عبث

وكرَّت الأيام وتوالت الشهور، والقصر في صمت القبور، والوزراء والأمراء والخدم يمشون فيه واجفين مطرقين، ومحمد بن عباد — بعد أن جعله أبوه ولي عهده ولقبه بالمعتمد — أصبح لا يكاد يؤدي واجب تقبيل يد والده كل صباح، حتى يفرَّ إلى أخدانه من أبناء كبار الساسة والأدباء والشعراء، وكان يطيب له اللهو بالزاهي، وهو قصر عند باب العطارين بإشبيلية، فيه كان يخلع عذراه، ويرسل لطبعه الشعري عنانه؛ ففي يوم دعا جماعته إليه، وطاب المجلس، وغنَّت القيان، ودارت الراح … وكان بينهم الداني الشاعر، وأبو بكر بن زيدون، وأبو القاسم الهوزني، ثم شرعت «نشوة» المغنية تغني بشعر المعتمد:

ولقد شربت الراح يسطع نورها
والليل قد مدَّ الظلامَ رداء
حتى تبدَّى البدر في ظلمائه
ملكًا، تناهى بهجة وبهاء
وحكيتهُ في الأرض بين مواكب
وكواعب جمعت سنًا وسناء
إن نشَّرت تلك الدروع حنادسًا
ملأت لنا هذي الكئوس ضياء
وإذا تغنت هذه في مزهر
لم تألُ تلك على التريك غناء

فطرب القوم، وقام بين يديه أحد سقاته فقال:

لله ساق مُهفهف عبقٌ
قام ليسقي فجاء بالعجب
أهدى لنا من لطيف حكمته
في جامد الماء ذائب الذهب

ثم غنت «نشوة» من قول المعتمد:

يا صفوتي من البشرْ
يا كوكبًا بل يا قمرْ
يا غصُنًا إذا مشى
يا رشأ إذا خطر
يا نفسَ الروضة قد
هبّ لنا عند السحر
يا ربّة اللحظ الذي
شد وثاقي إذ فتر
متى أداوي يا دوَا
ء السمع مني والبصر
ما بفؤادي من جوى
بما بفيك من خصْر؟

فأبدعت إنشادًا وإيقاعًا.

ثم التفت المعتمد وقال: أين ابن عمار؟ فتهامس القوم، وقال أبو بكر بن زيدون: يا مولاي: إنه دون هذه المنزلة، وهو رجل لا تؤمن مغبته يرتزق بشعره، ويمدح اليوم من يهجوه غدًا.

فظهر الغضب في عيني ابن عباد وقال: والله إنها الغيرة التي تأكل القلوب، وتظهر البغضاء على الأفواه، ليس منكم والله من يستطيع أن يقول كما قال ابن عمار:

عليّ وإلا ما بكاء الغمائم؟
وفيّ وإلا فيم نوح الحمائم؟

يا غلام: اذهب فأحضره، ولو كان بين براثن الأسد.

وبينما هو في انتظاره إذ أقبل صاعد خادم المعتضد مسرعًا حتى إذا بلغ المعتمد قال: يا سيدي، إن مولاي يدعوك إليه لأمر لا أعلمه. فبدا الخوف في وجه المعتمد، وتمتم لأصدقائه بكلمات يعتذر فيها عن مغادرتهم.

كان المعتضد في مساء ذلك اليوم منفردًا في الحجرة التي خصصها بتدبير شئون ملكه، وإذ الباب يقرع خفيفًا، وإذا الجارية «فلورا» تدخل في اضطراب ورعب.

فيعالجها المعتضد صائحًا: ما وراءك؟؟

فتتلعثم قائلة: يا مولاي قد طلبت إليّ أن أرصد أحوال سيدي المعتمد، وقد تسللت اليوم إلى غرفة نومه، فرأيت فيها هذه الأوراق التي لا أدري ما فيها، فقلت: لعل لمولاي فيها رأيًا. فاختطفها منها المعتضد وقرأ، فإذا غزل رائع لابنه المعتمد. فيه:

داوَى ثلاثته بلطف ثلاثة
فغدا بذاك رقيبه لم يشعر
أسراره بتستر، وأواره
بتبصر، وخباله بتوقر

وفيه:

أسر الهوى قلبي فعذبني
يوم الوداع فلم أطلق منعا
فأذاب حرّ صبابتي كبدي
وأسألها في وجنتي دمعًا

وفيه:

حرّم النوم علينا ورقدْ
وابتلانا بهواه ثم صدْ
يا هلالًا حُسنَ خدّ يا رشا
سحر لحظ، يا قضيبًا لين قدّ
بودادي لك، بالشوق الذي
في فؤادي، لا تدعني للكمد
لست أرضي عن زماني أو أرى
منك حسنًا لا أراه من أحد

وفيه:

يا ليت مدة بعدكْ
رشيقةٌ مثل قدّك
كمدّة الورد ورد الرّ
بيع، لا ورد خدّك
فعمر ذا عمر صبري
وعمر ذا عمر صدّك
رضيت منك — وإن لم
تنجز — بلذة وعدك

وفيه:

سرورنا بعدكُم ناقصُ
والطيب لا صاف ولا خالصُ
والسعد إن طالعنا نجمه
وغبت، فهو الآفل الناكص
سموّك بالجوهر مظلومة
مثلُك لا يدركه الغائص

وفيه:

قلت: متى ترحمني؟
قال: ولا طول الأبد
قلت: فقد أيأستني
من الحياة، قال: قدْ

وفيه:

يا غرة الشمس التي
قلبي لها أحد البروج
لولاك لم أك مؤثرًا
فرش الحرير على السروج

فبدا الغضب على المعتضد عندما قرأ البيتين الأخيرين، وقال: يا ضيعة الملك بمثله!! إنه لأجل جارية لا تساوي عقال بعير، يؤثر الحرير على السروج … اذهبي يا جارية … يا صاعد … عليَّ بمحمد، ولعلك تجده في أحد مجالس أنسه، بين الأفاقين من ندمائه، والعواهر من جواريه وقيانه.

وقف المعتمد بين يدي والده يرتعد فرقًا، فابتدره المعتضد: إني لا أحظر الشعر ولكني أحظر الفجور، وأحظر أن تؤثر فرش الحرير على السروج، وأبغض أن أراك عبد شهواتك صريع غانية وكأس، وأكره أن تكون بطانتك من السفلة المخادعين، الذين لا يبالون أبقيت الدولة أم زالت ما داموا يطعمون ويشربون.

إن السيف الذي قتلت به أخاك لا يزال الدم عليه جاسدًا … ويل للدولة من الخلعاء … ويل للدولة من الخمر والنساء.

يا محمد: إن أردت أن تكون خليفتي من بعدي، فاجعل كلماتي هذه في أذنيك أقراطًا. اذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤