الفصل السابع والثلاثون

استيقظ يوري صباح اليوم التالي متوعكًا مصدع الرأس مر الفم. ولم يذكر في أول الأمر إلا صيحات وأصوات كئوس وضوء مصابيح خابية قرب الفجر، ثم ذكر كيف أن شافروف وبيتر الليتش مضيا وأنه بقي مع إيفانوف، وكان هذا قد اصفر من كثرة الشراب ولكنه ظل متماسكًا وأنهما وقفا يتحدثان فوق الشرفة.

ولم تدع لهما الخمر عينًا تفطن إلى جمال الفجر والمروج والنهر وظلا يتناقشان، وأثبت إيفانوف ليوري أن أمثاله لا قيمة لهم إذ كانوا يخافون أن يقطفوا ثمار الحياة، وأن خيرًا لهم أن يموتوا وذكر قول بيتر الليتش: «إني على التحقيق لا أدعو هؤلاء الأشخاص رجالًا.» وضحك وتوهم أنه هدم يوري وقضى عليه، ولكن يوري لم يسؤه ذلك ولم يعبأ من كلامه إلا بقوله إن حياته شقية، وذهب يعلل ذلك بأن أمثاله أدق حسًّا وألطف شعورًا، ووافق على أن خيرًا لهم أن يخرجوا من الدنيا، ثم طغى حزنه حتى كاد يبكي، وهم بأن يخبر إيفانوف بحبه لسينا وما وقع له معها وأن يلقي بشرفها تحت قدمي هذا الوحش.

وذكر أيضًا أن إيفانوف عاد بعد برهة ومعه سانين، وأن سانين كان منشرح الصدر كثير الكلام، وأنه كان ينظر إلى يوري نظرة ود مشوبة بالزراية ثم انتقلت خواطره إلى سينا فقال لنفسه: «لقد كان من الخسة أن أنتهز فرصة ضعفها. ولكن ماذا أصنع الآن؟ أنالها ثم أرمي بها. كلا! هذا لا سبيل إليه فإني أرق قلبًا من ذلك، إذن ماذا أفعل؟ أأتزوج منها؟»

الزواج! إن هذا مبتذل إلى حد شنيع. وكيف يستطيع من كان مثله معقد المزاج أن يحتمل فكرة المعيشة الزوجة العامية! إن هذا مستحيل: «على أني أحبها، فهل أنبذها وأمضي؟ ولماذا أقضي على سعادتي؟ إن هذا فظيع ومضحك!»

ثم وصل إلى البيت وحاول أن يصرف خواطره عن هذا الموضوع، فجلس إلى المكتب وشرع يقرأ بعض عبارات فخمة كان قد كتبها أخيرًا. «ليس في هذه الدنيا خير ولا شر. يقول البعض إن الطبيعي خير وإن الإنسان حقيق أن يرضي شهواته لأنها طبيعية ولكن هذا خطأ لأن كل شيء طبيعي. وما من شيء يولد في الظلام أو الفراغ. وأصل كل شيء واحد.»

«ويقول آخرون كل شيء يخرج من يد الله حسن. ولكن هذا أيضًا خطأ لأن الله إذا كان موجودًا مصدر كل شيء حتى الكفر. وهناك آخرون يقولون: «إن الخير هو فعل الخير والإحسان إلى الناس. وكيف يكون ذلك؟ إن ما ينفع واحدًا يضر غيره، يطلب الرقيق حريته. ويستبقيه سيده عبدًا رقيقًا والغني يبغي بقاء ثروته، والفقير ينشدها وينشد المظلوم الإنصاف والحرية والظافر أن لا يهزم، والمشنوء أن يحب، والحي أن لا يموت والإنسان أن يقضي على الوحوش، والوحوش أن تفترس الإنسان، هكذا كانت الحالة في البداية وهكذا ستظل إلى آخر الدهر، وليس من حق إنسان كائنًا ما كان أن يستأثر بما هو خير له وحده.»

«ويقول الناس إن الحب خير من البغض، وهذا أيضًا خطأ لأنه إذا كان ثم جزاء فخير على التحقيق للمرء أن لا يذهب إلى الأثرة والأنانية، ولكن إذا لم يكن ثم جزاء فخير له أن يفوز بنصيبه من السعادة تحت الشمس.»

ومضى يوري في تلاوة هذا الذي كان كتبه وهو يظن أن خواطره هذه مدهشة العمق وقال لنفسه: «إن هذا صحيح.» واستشعر الزهو ثم مضى إلى النافذة وأطل على الحديقة حيث كانت الأرض مغطاة بالأوراق الصفراء، فأحس أن لون الموت يطالعه من كل ناحية، وصار حيثما أدار بصره يرى أوراقًا ذابلة وحشرات ارتهنت حياتها بالحرارة والدفء ولم يستطع يوري أن يفهم هذا السكون وملأ الصيف المنصرم قلبه بالسخط فقال: «لقد زحف الخريف وسيتلوه الشتاء والجليد ثم الربيع فالصيف فالخريف كرة أخرى وتدور الأعوام دورتها الأبدية المملة. وماذا أصنع طول هذا الزمن؟ ما أنا صانعه الآن؟ كلا فسأكون أبدًا حيًّا وأكل ذهنًا ثم يوافيني الهرم وفي عقبه الموت.»

وغزت ذهنه الخواطر التي كانت تربكه أبدً، فراح يتوهم أن الحياة قد مرت به وأنه ليس في الدنيا وجود خاص — حتى حياة الأبطال تكون مفعمة بدواعي الملل والشجن في مفتتحها وخالية من بواعث السرور في ختامها — ثم صاح: «عمل! نصر من أي نوع! أتقد ثم أخمد بلا خوف ولا ألم! هذه هي الحياة الحقيقية الوحيدة.» وخطر لذهنه ألف عمل كل منها أفحل من الآخر، فأغمض عينيه فمثل لخياله منظر الصباح في بطرسبرج وبدت أسوار مرتفعة بينها مشنقة. وتصور فوهة مسدس ملتصقة بجبينه وخيل له أنه يسمع صوت انطلاقه على وجهه فقال: «هذا هو الذي يدخره القدر لي! هذا مصيري!» فخفيت أعمال البطولة وحل محلها إحساسه بالعجز، وخيل له أن ما يحلم به من الأعمال المجيدة ليس إلا أوهامًا صبيانية. فقال: «لماذا أضحي بنفسي أو أحتمل الإهانة والموت لتتقي طبقات العمال في القرن الثاني والثلاثين آلام الجوع والفقر الجنسي؟ إلى الشيطان بكل من في الدنيا من العمال وغير العمال! بودي لو ضربني بعضهم برصاصة! نعم أود أن يقتلني بعضهم بضربة من خلفي حتى لا أحس شيئًا. ما هذا الكلام الفارغ؟ ولماذا أطلب أن يفعل غيري هذا؟ ألا يمكن أن أفعل أنا ذلك؟ هل بلغ من جبني أن لا أستطيع أن أختصر هذه الحياة التي أعلم أنها حياة شقاء محض؟ إن المرء يموت لا محالة فخير …» ودنا من المكتب الذي فيه مسدسه وأخرجه منه وقال: «لنفرض أني جربت! لا لأقتل نفسي فعلًا بل على سبيل التلهي والمزاح …» ووضع المسدس في جيبه وخرج إلى الشرقة المؤدية إلى الحديقة وكانت الأوراق الصفراء منتشرة على الدرج فرفسها برجله وأطارها في كل ناحية وصفر لحنًا شجيًّا حزينًا. فسألته لياليا: «ما هذا اللحن؟ أهو رثاء لشبابك الراحل؟» وذهبت إليه فقال: «لا تهذي.» وأحس منذ هذه اللحظة أن شيئًا يدنو منه وأن لا طاقة له على دفعه فراح يتنقل في أرجاء الحديقة وهو مضطرب، ومضى إلى النهر حيث كانت الأوراق الذاوية عائمة على صفحته. وظل برهة يرقب الدوائر تنداح على سطح الماء والأوراق ترقص ثم كر إلى البيت، ووقف في طريقه يتأمل أحواض الزهر، وكانت فيها بقية منه ثم انقلب إلى الحديقة. كانت فيها شجرة بلوط خضراء الأوراق وعلى مقعد في ظلها قط فرمقه يوري واغرورقت عيناه، وجعل يكرر: «إن هذا هو المنتهى.» وكانت هذه الألفاظ تقع من نفسه موقع السهم فعاد يقول: «كلا! ما هذا الهراء؟ إن حياتي كلها لا تزال أمامي وإني ما زالت في الرابعة والعشرين من عمري. كلا ليس هذا بالذي يقضى، وما هو؟» وذكر سينا فجأة وخطر له أنه من المستحيل عليه أن يقابلها بعد ذلك المنظر الفاضح في الغابة والخير له أن يموت … وقوست القطة ظهرها وماءت فراقبها يوري باهتمام ثم جعل يمشي جيئة وذهوبًا ويقول: «إن حياتي مملة جافة، ولا أدري … كلا! إن الموت أهون من لقائها!»

فزايلت سينا حياته وانبسط أمامه المستقبل باردًا فارغًا موحشًا فقال: «خير لي أن أموت.» وفي هذه اللحظة مر السائق وفي يده دلو ماء تغطي سطحه الأوراق الذاوية الصفراء وبدت الخادمة في حرم الباب ونادت يوري، فمكث برهة لا يفهم ما تقول ثم قال لما أدرك أنها تدعوه إلى الطعام: «نعم نعم» وحدث نفسه: «الطعام؟ أتناول طعامًا! ما أفظع هذا! كل شيء سيكون على العهد به: أعيش وأقطع قلبي بالتساؤل عما ينبغي لي أن أصنعه لسينا ولحياتي وأعمالي؟ إذن فلا بد من التعجيل وإلا لم تبق في الوقت فسحة إذا ذهبت إلى الطعام.» وغلبته الرغبة في الإسراع فراح كل عضو من أعضائه يرعد، وأحس أنه لن يحدث شيء، ولكنه كان على هذا يشعر أن الموت يرنق فوقه، وكانت الخادمة لا تزال واقفة في الشرفة ويداها تحت منشفتها تنشق نسيم الخريف الرقيق، فتسلل يوري كاللص وراء شجرة البلوط حتى لا يراه أحد من الشرفة، وأطلق مسدسه بسرعة مدهشة على صدره، وخيل له أن النار أخطأته ففرح وعاوده الشوق إلى الحياة والفزع من الموت، فصرخت الخادمة وارتدت إلى البيت وما هي إلا برهة ثم رأى يوري حوله جمهور من الناس، وصب أحدهم ماء باردًا على رأسه ولصقت ورقة ذاوية بجبينه وضايقته، وسمع أصواتا عالية من حوله وبكاء ونداء: «يوري! يوري! لماذا؟ لماذا؟ فعرف أنها أخته لياليا وفتح عينيه وأخذ يغالب الموت بعنف وصاح: «إليّ بطبيب عجلوا.» ولكنه أحس مع هذا أن الأمر قد قضي وأنه لا سبيل إلى نجاته، وثقلت الورقة الصفراء على جبينه وضغطت على ذهنه، فمط عنقه مستوضحًا، ولكن الأوراق ظلت تكبر في رأي عينه حتى دون النظر ولم يدر يوري ماذا حدث بعد ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤