الفصل الثامن والعشرون

ذهب سانين إلى سلوفتشك في نفس هذه الليلة، وكان هذا اليهودي جالسًا وحده على سلم بيته ينظر إلى المكان الموحش العاري الذي أمامه. وما كان أشجى منظر الخصاص الفارغة الصدئة الأقفال ونوافذ الطاحون السوداء! لقد كان المنظر كله ناطقًا بنضوب الحياة والجزر في مدها الأول.

ولم يفت سانين هذا التغير في ملامح سلوفتشك، فقد كان لا يبتسم، وكانت نظرته قلقة مضطربة وعيناه تتساءلان وقال: «آه! عم مساء.» وتناول يد سانين ثم استأنف التحديق في السماء الساكنة. وجلس سانين إلى جانبه على السلم وأشعل سيجارة وجعل يراقب سلوفتشك في صمت ويجد لذة في درس هذه الحالة الغريبة، ثم قال بعد برهة: «ماذا تصنع بنفسك هنا؟»

فإذا سلوفتشك يحرك عينيه الحزينتين الواسعتين إليه في فتور ويقول: «إني أعيش هنا، وكانت عادتي أن أكون في المكتب أيام كانت الطاحون دائرة. ولكنها الآن مغلقة وقد ذهب كل امرئ سواي.» فسأله سانين: «ألا تحس وحشة الوحدة هنا؟»

فصمت سلوفتشك ثم هز كتفيه وقال: «سواء عندي كل شيء.» وسكتا برهة فلم يكن يسمع إلا صوت سلسلة الكلب ثم قال سلوفتشك بحدة مفاجئة: «إن المكان ليس موحشًا بل الموحش هو هذا وهذا.» وأشار إلى رأسه وصدره.

فسأله سانين في هدوء «ما خطبك؟»

فقال سلوفتشك وزاد حماسة: «اسمع لقد ضربت اليوم رجلًا وحطمت له وجهه. وربما كنت قد قضيت على حياته. ولا يسوءك كلامي هذا. لقد فكرت كثيرًا في هذا كله وأنا جالس هنا كما ترى أعجب وأعجب، والآن هل إذا سألتك عن شيء تجيبني؟» فقال سانين بعطف: «سلني ما بدا لك. أتخشى أن تسيء إلي؟ إني أؤكد لك أن هذا لا يسيئني. إن ما وقع وقع. ولو كنت أعتقد أني أسأت لكنت أول من يقر ويعترف.»

فقال سلوفتشك وهو يرتعش: «أريد أن أسألك: هل تدرك أنك ربما كنت قد قتلت هذا الرجل؟»

فأجابه سانين: «لا يكاد يكون هناك شك كبير في هذا، فإن من الصعب على رجل مثل سارودين أن يتخلص من هذه الورطة دون أن يقتلني أو أن أقتله. أما حيث قتله لي فقد أفلتت منه اللحظة المناسبة، وهو الآن في حالة لا تسمح له بإيذائي، ولن تؤاتيه الشجاعة فيما بعد، لقد انتهى دوره.»

– «وتقول لي هذا بكل هدوء؟»

فسأله سانين: «ماذا تعني بالهدوء؟ إني لا أستطيع أن أنظر في هدوء إلى فرخ يقتل فضلًا عن إنسان. ولقد آلمني أن أضربه، نعم إن شعور الإنسان بقوته لذيذ، ولكنها على هذا تجربة فظيعة، فظيعة لأن مثل هذا العمل في ذاته وحشي. غير أن ضميري هادئ، لأني لم أكن إلا أداة القدر، وإنما حاق بسارودين ما حاق به لأن تيار حياته كلها كان لا بد أن ينتهي إلى كارثة. والعجيب أن غيره من أمثاله لا يصيرون إلى مثل مصيره. إنهم قوم يتعلمون أن يقتلوا أبناء جنسهم ولا يعرفون لماذا. إنهم مجانين بله! إذا خليت حبالهم على غواربهم قطعوا رقاب الناس ورقابهم كذلك، فهل ألام على أن حميت نفسي من مجنون من هذا النوع؟»

فأجابه سلوفتشك بعناد: «نعم ولكنك قتلته.»

فقال سانين: «إذن فتوجه إلى الله الذي قدر لنا اللقاء.»

«كان يسعك أن تمنعه بأن تمسك كلتا يديه.»

فرفع سانين رأسه وقال: «إن المرء في هذه اللحظة لا يفكر. وكيف كان ذلك خليقًا أن يمنع وقوع الشر؟ إن قانون الشرف عنده يطلب الانتقام بأي ثمن. ولم يكن يسعني أن أظل قابضًا على يديه إلى الأبد. وما كان ذلك ليكون إلا إهانة جديدة.»

فلوح سلوفتشك بيديه ولم يجب وأطبق الظلام عليه وزال الشفق وعمقت الظلال، وصار المكان كأنما يتأهب لاستقبال كائنات مرعبة خفية، ولعل خطاهم الصامتة أقلقت الكلب فقد خرج من مبيته فجأة ورقد أمامه.

وقال سلوفتشك: «ربما كنت مصيبًا. ولكن ألم يكن من ذلك مفر؟ ألم يكن خيرًا أن تحتمل أنت اللطمة؟»

فقال سانين: «خيرًا! إن الضرب شيء مؤلم فلماذا أحتمله؟ في أي سبيل؟»

فقاطعه سلوفتشك: «استمع إلي من فضلك كان هذا يكون خيرًا.» فقال سانين: «لسارودين على التحقيق.»

فقال سلوفتشك: «لا بل لك. لك أنت.»

فأجابه سانين: «إيه يا سلوفتشك دعك من سخافة القول بالانتصار الأدبي. إنها فكرة غير صحيحة. ليس النصر الأدبي في أن تقدم خدك للضارب، بل في أن تكون على حق أمام ضميرك. فأما كيف يتأتى ذلك فمسألة مرجعها إلى المصادفة والظروف. إنه ليس أفظع من الاستعباد. وهو أفظع ما يكون حين تثور الروح على الإرغام والقوة، ولكنها تذعن على رغم ذلك باسم قوة أعظم منها وأعلى.»

فأمسك سلوفتشك برأسه كأنما يهم أن يطير عن جسمه وقال بلهجة شاكية: «ليس لي العقل الذي أفهم به هذا. ولست أدري كيف ينبغي لي أن أعيش.»

فقال سانين: «وما حاجتك أن تدري؟ عش كما تعيش الطيور؛ إذا أرادت أن تحرك جناحها الأيمن فعلت، وإذا شاءت أن تطير حول شجرة طارت وحومت.»

فأجابه سلوفتشك: «قد يستطيع الطائر ذلك ولكني لست بطائر بل إنسان.» فضحك سانين ورنت ضحكته في الفناء الموحش وهز سلوفتشك رأسه وقال: «كلا! هذا ليس إلا كلامًا. وأنت أعجز من أن تبين لي كيف أعيش والناس مثلك عجزًا وقصورًا.» فقال سانين: «هذا صحيح وما يستطيع ذلك أحد. إن فن الحياة يتطلب الموهبة اللازمة له. وأَحْرِ بمن حرمته الطبيعة هذه الموهبة أن يفنى أو أن تعود حياته كالسفينة المحطمة.» فقال سلوفتشك: «ما أعظم هدوءك وأنت تقول هذا كأنك تعرف كل شيء! لا يسوءك قولي هذا — ولكن هل كنت دائمًا هكذا — هادئًا دائمًا.»

فقال سانين: «كلا! وإن كان مزاجي هادئًا في العادة، ولقد مر بى وقت تنازعتني فيه الشكوك من كل نوع. ولقد كنت أحلم في بعض أيامي بأن الحياة المسيحية هي المثل الأعلى.»

وأمسك سانين ومال إليه سلوفتشك كأنما يتوقع أن يسمع شيئًا على أعظم جانب من الأهمية فقال سانين: «وكان لي في ذلك الوقت زميل — طالب رياضة — اسمه إيفان لاند وكان رجلًا عجيبًا نصيبه من قوة الروح عظيم، وكان مسيحيًّا بفطرته لا عن اقتناع، فكانت حياته مرآة للمسيحية وصورة مجسدة لتعاليمها. إذا لطمه أحد لم يكر عليه باللطم، ولم يجاره في التعدي، وكان يعد كل رجل أخًا له، ولا تثير المرأة في نفسه الإحساس الجنسي. هل تذكر سمينوف؟»

فهز سلوفتشك رأسه أن نعم وبه مثل اغتباط الطفل ومضى سانين في كلامه فقال: «كان سمينوف في ذلك الوقت مريضًا جدًّا، وكان يعيش في القرم حيث يشتغل بالتدريس، فرمت به الوحدة وتوقع الموت، فسمع «لاند» بخبره فآلى أن يذهب إليه وأن ينقذ روحه، ولم يكن معه مال، ولم يكن ثم من يرضى أن يقرض مجنونًا مشهورًا شيئًا من المال. ولكنه ذهب إليه مع ذلك مشيًا على رجليه، وبعد أن قطع أكثر من ألف فرسخ قضى نحبه في الطريق، وهكذا ضحى بحياته في سبيل الناس.»

فصاح سلوفتشك وعيناه تلتمعان: «قل لي هل تقدر عظمة هذا الرجل؟» فأجابه سانين وعلى وجهه هيئة المفكر: «لقد تحدث الناس عنه كثيرًا في ذلك الوقت. وكان البعض لا يعدونه مسيحيًّا وينحون عليه لهذا السبب. وقال غيرهم بل هو مجنون لا يخلو من الزهو، وأنكر آخرون أن له نصيبًا من قوة الروح، ولما رأوه يأبى أن يقاتل فقد أنكروا أنه نبي أو فاتح! أما أنا فرأيي فيه غير ذلك. كان له في ذلك الوقت أعظم تأثير في نفسي. حتى لقد لكمني طالب على أذني فثار ثائري وكدت أجن. ولكن لاند كان واقفًا أمامي فنظرت إليه، ولا أدري كيف حدث هذا، ولكني نهضت دون أن أتكلم وخرجت من الغرفة، وأحسست في أول الأمر شيئًا من الزهو والمباهاة بما فعلت، ثم انقلبت أمقت هذا الطالب من أعمق أعماق نفسي، لا لأنه لكمني، بل لأن سلوكي معه لا بد أن يكون أرضاه كل الرضى، ثم اتضح لي شيئًا فشيئًا كذب موقفي وزوره، فشرعت أفكر، وقضيت أسبوعين وأنا كالذي ضاع عقله، وبعد ذلك زايلني الإحساس بالزهو والمباهاة بهذا النصر الأدبي الكاذب، وحدث أن هذا الطالب تهكم عليّ فجلدته حتى غاب عن رشده، فأفضى هذا إلى وقوع الجفوة بيني وبين لاند، ولقد فكرت في حياته تفكيرًا نزيهًا فألفيتها فقيرة شقية إلى أقصى حد.»

فقال سلوفتشك: «كيف تقول هذا؟ كيف استطعت أن تقدر ثروة عواطفه الروحية؟»

فأجابه سانين: «إن عواطفه هذه واحدة مملة، ولقد كانت سعادته في حياته في تقبل كل مصيبة بدون تململ. وأما ثروته كلها فكان قوامها رفض لذات الحياة والمنافع المادية. لقد كان متسولًا باختياره، وكان شخصًا مضحكًا ذهبت حياته في سبيل فكرة لم يكن يدركها على صورة واضحة.»

فضرب سلوفتشك كفًّا بكف وقال: «إنك لا تستطيع أن تقدر ألمي لسماع هذا الكلام.»

فقال سانين بلهجة المستغرب: «إنك يا صاحبي مضطرب الأعصاب جدًّا. لم أقل لك شيئًا غريبًا فلعل الموضوع مؤلم لك.»

أجاب: «مؤلم جدًّا. إني دائم التفكير حتى ليخيل إليّ أحيانًا أن رأسي سينفجر. فهل كان كل هذا خطأ لا أكثر؟ إني أتلمس طريقي كأني في غرفة مظلمة ولا أجد من يقول لي ماذا أصنع. لماذا نعيش؟ أجبني.»

فقال سانين: «لماذا؟ هذا ما لا يعرفه أحد.»

أجاب: «ألا نحيا للمستقبل ليفوز الناس في الأجيال الآتية بعصر ذهبي؟»

فقال سانين: «لن يتأتى هذا العصر الذهبي أبدًا. ولو أن الدنيا صلحت والناس صلحوا في لحظة واحدة لكان من المحتمل أن يطلع فجر عصر ذهبي. ولكن هذا مستحيل؛ إن السير في طريق التحسن بطيء. والإنسان لا يستطيع أن يرى إلا الخطوة التي أمامه والخطوة التي وراءه مباشرة. ونحن لم نجرب حياة الرقيق الروماني ولا حياة المستوحشين في العصر الحجري، ولذلك لا نستطيع أن نقدر نعمة مدنيتنا، فإذا حدث أن عصرًا ذهبيًّا مر بالعالم فإن أهله لن يجتلوا أي فرق بين حياتهم وحياة أجدادهم. إن الإنسان يسير في طريق لا آخر له يُعْرَف، وليس من يريد أن يمهد الطريق ويسويها للسعادة إلا كمن يريد أن يضيف أرقامًا إلى اللانهاية.» فسأله سلوفيتشك: «إذن فأنت تعتقد أن كل هذا لا معنى له. وأن كل شيء عبث؟»

أجاب سانين: «نعم هذا ما أرى.» فقال سلوفتشك: «ولكن ما قولك في صديقك لاند؟ لقد قلت إنك …»

فقال سانين بلهجة الجد: «لقد كنت أحب لاند، لا لأنه كان مسيحيًّا، بل لأنه كان مخلصًا، ولم يَحُدْ قط عن طريقه ولا أرهبته العقبات الكأداء أو السخيفة، فأنا كنت أقدره باعتباره شخصية، فلما مات لم يعد لقيمته وجود.»

فسأله سلوفتشك: «وهل تظن أن لمثل هؤلاء الناس تأثيرًا في الحياة يجعلها أنبل؟ ألا يكون لأمثالهم أتباع أو تلاميذ.»

فقال سانين: «ولماذا تريدون أن تجعلوا الحياة أنبل؟ قل لي ما الداعي إلى ذلك أولًا؟ واعلم ثانيًا أن المرء لا يحتاج إلى التلاميذ، وإنما يكونون كذلك بفطرتهم مثل «لاند»، لقد كان المسيح رجلًا رائعًا، ولكن المسيحين نوتية مساكين. وما أجمل فكرته غير أنهم أحالوها شيئًا جامدًا لا حياة فيه.»

وتعب سانين من الكلام فسكت ولزم زميله الصمت كذلك، وكان السكون عميقًا حولهما والنجوم فوقهما كأنما تديران حديثًا صامتًا لا آخر له. ثم همس سلوفتشك بشيءٍ فَزِعَ له سانين وسأله: «ما هذا الذي تقوله؟»

فتمتم سلوفتشك: «قل لي رأيك. لنفرض أن رجلًا لم يعد يرى الطريق واضحًا وأنه لا يكف عن التفكير وتقطع قلبه به، وأن كل شيء يحيره ويفزعه، فقل لي ألا يكون خيرًا له أن يموت؟»

فأجاب سانين وقد استشف ما في ذهن صاحبه: «ربما كان الموت في هذه الحالة خيرًا، فإن التفكير وكد الذهن لا طائل تحتهما، ولا ينبغي أن يعيش سوى مَن يجد لذة في الحياة. أما الشقي فالموت خير له وأرفق به.»

فصاح سلوفتشك: «هذا رأيي أيضًا.» ودفع يده إلى سانين وكانت عيناه في الظلام أشبه شيء بثقبين مظلمين. فقال سانين وهو ينهض: «إنك رجل ميت، وخير مكان للميت هو القبر. الوداع!»

وكأنما لم يسمعه سلوفتشك فظل لا يتحرك وتريث سانين قليلًا ثم مضى في بطء. ولما بلغ البوابة وقف وأصغى ولكنه لم يسمع شيئًا، وقال لنفسه وكأنما يرد على شعور باطن: «سواء أن يعيش هذا الرجل أو يموت. وسيموت غدًا إذا لم يمت اليوم.»

وأغلق الباب فصر ومضى هو إلى الميدان، فأخذت عينه شخصًا يعدو وهو يبكي فوقف سانين، وبرز من الظلام رجل دنا منه فصاح به: «ما الخبر؟»

فوقف الرجل هنيهة فرأى سانين جنديًّا كئيبا فسأله: «ماذا حدث؟» فتمتم شيئًا ثم عدا وهو يعول وغاب في الظلام كالأشباح فقال سانين: «هذا خادم سارودين.» ثم طاف بذهنه مثل البرق «إن سارودين قد انتحر.»

فحدق في الظلام برهة وابترد جبينه ودار عراك وجيز — إلا أنه هائل — في صدر هذا الرجل القوي.

وكانت البلدة نائمة والطرقات عارية والنوافذ كالعيون الفاترة محملقة في الظلام، فهز سانين رأسه وابتسم وقال بصوت عال: «لا ذنب لي!» ونصب قامته واستجمع قوته وسار شبحًا رائعًا في الليل الساكن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤