الفصل العاشر

أبو رحاب

وكان أبو رحاب جدُّ سعيد شيخاً طاعناً في السن كما تقدم ربى سعيد في حجره بعد موت والده وكان كلاهما على دعوة بني أمية في المطالبة بدم عثمان. ولم يكن غرضهما من ذلك إلاَّ الانتقام لعثمان لأنهما أقاما زماناً طويلاً في منزلهِ. وكان أبو رحاب مع شدة حبهِ لعثمان لم يغفل عمَّا كان فيهِ من الخطاء الذي دعا الناس إلى اضطهاده وكثيراً ما كان يحرضهُ على الإصلاح ومصالحة المسلمين فلم يصغ لهُ إلاَّ قليلاً. وعلم أبو رحاب بعد ذلك أن جماعة من ذوي الأغراض كانوا يثنونهُ عن الإصغاء ويحرضونهُ على العداء. حتى إذا قتل عثمان كان أبو رحاب وسعيد في جملة المطالبين بدمهِ. ولكنهُ ما لبثا أن عادا من واقعة الجمل حتى قعد أبو رحاب عن المطالبة لأنهُ تحقق أن أصحاب تلك الواقعة إنما حاربوا عليّاً طمعاً في الملك لا غيرة على عثمان.

وأقام في مكة مدة لا تسلية لهُ إلاَّ سعيد وكان سعيد ينوي الانضمام إلى جند معاوية في واقعة صفين فمنعهُ جدهُ. وكان أبو رحاب يعلم أن سعيداً يحبُ قطاماً حبّاً شديداً وأنهُ ساعٍ في التزوج بها. ولذلك فإنهُ كان يأذن لهُ في الخروج إلى الكوفة لتلك الغاية. وطال غياب سعيد هذه المرة وأحسَّ أبو رحاب بزيادة الضعف فأراد استقدامهُ ليتزود من رؤيتهِ قبل موتهِ ويوصيهُ وصية لها علاقة كبرى في شؤُون حياتهِ وربما غيَّرت مجاري أعمالهِ وحولتهُ عن مقاصده وآمالهِ. فبعث رجلاً من خاصتهِ اسمهُ عبد الله في وفدٍ إلى الكوفة لهذه الغاية. ولبث ينتظر رجوعهم وهو يتقلب على فراش الضعف والهرم كأنهُ يستمهل ملاك الموت ريثما يصل حفيدهُ لئلاَّ يذهب ما في نفسهِ أدراج الرياح وتضيع حياة سعيد عبثاً.

أما سعيد فإنهُ قضى مسافة الطريق بين الكوفة ومكة وهو بين شوق إلى قطام وقلقٍ على أبي رحاب. وكان من شدة فرحهِ بقطام إنما يودُّ بقاءَ جدّه حيّاً ليبشرهُ برضائها وقبولها لأنهُ طالما شكى لهُ رغبتهُ فيها. وكان أبو رحاب يتمناها لهُ. وكان سعيد إذا فكر في ذلك فرح ثم يعترض فرحهُ أمر الصك وقتل الإمام فيضطرب فيعلل نفسهُ بما ينالهُ من الفخر إذا قتل عليّاً فضلاً عن استرضاء جدهِ لأنهُ يطفئ ما يجيش في نفسهِ من نار الانتقام لعثمان فيفرحهُ قبل موتهِ.

قضى أكثر أيام الطريق في مثل هذه الهواجس لا يبالي بمن حولهُ من الرفاق كأنهُ سائر وحدهُ. ولم يكن يشغلهُ عن ذلك ما يلاقيهِ في سبيلهِ من الجبال والأودية والصحاري ولا ما يمرُّ بهِ من الربوع والأحياء والخيام حتى أشرف على مكة عن أكمة. فإذا هي في منبسط من الأرض تحيط بها الجبال والكعبة قائمة بين أبنيتها قيام الملك بين الأعوان. وكانت الشمس قد مالت نحو الغروب فأسرع في مسيره يلتمس منزل جدهِ وقلبهُ يخفق خوفاً عليهِ من بأس يصيبهُ قبل وصولهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤