الفصل الرابع عشر

بكت لياليا في غرفتها طويلًا ووجهها مخبوء في الوسائد حتى أخذ عينها الكرى، وقامت في الصباح برأس متصدع وعين منتفخة، وكان أول ما خطر لها أن البكاء لا يجمل بها لأن ريازانتزيف سيتغذى معها، وأخلق به إذا هي لجت في البكاء أن يروعه منظرها وهيئتها، ثم ذكرت أن الأمر انقضى بينهما فألهبت هذه الذكرى حبها وأشعرتها ألمًا مرًّا فبكت من جديد، وقالت وحاولت أن تحبس دموعها: «يا لها من نذالة وشناعة! ولماذا؟ لماذا؟»

وجعلت تكرر هذا السؤال كأنما غلبها البث والحزن على الحب الذي ضاع وأهاجها أن ريازانتزيف كان يكذبها أبدًا على هذا النحو.

«وليس هو بالكذوب وحده بل كل من عداه كانوا يكذبون مثله. كانوا يدعون أنهم أتم ما يكونون سرورًا بوشك زواجنا ويزعمونه رجلًا شريفًا طيبًا! لا لا! إنهم لم يكذبوا في الواقع ولكنهم لم يروا أن زواجنا خطأ. وما أشنع ذلك منهم!»

وهكذا خيل لها أن كل من حولها أشرار بغيضون، فأسندت جبينها إلى زجاج النافذة ونظرت إلى الحديقة من خلال دموعها، وكانت الحديقة في ثوب من الجهامة. والمطر يضرب زجاج النافذة فلم تدر أيهما حجب الحديقة عن عينها: المطر أم دموعها. وكانت الأشجار كاسفة ولم ينزل القطر عن أوراقها الصفراء، ولا تكاد تبدو غصونها السوداء من خلال خطوط الديمة السحاحة السكوب التي أحالت ممشى الحديقة مستنقعًا من الطين.

وأحست لياليا أنها شقية وأرسلت طرفها إلى المستقبل فلم تر فيه نجم أمل واحد يومض وكرت إلى الماضي فإذا هو مظلم.

وجاءت الخادمة تدعوها إلى الإفطار، سمعت لياليا ألفاظها ولكنها عجزت عن فهم معناها.

ولما جلست إلى المائدة ألفت نفسها مرتبكة كلما خاطبها أبوها، ولم يخامرها شك في أن كل الناس قد أحاطوا علمًا الآن بغدر حبيبها وزيف حبه، فبادرت إلى العود إلى غرفتها وجلست مرة أخرى تنظر إلى الحديقة الساهمة الموحشة.

«لماذا يغدر؟ وما الذي يدفعه إلى إيذائي وإيلامي؟ أترى يفعل هذا لأنه لا يحبني؟ كلا! إن توليا يحبني وأحبه. إذن فماذا؟ إن الأمر هذا: لقد خدعني وكان في خلال ذلك يخطب وداد كل امرأة مقبوحة. فيا عجبًا، أ أحببنه كما أحبه؟»

سألت نفسها ذلك في دلال وحرارة ثم قالت: «تالله ما أحمقني، ما خير أن أقطع قلبي بالأسى والتفكير في هذا؟ لقد خانني عهدي فانقضى الأمر بيني وبينه، آه، ما أتم شقاوتي! نعم يحق لي أن أقطع قلبي أسى، لقد غدر بي، وكان يجدر به أن يعترف لي بذلك على الأقل ولكنه لم يفعل، فيا لها من نذالة، يقبِّل زمرًا من النساء غيري، ولعله أيضًا … يا للشناعة ويحي لقد صرت شقية!»

ثم غنت نفسها:

وثبت ضفدعة في الطريق ورجلاها ممدودتان

تلك كانت أغنيتها وهي تنظر إلى ضفدعة صغيرة تثب في الطريق الزل ثم عادت تحدث نفسها بعد أن اختفت الضفدعة بين الحشائش: «نعم أنا شقية وقد قضي الأمر. وما كان أحلى ما مر بي من عهد حبي هذا وأحفله بالغرائب الممتعة أما هو … فلم يكن الأمر في نظره إلا مسألة عادية مألوفة! وأحسبه لهذا كان يحاذر أن يحدثني عن ماضيه! وهذا أيضًا فيما أظن سر ما كان يبدو لي من غرابة شأنه ومن هيئة التفكير التي كانت تلازمه. كأنما كان يقول لنفسه أبدًا: «إني خبير بهذا وأنا أعرف ما تحسينه وأستطيع أن أتكهن بالنتيجة.» بينما كنت أنا طول هذا الزمن … آه ما أفظع هذا وأشنعه! ألا لن أحب أبدًا بعد ذلك!»

ثم بكت مرة أخرى وأسندت خدها إلى الزجاج البارد وشخصت بعينها إلى العماء السائر ولم تكف عن مناجاة نفسها: «ولكن توليا سيحضر للغداء اليوم!»

وارتجفت لهذا الخاطر: «فماذا عسى أن أقول له؟ ماذا ينبغي لمثلي أن يقول لمثله في هذه الأحوال؟»

وفتحت فمها وأتأرت نظرها إلى الحائط: «لا بد لي من سؤال يوري في هذا. إيه ما أطيب يوري وأقومه!»

وجالت دموع العطف في عينيها. ولما كانت لم تألف أن ترجئ أمرًا ما فقد خفت إلى أخيها في غرفته حيث ألفت معه شافروف يناقشه في ما لا تعلم فوقفت مترددة في الباب وقالت بشيء من الذهول: «عما صباحًا.»

فأجابها شافروف: «عمي صباحا! تفضلي بالله يا لياليا! إنه لا غنى لنا عن عونك في هذا الأمر.»

فلم يفارقها ارتباكها وأطاعت وجلست إلى المنضدة وجعلت تعبث بأصابعها ببعض الأوراق الخضراء والصفراء المكومة فوقها.

والتفت إليها شافروف التفاتة من يهم بجلاء معضل وقال: «المسألة هي أن كثيرين من زملائنا في كورسك في ضيق وكرب شديدين، ولا بد لنا من بذل كل ما يسعنا بذله لمساعدتهم، ومن أجل هذا فكرت إحياء ليلة فهل توافقين؟»

فأذكرها سؤاله وعباراته المألوفة ما جاءت من أجله إلى أخيها فنظرت إليه بعين ملؤها الأمل وقالت وهي تعجب لماذا يتقي يوري لحظها: «لم لا؟ إنها فكرة حسنة جدًّا!»

وكان يوري بعد الذي شهده من بكاء أخته وما كابده من الخواطر المقلقة طوال الليل، يحس أنه أشد اكتئابًا وحزنًا من أن يستطيع أن يكلم أخته. ولقد توقع أن تقصد إليه طلبًا لمشورته، ولكنه شعر أن الإشارة عليها بشيء مرض مطلب بعيد. كذلك من المستحيل استرداد ما قاله ليرفه عنها ويسري أحزانها وليدفعها إلى ذراعي ريازانتزيف ولم يشعر بالقدرة على القضاء على سعادتها الوليدة.

وعاد شافروف إلى الكلام ودنا من لياليا كأنما زاد الأمر تعقدًا أو إشكالًا: «حسن، إن الذي قررنا أن نفعله هو هذا: نريد أن نطلب إلى ليدا سانين وإلى سينا كرسافينا أن يغنيا، كل منهما على حدة أولًا ثم بعد ذلك معًا وليس أصلح من صوتيهما للغناء المشترك، فإذا فرغا عزفت على الكمنجا ثم بعد ذلك يغني سارودين ومعه تاناروف.»

فسألته لياليا بلا تعمد وهي تفكر في شيء آخر: «إذن فسيشترك الضباط في الحفلة أليس كذلك؟»

فصاح شافروف ولوح بيده: «نعم بلا شك، وما على ليدا إلا أن تقبل فتلتف بها جمهرة منهم كالزنابير، أما من حيث سارودين فهذا يسره أن يغني وهو لا يكترث للسكان ما دام يستطيع أن يغني وسيجتذب غناؤه عددًا جمًّا من زملائه الضباط فيغص المكان.»

فرمت لياليا إلى أخيها بنظرة ذات معنى وقالت: «يجب أن تدعو سينا كرسافينا.»

وحدثت نفسها قائلة: «لا أحسبه قد نسي كيف يكلمني في شأن هذه الحفلة وأنا …»

فقال شافروف: «لقد قلت لك منذ هنيهة أننا دعوناها!»

فقالت لياليا: «نعم قلت ذلك.» وابتسمت: «وهناك أيضًا ليدا ولكنك ذكرت اسمها فيما أظن؟»

قال شافروف: «نعم فعلت ومن ندعو غيرهما؟»

فتمتمت لياليا: «لا أدري والله! … إن برأسي صداعًا.»

فنظر يوري إلى أخته مسرعًا ثم استأنف الإكباب على الأوراق وحرك عطفه عليها إصفرارها وثقل جفونها وقال لنفسه: «لماذا قلت لها كل هذا؟ إن المسألة غامضة مستبهمة المعالم في رأيي ورأي الكثيرين من الناس. ولا مفر للمسكينة الآن من تعب القلب والخاطر فلماذا خبرتها؟» وأحس كأنما سيهم بتمزيق شعره.

وفي هذه اللحظة دخلت الخادمة وقالت: «سيدتي إن المسيو أناتول بافلوفتش قد حضر!»

فأسرع يوري وألقى إلى أخته نظرة فزعة فالتقت عينه وعينها فأشاحت لارتباكها بوجهها عنه إلى شافروف وقالت على عجل: «هل قرأت شارل برادلاف؟»

أجاب: «نعم قرأنا بعض كتبه مع دوبوفا وسينا كرسافينا إنها ممتعة!»

قالت: «نعم. أو قد عادنا؟»

أجاب: «نعم»

فسأل يوري وكتم انفعاله: «متى؟»

قالت: «منذ أول من أمس.»

فقال يوري: «حقًّا؟»

ونظر إلى أخته وخجل منها وأحس الخوف في حضرتها كأنما كان قد خدعها.

وظلت لياليا لحظة وهي واقفة مترددة تعبث بأصابعها بكل شيء ثم دنت من الباب.

فقال يوري مخاطبًا نفسه: «ويحي ماذا صنعت؟» وأصغى وهو مكروب إلى وقع قدميها المتعثرتين.

ومضت لياليا إلى الغرفة الثانية مترددة حزينة وأحست كأنما جمد الدم في عروقها، وكأنما هي تائهة في غابة مظلمة، فنظرت إلى مرآة ورأت في صقالها وجهها المقطب وقالت تحدث نفسها: «سيراني بهذا الوجه!»

وكان ريازانتزيف واقفًا في غرفة المائدة يقول لنيقولا بصوته الحلو: «بديهي أن هذا غريب ولكنه لا بأس منه.»

فلما سمعت لياليا صوته خفق قلبها خفقًا عنيفًا كأنما يهم أن يتمزق وأبصرها ريازانتزيف فكف فجأة عن الكلام وتقدم، إليها وذراعاه مفتوحتان ولم يكن أحد سواها يعلم أن هذه الإشارة دليل على أنه يريد أن يحتضنها.

فرفعت إليه طرفها في حياء وارتجفت شفتاها ونزعت كفها من كفه دون أن تنبث، واجتازت الغرفة وفتحت الباب الذي يفضي إلى الشرفة وجعل ريازانتزيف يرقبها وهي تفعل ذلك، وهو هادئ غير أن به بعض الدهشة.

والتفت إلى أبيها وقال بوقار المازح: «إن لود ميللا نافرة!»

فانفجر الأب نيقولا يضحك وقال: «الأولى أن تذهب إليها وتتألفها.»

فتنهد ريازانتزيف وقال بهيئة مضحكة وهو يتبعها إلى الشرفة: «ليس ثم غير ذلك.»

وكان المطر لا يزال يهطل وفي الجو صوت قطراته المتساقطة المملة، ولكن السماء كانت أصفى والسحب متقطعة. وكانت لياليا واقفة وخدها إلى أحد عمدان الشرفة والمطر يضرب يدها العارية وشعرها مبتل.

فقال ريازانتزيف وهو يدنو منها: «إن سيدتي غاضبة … لياليتشكا!»

ومنح شعرها العطر البليل قبلة خفيفة، فأحست كأن شيئًا يذوب في صدرها ويتحلل وأقبلت عليه وهي لا تدري ما تصنع وطوقت عنق حبيبها القوي بذراعيها وأمطرته وابلًا من اللثمات وهي تقول بينها: «إني مستاءة جدًّا جدًّا منك … أنت رجل شرير.»

وكانت في خلال ذلك تقول لنفسها أن ليس في الأمر بعد كل ما يقال سوء لا سبيل إلى إصلاحه كما حسبت من قبل، وماذا يهم؟ إن كل ما تريده هو أن تحب هذا الرجل الكبير الجميل وأن يحبها.

ولما جلسا بعد ذلك إلى المائدة آلمها من أخيها نظرة إليها مستغربة وما سنحت لها الفرصة حتى أسرت إليه: «إن هذا مني فظيع وأنا أعرف ذلك.»

فلم يزد على أن ابتسم ابتسامة مجتواة.

وكان يوري في الواقع قد سره أن الأمر انتهى على هذا الحال الحسن، وإن كان على هذا قد ذهب يدعي استنكار هذا التسامح العامي واحتقاره، فانسحب إلى غرفته ومكث بها وحده إلى المساء.

ولما آذنت الشمس بالمغيب ورأى السماء صافية احتمل بندقيته على نية الذهاب للصيد في حيث صاد هو وريازانتزيف أمس.

وكان المطر قد أكسب هذه البركة حياة جديدة، فكان المرء يسمع أصواتا غريبة كثيرة والحشائش تترنح كأنما تحركها قوة حيوية خفية والضفادع تنقنق جماعات، والطيور من حين إلى حين ترسل أصواتا حادة متنافرة، والبط يصيح بين الأعشاب والأكلاء البليلة على مقربة من يوري وإن كان أبعد من مدى بندقيته. ولم يحس الرغبة في الصيد فاحتمل بندقيته وانثنى آيبًا يصغى إلى أصوات الصفاء البلوري في الغسق الساكن ثم قال: «ما أجمل هذا، كل شيء جميل إلا الإنسان فهو وضيع.»

وأخذت عينه النار موقدة على بعد في حقل البطيخ، ولما اقترب عرف في ضوئها وجهي كوسما وسانين فاستغرب ونزعت نفسه إلى استطلاع السر «ولماذا يدأب على المجيء إلى هنا؟»

وكان كوسما جالسًا إلى جانب النار يقص حكاية وهو يضحك ويومئ وسانين يضحك كذلك، وكان لهيب النار خفيفًا كلسان الشمعة ورديًّا لا أحمر قانيًا كما يكون في ظلمة الليل. وفي قبة السماء الزرقاء طلائع النجوم تتوامض، وفي الجو رائحة الجدة غب المطر وشذى النبات المطلول.

وخاف يوري لسبب ما أن يرياه وأحزنه في الوقت نفسه أن لا يستطيع أن يلحق بهما ويكون معهما، فكأنما قام بينهما وبينه حجاب كاذب غير مفهوم أو فضاء لا جو فيه أو بون لا سبيل إلى تخطيه.

وثقلت على نفسه وطأة هذا الإحساس بالعزلة. وتجسم له أنه مستفرد وحيد، وأنه واقف بمعزل عن هذه الدنيا بأضوائها وألوانها ونيرانها ونجومها وأصواتها الآدمية كأنما هو ملقى به في غرفة حالكة، وبلغ من جثوم هذا الشعور بالوحدة أن خيل له وهو يجتاز حقل البطيخ حيث كانت مئات منه أن هذه ليست سوى جماجم آدمية مبعثرة فوق ظهر الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤