قتل

استقر الملك للمعتضد وتتابع الانتصار، واستمر الزمان يسير والأيام تتوالى، وبلغ محمد بن عباد الحادية عشرة، وكان قد أتقن القراءة والكتابة، وشدا في مبادئ العلوم، فأحضر له أبوه في القصر خير الأساتذة بالأندلس لتثقيفه وتلقينه، فكان يعيش بن دينار يدرس معه فقه الإمام مالك، وبقي بن مخلد تفسير القرآن، ومحمد بن أيمن الحديث، وإسماعيل بن القاسم الأدب والتاريخ، والخوفي النحو، وأبو القاسم الصفار التنجيم، ووكل إلى رئيس قواده تعليمه الفروسية وعلوم الحرب.

وكان الشاب محمد وسيم الوجه، زكي الفؤاد، صادق الحس، قوي العارضة، فسيح مدى الخيال، فيه كثير من الجرأة والشجاعة، وشيء من التهور والعجلة، وكان مولعًا بقراءة الشعر، وأكثر ما يعجبه فيه شعر الغزل والحماسة.

وقد استمرت دراسته ست سنين، خرج بعدها كامل التثقيف وافر العدة للملك والرياسة.

جلس إلى إسماعيل بن القاسم يومًا بعد أن تمكن في الأدب، فلما انتهى الشيخ من شرح قصيدة عمر بن أبي ربيعة:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر

وكان ابن عباد قاسيًا في نقدها، التفت إلى أستاذه وقال: ما يقول الشيخ في هذين البيتين:

أكثرت هجرك غير أنك ربما
عطفتك أحيانًا علي أمورُ
فكأنما زمن التهاجر بيننا
ليل وساعات الوصال بدور

فقال الشيخ: هذا شعر حسن. لمن هذان البيتان؟ فقال ابن عباد: وما تظن في هذه الأبيات؟؟

تظن بنا أمّ الربيع سآمةُ
ألا غفر الرحمن دنبًا تواقعهُ
أأهجر ظبيًا في فؤادي كناسه
وبدر تمام، في ضلوعي مطالعه؟
وروضة حسن أجتنبها، وباردًا
من الظلم، لم تُحظر عليّ شرائعه؟
إذًا عدمت كفي نوالًا تفيضه
على معتفيها، أو عدوًّا تقارعه

فطرب الشيخ وصاح: هذا والله الشعر، لمن هذا؟ فقال ابن عباد: للجالس بين يديك، الذي طابت بأدبك أصائله، وغنّت بلابله. فقال الشيخ: مرحى يا ابن مولاي مرحى!! هذا هو شعر الملوك، ومن سواك يقول مثله، وفيكم الرياسة والأدب والشعر منذ عهد ابن المنذر؟

خرج الشاب والعجب يملأ جوانبه، فالتقى بأخيه إسماعيل في أحد دهاليز القصر، فأنشده الأبيات فبهر إسماعيل وقال: ويلك يا محمد!! أغزل في هذا السن؟! والله لو علم أبوك ما سلمت من عصاه. فأجاب محمد: إن الناس يتناقلون لأبي كثيرًا من شعر الغزل.

– إن الكلب الغاضب ينبح، فإذا حاكيت نباحه وثب عليك.

– هذا تشبيه عجيب يا إسماعيل … أتشبه أبي بالكلب بعد أن قدمك على إخوتك وجعلك ولي عهده؟!

– أما تشبيهي إياه بالكلب، فقد سبقني إليه علي بن الجهم في مدح المتوكل العباسي حين قال:

أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوبُ

– ذلك كان أعرابيًّا جافيًّا جاء من البادية، ولم تصقله الحضارة، ولكن الله تعالى يقول: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث فدع المغالطة يا إسماعيل. ثم أين «أما» الثانية؟

– وأما ولاية العهد، فهي في يد الرحمن … الرجل كثير التقلّب يا محمد لا يثبت على حال، وعيونه حولك وحولي في كل مكان. أتعرف جاريتي «ماريا» التي تضرب الحاشية بها المثل في فنائها في حبي وطاعتي؟ أتعرف أنها جاسوسة له علي؟!

– جاسوسة؟!

– نعم جاسوسة، وقد حذرتني أمي منها بعد أن وعظتني طويلًا، ونصحتني بالاتبعاد عن الاتصال بالجنود، وبالتزام الطاعة في كل ما يأمر به أبي، ولقد يحسن بك أن تعلم أن الجارية «فلورا» تتجسس عليك أيضًا، وتنقل أخبار لهوك وعبثك إلى أبي.

– ومن أخبرك بهذا؟

– أخبرتني الجارية «صباح» لأنها رأتها تختلف إلى حجرة أبي، وهي تعلم أن الغيرة تنهش صدرها عليك؛ لما تظهر من الصبابة والغرام بالجاريتين: سحر، وجوهرة.

– ويل لابنة الأسبان …

– هذا ما يجب أن تخشاه يا محمد، أما أنا فما ذنبي؟!

– حدة الطبع والتشبث بالرأي، والعجلة التي تدعوك أحيانًا إلى جني الفاكهة قبل نضجها، وللفقهاء قاعدة مليحة يرددونها: «من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه».

وبينما هما يتحدثان، أقبل «صاعد» خادم المعتضد الخاص يدعو إسماعيل لمقابلة أبيه، فهرول مسرعًا، حتى إذا دخل عليه رآه مطرقًا عابسًا، فقال: اجلس يا إسماعيل … لمثل هذا اليوم أعددتك … أتعرف قرطبة؟ هي قصبة الأندلس جميعها … هي رقبتها، فإذا حزتها في قبضتي أخْفت الملوك جميعًا، وسيطرت عليهم جميعًا … خذ الجيش غدًا … وهات لي قرطبة بعد ثلاث أيام … قم.

فتلكأ إسماعيل وقال: ولكن يا مولاي، جيشنا قليل العدد، وإن بقرطبة جيشًا عظيمًا تؤيده العامة، وليس ببعيد أن تستنجد قرطبة بحليفها باديس بن حبوس، فيقع رجالي بين شقي الرحا.

فصاح المعتضد: لقد صدق فيك ظني … إنك لجبان رعديد منخوب الفؤاد … بمثلك تضيع الممالك؛ وتهزم الجيوش … أغرب عني … أغرب … ثم وثب عليه ففرّ من أمامه.

فرّ وهو يعتقد أنه مائت لا محالة لو بقي في عرين هذا الأسد، فاختفى بعيدًا عن إشبيلية أيامًا، ثم علم أن أباه قد غاب عن القصر، وذهب إلى حصن الزاهر. فعاد إسماعيل إلى إشبيلية، واقتحم القصر وأخذ كثيرًا من ذخائره، واستكثر من المال والمتاع ومضى مع بعض الجند الموالين له إلى الجزيرة الخضراء، ومر في طريقه بقلعة ابن أبي حصاد فاستجار به فأجاره، ولكنه بادر بالكتابة إلى المعتضد سرًّا يخبره بنزول ابنه عنده، فأرسل إليه المعتضد من أعاده إلى إشبيلية، فاعتقله المعتضد، وبقي أيامًا يقلِّب الرأي في أمره.

حتى إذا كانت ليلة — والمعتضد أرق يتقلب على سريره لما دهمه من الهم والنكد — لمح رجلًا يتسوّر عليه القصر، فنظر، فإذا هو ابنه مع طائفة من الجند كانوا يمالئونه، فهمّ المعتضد وهمّ معه حراسه، وقبض على إسماعيل ابنه، وحدثت ضجة في القصر استيقظ لها النوّام، وجاءت أم إسماعيل حاسرة عن رأسها باكية مولولة، فسقطت على قدمي المعتضد صائحة: بحقك يا مولاي إلا ما وهبته لي … فزمجر المعتضد وقال، وقد نحاها عنه: يكفي أن أهب لك نفسك، فقد سئمت الموالسة والمخالسة، ولن أكون كالمتوكل العباسي الغرّ، الذي ما زال يغمض عينيه عن الخطر، ويستجيب للحنان الكاذب — حتى صرعه ابنه، والآن فليهنأ برثاء البحتري! لا. لا …

ثم قام إلى إسماعيل فحزّ رأسه بسيفه وهو يقول: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ.

ولو أن كفي لم تطعني قطعتها
وألقيتها للكلب يقضمها حولي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤