الفصل التاسع والثلاثون

عبد الرحمن بن ملجم

وكانت في أثناء كلامها عن الزوج قد أطرقت حياءً فلما بلغت إلى هذا الحد رأت سعيداً مصغياً إلى حديثها بكليته وهي تعلم أنه إنما يشتاق إلى آخر الحديث أكثر مما إلى أوله فخافت أن يمل فقالت: «ولا أطيل عليك الحديث قبل أن أصل إلى جوهره فأقول إن ذلك كله احتملته بالصبر ثم علمت أن المرادي خرج إلى مكة فظننته يلتمس الحج ووددت أن لا يعود ولكنني ما لبثت أن رأيته عائداً».

قالت ذلك وتنهدت وسعيد يتطاول لسماع ما تقول وقد دهش لغرابة الحديث فقالت: «عاد ذلك المرادي بمهمة جديدة يا ليتني مت قبل أن سمعت خبرها … ولكنني إذا لم أجد من يتحمل المشقة في ملافاتها تلافيتها بنفسي.. جاءنا هذا المرادي ثاني يوم وصوله الفسطاط فاختلى بوالدي الليل كله يتكلمان وأنا لا أعلم ما دار عليه حديثهما. ولكنني علمت بعد ذلك أنه أوصى والدي أن يصنع له سيفاً ماضياً أنفق عليه ألف درهم وقضى مئة يوم وهو يشحذه فلم أفهم معنى هذا الاستعداد ولا اهتممت به وبعد أن شحذه كلف والدي فسقاه السم. وقد علمت أنه اتفق على سقايته ألف درهم أيضاً١ … فويل لجسم يجرحه هذا السيف لو جرحاً خفيفاً».

فملّ سعيد ولم يعد يستطيع صبراً على التصريح باسم ذلك الرجل والإفصاح عن غرضه بسقاية السيف وهو لا يشك أنه المؤَامر على قتل الإمام عليّ. وكان قد صبر نفسه حتى يسمع ذلك من فم الفتاة ولكنه ملّ الانتظار فسألها قائلاً: «وما هو اسم هذا الرجل».

فقالت: إن اسمه عبد الرحمن بن ملجم المرادي.

فلم يذكر أنه يعرفه أما خولة فتنهدت وقالت: «فلما رأيت منه هذا الاستعداد وهو كاتم خبره عني عمدت إلى الحيلة فجاءني في صباح أمس يودع والدي وقد عزم على الكوفة فقلت في نفسي سيذهب الرجل ولا أدري السر فتظاهرت بإعجابي بشجاعته وإقدامه وأطريت على غيرته على الإسلام ونحو ذلك وسألته أن يريني السيف لأتأمل فرنده فجاء به وأوصاني أن أتقي حده لأن جرحه يميت حالاً فسللته بحذر كلي فإذا هو يلمع لمعاناً تقشعر منه الأبدان فارتعد جسمي ولكنني أظهرت الجلد وقلت: «أراك أنفقت مالاً كثيراً على صقله وما الفائدة من هذا اللمعان».

فضحك مستخفاً وقال: أتظنين أني انفقت كل هذا المال على مجرد صقله.

قلت: وماذا إذاً أني لا أرى فيه غير اللمعان.

فقال: إني سقيته السمّ.

فأظهرت الاستغراب وقلت ولماذا سممته. ومازلت أحاوله وأجادله حتى هان عليه التصريح. فقال لي: «اعلمي يا خولة أني سأقتل بهذا السيف رجلاً يزعمون أنه أكبر رجل في الإسلام ويقولون أنه أقرب أقرباء الرسول» قال ذلك والشر بادٍ في عينيه واصفرار الوجل يتخلل ما كان يحاوله من الابتسام. أما أنا فلما سمعت قوله ارتعدت فرائصي واختلج قلبي وأظنه قرأ ذلك على وجهي. كيف لا وقد ظهر لي أنه يريد الإمام علياً. ولكنني أحببت تحقق الظن فقلت: «ومن هو ذلك الرجل».

فقال: «ألا تعلمين من هو ألا تعرفين سبب كل هذه الانقسامات وإذا كنت لم تفهمي بعد فأقول لك إنه علي بن أبي طالب الذي يسميه أشياعه أمير المؤمنين». قال ذلك واحمرت عيناه وتجلى الغدر في وجهه وقال: «احذري أن تبوحي بذلك لأحد وإلا فإنك تنالين جرحاً من هذا السيف». قال ذلك وهو يمزح الجد بالهزل أما أنا فتحققت أنه يقتلني ولا يبالي لأنه تجرأ على قتل أمير المؤمنين فكيف لا يقتل فتاة مثلي.

فلم أستطع جواباً وخفت إذا نطقت أن يبدو أمري فصمت وقد عولت في باطن سري على السعي في إبلاغ أمير المؤمنين ذلك على عجل لأن موعد القتل قريب وأظنه في ١٧ رمضان لأني كثيراً ما كنت أسمعه يذكر هذا التاريخ ويعرض بذكر الكوفة ولم أكن أفهم مراده بذلك. وأما الآن فقد فهمت جيداً أنه عازم على قتل الإمام علي في ١٧ رمضان ونحن في أواسط شعبان وأخاف أن ينال هذا الرجل بغيته قبل أن يبلغ الخبر عليّاً … آه يا ليتني طيرٌ أحمل هذا الخبر إليه.

١  ابن الاثير ج٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤