الفصل التاسع عشر

المؤامرة

فما لبث أن رأى ثلاثة رجال لم يعرف أحداُ منهم ولكنه عرف من قيافتهم أنهم غرباء على أنه لم يقدر على تمييز ألوانهم ولا سحنتهم وقد لفوا رؤوسهم بالعمائم لفاً كالخمار إما اتقاءً للبرد وإما تنكراً.

فهمه أمرهم وخفق قلبه خوفاً من انكشاف مكانه وربما كانوا في مهمة إذا علموا أنه اطلع عليها سعوا في قتله. فبالغ في الانزواء وخاف أن يداهمه العطاس فلا يستطيع حبسه فينفضح أمره فظل متحيراً. أما هم فوصلوا باب الكعبة واقتربوا من سعيد بحيث يراهم جميعاً ولو كان القمر طالعاً أو كان هناك مصباح لتبين سحنهم جيداً ولكنه لم يقدر على تمييز شيء منهم لاشتداد الظلام. على أنه تأكد من مجمل أحوالهم وحركاتهم أنهم جاؤوا لأمر ذي بال أحدهم طويل القامة وهو أكثرهم حركة فجلس رفيقاه الأربعاء وظل هو واقفاً ثم جلس القرفصاء وقال: «والآن مالنا ولهؤلاء إنهم جبناء تعالوا نبدأ بالأمر فيكون لنا الفخر».

قال الثاني وكان قصير القامة ممتلئ الجسم «إني أرى رأيك إذ ما نابنا من هؤلاء الأئمة إلا الضرر. هم يتنازعون على الخلافة فيقتل المسلمون بعضهم بعضاً في نصرتهم فإذا قتلناهم رقدت الفتنة. نعمن قتلهم جميعاً» قال ذلك بصوت خافت وفي نطقه لجلجةٌ وكان يلتفت يمنة ويسرة لئلا يسمعه أحد.

فقال الرفيق الثالث وكان لا يزال ساكتاً «إني أفكر في واقعة النهروان وفيمن قتل فيها من الأبطال والشجعان إلا ويقطر قلبي دماً. إن علياًّ قتلهم لأنهم لم يرضوا معه بالتحكيم».

فابتدره الأول الطويل وكان أكثرهم جرأة على الكلام وكان رفيقاه إذا تكلما خفضا صوتيهما أما هو فكان لا يهاب شيئاً فيتكلم بملء فيه فقال: «لا يكفينا التذمر والتضجر ونحن سكوت نرى أبناءنا وإخوتنا يقتلون في نصرة أولئك الأئمة ولا نبدي حراكاً. هلمَّ بنا نقتلهم ونريح المسلمين من شرهم».

فلما سمع سعيد حديثهم علم أنهم جاءوا للمؤامرة على قتل جماعة من الأئمة الإمام عليٌّ واحد منهم ولكنه لم يعلم من هم الباقون. فجعل يرتعد لتأثره وزاد خوفه على نفسه إذا كشف مكانه. وكان في بادئ الرأي قد ندم على بقائه هناك فلما توسم خطارة ما هم فيه من سرَّ لبقائه على أنه مازال خائفاً من الفضيحة. فلبث منزوياً وهو يحبس أنفاسه خوفاً من السعال أو العطاس فإنه لو تنحنح أو عطس لأجفلهم جميعاً وهم على بضعة أذرع منه. ولو قام أحدهم ومشى خطوتين نحو مقام إبراهيم لرأى سعيداً أمامه. أما سعيد فكان يفكر في حيلة ينقذ بها نفسه لو كشف مكانه. وكان مع شدة الظلام يخيل له أنه في رابعة النهار لخوفه وقد ساعده على ذلك صحو الجو وتلألؤ الكواكب لأن السماء كانت نقية لا يحجب نجومها الأسحب رقيقة متفرقة كانت تجتمع أحياناً وتتلبد فتزيد الظلام كثافة وقد كان سعيد في انفراده وراء الكعبة قبل مجيء هؤلاء إنما يشاغل نفسه بمراقبة حركات تلك السحب. وكان إذا تلبدت أو تكاثفت انقبضت نفسه أم الآن فأصبح لا يرى غير الخطر أمامه وود تكاثف الغيوم لأنها تزيد في احتجابه وقد نسي قطاماً وجده وأصبح قلقاً لاستطلاع سر ذلك الاجتماع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤