الفصل الثالث عشر

التهمة الباطلة

فمشط الشيخ لحيتهُ بأصابعهِ وأصلح شعر حاجبيهِ وشاربيهِ والتفت إلى سعيد وقال: «يزعم معاوية وأصحابهُ أنهم جردوا السيوف وسفكوا الدماء للمطالبة بدم عثمان كأَنهم لم يكونوا يستطيعون الذبَّ عنة قبل قتله. ولقد يضحكني مطالبة عمرو بن العاص بدم عثمان وهو أول من أراد قتله وسعى في قتلهِ حتى لقد يفتخر أنهُ هو الذي قتلهُ وإن يكن في فلسطين. فقد علمتُ أنه ما بلغهُ مقتل عثمان وهو في وادي السباع قال: «انا قتلهُ وإنا في وادي السباع»١ يعني أنهُ سعى في قتلهِ عن بعد. فلا يغرَّنك بعد ذلك مجيئهُ هو وابناه ماشين إلى دمشق وهم يبكون ويقولون (واعثماناه ننعي الحياء والدين) إنهم إنما فعلوا ذلك حيلة للانضمام إلى معاوية …».

«وأما معاوية وسائر بني أمية فهل تحسبهم أشرعوا الأسنة وأيقظوا الفتنة طلباً بدم ذلك الخليفة المقتول؟ فإذا كانوا فعلوا ذلك غيرة وحناناً ما بالهم لم يدافعوا عنهُ وهو محصور يستنجدهم من المدينة إلى الشام؟ وهب أنهم تأخروا عن نجدتهِ كرهاً كما يزعمون فما بالهم نسوه ونسوا أولاده. وإذا كانوا يعتقدون موتهُ مظلوماً وإنهم إنما قاموا للمطالبة بدمهِ فلماذا لم يولوا الخلافة ولداً من أولادهِ؟. أرأيت كيف اتخذوا اسم هذا الخليفة ودمهُ ذريعة إلى السلطة ….»

«هكذا فعل أيضاً طلحة والزبير فقد قتل عثمان وهم في المدينة على قيد أذرع منه فلو أرادوا إحياءه لم يعجزهم الدفاع فسكتوا عن قتله حتى إذا رأوا الخلافة أفضت إلى علي تظاهروا بالدفاع عن عثمان وقالوا أنه قتل ظلماً».

وكان الشيخ يتكلم وهو يحاول خفت صوته فلا يطاوعه التهيج فلا يشعر إلا وقد علا صوته تتخلله غصّات وارتجاجات. وأما سعيد فكان يسمع كلام جده وهو مطرق لا يستطيع النظر إلى وجهه تهيباً واحتراماً. فلما وصل أبو رحاب إلى هذا الحد سكت برهة تشاغل فيها بمسح فمه وشاربيه مما لحقهما من نفثات ريقه أثناء الكلام لأن الهرم أخلى فكيه من الأسنان. فاغتنم سعيد تلك الفرصة وخاطب جده قائلاً: «كيف تحسب عمل هؤلاء طمعاً في الخلافة ولا تحسب عمل عليّ أيضاً مثل عملهم. وقد كانوا جميعاً في المدينة فكيف إذا قتل الخليفة تكون البيعة لواحد منهم والباقون ينظرون. لماذا لم تحسب ذلك طمعاً من علي؟».

فضحك الشيخ ضحكة اغتصابية أو هي قهقهة تشبه الضحك لعظم ما قام في نفسه وهو في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة. وقبل أن يتم قهقهته حوّل وجهه إلى سعيد وقال: «أتسألني عن خلافة علي وقد كان الأولى بي أن أسأل نفسي ما الذي أعماني عن حقوقه فيها من أول الأمر صدق القائل أن الغرض يعمي ويصم … إن الخلافة لم تكن لأحد من الصحابة قبل هذا الإمام وهو ابن عم الرسول () وصهره على ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين. وهو أول الناس إسلاماً بعد خديجة٢ وزد على ذلك أن الرسول () ربي في حجر أبي طالب والد علي. وقد كفله ودافع عنه عند أول الدعوة. وكانت قريش تكره دعوته حتى كثيراً ما هموا بأذيته وأبو طالب يمنعهم بما له من المنزلة الرفيعة عندهم. فلما ولد علي ربي في حجر الرسول () وأسلم وهو في العاشرة من عمره وذب عن الإسلام بقلبه ويده ولسانه ولا أنسى يوم الهجرة يوم تآمرت قريش على أذية الرسول () في مكة فعوّل على الهجرة كيف أن عليّاً أقام مقامه في منزله فتسجى ببرده وبات على فراشه وعرض نفسه لخطر القتل ونجاه الله. ناهيك عن حروبه في الغزوات والسرايا فقد شهد معظم المواقع وأشهرها وبذل نفسه في الذب عن الإسلام يوم كان معاوية ووالده وإخوته في مكة من ألدِّ أعداء الإسلام ولم يسلموا إلاّ بعد فتح مكة أي بعد قنوطهم من النصر».٣
١  ابن الاثير وغيرة.
٢  أسد الغابة ج٤.
٣  السيرة الحلبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤