الزلاقة

رفرف على شاطئ الأندلس عند الجزيرة الخضراء، مائة شراع يعبث بها النسيم، وتتخايل فوقها الرايات.

وكانت السفن تعج بالمجاهدين من البربر، وعرب زناته، وتزخر بالخيل والجمال، ومعدات القتال: فكان الصهيل فيها يختلط بالهدير، وأصوات المقاتلين تمتزج بصليل السيوف وقعقعة الرماح، والركاب فوقها في حركة دائبة، وضوضاء صاخبة.

وأبناء الصحراء من البربر يطلون على شاطئ الأندلس في ذهول وإعجاب، وقد طرزت حواشيه الرياض والمروج، وانتثرت فيه الكروم وأشجار التوت والزيتون والتين.

لقد كانوا في السعير فأقبلوا إلى النعيم، وكانوا في الجدب المحرق، فأشرفوا على الخصب والعيش الرخيم.

وحينئذٍ التفت سَيرُ بن أبي بكر — أكبر قواد ابن تاشفين — إلى القائد داود ابن عائشة قائلًا: يا داود. إن هذه البلاد هي الجنة التي كنتم توعدون، وأعجب من فاتح يضع فيها قدمه ثم يستطيع أن يفارقها.

– إن الجنة تحف دائمًا بالمكاره، ولا تخلو من وسوسة الشياطين. ثم إن ما في هذه البلاد من الرفه واللهو والجمال، يستلب من الفاتح كل صفات الرجولة والحمية، ويفقده صفات البداوة، حتى يعود أضعف من ذات خمار، ونحن العرب، خُلقت أخلاقنا من صخور الصحراء، فلا نعيش إلا في الصحراء، فإذا خرجنا منها فسدنا، كما يفسد السمك إذا خرج من الماء … أمامك تاريخ العرب كله، فاقرأه ثم انظر إلى ما هو أمامك من أمر ملوك الأندلس، وتأمل لماذا قدمنا اليوم إلى هنا.

– أنت رجل عميق الغور، ولكني أخشى أن تكون مخطئًا … أتظن أن فاتحًا عظيمًا يعزف عن هذا الملك العظيم، وهو في قبضة يده، لهذه الأوهام والأباطيل؟!

– ليست أوهامًا، وليست أباطيل، وإنما هي الحق … خير لنا أن نقيم بصحرائنا أقوياء أشداء، من أن ننغمس في مدينة كاذبة قصيرة الأمد، تقضي على كل ما فينا من شجاعة ونخوة.

– أتفضل خبز الشعير على الفطائر المغموسة في الزبد والعسل؟!

– أفضله على الفطائر المسمومة.

وهنا صاح الجند: أمير المسلمين ينزل إلى الشاطئ.

وأقبل ابن تاشفين تحيط به الجنود: وهو رجل في الثمانين من عمره، ربعة، أميل إلى القصر، نحيف الجسم، أسمر اللون، في وجهه عينان كعيني النسر، وله لحية خفيفة جللها الشيب.

نزل ابن تاشفين إلى الشاطئ فصلى بجميع جيشه، ثم أقبل عليه الرشيد بن المعتمد نائبًا عن أبيه، فقبّل يده، ورحب بمقدمه، وقدّم له الهدايا وصنوف المئونة ما يليق بكرم ابن عباد، وفرح أهل الجزيرة الخضراء، واستبشروا بقدومه، ورفعوا الرايات، وقدموا للجند من الطعام والتحف ما يستطيعون.

وبعد أيامٍ قدم المعتمد إلى الجزيرة الخضراء في ثلة من عسكره، فلما قابل ابن تاشفين تعانقا عناق الحبيب للحبيب، وامتزجت دموع السرور منهما بدموع الحب والإشفاق.

وفي هذه الأثناء كانت جيوش ملوك الطوائف تفد على إشبيلية براياتها وقوادها كأنها الأمواج تلتقي على شاطئ المحيط.

ثم تحركت جيوش ابن تاشفين إلى إشبيلية، وأقامت بها قليلًا، ووصل خبر قدوم جيش ابن تاشفين إلى ألفونسو وهو بطليطلة فنادى بالحشد العظيم، وجمع جموعًا كثيفة العدد من الجلالقة والفرنجة، وعزم على أن يقودها بنفسه.

ولما نظر فرأى جيوشه تسد الأفق، التفت إلى أكبر قواده الكونت الڤيرفانز، وتسميه العرب «البرهانس» وقال: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء.

وفي صباح اليوم، هب ألفونسو من نومه قلقًا؛ لأنه رأى رؤيا عجيبة لم يستطع لها تأويلًا، فجمع القساوسة النصارى وأحبار اليهود وقال: رأيت فيما يرى النائم: أني أركب فيلًا — والفيل ليس في بلادنا، ولم يخطر ببالي ذكر له قبل نومي — وأن أمامي رجلًا يدق طبلًا. فتحيروا في تعبير هذه الرؤيا، وقالوا: رأيت خيرًا أيها الملك، إن هذه الرؤيا دليل النصر، ولكن ألفونسو لم يثق بهم، وهز رأسه قلقًا مضطربًا، وتسرب أحد اليهود حتى أتى مسجد طليطلة، فقابل الشيخ أبا عبد الله المغامي وقص عليه الرؤيا، ونسبها لنفسه، فقال له الشيخ: كذبت، ما هذه الرؤيا لك، ولن أعبرها إلا إذا صدقتني.

فقال: إنها رؤيا الأذفونش. فقال الشيخ: الآن صدقت فلن يرى هذه الرؤيا غيره … اذهب بي إليه؟

فذهبا إلى ألفونسو، فقال له الشيخ: أيها الأذفونش! إن هذه الرؤيا تدل على بلاء عظيم، ومصيبة فادحة تقع عليك وعلى عسكرك، وتفسير الفيل في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وتفسير الطبل من قوله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِي * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ.

فهاج غضب ألفونسو وقال: والله لئن ظهر كذبك يا شيخ لأقطعن جسمك لكلاب الصيد. فابتسم المغامي وقال: وإن صدقت فلن تنالني يدك! ثم تحركت جيوش ألفونسو، وتحركت جيوش ابن تاشفين حتى وصلت إلى مكان بالقرب من بطليوس يعرف بالزلاقة، وأقام بعسكره بعيدًا عن عسكر ابن عباد، وهنا أرسل ابن تاشفين — على عادة الغزاة — كتابًا إلى ألفونسو يدعوه فيه إلى إحدى سبل ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال. فسخر ألفونسو من الكتاب، وبعث يقول لابن تاشفين: إن اليوم الخميس، وغدًا الجمعة وهو عيد المسلمين، وبعده السبت وهو عيد اليهود، ثم الأحد وهو عيد النصارى، وأرى أن نلتقي يوم الاثنين.

فقال المعتمد: إنها دسيسة من الطاغية، وأرسل عيونه إلى معسكر ألفونسو، فرأوا إسراعًا في الاستعداد والأهبة، وسمعوا همس الإسبان بأن الهجوم سيتجه أولًا إلى جيش ابن عباد.

وفي هذه الليلة، قام الوعاظ في الفريقين من المسلمين والقساوسة، يعظون الجنود ويحثونهم على الجهاد والصبر، والاستماتة في نصرة الحق، وكان ابن عباد يمر بين جيوشه ويقول:

لابد من فرج قريب
يأتيك بالعجب العجيب
غزو عليك مبارك
سيعود بالفتح القريب
لابد من يوم يكو
ن له أخًا يوم القليب

وفي صبيحة الجمعة، العاشر من رجب سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، لم يشعر جيش ابن عباد إلا وجموع ألفونسو المائجة تطبق عليه، فجالد المسلمون وصبروا عند الصدمة الأولى، ولكن قوة الإسبانيين وكثرة عددهم، كانت فوق طاقة الأندلسيين، ففر كثير من جند ابن عباد، ولكنه كان يقدم إقدام المستبسل المستميت، حتى لقد جرح صدره ويداه، وشدخ رأسه، وعقر تحته ثلاثة أفراس وهو لا يفتأ كارًّا واثبًا حتى انكشفت بعض أصحابه وفيهم ابنه عبد الله. ثم تحركت فيه عاطفة الأبوة في هذا المأزق الذي يخب الموت فيه ويضع، فذكر ابنًا له صغيرًا، وتركه عليلًا بإشبيلية، وكان به مغرمًا، فقال:

أيا هاشم هشمتني الشفار
فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج
فلم تثنني ذكره للفرار

وبينما كان ابن عباد يقاتل جيوش الإسبان، أرسل ابن تاشفين جنودًا إلى معسكر ألفونسو، وأمرهم بإحراق كل ما فيه من مئونة وعدة، فملأ لهيبه الجو.

ثم جاءت اللحظة الأخيرة التي وصل فيها ابن عباد إلى اليأس وكاد يلقي السلاح مستسلمًا، ولكنه ما كاد يهم بإغماد سيفه، حتى رأى جيوش داود ابن عائشة أحد قواد ابن تاشفين مقبلة عليه، فعاد إليه الأمل، وانضم ببقية من معه إليها.

وأقبل ابن تاشفين، بخيله ورجله، وعاد الفارون حينما لمعت لهم بوارق الانتصار، وصدق المسلمون الحملة، فشتتوا جيوش الإسبان.

وانكشف ألفونسو، ووثب عليه غلام بربري يدعى بلاطس، بخنجر، فضربه فقدَّ درعه وأصاب فخذه، ففرَّ بنحو خمسمائة من رجاله إلى تلٍّ بعيد عن المعركة، بعد أن فنى جيشه، وقُتلت أبطاله، ثم رحل إلى طليطلة يجر ذيول الخذلان.

وسجد ابن عباد لله شكرًا، وأرسل لابنه الرشيد بأنباء النصر على جناح طائر: وحزّ المنتصرون رءوس القتلى، وعملوا من رءوسهم مآذن ينادون من فوقها للصلاة، وقضوا الوقت في تهليل وتكبير.

ورأى ابن تاشفين جرح ابن عباد فاشتد أسفه، فقال المعتمد:

وقالوا: كفه جرحت. فقلنا:
أغاديةٌ تسيل بها الجراح؟!
وما أثر الجراحة ما رأيتم
فتوهنها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل البأس منها
ففيها من مجاريه انسياح

أما ألفونسو: فأمضه الحزن، وعضه عار الهزيمة، فلم يمكث بعد الموقعة أيامًا حتى مات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤