الفصل الخامس عشر

جاء الصيف بالحرارة والدفء، فكان الجو بين الأرض الساخنة والسماء الزرقاء المشرقة الصفحة كأنما يغشاه ويسبح فيه نقاب خفيف من البخار الذهبي، وكأنما أرهق الحر الأشجار فنامت وألقت أوراقها المتدلية الساكنة ظلالًا شفافة قصيرة على الثرى الظامئ الجاف. وفي البيوت الرطوبة. والحدائق ترسل ألوانا خضراء باهتة ترسمها الأضواء على السقوف وكل شيء ساكن ما خلا الستائر المجموعة إلى جوانب النوافذ. هذه وحدها كان النسيم الواني يعابثها.

وكان سارودين في جاكتة من التيل مفكوكة الأزرار يقطع أرجاء الغرفة في بطء وهو يدخن سيجارة في كسل وفتور ويكشف عن أسنانه الكبيرة البيضاء. وعلى الكنبة تاناروف في ثياب الركوب متمطيًا يلحظ سارودين بعينيه الصغيرتين السوداوين. وكان في أشد الحاجة إلى خمسين روبلًا، وقد طلب إلى سارودين مرتين أن يسلفه إياها ولم يجرؤ على معاودة الكرة مرة ثالثة. فجعل ينتظر في قلق أن يعود سارودين من تلقاء نفسه إلى الموضوع، ولم يكن سارودين قد نسي ولكنه كان قد قامر وأضاع سبع مئة روبل في الشهر الماضي فضن على صاحبه بأي قرض آخر. وكان يقول لنفسه وهو ينظر إلى تاناروف إذ يمر به: «إن عليه لي مئتي روبل وخمسين روبلًا. وهذا مدهش حقًّا! نعم نحن صديقان حميمان إلخ، ولكني أعجب له كيف لا يخجل. إنه على الأقل يستطيع أن يعتذر إلي من أنه مدين لي بكل هذا المبلغ. كلا. لن أقرضه درهمًا واحدًا آخر.»

ودخل في هذه اللحظة خادمه وهو جندي صغير الجسم منقط الجلد ووقف بشكل محتوى وحيّا وقال وهو لا ينظر إلى سارودين: «سيدي لقد طلبت جعة ولكنه لم يبق منها شيء.»

فنظر سارودين على غير إرادته إلى تاناروف واحمر وجهه وقال لنفسه: «حقًّا إن هذا أكثر مما يطاق! إنه يعلم ما أنا فيه من الضيق ومع ذلك لا بد من الجعة!»

وزاد الخادم على خبره السابق: «والباقي من الفودكا قليل أيضًا.»

قال: «حسن لعنة الله عليك إنه لا يزال معك روبيلان فاذهب واشتر ما تريد.»

أجاب: «عفوًا سيدي فليس معي شيء على الإطلاق.»

فوقف سارودين وصاح به: «كيف هذا؟ ماذا تعني بالكذب علي؟»

قال «عفوًا يا سيدي. لقد أمرت أن أنقد الغسالة روبيلا و٧٠ كربيك ففعلت ووضعت الثلاثين الباقية على المنضدة.»

فقال تاناروف متكلفًا عدم الاهتمام وإن كان على هذا قد احمر خجلًا: «نعم هذا صحيح. لقد أمرته بهذا أمس، وكانت المرأة لم تزل تتعقبني منذ أسبوع وأنت تعلم ذلك.»

فبدت على خدي سارودين الحليقين المصقولين نقطتان حمروان وتقبضت عضلات وجهه واستأنف رواحه ومجيئه في صمت، ثم ما عتم أن وقف بغتة أمام تاناروف وقال والغضب يرعش صوته: «اسمع. إني أكون شاكرًا جدًّا إذا تركتني أدير شئوني المالية في المستقبل.»

فاحتقن وجه تاناروف وتمتم وهو يهز كتفيه: «هـ. م! ومسألة تافهة كهذه!»

فقال سارودين: «إنها ليست مسألة توافه، بل مسألة مبدأ. فهل تسمح لي أقول لك بأي حق …»

أجاب: «أنا …»

وقاطعه سارودين بنفس هذه اللهجة الجارحة وقال: «أرجوك أن لا تشرح لي شيئًا وليس يسعني إلا أن أرجوك أن لا تستعمل هذه الحرية مرة أخرى.»

فارتجفت شفتا تاناروف وتدلى رأسه وجعلت أصابعه تعبث «بفم» سيجارة.

وبعد لحظة استدار سارودين بحدة وأخرج مفاتيحه وفتح درج مكتبه وقال: «خذ واذهب واشتر ما نريد!»

قال ذلك بصوت أهدأ وأعطى الجندي ورقة بمائة روبل.

فقال الخادم: «حسن يا سيدي.» وحيا وخرج.

ثم أغلق سارودين صندوق نقوده ورد الدرج وأدار فيه المفتاح واستطاع تاناروف أن يرى الصندوق الذي يحتوي الخمسين روبيلًا التي به الحاجة إليها، ثم تنهد وأشعل سيجارة وهو على أشد ما يكون ألمًا، ولكنه خشي أن يظهر ألمه لئلا يزداد سارودين غضبًا واكتفى بأن يقول لنفسه: «ما قيمة روبيلين عنده؟ إنه يعلم علم اليقين أني في ضيق شديد.»

وظل سارودين يروح ويجيء في الغرفة والغضب باد عليه إلا أنه كان يهدأ شيئًا فشيئًا، ولما عاد الخادم بالجعة كرع كوبًا من هذا الشراب المرغي المثلج بالتذاذ واضح، وبعد أن مص حافة شاربيه قال كأنما لم يكن قد حدث شيء: «لقد عادت ليدا إليّ أمس! تالله ما أحلاها! حارة حامية!»

وكان تاناروف لا يزال متوجعًا فلم يجبه ولم يلتفت سارودين إلى صمته. واجتاز الغرفة في بطء وفي عينه ضحكة ذكرى مكتومة. وجعل الحر كيانه القوي الصحيح أحس بتأثير الخواطر المثيرة. ثم ضحك ضحكة قصيرة فكأنما كان يصهل ثم وقف وقال: «تعلم أني البارحة حاولت …»

وهنا استعمل لفظة خشنة وضيعة لا يليق أن يشار بها إلى امرأة واستأنف الكلام.

«فتأبت قليلًا في أول الأمر، يا لنظرة عينيها أنت بالضرورة تعرف.»

فابتسم تاناروف ابتسامة الشهوان وقد ثارت غرائزه الحيوانية.

وقال سارودين والذكرى ترعش منه: «ولكن بعد ذلك لانت أعطاف الأمور. لم يمر بي مثل هذا الوقت في حياتي كلها.»

فقال تاناروف حاسدًا إياه: «ما أسعد حظك!»

وصاح بهما صوت من الشارع: «هل سارودين هنا؟ أندخل؟»

وكان السائل هو إيفانوف ففزع سارودين وأشفق من أن يكون ما قاله عن ليدا قد سمعه أحد ولكن إيفانوف كان يناديه من السكة ولم يكن بحيث يرى فصاح به سارودين من النافذة. «نعم. نعم هنا.»

وعلت في الغرفة الأخرى جلبة ضحك ووقع أقدام كأنما غزا البيت جيش من أهل القصف، ثم دخل إيفانوف ونوفيكوف والكابتن مالينوسكي وضابطان آخران وسانين. وصاح مالينوسكي وهو يدفع نفسه داخلًا الغرفة: «هوراه! كيف أنتم أيها الصبيان؟»

وهو رجل وجهه أحمر وخداه سمينان طريان وله شاربان تخالهما عودين من القش.

وقال سارودين يحدث نفسه مغضبًا: «وستذهب أيضًا ورقة بخمسة وعشرين روبيلا.»

ولكنه لم يكن يحب أن تسوء سمعته وأن يظن به إلا أنه غني كريم فصاح بهم وهو يبتسم لهم: «هالوا! أين أنتم ذاهبون جميعًا، آتون إلي؟ هيا يا شيريبانوف هات لنا فودكا وسائر ما نحتاج إليه. اجر إلى النادي وائت بشيء من الجعة. إنكم تريدون جعة أليس كذلك يا سادة؟ في مثل هذا الحر؟»

ولما جاء الخادم بالجعة والفودكا زادت الضجة وعلت الجلبة وصاروا جميعًا يضحكون ويصيحون ويشربون كأنما آلوا أن يحدثوا أكبر صخب ممكن، ولكن نوفيكوف كان مطرقًا مكتئبًا وعلى وجهه الطيب أمارات منذرة. ولم يكن قد عرف إلا أمس ما تلغط به البلدة فطغت به في أول الأمر الغيرة والشعور بالمهانة ثم قال لنفسه: «إن هذا مستحيل! سخافة مطبقة وحديث خرافة.»

وأبى أن يصدق أن ليدا الجميلة المزهرة البعيدة المنال — ليدا التي يحبها من أعماق قلبه — يمكن أن تكون قد تورطت على نحو مخز مع مخلوق مثل سارودين الذي يعده نوفيكوف دونه ذكاء ومواهب. ثم استحوذت على نفسه الغيرة الجامحة الحيوانية ومرت به لحظات يأس مرة فكانت تمزق قلبه الكراهية لليدا ولسارودين على وجه أخص. وهو إحساس لا يلائم مزاجه الهادئ اللين فكان لذلك يتطلب منفذًا ومتنفسًا، وظل الليل كله يرثي لنفسه، بل لقد خطر له الانتحار غير أنه ما كاد الصبح يتنفس حتى نازعته رغبة جامحة طاغية غامضة أن يرى سارودين.

ولما جاء انتحى ناحية وجعل يكرع الكأس إثر الكأس وعينه ترصد كل حركة لسارودين كما يرصد الوحش في الغابة قرينه الوحش — متظاهرًا بأنه لا يرى شيئًا ولكنه على هذا أتم ما يكون استعدادًا للوثوب — وكان كل ما له علاقة بسارودين — ابتسامته وأسنانه البيضاء وقسمات وجهه المليحة وصوته — كل هذه كانت سهامًا أو خناجر في جرح رهيب فاغر.

وقال ضابط طويل نحيف له ذراعان طويلتان: «سارودين! لقد جئت إليك بكتاب.»

وسمع نوفيكوف وسط الصخب العالي اسم سارودين يذكر وصك أذنه صوته كذلك كأنما كانت ألسنة الحضور خرساء وقال: «أي كتاب؟»

فقال الضابط الهزيل ورفع صوته كأنما يلقي بيانًا: «إنه كتاب عن النساء بقلم تولستوي.» وكانت على وجهه الطويل الهضيم آيات الزهو والمباهاة بأنه يقرأ تولستوي ويبحثه.

فسأله إيفانوف وقد لاحظ دلائل هذا الزهو: «أَوَتقرأ تولستوي؟»

وقال مالينوسكي مجيبًا عنه: «إن فون دايتز مجنون بتولستوي.»

وتناول سارودين الكتاب الصغير وقلب بعض صفحاته وقال: «أهو لذيذ؟»

فقال فون دايتز بحماسة: «سترى. لعمري إنه لعقل! ويخيل لك بعد قراءته كأنما كنت تعرف هذا من قبل!»

فسأل نوفيكوف بصوت منخفض وعيناه إلى الكأس في يده: «ولكن لماذا تطلب إلى فيكتور سرجيفنش (سارودين) أن يقرأ تولستوي، مع أن له آراء خاصة عن النساء؟»

فقال سارودين بحذر وقد استروح نية الهجوم: «ما الذي يجعلك تظن هذا؟»

فصمت نوفيكوف وكان يود أن يلطم سارودين على وجهه الحسن الذي ينم على الرضى عن النفس وأن يطرحه على الأرض ويلكزه لكز من طغى بصدره ورأسه جنون العاطفة. ولكن الألفاظ التي يطلبها خانته. وأدرك — وآلمه أن يدرك — أنه ينطق بما لا يريد حين قال: «حسب المرء أن ينظر إليك ليعرف ذلك.»

فأحدثت لهجته الغريبة المنذرة سكونًا مباغتًا كأنما ارتكبت جريمة قتل وفطن إيفانوف إلى سر المسألة وقال سارودين ببرود: «يخيل إلي أن …» وتغيرت هيئته قليلًا وإن كان قد ملك عواطفه وضبطها.

فصاح بهما إيفانوف: «مهلًا مهلًا يا سادتي، ماذا حدث؟»

فقال سانين مقاطعًا: «لا تدخل بينهما. دعهما يقتتلان ويفرغان من الأمر.»

وعاد نوفيكوف فقال مجيبًا سارودين بنفس اللهجة وعيناه إلى كأسه: «ليس في الأمر تخيل وإنما هو كذلك.»

ولم يكد يقولها حتى حال بين المتنافسين حائط من اللحم والدم وكثر الصياح والتلويح بالأذرع وانطلقت الألسنة بعبارات المزاح والدهشة، وأمسك مالينوسكي وفون دايتز بسارودين ورد إيفانوف والضباط الآخرون نوفيكوف وأترع إيفانوف الكئوس وقال شيئًا غير معتمد أحدًا بخطابه وصار السرور متكلفًا لا إخلاص فيه، وأحس نوفيكوف أن خروجه واجب ولم يطق البقاء، فابتسم ابتسامة خرقاء والتفت إلى إيفانوف والضباط الذين كانوا يعالجون أن يلفتوا نظره إليهم، وقال يحدث نفسه: «ماذا دهاني؟ أحسب أن واجبي أن أضربه … أن أهجم عليه وألكمه في عينه، وإلا عدوني طفلًا إذ لا بد أن يكونوا قد حزروا أني أحتك به …»

ولكنه بدلًا من أن يفعل هذا ادعى الإهتمام بما يقوله إيفانوف وفون دايتز.

وقال فون دايتز: «أما من حيث النساء فلست أوافق تولستوي كل الموافقة.»

فقال إيفانوف: «إن المرأة ليست إلا أنثى. وقد تجد في كل ألف رجل واحدًا جديرًا بأن يسمى رجلًا فأما النساء … ويحهن إنهن جميعًا سواء ولسن إلا قردة عارية حمراء ولكنها بغير أذناب.»

فقال فون دايتز موافقًا: «ما أذكى هذا؟»

فقال نوفيكوف بمرارة: «بل ما أصدقه.»

واستمر إيفانوف ملوحًا بيديه قريبًا من أذن صاحبه فقال: «يا سيدي العزيز، اسمع. إذا ذهبت إلى الناس وقلت لهم (إن المرأة إذا نظرت إلى الرجل نظرة اشتهاء فقد زنت معه في قلبها) كان الأرجح أن يعد أكثرهم هذا القول صحيحًا مبتكرًا.»

فأخرج فون دايتز ضحكة جشاء كأنها نباح الكلب، ولم يكن قد فهم نكتة إيفانوف، غير أنه على هذا آسف لأنه لم يقلها دونه.

وإنهم لكذلك وإذا بنوفيكوف يمد يده إلى فون دايتز فقال فون دايتز مستغربًا: «ماذا؟ أذاهب أنت؟»

فلم يحر نوفيكوف جوابًا. وسأله سانين: «إلى أين؟»

فظل نوفيكوف صامتًا وهو يحس كأن الألم المكتوم يوشك أن ينهمر دموعًا.

فقال سانين: «إني أعرف ما بك. ابصق على كل ذلك.»

فرمى إليه بنظرة من يرثي له وارتجفت شفتاه وأومأ إيماءة الأسف وخرج في صمت والإحساس بعجزه يخامره فقال ليتسلى: «ما خير أن ألطم هذا النذل على وجهه؟ إن هذا ما كان ليفضي إلا إلى قتال سخيف، ولخير لي أن لا ألوث يدي.»

ولكن الغيرة الثائرة والإحساس بالعجز ظلا ضاغطين فعاد إلى بيته وهو في أشد حالات الغم والأسى، وألقى بنفسه على الفراش وأخفى وجهه في الوسادة، وظل كذلك بقية النهار وبه ما به من مرارة الشعور بأن لا حيلة له.

•••

وسأل مالينوسكي زملاءه: «ألا نلعب الورق؟»

فقال إيفانوف: «حسن جدًّا.»

وجاء الخادم بمنضدة اللعب وعليها غطاؤها الأخضر يستهويهم جميعًا. وكان اقتراح مالينوسكي قد أيقظهم فجعل ينقل الأوراق بكفيه الصغيرتين الكثيرتي الشعر وانتشرت على المائدة الخضراء الأوراق الزاهية، وسمع رنين الروبيلات الفضية بعد كل دور أو صارت الأصابع تطبق عليها كالعناكب، ولم تند عن الأفواه إلا عبارات وجيزة مصرحة عن السرور أو الكمد.

وخذل الحظ سارودين فذهب إلى العناد وأصر على المخاطرة في كل شوط بخمسة عشر روبيلًا، وكان يخسرها في كل مرة وصار وجهه ناطقًا بالألم الشديد، وكان في الشهر الماضي قد قامر وخسر سبع مئة روبل يضاف إليها كل ما ذهب اليوم وأعدى غيره بسوء خلقه، فلم يلبث فون دايتز ومالينوسكي أن تراشقا بالعبارات الجارحة.

فصاح بهما سارودين وألقى ورقه: «ويحكم ما معنى هذا كله؟»

وفي هذه اللحظة ظهر قادم جديد في مدخل الغرفة، فخجل سارودين لانفجار مرجل غضبه وانطلاق لسانه بعبارات العامة، ولوجود هؤلاء الضيوف المخمورين الصاخبين، ولأوراق اللعب وزجاجات الخمر وخيل إليه أن غرفته قد صار لها منظر الخمارة.

وكان القادم رجلًا نحيفًا طويلًا في بذلة بيضاء فضفاضة وأنيقة، غالية فوقف على العتبة مذهولا وجعل يتأمل الحضور باحثًا عن سارودين بينهم.

فصاح سارودين وتقدم لتحيته ووجهه كالجمر من الغيظ: «أهلا بك يا بافل لفوفتش! ماذا جاء بك؟»

ودخل القادم بهيئة المتردد وصارت كل العيون قيد حذائيه الأبيضين الناصعين، وهو يخطو بهما على حذر بين زجاجات الجعة وسداداتها وأعقاب السجاير، وكان من البياض والنظافة والتعطر وحسن الهندام بحيث صار بين سحب الدخان المعقود في جو الغرفة ومرسليها السكارى أشبه شيء بالزنبقة في المستنقع لولا خوره وذبوله، ولولا أن قسمات وجهه ضعيفة وأسنانه البادية تحت شاربيه الخفيفين الأحمرين متداعية.

فقال سارودين: ومن أين جئت؟ أغبت طويلًا عن بتجر؟١ ثم أدركه الخوف من أن تكون بتجر لفظة لا يجمل بمثله استعمالها.

فقال الرجل ذو الثوب الأبيض بلهجة باتة، وإن كان صوته كصياح الديك المكتوم: «جئت أمس فقط.»

فقال سارودين وقدّمه إلى الحاضرين: «هذا هو المستر بافل لفوفتش فلوتشين.»

فانحني فلوتشين قليلًا وقال إيفانوف وكان ثملًا فأزعج سارودين: يجب أن تدون هذا!

– «تفضل واجلس يا فلوتشين. أتشرب نبيذًا أم جعة؟»

فجلس فلوتشين ببطء وحذر على كرسي ذي ذراعين، فظهر نصوع ثوبه إلى جانب الغطاء القذر وقال ببرود ودارت عينه في الحضور: «أرجوك لا تتعب نفسك إنما جئت لأراك هنيهة.»

فسأله سارودين: «كيف تقول هذا؟ سأطلب لك نبيذًا أبيض. فإنك تحبة أليس كذلك؟»

وأسرع فخرج وهو يقول لنفسه: «لماذا شاء هذا الأحمق أن يأتي إليّ اليوم؟ إنه سيروي عني في بطرسبرج ما يجعل من المستحيل علي أن تطأ رجلي عتبة بيت محترم فيها.» وبعث خادمه ليشتري النبيذ.

وفي خلال ذلك كان فلوتشين ينقد الحاضرين نقدًا صريحًا وينظر إليهم نظر الموقن أنهم دونه بمراحل. ويقلب فيهم عينه الزجاجية تقليب من يعرض مجموعة من الوحوش، ووقع من نفسه على وجه الخصوص قامة سانين ووثاقة تركيبه وثيابه فقال لنفسه: «هذا نوع ممتع! ولا بد أن يكون قويًّا!»

وبه إعجاب الضعيف الخوار للقوي الباطش. والواقع أنه ما عتم أنه انطلق يكلم سانين، غير أن سانين كان متكئًا على حافة النافذة ينظر إلى الحديقة، فكف فلوتشين عن الكلام وغاظه حتى صوته وحدث نفسه أن هؤلاء ليسوا إلا حثالة الخلق.

وعاد سارودين في هذه اللحظة وجلس بجانبه، وجعل يسأله عن بطرسبرج وعن مصنعه ليفهم الحاضرين أن زائره رجل ثري خطير الشأن، وبدت على وجهه الوسيم دلائل الزهو والغرور الحقير فأجابه فلوتشين بلهجة السأمان: «كل شيء هناك كما كان! وكيف حالك أنت؟»

فقال ساردين وأخرج زفرة: «إني أعيش عيشة النبات.»

فصمت فلوتشين ورفع طرفه بازدراء إلى السقف حيث كانت تلتمع الأضواء المنعكسة عن الحديقة.

وعاد سارودين إلى الكلام: «إن سلوتنا الوحيدة هي هذا.» وأشار إلى الورق والزجاجات والضيوف.

فقال فلوتشين: «نعم نعم.»

وخيل لسارودين أن صاحبه يقول له: «إنك لست بخير منهم.»

ثم وقف فلوتشين يودع صاحبه وقال: «يجب أن أذهب الآن. إني مقيم بالفندق القائم في الميدان وأرجو أن أراك مرة أخرى.»

وفي هذه اللحظة دخل الخادم وحيا بهيئة رثه وقال: «سيدي إن السيدة الصغيرة هناك.»

ففزع سارودين وصاح به: «ماذا؟»

أجاب: «لقد حضرت يا سيدي.»

فقال سارودين: «آه! نعم سمعت.» وأدار لحظة في الغرفة مضطربًا وأوجس خيفة وقال لنفسه: «أتراها ليدا مستحيل!»

فالتمعت عين فلوتشين وكأنما استجد جسمه الصغير الضعيف في ثيابه الواسعة البيضاء حيوته المفقودة فقال وهو يضحك: «حسن أسعد الله نهارك، أراك لا تزال على عهدك القديم ها ها!»

فابتسم سارودين وهو قلق وماشى زائره إلى الباب. ولما عاد سارودين قال لرفقائه: «والآن يا سادة كيف يجري اللعب؟ خذ (البنك) عني يا تاناروف إذا سمحت وسأعود إليكم عاجلًا.»

وكان يتكلم بسرعة وعيناه قلقتان.

فنبحه مالينوسكي وكان قد سكر: «وهذا كذب! لا بد أن نشبع من النظر سيدتك الصغيرة هذه.» فأمسك تاناروف بكتفه ورده إلى كرسيه وعاد الباقون إلى أماكنهم حول المنضدة وهم لا ينظرون إلى سارودين، وجلس سانين كذلك، ولكن ابتسامته كان فيها شيء من الجد، وكان قد أدرك أن ليدا هي التي جاءت، وخالجه إحساس غامض بالغيرة والمرثية لأخته الجميلة التي صارت الآن في كرب شديد.

هوامش

(١) اسم علمي ليتروغراد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤