خيبة

أراد المعتضد أن يصرف عن ابنه إخوان السوء، وأن يدربّه على شئون الملك، فدعاه في غداة يوم، فلما ذهب إليه رآه يقرأ في رسالة، فرفع المعتضد عينيه وقال: هذه يا محمد رسالة من أشياخ «مالقة» يشكون فيها من أميرها باديس بن حبوس عدو دولتنا الألد، ويستحثونني على أخذ المدينة وأن يكونوا لي عونًا في قتاله، فاذهب أنت وأخوك جابر بجيوشنا، واستأصل جماعة ابن حبوس، وهات لي رأسه … غدًا ترحل.

لم يجد المعتمد مناصًا من الطاعة أمام رجل لا يعف سيفه عن أبنائه، فقال: السمع لك والطاعة لك يا أبي … سأرحل، وسأكون ابن المعتضد والحقيق بنسبه.

رحل المعتمد وأخوه جابر يقودان جيشًا عظيمًا، فدان لهم البلد وخضع أهله إلا فلولًا من السودان لاذوا بقلعة مالقة، فأشار أهل المدينة على المعتمد بالاحتراس منهم، وأن يكون جيشه على أهبة الاستعداد والحذر، فلم يلق المعتمد لهذه النصيحة سمعًا، وقضى ليلته في لهو ومجون، وقضى السودان ليلتهم في بث الرسل لباديس والاستنجاد به؛ فجاءهم في جيوش زاخرة، وفتك بجيش المعتمد، وانتهب ذخائره وأثقاله، وفرّ المعتمد وأخوه إلى «رندة» يجران ذيل الخزي والعار، ويرهبان صولة أبيهما الجبار.

كان المعتمد في حيرة فقال لأخيه: ما نصنع يا جابر؟؟

– إني أؤثر أن أغمد سيفي هذا في صدري على أن أرى وجه المعتضد.

وشاعت القالة في «رندة» أن المعتضد نذر دم ابنه المعتمد، وأعد لمقابلته سيفًا بتارًا، فقضى المعتمد ليلة في هم وسهد، يكتب ويمحو، ثم يكتب ويمحو، وبزغ الفجر وقد أتم قصيدة في استعطاف أبيه، ثم ذهب فأيقظ أخاه وقال: اسمع يا جابر، سأكتب بهذه لأبي، وقرأ:

سكن فؤادك لا تذهب بك الفكرُ
ماذا يعيد عليك الهم والحذرُ؟
وازجر جفونك لا ترض البكاء لها
واصبر، فقد كنت عند الخطب تصطبر
فإن يكن قدر قد عاق عن وطر
فلا مردّ لما يأتي به القدرُ
وإن تكن خيبةٌ في الدهر واحدة
فكم غزوت ومن أشياعك الظفر!
يا ضيغمًا يقتل الأقران مفترسًا
لا توهنني، فإني الناب والظفر
كم وقعة لك في الأعداء واضحة
تفنى الليالي ولا يفنى بها الخبر
سارت بها العيس في الآفاق فانتشرت
فليس في كل حيّ غيرها سمر
قد أخلفتني ظنون أنت تعلمها
وغال مورد آمالي بها كدر
فالنفس جازعة، والعين دامعة
والصوت منخفض، والطرف منكسر
قد حُلت لونًا، وما بالجسم من سقم
وشب رأسًا، ولم يبلغني الكبر
ومتُّ إلا ذماء فيَّ يمسكه
إني عهدتك تعفو حين تقتدر
لم يأت عبدك ذنبًا يستحق به
عتبي، وها هو قد ناداك يعتذر
ما الذنب إلا على قوم ذوي دغل
وَفى لهم عدلك المألوف إذ غدروا
قوم نصيحتهم غشّ، وحبهمُ
بغض، ونفعهم إن صُدّقوا ضرر
يميَّز البغض في الألفاظ إن نطقوا
ويُعرف الحقد في الألحاظ إن نظروا
أجبْ نداء أخي قلب تملكه
أسًى، وذي مقلة أوهى بها سهر
رضاك راحة نفسي، لا فجعتُ به
فهو العتاد الذي للدهر أدّخر
وهو المدام التي أسلو بها فإذا
عدمتها عبثت في قلبي الفكر
وإنما أنا ساعٍ في رضاك فإن
أخفقتُ فيه، فلا يفسحْ لي العمر

فظهر السرور على وجه جابر وصاح: نجوت من صولة الحجاج … إن أبي على قسوته وجبروته أديب أريحيّ يؤثِّر فيه سحر الكلام، والله إنها لخير من اعتذار النابغة لجدك النعمان … ابعث بها إليه يا أبا القاسم على جناح طائر.

فبعث بها المعتمد إلى أبيه، وبقي أيامًا خائفًا يترقب حتى جاء البريد الخاص برسالة من المعتضد، يقبل فيها عذره ويقلده ولاية «شلب»، ويأمر جابرًا بالعودة إلى إشبيلية. فطار الأخوان فرحًا وتعانقَا كأنهما قاما من جدَثين، وأخذ يستقبلان الحياة من جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤