الفصل الرابع

كان الكولونيل «نيقولا بجوروفنش سفاروجتش» المقيم بهذه البلدة الصغيرة ينتظر وصول ابنه الطالب بمدرسة الصناعات في «موسكو»، وكان ابنه هذا تحت مراقبة البوليس فطردوه من موسكو لاشتباههم فيه ولظنهم أن بينه وبين الثوريين تواطؤًا.

وكان «يوري سفاروجتش» قد كتب إلى أبويه من قبل يبلغهما خبر القبض عليه وسجنه ستة شهور وطرده من العاصمة فتهيأ لأوبته.

ومع أن أباه نيقولا عد الأمر من أوله إلى آخره حماقة صبيانية إلا أنه تألم إذ كان مشغوفًا بابنه، فاستقبله فاتحًا له ذراعيه واجتنب أن يشير إلى هذا الموضوع المؤلم وكان «يوري» قد قضى يومين كاملين مسافرًا في الدرجة الثالثة، ولم تغتمض عيناه لحظة لفساد الهواء، ولما آذاه من كريه الروائح وصياح الأطفال فخارت قواه ولم يكد يحيي أباه وأخته لودميلا «ويسمونها في العادة لياليا» حتى استلقى على فراشه ونام.

ولم يستيقظ إلا مساء والشمس دانية من الأفق. نفذت أشعتها المائلة من زجاج النافذة ورسمت على جدران الغرفة مربعات وردية. وسمع يوري في الغرفة المجاورة صوت الملاعق والأكواب وصافحت أذنه ضحكة لياليا الجذلة وصوت رجل كذلك — لذيذ مصقول لا يعرفه.

وقام في نفسه ساعة استيقظ أنه ما زال في مركبة القطار وسمع ضوضاءه وصوت زجاج نوافذه والركاب في الجانب الثاني، غير أنه لم يلبث أن عرف أين هو الآن فاعتدل في فراشه وهو يتثاءب: «نعم هذا أنا هنا.»

ثم عبس وهو يزج أصابعه في شعره الكثيف الأسود القوي.

ثم خطر له أنه لم يكن ينبغي أن يعود إلى بيته ولقد تركوا له أن يختار مكانًا يقيم فيه فلماذا عاد إلى أبويه؟

لم يستطع أن يعلل ذلك.

واعتقد، أو شاء أن يعتقد أنه اختار المكان الذي خطر له. ولكن هذا لم يكن الواقع فإن يوري لم يضطر قط أن يكدح ليعيش، وكان أبوه لا يزال يمده بالمال وقد استهول أن يعيش وحده وبلا مورد بين قوم أغراب. وأخجله هذا الإحساس واستكره أن يعترف به لنفسه.

والآن خطر له أنه أخطأ. ويمكن أن يفهم أبواه حكايته كلها أو أن يكونا رأيا ما في قصته — هذا شيء واضح — وهناك إلى جانب هذا — المسألة المادية والأعوام العديدة الضائعة التي كلفت أباه. ومن شأن هذا أن يجعل من المستحيل حصول التفاهم الودي المتبادل. يضاف إلى ذلك أن الحياة خليقة أن تكون ثقيلة الإملال في هذه البلدة التي لم يرها منذ عامين. وكان يوري يعد أهل البلاد الريفية الصغيرة ضيقي العقول، عاجزين عن أن يدركوا أو يكترثوا لتلك المسائل الفلسفية والسياسية التي يراها الشيء المهم الوحيد في الحياة.

نهض يوري وفتح النافذة وأطل، وكان على طول جدار البيت حديقة زهر صغيرة يانعة من بين أحمر وأصفر وأزرق وقرمزي وأبيض، فكأنها الكليد سكوب١ ومن ورائها الحديقة الكبيرة الجهمة الممتدة إلى النهر كغيرها من حدائق هذه البلدة وهو يلتمع كالزجاج الخابي باديًا من خلال الأشجار.

وكان المساء ساكنًا صافيًا وخالج يوري اكتئاب غامض، وكان قد طال مكثه وإلفه للمدن الكبيرة المشيدة بالأحجار، ومع أنه يحب أن يتوهم أنه يعشق الطبيعة فإنها لم تجد عليه بشيء: لا السلوى ولا سكون النفس ولا الانشراح، ولم تثر في صدره إلا حنينًا مبهمًا حالمًا مدنفًا.

ودخلت (لياليا) الغرفة وقالت: «آها. لقد قمت أخيرًا! وجاء قيامك في حينه.»

وكاد يوري — لثقل إحساسه بقلق مركزه وبشجى النهار — يقضي نحبه. ويضايقه مراح أخته وصوتها الطروب فسألها على غير انتظار: «بأي شيء سرورك هذا؟»

– «إنى لا أضجر!»

وفتحت عينيها وضحكت مرة أخرى كأنما أذكرها سؤال أخيها أمرًا ممتعًا وقالت: «وتصور سؤالك إياي ماذا يسرني؟ أنا لا أعرف السآمة. كلا، وليس عندي متسع من الوقت لهذا.»

ثم قالت بصوت وطيد وقد زهاها ما قالت: «إننا نعيش في أيام فيها من المتعة ما يجعل السآمة ذنبًا. وعندي العمال أعلمهم ثم المكتبة تستنفذ شطرًا عظيمًا من وقتي، فقد أنشأنا في غيابك مكتبة عامة وهي سائرة على منوال حسن.»

ولو أن هذا قيل له في أي وقت آخر لبعثه على الاهتمام ولكنه لم يكترث الآن لسبب ما.

وظلت لياليا جادة تنتظر انتظار الطفل ثناء أخيها.

فتمكن أخيرًا من أن يقول: «حقيقة؟» فقالت بصوت الراضي المطمئن: «إذا كان هذا كله أمامك فهل يسعك أن تمل!»

فلم يملك يوري أن يقول: «على كل حال أرى كل شيء يضجرني.»

فتظاهرت أخته بالاستياء وقالت: «ما ألطف هذا منك؟ إنه لم تمض عليك ساعتان في المنزل قضيتهما نائمًا ومع ذلك فقد ضجرت!»

فأجابها بلهجة فيها بعض الشموخ: «إن هذا ليس خطئي ولكنه سوء حظي.»

وظن أن من دلائل الذكاء السامي أن يضجر لا أن يسر.

فقالت متهكمة: «سوء حظك حقيقة! ها ها.»

وداعبته بكفها على خده: «ها ها.»

ولم يفطن يوري إلى أن مزاجه اعتدل وأن صوت لياليا الطروب ومراحها قد أماطا عن نفسه الكآبة التي كان يحسها حقيقة عميقة، ولم تكن لياليا تؤمن بكآبته هذه، ومن أجل هذا لم يقلقها ما قال.

ورفع يوري طرفه إليها وقال وعلى وجهه ابتسامة: «إني لا أعرف الجذل أبدًا.»

فضحكت منه «لياليا» كأنما كان قال ما يغري بالاستغراق في الضحك وقالت: «حسن جدًّا أيها «الفارس ذو الوجه العبوس» إذا لم تكن بالمنشرح فلست به. دعك من هذا وتعال معي لأعرفك بشاب فاتن تعال.»

وهزت يد أخيها وجرته معها وهي تضحك: «قفي. من هذا الشاب الفاتن؟»

– «خطيبي.»

قالت ذلك وهي فرحة مضطربة واستدارت بسرعة فانتفخ ثوبها.

وكان يوري يعلم من رسائل أبيه وأخته أن طبيبًا شابًّا نزل بالبلدة وأنه يخطب ودها ولكنه لم يكن يعلم أن خطبتهما صارت أمرًا واقعًا.

فقال وبه دهشة: «هل تعنين هذا حقًّا؟»

وخيل إليه أن من بواعث العجب أن يكون لأخته لياليا الصغيرة الحسناء النضرة عاشق وهي تكاد تكون طفلة، وأن توشك أن تصبح عروسًا وزوجة. وخالجه العطف على أخته والمرثية لها. فلف ذراعه حول خصرها ومضى معها إلى غرفة المائدة حيث كانت تلتمع آنية الشاي الصقيلة في ضوء المصباح، فألفى بجانب أبيه شابًّا وثيق التركيب، قوي معارف الوجه مليحها، حاد العينين براقهما إلا أنه ليس بالروسي في سحنته. وكانا جالسين إلى المائدة فوقف الشاب لما أقبل يوري بهيئة المتودد وقال: «قدميني إليه.»

فقالت لياليا متصنعة الوقار المضحك في إيمائها: «أناتول بافلوفتش ريازانتزيف؟»

فأضاف أناتول إلى قولها مازحًا بدوره: «وهو ينشد صداقتك وتسامحك.»

فتصافق الرجلان وهما صادقا الرغبة في التآخي، وكان من يراهما يقول إنهما يهمان بأن يتعانقا، ولكنهما كبحا نفسيهما واجتزآ بأن يتبادلا نظرات الود الصريحة.

قال ريازانتزيف لنفسه مندهشًا: «وهذا إذن أخوها؟»

فقد كان يتصور أن أخا لياليا القصيرة الجميلة الضحوك لا بد أن يكون قصيرًا جميلًا ضحوكًا مثلها. ولكن يوري كان على عكسها طويلًا نحيفًا أسمر وإن كان على هذا وسيمًا حسن الوجه.

ودار في نفس يوري وهو ينظر إلى ريازانتزيف هذا الحديث: «وهذا إذن الرجل الذي يحب المرأة في شخص أختي الصغيرة لياليا النضيرة الجميلة كالفجر في الربيع، يحبها كما أحببت أنا النساء.»

وآلمه لسبب ما، أن ينظر إلى لياليا وريازانتزيف، كأنما أشفق أن يقرأ خواطره.

وأحس الرجلان أن في نفس كل منهما كلامًا مهمًّا يجب أن يقوله لصاحبه.

وود يوري لو استطاع أن يسأله: «أتحب لياليا؟ حبًّا صادقًا حقيقيًّا؟ إن الأمر يكون محزنًا بل عارًا إذا أنت خنتها فهي نقية الذيل بريئة العهد.»

وإذن لود ريازانتزيف لو يجيبه هكذا: «نعم أحب أختك حبًّا عميقًا. ومن ذا الذي يستطيع ألا يحبها؟ انظر كيف نقاؤها وحلاوتها وفتنتها! وتأمل كيف تحبني! ما أحلى خدها!»

ولكن يوري لم يسأله شيئًا وسأله ريازانتزيف: «هل طردت إلى أمد طويل؟»

فكان جواب يوري: «لخمس سنوات.»

وكان أبوه نيقولا يقطع الغرفة جيئة وذهوبًا، فلما سمع منه هذا وقف برهة ثم تنبه وعاد إلى سيره بخطى الجندي المتزنة المنتظمة، وكان يجهل تفاصيل نفي ابنه فصدمه هذا النبأ الذي لم يكن يتوقعه، وقال لنفسه: «ترى ما معنى هذا كله؟»

ولم يفت لياليا مدلول هذه الحركة من أبيها وكانت تخشى أن تقع المشادة بينه وبين أخيها فحاولت أن تغير الحديث وقالت لنفسها: «كيف بلغ من حمقي أن أنسى أن أنبه أناتول؟»

ولكن ريازانتزيف لم يكن يدري حقيقة الأمر ولما دعته لياليا أن يتناول بعض الشاي أجابها إلى ذلك ثم عاد إلى مساءلة يوري: «وماذا تنوي أن تصنع الآن؟»

فقطب نيقولا وجهه ولم يزد.

وأدرك يوري معنى صمت أبيه، وقال متحديًا له قبل أن يفكر في عواقب جوابه: «لا شيء في الوقت الحاضر.»

فسأله نيقولا ووقف: «ماذا تعني بلا شيء.» ولم يرفع صوته ولكن لهجته كانت تحمل في ثناياها تأنيبًا مستورًا مؤداه: «كيف تقول مثل هذا الكلام؟ أمكره أنا دائمًا أن أتركك معلقًا بعنقي؟ كيف تنسى أني شيخ هرم، وأنه آن أن يكون لك مرتزق؟ لست أقول شيئًا. عش كما بدا لك، ولكن ألا تستطيع أن تفهم؟»

وعلى قدر إحساس يوري بأن أباه على حق فيما يجري بخاطره كان استياؤه فقال وهو محنق: «نعم لا شيء. ماذا تنتظر أن أصنع؟»

وهم نيقولا أن يكر عليه بجواب مؤلم ولكنه لم ينبس ولم يزد على أن هز كتفيه وعاود خطاه المنتظمة من ركن إلى ركن، وكان أحسن أدبًا من أن ينازع ابنه في يوم أوبته.

وراقبه يوري بعينين متقدتين وهو لا يكاد يضبط نفسه، فلو سنحت له أضأل فرصة لنازل أباه.

وكادت لياليا تبكي وجعلت تنقل لحظها بين أخيها وأبيها مستعطفة راجية.

وفطن ريازانتزيف أخيرًا إلى الأمر، وأدركه العطف على لياليا فحول الحديث إلى مجرى آخر تحويلًا ليس فيه حذق ولا خفة.

وزحف الليل بطيئًا ثقيلًا.

وكان يوري لا يريد أن يعترف بأنه ملوم، إذ كان لا يشايع أباه على أنه لم يكن من شأنه أن يشتغل بالسياسة.

وذهب يعد أباه عاجزًا عن فهم أبسط الأشياء لأنه هرم غبي وأخذ يلومه من حيث لا يشعر على شيخوخته وآرائه العتيقة وراح تهيجه منه وتستفزه هذه الآراء.

ولم يلتذ ما طرقه ريازانتزيف من الأحاديث، بل لم يكد يلقي إليه سمعه وجعل يرصد أباه بعين لامعة مظلمة.

ولما جاء وقت العشاء دخل نوفيكوف وإيفانوف وسمينوف.

وكان سمينوف طالبًا مصدورًا يعيش منذ شهور في البلدة حيث يدرس وهو نحيف دميم ضعيف، وعلى وجهه الذي أدركه الهرم قبل الأوان ظل الموت الزاحف. أما إيفانوف فمدرس، وهو رجل مجتوي طويل الشعر، عريض الكتفين لا تروقك شمائله.

وكانوا يتمشون في الشارع فسمعوا أن يوري عاد فوفدوا لتحيته، وصار المجلس بهم أنيسًا وكثر الضحك والمزاح، ودارت على الأكل الكئوس والأقداح وبذهم إيفانوف في هذا الباب.

أما نوفيكوف فإنه في الأيام التالية لخطبته المنحوسة لليدا هدأت نفسه قليلًا وخطر له أن تأبي ليدا قد يكون عارضًا، وهو على كل حال خطأ تلزمه تبعته، فقد كان ينبغي أن يعدها لمثل هذه المكاشفة، ولما كان يؤلمه مع ذلك أنه يزور أسرة سانين فقد جعل يتوخى أن يلاقي ليدا خارج بيتها — في الطريق أو في منزل صديق له ولها — وجعلت هي ترثي له وتنحي باللائمة على نفسها واندفعت لذلك تبالغ في ملاطفته، فتجدد الأمل في نفس نوفيكوف.

ولما هموا بالانصراف قال نوفيكوف: «ما قولكم في هذا؟ أقترح أن نخرج إلى الدير.»

وهذا الدير قائم على تل غير بعيد من البلدة، وإليه يذهب الناس كثيرًا طلبًا للنزهة وهو قريب من النهر والطريق إليه حسن.

فارتاحت لياليا إلى الفكرة وحمست لها، وكانت ولوعة بكل أنواع الملاهي من استحمام وتجديف وسير في الغابات وقالت: «نعم لنذهب. نعم بلا شك ولكن متى يكون هذا؟»

فقال نوفيكوف: «لماذا لا نذهب غدًا؟»

وسأل ريازنتزيف: «ومن ندعو غيرنا؟»

وسره أن يخرج إلى الهواء الطلق ليهيأ له من بين الأشجار أن يضم لياليا بين ذراعيه وأن يقبلها، وأن يحس أن الجسم الحلو الذي يشتهيه أدنى شيء إليه: «دعونا نفكر. نحن ستة. ما قولكم في شافروف؟»

فسأل يوري: «من يكون هذا؟»

– «طالب شاب.»

– «حسن جدًّا. وعلى «لود مللا نيقولايفنا» أن تدعو كارسافينا وأولغا إيفانوفنا.»

فسأل يوري مرة أخرى: «من هذان؟»

فضحكت لياليا وقالت: «سنرى» ولثمت أطراف أصابعها ونظرت إليه كأنما في الأمر سر.

فقال يوري مبتسمًا: «آها! حسن. سنرى ما سنرى.»

وبعد تردد قال نوفيكوف بغير اكتراث: «ولا بأس من أن ندعو أسرة سانين أيضًا.»

فصاحت لياليا: «آه لا بد لنا من ليدا.» ولم يكن ذلك منها عن إيثار خاص لليدا، بل لأنها تعلم حب نوفيكوف لها وتريد أن تدخل السرور على قلبه، وهي سعيدة بحبها تود أن يسعد من حولها مثلها.

فلاحظ إيفانوف بخبث: «إذن يتحتم أن ندعو الضباط كذلك.»

– «ماذا يهم؟ لندعهم. فكلما كثر العدد زاد السرور.»

ووقفوا جميعًا أمام الباب في ضوء القمر وقالت لياليا: «ما أجمل الليل!»

ودنت من حبيبها وهي لا تشعر وكانت لا تريد أن يفارقها الآن.

فضغط ريازانتزيف ذراعها الدافئ المفتول. وقال: «نعم إنها ليلة بديعة.»

وكان لهذه الألفاظ البسيطة معنى لا يدركه غيرهما.

فقال إيفانوف بصوته الضخم العميق: «ويحكم أنتم وليلتكم. إن النوم يغالبني فعموا مساء يا سادتي.»

ومضى مخترقا للشارع وجعل يطوح بذراعين كذراعي الطاحون.

وتلاه نوفيكوف وسمينوف، وظل ريازانتزيف لحظة طويلة يودع لياليا متخذًا من الكلام على النزهة حجة له وعذرًا.

ثم قالت لياليا لأخيها بعد أن ودعها حبيبها: «والآن يجب أن نذهب نحن أيضًا.»

وأصعدت زفرة أسف على الانكفاء عن الليل المقمر والنسيم المترقرق في حواشي الظلام وكل ما يطلبه جمالها وشبابها.

وذكر يوري أن أباه لم يذهب إلى مخدعه بعد. وخاف إذا هو لقيه ألا يلقيا بدًّا من الكلام الجارح الذي لا خير فيه.

فقال وعيناه قيد الضباب الأزرق الخفيف حوالي النهر: «كلا لا أريد النوم. وسأتمشى قليلًا.»

فقالت له لياليا بصوتها الرقيق الحلو: «كما تحب.»

ومطت أعضاءها وثنت جفونها قليلًا كالقطة، ومنحت القمر ابتسامة ودخلت.

ولبث يوري دقائق في مكانه يرصد الظلال الكثيفة التي ترميها المنازل والأشجار، ثم مضى على سمث سمينوف.

ولم يكن سمينوف قد أبعد فقد كان مشيه بطيئًا وكان ينحني كلما سعل. وفي أثره ظله يطارده على الطريق المقمر، فأدركه يوري ولم تلبث عينه أن أخذت ما طرأ عليه من التغيير، فقد كان سيمينوف أثناء العشاء يضحك ويمزح، كما لم يضحك سواه، ولكنه الآن يمشي مكتئبًا غارقًا في نفسه وفي سعلته الجوفاء شيء من اليأس والوعيد، كالداء الذي يخامره فقال بصوت رأى فيه يوري نفورًا: «أهذا أنت؟»

– «لم أطلب النوم إذا سمحت رافقتك.»

فقال سمينوف بدون احتفال: «نعم. افعل.»

وسأله يوري: «ألا تحس البرد؟» وإنما سأله لأن هذا السعال المزعج نبه أعصابه.

فأجابه متضايقًا: «إني دائمًا بردان.»

وتألم يوري كأنه كان تعمد أن يلمس جرحًا داميًا. وقال: «هل تركت الجامعة منذ زمن طويل؟»

فلم يجب سمينوف مباشرة وقال بعد برهة: «زمن طويل.»

فشرع يوري يحدثه عن إحساس الطلبة، وما يعدونه جوهريًّا مهمًّا وكان يتكلم في أول الأمر بهدوء وسكون، ولكنه أرسل نفسه على سجيتها وحمس تدريجيًّا وأجاد الإعراب عن خواطره.

ولم يقل سمينوف شيئًا وإنما أصغى.

ثم أخذ يوري يندب عدم وجود الروح الثورية بين الجماهير، وكان من الواضح الجلي أنه يتألم من ذلك أعمق الألم.

ثم سأله صاحبه: «هل قرأت آخر خطبة ألقاها بيل؟»

– «نعم قرأتها.»

– «ما قولك فيها؟»

فلوح سمينوف بعصاه تلويح المتضايق، وكان لها رأس ملتوٍ وحاكاه خياله فرفع ذراعًا طويلة سوداء ثم وضعها فمثلت لذهن يوري صورة أجنحة سوداء يخفق بها طير جارح ثائر.

ولوح بعصاه وحاكاه ظله.

ورأى سمينوف ذلك في هذه المرة فقال: «انظر! ها هنا ورائي يقف الموت يرصد مني كل حركة! ما أنا وبيل؟ إن هو إلا ثرثارة يهذي في هذا. وسيجيء مائق غيره يهذر عن ذلك. وسواء على هذا وذلك؟ وإذا لم أمت اليوم فسأموت غدًا.»

فلم يجب يوري واضطرب وتألم.

ومضى سمينوف في كلامه: «وأنت مثلًا تحسب هذا الذي يجرى في الجامعة وما يقوله بيل مهمًّا، ولكن الذي أراه هو أنك إذا أيقنت — كما أنا موقن — أنك ستموت، فلن تكترث لما يقوله بيل أو نيتشة أو تولستوي أو غير هؤلاء.»

وصمت سمينوف وكان القمر لا يزال بريق ضوئه خلف الرفيقين الخيال الأسود يتعقبهما.

ثم قال سمينوف فجأة بصوت آخر هزيل شاك: «إني مقضي علي … ولو كنت تدري كيف فزعي من الموت … لا سيما في ليلة قمراء رقيقة الحواشي كهذه.»

ولفت إلى يوري وجهه الدميم الغائر العينين اللامعهما: «كل شيء يحيا. أما أنا فلا بد أن أموت. وإني على يقين من أن هذا الكلام لا يقع من نفسك إلا موقع القول المبتذل — لا بد أن أموت — ولكني لم أقتبسه من رواية ولا أخذته من كتاب يطالعك أسلوبه بصدق الفن وبراعة التصوير، إني حقيقة سأموت، وهذه الألفاظ في مسمعي غير مبتذلة. وستكف يومًا عن حسبانها كذلك. إني أموت … أموت وسيقضى الأمر.»

وسعل سمينوف مرة أخرى وقال: «وكثيرًا ما يخطر لي أن الظلام سيشتمل علي بعد قليل وإني سأدفن في الأرض الباردة، وأن أنفي سيغور في وجهي وتتعفن يداي، على حين يبقى كل شيء في الدنيا كما هو الآن، إذ أمشي على طهرها حيًّا، وستكون حيًّا وتستنشق النسيم وتسبح في ضوء القمر وتمر بالقبر الذي يضم عظامي النخرة الشنيعة البلى. ماذا تظنني أعبأ ببيل أو تولستوي أو بمليون آخر من هذه القرود الهاذرة.»

وكان يوري أشد اكتئابًا من أن يسعه أن يرد.

ثم قال سمينوف بصوت ضعيف خافت: «عم مساء فسأدخل البيت.»

فهز يوري يده وأدركه العطف الشديد على هذا الرجل الخاوي الصدر، المستدير الكتفين، ذي العصا العوجاء المتدلية من عروة معطفه، وكان بوده لو استطاع أن يعزيه وأن يبعث فيه الأمل. ولكنه أحس أن هذا مستحيل فلم يزد على: «عم مساء.» وتنهد.

ورفع سمينوف قبعته وفتح الباب وتضاءل وقع قدمه، وخفت صوت سعاله ثم عاد كل شيء ساكنًا.

ورجع يوري يستقبل من طريقه ما استدبر وقد ماتت الدنيا في عينه — مات كل ما كان منذ نصف ساعة فقط، وضيئًا جميلًا ساكنًا — ضوء القمر ونجوم السماء والأشجار الفضية الروعة والظلال الغريبة — وطالعه من كل هاتيك برد القبر وفظاعته وهوله.

ولما بلغ البيت قصد إلى غرفته وفتح النافذة المطلة على الحديقة، فجرى بذهنه لأول مرة في حياته: أن كل ما استغرق حواسه ومدراكه وأظهر في سبيله من الحماسة والإيثار ما أظهر، ليس في الواقع بالمهم ولا بالصواب. وإذا رفف الموت فوقه يومًا مثل سمينوف فلن يقطع قلبه الأسف على أن جهوده لم تزد الناس سعادة ولن يحزنه أن مثله العليا لم تتحقق. وإنما يكون حزنه لأنه سيموت ويحرم النظر والاحساس والسمع قبل أن يتاح له أن يذوق كل مسرات الحياة ولذاتها.

ولكن هذا الخاطر أخجله فنحاه عن فكره وأخذ ينشد تعليل ذلك.

الحياة جهاد

«نعم ولكن جهاد في سبيل من، إن لم يكن في سبيل الذات، ومكان المرء تحت الشمس؟»

هكذا قال له صوت من داخل نفسه.

فتظاهر يوري بأنه لم يسمعه وحاول أن يفكر في أمر آخر، ولكن ذهنه كان يكر راجعًا إلى هذه الفكرة بلا انقطاع. فعذبه هذا حتى لقد أبكاه بكاء مرًّا.

هوامش

(١) مسطرة في أحد طرفيها قطع ملونة يتألف منها شكل جديد كلما هززتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤