هما في حديثهما؛ إذ سمعا خطوات أشباح في الظلام، يدنو صوتها إلى حيث وقفا، فقال أبو عبد الله: لا بد أن أمرًا ذا بال دفع هؤلاء الناس إلى النزول في هذه الليلة القاسية.

وما كاد يأخذ في الحديث، حتى مرت بهما طائفة من حرس الوالي عبّاد بن أبي القاسم وبينهم امرأة متلففة بالصوف، مجلّلة بالسواد، وقد حملها الخدم في محفّة غطيت بنسيج من الكتان الغليظ لا يكاد ينفذ منه المطر. فوقفت المحفة قليلًا، وسأل أبو عبد الله عن الخبر، فأجابه جوهر السوداني: بأن امرأة الأمير جاءها المخاض في منتصف الليل، وأنهم أحضروا لها نزهة الغرناطية القابلة (وأشار إلى المرأة التي بالمحفة). حينئذ ساروا جميعًا إلى قصر الأمير، وكان قصرًا فخمًا بني على الطراز العربي، وزخرف بعجائب الصنعة ودائع الفنون، وقد أطل النور من جميع نوافذه ومشارفه، وكان الخدم والجواري في شغل شاغل يجيئون ويذهبون.

فدخلت القابلة القصر، وجلس أبو عوف مع الحراس في بناء أُعدّ لهم، حتى إذا مضت ساعة أو ساعتان، علت الأصوات في القصر، وانبسطت الوجوه، ونزلت جارية تثب فوق درجات السلم وثبًا، وهي تصيح في لغة عربية متكسرة تمتزج بالرطانة الإسبانية: البشرى … البشرى … ولدت الأميرة … ولدت بنت مجاهد … إنه غلام … إنه غلام … إنه جميل جدًّا. حينئذٍ سحب أبو عوف عصاه، وهو يرددُ: إنه غلام … إنه غلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤