أسر

سارت السفن بابن عباد وأسرته وهم في غم ونواح: ملك زال كأنه ضحوة من نهار، وعز طار كأنه حلم نائم، وسطوة وسلطان حلَّ مكانهم الذل والإسار، فكان المعتمد دائمًا مطرقًا مفكرًا، وكان ينظر إلى قيده ويقول:

قيدي، أما تعلمني مسلمًا؟
أبيت أن تشفق أو ترحما!
يبصرني فيك أبو هاشم
فينثني القلب وقد هُشِّما

ولما بلغت السفن طنجة، رأى المعتمد جماعة بالبادية يستسقون لقلة المطر، وشدة الجفاف، فقال:

خرجوا ليستسقوا فقلت لهم: خذوا
دمعي ينوب لكم عن الأنواء
قالوا: حقيق في دموعك مقنع
لكنها ممزوجة بدماء!

ثم نقل إلى أغمات، وأودع السجن فقال:

غريب بأرض المغربين أسير
سيبكي عليه منبر وسرير
وتندبه البيض الصوارم والقنا
وينهلُّ دمع بينهن غزير

وكانت بناته يعشن في السجن من غزل أيديهن في فقر وكفاف عيش، فحل أول عيد له بالأسر، فدخلن عليه في أطمار بالية، وقد غيرهن البؤس، وأنحلهن السغب، فلما رآهن قال:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا
فساءك العيد في «أغمات» مأسورًا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس، لا يملكن قطميرًا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكًا وكافورًا!

ورأى من نافذة السجن، سربًا من القطا، يطير حرًّا طليقًا، فهاج وجده وأنشده:

بكيت إلى سرب القطا أن مررن بي
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
هنيئًا لها أن لم يفرق جمعها
ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل
ألا عصم الله القطا في فراخها
فإن فراخي خانها الماء والظل

وقتل المرابطون ابنه المأمون بقرطبة، وابنه الراضي برندة، فزاد جزعه واشتد حزنه، فقال:

يا غيم عيني أقوى منك تهتانا
أبكي لحزن وما حملت أحزانًا
بكيت «فتحًا» فإن ناديت سلوته
بدا «يزيد» فزاد القلب نيرانًا
يا فلذتي كبد يأبى تقطعها
عن وجدها بكما ما عشت سلوانا

ولم يزل في أنينٍ وحنين، يرسل الزفرات ويطوي صدره على اليأس، حتى أدركته منيته سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة.

ومن العجيب أن هذا الملك الذي سار في الخافقين ذكره، وهز أعطاف الزمان شعره، وكان اسمه على كل لسان، والثناء عليه يجلجل في كل مكان — ينادى للصلاة عليه بعد موته فيقال: الصلاة على الغريب!!

إن من الغريب أن يكون ابن عبّاد غريبًا!!

وبعد أيام من موته، قدم إلى «أغمات» شاعره أبو بكر بن عبد الصمد، وكان اليوم يوم عيد، فوقف على قبره خاشعًا باكيًا.

وحشد الناس حول القبر يبكون وينتحبون، ثم سكن الجمع، وأخذ ابن عبد الصمد ينشد:

ملك الملوك أسماع فأنادي
أم قد عدتك عن السماع عوادي؟!

وقرأ قارئ بصوت نديٍّ، شجيّ النبرات: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤