الفصل الثاني

كانت الساعة السادسة والشمس ما زالت وضاءة، ولكن الحديقة ارتمت فيها الظلال الرقيقة، وكان الجو كله ضوءًا وحرارة وسجوًا، وكانت ماريا إيفانوفنا تصنع مربى، فانبعثت تحت شجرة الزيزفون الخضراء رائحة قوية من السكر المغلي والتوت البري. وكان سانين يكدح نهاره في أحواض الزهر معالجًا أن ينفث الحياة في بعض أعوادها التي أضر بها التراب والحر.

فقالت له أمه مقترحة: «أولى لك أن تقتلع الحشائش أولًا. قل لجرونكا تصنع ذلك لك.»

وكانت ترقبة وتنتحيه بعينيها من حين إلى حين من خلال اللهيب الأزرق المرتعش.

فرفع سانين رأسه وهو متقد وقال باسمًا: «ولماذا؟» ورد شعره المتهدل على جبينه «لتنم كما شاءت فإني أحب كل أخضر.»

– «أما إنك لفتى مضحك!»

وهزت كتفيها باشة، وقد سرها جوابه لأمر ما.

فقال سانين بلهجة الجازم المقتنع: «إنكم أنتم المضحكون.» ثم انصرف إلى البيت ليغسل يديه، ولما عاد تمطى على كرسي ذي ذراعين مصنوع من عيدان الصفصاف وشاع في جواب نفسه الاغتباط وفي صدره ووجهه الانشراح، وأشعرته خضرة الروضة ونور الشمس وزرقة السماء لذة الحياة أيما إشعار. وكان نفورًا من المدن الكبرى يمقت ضجتها. أما هنا فليس إلا الشمس والحرية. ولم يكترث للمستقبل ولا أحس من أجله دبيب القلق، إذ كان غير متبطر — يتقبل من الحياة ما شاءت أن تهديه إليه — وأغمض جفنيه كل الإغماض ومط جسمه واهتز مسرورًا لتوتر عضلاته القوية الصحيحة.

وهب النسيم عليلًا وعادت الحديقة كلها وكأنها تزفر، وجعلت العصافير هنا وههنا تصخب متناغية عن حيواتها المهمة وإن لم تكن بالمفهومة، وكان كلبهم «ميل» مستلقيًا على الحشائش الطويلة منصتًا وأذناه مرهفتان ولسانه الأحمر متدل من فمه. وأوراق الشجر تتهامس وظلالها المستديرة ترتعش على الحصى الأملس.

وهاج ماريا إيفانوفنا أن طائر ابنها ساكن، وكان حبها له جمًّا كحبها لأبنائها جميعًا، فنازعتها نفسها لهذا أن تستثيره وأن تجرح احترامه لنفسه لتكرهه على الالتفات إلى كلامها ولتحمله على مشاطرتها نظرها إلى الحياة. وكانت كالنملة قد قضت كل برهة من عمرها المديد في إقامة ذلك البناء الواهي لسعادتها المنزلية. وما كان أطوله وأعراه وأخلاه من بواعث السلوى النافية للملال! بل ما أشبهه بالثكنة أو المستشفى! شيد بما يخطئه الحصر من دقائق اللبنات. وتالله ما أعجزها من مهندسة تحسب هذه مباهج الحياة، وإن لم تكن سوى متاعب ضئيلة غادرتها في حالة دائمة من الاضطراب والقلق.

قالت: «أتحسب أن الأمور ستظل سائرة على هذا المنوال فيما بعد؟»

وتضاغطت شفتاها وتظاهرت بأن المربى تستغرق عنايتها، فسألها سانين: «وماذا تعنين بقولك فيما بعد؟» ثم عطس فظنت ماريا إيفانوفنا أنه عطس عامدًا ليهيجها وقطبت وجهها على الرغم مما في هذا الخاطر من وضوح السخافة.

ثم قال سانين وكأنه يحلم: «ما أجمل أن يكون المرء هنا معك!» فأجابته بلهجة جافية: «نعم فإن المقام هنا ليس بالذميم جدًّا.» وسرها من ابنها إطراؤه البيت والحديقة، وكانا عندها كأنهما من ذوي قرباها الملازميها.

ونظر سانين إليها ثم قال وعلى وجهه هيئة التفكير: «لو أمسكت عن مضايقتي بكل أنواع الحماقات لعاد المقام خيرًا وأحمد.»

ونطق هذه الكلمات بصوت لين المكاسر فخالفت رقة اللهجة جفوة المعنى،

فحارت ماريا إيفانوفنا ولم تدر أترتاح إلى ما سمعت أم تمتعض وتغضب وقالت وهي مكتئبة: «إني لأنظر إليك وأذكر أنك في طفولتك كنت دائمًا غريب الحال والآن …»

فقاطعها سانين جدلًا: «والآن؟» كأنما توقع أن يسمع شيئًا ليس أمتع منه ولا أبعث على السرور.

فقالت بحدة وهزت ملعقتها: «والآن أراك أشد جنونًا منك في أي عهد!»

فضحك سانين وقال «هذا خير!» ثم بعد هنيهة «هذا نوفيكوف.»

وأقبل رجل طويل وسيم الصورة ينسجم على قوامه المعتدل قميص من الحرير أحمر يتوهج في ضوء الشمس وفي عينيه الزرقاوين نظرة فاترة واشية بسذاجته وخلوص سريرته. وقال بصوت الودود: «هذا أنتم! — أبدًا في خصام! وبالله عليكم فيم تختصمون؟»

– «حقيقة الأمر هي أن أمي ترى أن الأنف الإغريقي أليق بي وأنسب، ولكني راض أتم الرضى عن أنفي الذي في وجهي.»

ونظر سانين إلى أنفه وضحك ثم مد يده إلى يمنى صاحبة الكبيرة الغضة.

فقالت ماريا إيفانوفنا: «كذلك أحسبني أقول!»

وضحك نوفيكوف، وارتد إليهم من جانب الحديقة صدى رقيق كأنما هناك من يشاطرهم جذبهم ومرحهم.

«أظني أحزر ما أنتما فيه، إنكما من مستقبلك في لجاجة.»

فصاح به سانين ذاهبًا إلى المداعبة ومتكلفًا الفزع: «وأنت أيضًا؟»

– «إنك تستحق هذا عدلًا!»

– «إذا اتفقتما علي فخير لي أن أنصرف عنكما.»

فصاحت به ماريا إيفانوفنا وقد هاجت بغتة وغاظها أنها هاجت: «كلا! أنا التي أزايلكما.» واحتملت قدر المربي وأسرعت إلى البيت ولم تتلفت. ووثب الكلب ونصب أذنيه وهو يراقبها ثم حك أنفه بيمينه ورمى البيت بنظرة المستفسر ثم عدا إلى الحديقة.

فقال سانين وقد سره خروج أمه: «أمعك سجائر؟»

فأخرج نوفيكوف علبة وهو يتريث في حركته وقال بصوت رقيق نبرات العتب: «لا يجمل بك أن تكايدها هكذا. إنها سيدة عجوز.»

– «كيف كايدتها؟»

– «إنك ترى …»

– «ماذا تعني بقولك «إنك ترى»؟ إنها هي التي لا تزال ورائي. وما أعرفني سألت إنسانًا شيئًا فكان ينبغي للناس أن يدعوني وشأني.»

وصمت كلاهما برهة ثم سأل سانين صاحبه: «وكيف الحال يا دكتور؟» وتأثر بلحظة الدخان المتصاعد من سيجارته وهو يتأوى فوق رأسه.

– «الحال سيئ.»

– «كيف؟»

– «من كل وجه. كل شيء ممل وهذه البلدة الصغيرة تأخذ بمخنقي وليس ما يعمله المرء فيها.»

– «ليس ما تعمل؟ إنك أنت الذي شكوت من أن الوقت لا يتسع للتنفس؟»

– «ليس هذا ما أعني. إن المرء لا يستطيع أن يظل عمره يعود المرضى، ولا أحد غير المرضى، هناك حياة أخرى غير هذه.»

– «وما يمنعك أن تحيا هذه الحياة الأخرى؟»

– «هذه مسألة فيها بعض التعقيد والإشكال.»

– «وما وجه الإشكال فيها؟ إنك شاب جميل معافى البدن، فماذا تبغي فوق هذا؟»

فقال نوفيكوف بتهكم خفيف: «هذا لا يكفي في رأيي.»

فضحك سانين وقال: «لا يكفي؟ إني أراه حظًّا عظيمًا.»

– «ولكنه لا يكفيني» قالها ضاحكًا بدوره.

وكان من الجلي أنه ارتاح إلى ما قاله سانين عن صحته وقسامته على أنه استحيا كالفتاة.

فقال سانين وكأنه يفكر: «ينقصك أمر واحد.»

– «وما هذا؟»

– «صحة الإدراك للحياة. إن الملل يجثم على صدرك. ولو أن ناصحًا أشار عليك مع ذلك أن تنفض نعلك من هذا المكان وأن تخرج إلى الدنيا الرحيبة لأشفقت أن تفعل.»

– «وكيف أخرج؟ كمتسول؟»

– «نعم حتى كمتسول! إني كلما نظرت إليك قلت لنفسي: هذا رجل يستهين في سبيل إيتاء الدولة الروسية دستورًا بأن يسجن في قلعة شلوسلبرج١ بقيمة عمره وبأن يعقد كل حقوقه وحريته كذلك. ومع ذلك فما هو والدستور؟ وماذا يجنيه منه؟ أما إذا كانت المسألة مسألة تحول عن أسلوب ممل من الحياة وذهاب إلى جهات أخرى طلبًا لمصالح ومتع أخرى راح يسأل نفسه: كيف أرتزق؟ ألست على كل صحتي وقوتي عرضة للأذى إذا لم يكن لي مرتب معين وإذا لم أوفق لذلك إلى الزبدة إلى جانب الشاي وإلى قمصان الحرير والياقات الصلبة وسائر ما هو من هذا بسبيل؟ لعمري إن الأمر مضحك!»

– «لست أرى في الأمر شيئًا مضحكًا على الإطلاق، فإن المسألة في الحالة الأولى مسألة قضية، فكرة، أما في الثانية …»

– «ماذا؟»

– «لا أدري كيف أعبر عما أريد» وعالج نوفيكوف أصابعه.

فقال سانين مقاطعا: «تأمل الآن! هذه طريقتكم أبدًا في الفرار من الموضوع. ولن أصدق أبدًا أن الشوق إلى الدستور أشد لحاجة في نفسك من الشوق إلى الانتفاع بحياتك على أتم وجه.»

– «هذه مسألة متنازعة. وقد يكون الأمر كما ذكرت.»

فلوح سانين بيده تلويح الضجر وقال: «لا تقل لي! لو أن رجلًا قطع أصبعك لآلمك الأمر أكثر مما يؤلمك لو أنه كان أصبع روسي آخر. هذه حقيقة. أليس كذلك؟»

– «أو أنانية» يريد نوفيكوف أن يتهكم فيخرف.

– «ربما. ولكنها الحقيقة على كل حال. ومع أنه ليس في روسيا ولا في كثير غيرها دستور ما، بل ليس فيها أضأل دليل على وشك ميلاد الدستور— فإن حياتك المملة هي التي تقيمك وتقعدك لا عدم وجود الدستور. وأقول لك أكثر من ذلك» وهنا لمع في عينه بريق السرور «إنك مكروب — لا من جراء حياتك بل لأن ليدا لم تمل إليك بالحب بعد، والآن أليس الأمر كما أقول؟»

«أي هذيان هذا؟» وصار وجه نوفيكوف كقميصه حمرة وبلغ من ارتباكه أن الدموع وثبت إلى عينيه الفاترتين الرقيقتين.

– «كيف ترى قولي هذيانًا وأنت لا ترى غير ليدا في الدنيا؟ إن الرغبة فيها مسطورة بأحرف جليلة على جبينك.»

فاضطرب نوفيكوف اضطرابًا محسوسًا وأخذ يسرع في خطواته جيئة وذهوبًا، ولو أن امرءًا غير أخيها كلمه على هذه الصورة لتألم أبلغ الألم، ولكن هذه الكلمات من فم سانين أذهلته. والواقع أنه لم يكد يفهم ما يقول في أول الأمر.

فتمتم قائلًا: «اسمع إما أنك تتكلف أو …»

– «أو ماذا؟» وابتسم.

فلوى نوفيكوف وجهه وهز كتفيه وصمت. وكان الذي جرى في ذهنه غير التكلف هو أن يعد سانين رجلًا مستهترًا خبيثًا، غير أنه لم يستطع أن يصارحه بهذا الخاطر إذ كان منذ أيام الدراسة في الكلية يخلص له الحب ويصدقه إياه، ومحال أن يكون نوفيكوف قد اختار لصداقته امرء سوء. وكان وقع هذا الكلام كريهًا مذهلًا، وأوجعته الإشارة إلى ليدا، ولكنها كانت معبوده فلا يسعه أن يحس الغضب لأن سانين ساق ذكرها وسره هذا، ولكنه آلمه كأن يدًا متقدة أمسكت بقلبه وضغطت.

وصمت سانين قليلًا وهو مبتسم منشرح ثم قال: «أتمم كلامك. فلست أتعجلك!»

فظل نوفيكوف يجيء ويروح كما كان مجروح النفس لا شك في ذلك. ودخل في هذه اللحظة الكلب يعدو وحك جسمه بركبتي سانين كأنما يريد أن يرى الناس مبلغ سروره هو الآخر فلاطفه سانين وهو يقول: «يا لك من كلب طيب!»

وحاول نوفيكوف أن يجتنب اتصال الحديث وأشفق أن يعود إليه سانين وإن كان أحب موضوع إليه وألذه وأنداه، وكل ما لا شأن له ﺑ«ليدا» عبث عنده لا يطاق.

ثم راح يسأل سانين عفوًا «وأين ليدا بتروفنا؟» وإن كان مع ذلك يكره أن يلقي السؤال البارز في ذهنه.

– «ليدا؟ وأين يمكن أن تكون؟ تتنزه مع الضباط حيث كل الفتيات في هذه الساعة من النهار.»

فسودت الغيرة وجه نوفيكوف وهو يقول: «كيف تنفق فتاة مثلها براعة وتهذيبًا وقتها مع هؤلاء الحمقى الفارغي الرءوس؟»

فقال سانين باسمًا: «يا أخي، إن ليدا فتاة جميلة موفورة الصحة مثلك بل هي فوق ذلك. إذ كانت قد أوتيت ما ينقصك — أعني الرغبة الحادة في كل شيء وهي تريد أن تعلم كل ما يعلم وأن تجرب كل أمر — هذه هي آتية وما عليك إلا أن تنظر إليها لتفهم هذا. أليست بالله جميلة؟»

وكانت ليدا أقصر من أخيها وأجمل، وعليها من العذوبة ولين القوة فتنة تميزها، وفي عينيها السوداوين نظرة شامخة، ولصوتها الذي تباهي به رنة موسيقية ملأى. فأقبلت على مهل تخطر برشاقة وإحدى يديها ممسكة بثوبها السابغ، وأقبل من بعدها ضابطان شابان.

– «من الجميل؟ أهو أنا؟»

وأشاعت في الحديقة سحر صوتها وجمالها وصباها.

ومدت إلى نوفيكوف يدها، وعينيها إلى أخيها وكانت أبدًا في حيرة من أمره لا تدري أجاد هو أم هازل.

وقبض نوفيكوف على يدها واضطرم وجهه، ولكن ليدا لم تلمح انفعاله وكانت قد ألفت منه نظرة الاحترام والحياء التي لم تضايقها.

وقال أجمل الضابطين وهو ناصب قامته كالجواد المتفحل: «عم مساء فلاديمير بتروفتش (سانين).»

وكان سانين يعلم أنه سارودين وأنه كابتن في فرقة الفوارس وأنه ألح عشاق ليدا.

وكان صاحبه «الملازم» تاناروف يعد سارودين مثال الجندي ويحكيه في كل شيء ويضرب على قالبه في كل أمر، وكان صموتًا ليس له رشاقة سارودين ولا قسامته.

فقال سانين مجيبًا أخته في رزانة: «نعم أنت!»

– «إني لجميلة لا شك! ولقد كان ينبغي لك أن تقول إن جمالي لا سبيل إلى وصفه.»

وضحكت جذلة وهوت إلى كرسي وهي ترشق أخاها سانين بعينيها. ورفعت ذراعيها وبدت بذلك معالم صدرها الجميل، وأخذت تخلع قبعتها فسقط دبوس طويل على الحصى فهدل شعرها ونقابها، فصاحت بالملازم الصموت بصوت أجش: «أندريه بافلوفتش! أعني.»

وتمتم سانين كمن يفكر بصوت عال وعينه مصوبة إلى أخته: «نعم إنها جميلة.»

فمالت إليه ليدا بطرفها في حياء وقالت: «إننا كلنا حسان.»

فضحك سارودين عن ثناياه الناصعة البراقة وقال: «ما هذا؟ حسان!! ها ها! لسنا نعدو أن نكون كالإطار يظهر وضاءة جمالك الباهر.»

فقال سانين دهشًا: «أقول يا لها من فصاحة!»

وكانت في صوته نبرة خفيفة من التهكم.

فنطق تاناروف الصموت وقال: «إن ليدا بتروفنا تحيل الغبي فصيحًا.» وكان يساعدها على نزع قبعتها فهدل شعرها فادعت الغيظ وهي ماضية في ضحكها.

وقال سانين «ماذا؟ وأنت أيضًا فصيح؟»

فهمس نوفيكوف في خبث ونفسه مرتاحة: «دعهم يتفصحون!»

وقطبت ليدا جبينها لأخيها وكأنما كانت عيناها السوداوان تقولان له بأصرح عبارة «لا تحسب أني عاجزة عن استبطان هؤلاء النفر، إنما أبغي أن أمتع نفسي، وما أنا بالورهاء الحمقاء وإني لأدري ما أنا فيه.»

فابتسم لها سانين.

وتم أخيرًا نزع القبعة. ووضعها تاناروف في تؤدة ووقار على المنضدة، ولكن ليدا صاحت به مداعبة مظهرة الحنق: «أندريه بافلوفتش! انظر! انظر ماذا صنعت بي! لقد أفسدت شعري فاختلط وسأضطر أن أدخل البيت لأصلحه.»

فقال تاناروف مضطربًا متلعثمًا: «إني آسف جدًّا.»

وهمت ليدا وجمعت ذلاذل ثوبها وعدت ضاحكة وعيون الرجال تتعقبها، وأحسوا لما خفيت عن أنظارهم كأنما خلصت أنفاسهم واستراحوا من ذلك الشعور العصبي بالتقيد الذي يعانيه الرجال عادة في حضرة فتاة جميلة.

وأشعل سارودين سيجارة وجعل يدخنها بالتذاذ واضح، وكان المرء يحس إذا سمعه يتكلم كأنما عادته أن يحدو الحديث، وإن ما يجري بذهنه يخالف ما يجري به لسانه وقال: «لقد كنت أحاول أن أقنع ليدا بتروفنا أن تدرس الغناء درسًا جديًّا فإن مستقبلها مضمون ما دام لها هذا الصوت.»

فقال نوفيكوف مشمئزًا: «تالله ما أبدعها من مهنة!» وأشاح بوجهه.

فسأل سارودين مستغربًا ونحى السيجارة عن فمه: «أي ضير في ذلك؟»

فرد عليه نوفيكوف وقد حمي فجأة: «ما هي الممثلة؟ إنها ليست إلا مومسًا!»

ومزقت قلبه الغيرة وقطع نياطه ما تصوره من منظر هذه الفتاة التي يشتهي جثمانها إذ تبدو أمام سواه من الرجال في ثوب فتان يكشف عن مفاتنها ويهيج عواطفهم،

فقال سارودين رافعًا حاجبيه: «لا شك أنك تذهب إلى أبعد مما يجب.»

وكانت نظرة نوفيكوف كلها حقدًا وبغضًا وكان يرى في سارودين لصًّا ينوي أن يخطف عشيقته وأمضه — فضلا عن هذا — حسن وجهه فقال: «كلا ليس في قولي تجاوز للحد. وتصور بروز المرأة على الملعب كاسية إلا أنها عارية — حاسرة في بعض الأدوار الشيقة عن مفاتنها الشخصية لأولئك النظارة الذين لا يلبثون أن يزايلوا المكان بعد ساعة أو نحوها كما ينهضون عن مومس بعد أن ينقدوها أجرها المعتاد! الحق إنها مهنة فاتنة!»

فقال سانين: «يا أخي، إن كل امرأة تحب أن يعجب الناس بمحاسنها الخاصة.»

فهز نوفيكوف كتفيه متململًا وقال: «ما أخشن هذا القول وأسخفه!»

فقال سانين: «ليكن خشنًا أو غير خشن. إنه الحق على كل حال وأحر «بليدا» أن يكون لظهورها على الملعب أعمق وقع. وإنى لأشتاق أن أراها ثم …»

وأحسوا كلهم بالقلق وإن كان هذا الكلام قد أثار في نفوسهم رغبة غريزية في الاستطلاع.

ولما كان سارودين يعد نفسه أذكى من زملائه وأحزم فقد بدا له أن يبدد جو الارتباك الغامض الذي اكتنفهم فقال: «وماذا تظنون الفتاة حقيقة أن تصنع؟ أتتزوج؟ أم تأخذ في نهج دراسي أم تدع مواهبها تأسن؟ إن هذا يكون جريمة ضد الطبيعة التي جادت.»

فقال سانين ولم يخف تهكمه: «آه إن فكرة هذه الجريمة لم تخطر لي قبل هذه الساعة.»

وضحك نوفيكوف ضحكة خبيثة، ورد على سارودين متوخيًا الأدب: «لماذا تعدها جريمة؟ لأن تكون المرأة أما صالحة أو طبيبة خير ألف مرة من أن تكون ممثلة.»

فقال تاناروف محنقًا: «كلا.»

فسألهم سانين: «ألا ترون هذا النوع من الحديث مملًّا؟»

ولكن سؤاله ضاع في نوبة سعال، وكان الواقع أنهم جميعًا يعدون هذه المناقشة مدعاة للضجر وهي بعد لا ضرورة إليها، على أنهم مع هذا ساءهم قول سانين فلزموا صمتًا بغيضًا.

ثم ظهرت ليدا وأمها ماريا إيفانوفنا على الشرفة. وكانت ليدا قد سمعت آخر ما نطق به أخوها وإن لم تدر ما يشير إليه، فقالت وهي تضحك: «أرى الملال اعتوركم بسرعة فلنمض إلى النهر فإنه الساعة رائق.»

ومشت أمام الرجال وقوامها الأنيق يخطر قليلًا وفي عينها نظرة مبهمة يخيل إليك أنها قائلة بها شيئًا أو واعدة بشيء.

وقالت أمها: «تمشوا إلى وقت العشاء.» فصاح سارودين: «يسرني ذلك.» وعرض على ليدا ذراعه.

وقال نوفيكوف متهكمًا: «أرجو أن تسمحوا لي بمرافقتكم.»

ولكن وجهه كانت عليه سمات من يهم بالبكاء.

فقالت ليدا: «ومن ذا يمنعك؟.»

وأرسلت إليه نظرة باسمة عن كتفها.

وقال سانين: «نعم اذهب أنت الآخر. وقد كنت أحب أن أرافقكم لولا أنها مقتنعة بأني أخوها.»

فاضطربت ليدا وأسرعت ناظرة إليه وأرسلت ضحكة قصيرة عصبية.

وبدا على ماريا إيفانوفنا الامتعاض وقالت: «لماذا تتكلم على هذا النحو السخيف؟ أظنك تحسبه أسلوبًا مبتكرًا؟»

فقال سانين: «الحقيقة أني لم أفكر في هذا على الإطلاق.»

ونظرت إليه أمه وهي مذهولة. وكانت لا تفهم ابنها ولا تعرف أذاهب هو إلى الجد أم يقصد إلى الدعابة. ولا تدري فيم يفكر وماذا يحس على حين ترى الناس المفهومين غيره يفكرون ويحسون مثلها. وعندها أن الرجل يجب أن يفكر ويحس ويعمل كما يفكر ويحس ويعمل غيره من أنداده المماثلين له من حيث المنزلة الاجتماعية والعقلية. ومن رأيها كذلك أن الناس ليسوا رجالًا متمايزى الشخصيات والخصائص وإنما ينبغي أن يصبُّوا جميعًا في قالب واحد عام، وشجعتها البيئة على اعتناق هذه العقيدة وقررتها في نفسها، فذهبت إلى أن التربية من شأنها أن تجعل الناس فريقين لا ثالث لهما: أصحاب العقول والجهلاء. وللفريق الثاني أن يحتفظ بشخصيته إذا شاء، ولكن هذا مجلبة لامتهان الآخرين. وأول الفريقين ينقسم إلى طوائف ولكن آراءهم لا تطابق صفاتهم الشخصية بل مراكزهم الاجتماعية، ومن هنا كان كل طالب ثوريًّا، وكل موظف مدنيًّا، وكل فني ملحدًا، وكل ضابط طالب رتبة، فإذا حدث مصادفة أن طالبًا مال إلى مبادئ المحافظين، أو أن ضابطًا صار فوضويًّا، فلا بد أن يعد هذا أمرًا شاذًّا باعثًا على أشد العجب بل مستنكرًا. وإذا ذهبنا نعتبر سانين وأصله وتربيته رأينا أنه كان ينبغي أن يكون على خلاف ما هو، ولذلك أحست ماريا إيفانوفنا — مثل ليدا ونوفيكوف وسائر من اتصل به — أنه خيب الأمل فيه. ولم يفت غريزة الأم ما يقع في نفوس الناس من ابنها فتألمت.

ولم يكن سانين يجهل ذلك وكان يود لو طمأنها، غير أنه لم يدر كيف يعالج ذلك مبتدئًا. وخطر له أولًا أن يرائي ويدعي المكذوب من العواطف ليهدأ روعها ولكنه لم يفعل شيئًا سوى أن ضحك.

ثم قام وخرج وظل برهة في سريره مستلقيًا يفكر وخيل إليه كأنما يريد الناس أن يحيلوا الدنيا ثكنة عسكرية خاضعة لقائمة من القواعد والأصول المجهولة للقضاء على الشخصية أو يجعلوها طوع قوة ما غامضة عتيقة.

وأخب به التفكير وأوضع حتى تناول المسيحية ومصيرها ولكنه مل هذا الشأن حتى أخذه النوم ولم يستيقظ إلا بعد أن حال المساء ليلًا حالكًا.

ولاحظته أمه وهو يخرج وزفرت هي أيضًا واستغرقها الفكر وحدثت نفسها أن سارودين يتحبب إلى ليدا خاطبًا ودها، وتمنت أن يكون الأمر جدًّا وقالت لنفسها: «قد بلغت ليدا العشرين، وسارودين رجل حسن على ما يظهر، وقد سمعت أنه سيعطي قيادة في هذا العام — نعم إنه غارق في الدين — ولكن … لماذا رأيت ذلك الحلم الشنيع؟ وإني لأدري أنه خاطر سخيف غير أني لا أستطيع أن أخلي منه رأسي!»

وكان الحلم الذي رأته قد بدا لها في نفس اليوم الذي دخل فيه سارودين البيت لأول مرة، فخيل إليها أنها رأت ليدا في ثياب بيضاء تسير في مروج خضراء متألقة الأزاهير.

وجلست ماريا إيفانوفنا على كرسي وثير وأسندت رأسها إلى كفها كما تفعل العجائز، وأتأرت نظرها إلى السماء المظلمة وساورتها الخواطر السوداء وعذبتها ولم تدع لها راحة وأحست شيئًا مبهمًا أثار مخاوفها وأزعجها.

هوامش

(١) قلعة يعمل فيها السياسيون أو كانوا يعتقلون فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤