الفصل الثامن والأربعون

خولة

ثم سكت وجعل يتأمل في ما حوله ولا يطاوعه قلبه أن ينظر إلى جهة مسير القارب فأراد أن يتحول إلى المكان الذي أتى منه فرأى شبحاً مسرعاً نحوه فخاف وتهيأ للدفاع إذا رآه يقترب منه. فلما اقترب الشبح إذا هو امرأة فعجب لقدومها وحدها في ذلك الليل ولكنه ما لبث أن تفرس في قيافتها حتى علم أنها خولة فخفق قلبه في صدره وغلب الخجل عليه لما رآه من جرأتها وقدومها في ذلك الليل وهي فتاة لعلمه أنه لا يحملها على القدوم إلا السعي في إنقاذ عبد الله. فحدثته نفسه أن يختبئ خجلاً ولكن البغتة غلبت عليه فدنا منا وناداها. فحالما عرفت صوته صاحب فيه «أين عبد الله».

فأراد أن يجيبها فاختنق صوته وسبقته العبرات.

فدنت منه وهي تقول «سعيد … هل رأيت أحداً جاء إلى هذا المكان وما الذي جاء بك إلى هنا».

قال «نعم رأيتهم يحملون أولئك الأسرى في قارب».

قالت «وأين هم … أين ذهبوا بهم … هل رأيت عبد الله …. هل هو معهم..».

قال «لقد حملوهم في القارب ولا أدري إذا كان عبد الله معهم لأني لم أسمع صوته ولا رأيته».

فصفقت بكفيها وقالت «لابد من أن يكون معهم. آه ما الحيلة الآن.. ما كنت أظن ابن العاص يعجل بقتلهم على هذه الصورة.. وكيف لم تحاول الدفاع عنهم …».

فأجابها والاعتذار والخجل يتنازعانه وقال «لم أكن أعلم أن عبد الله معهم وهبي أني علمت فكيف استطيع إنقاذه وأنا فرد أعزل وهم جماعة مسلحون ….»

فصمتت خولة برهة ثم قالت «لقد فعلت حسناً فأبقيت على نفسك لإنقاذ الإمام عليّ لأن حياته موكولة إلى سرعة رجوعك».

فقال «وأنت ما الذي جاء بك وكيف عرفت بمسيرهم».

قالت «علمت ذلك من عبدنا وكنت قد دبرت حيلة أدخل بها على عمرو لأستمهله في قتل عبد الله باطلاعه على سر المؤامرة فعلمت أنه بعث بهم هذه الليلة لإغراقهم في النيل مخافة أن يترتب على قتلهم جهاراً فتنة وهو يعلم أن أنصارهم كثار في الفسطاط. فأسرعت لعلّي استطيع إنقاذ عبد الله بحيلة … فلم يساعدني القدر … وا أسفاه عليك يا عبد الله … آه من أهل الظلم … إن عمراً قد غلب علياً بحيلته فأخرج الخلافة من يده لجهل أبي موسى الأشعري ولكنه لن ينجو بنفسه من غائلة المؤامرين …».

ثم دنت من سعيد وقالت «أنا أعلم أن فقدان عبد الله مصيبة علينا لأنه شهم ولكنه قضى ضحية واجباته على أننا نرجو أن نعوض عن خسارته بإنقاذ الإمام عليّ من خطر القتل فاركب إلى الكوفة على عجل وتمم المهمة التي جئت من أجلها. فها قد عرفت اسم المؤامر وإنه سار إلى الكوفة فأسرع ما استطعت قبل فوات الفرصة».

وكان سعيد مع شدة تأثره مما رآه تلك الليلة من الأهوال لا يغفل عما أبدته خولة من الحمية والجسارة وقد ازداد حباً لها وإعجاباً بشهامتها ….

وفيما هو يفكر في ذلك ابتدرته قائلة «أعلم يا سعيد أني خرجت الليلة من بيت والدي تحت خطر القتل وأنا أحسبك في الدير كما تواعدنا وكنت عازمة على الذهاب إليك لأستحثك في سرعة المسير ثم أعود إلى والدي انتحل له سبباً في خروجي. أما وقد التقينا هنا فإني استودعك الله وألتمس منك أن تسرع في الذهاب وإني عائدة إلى بيتنا وسأرسل إليك جملاً مع عبدنا وآمره أن يسير في ركابك إلى الكوفة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤