الفصل السادس

اللقاء

وحملت لبابة المصباح بيدها ومشت أمام سعيد إلى غرفة أخرى ليس في أرضها إلاَّ حصير فوقهُ بعض جلود الماعز وقطام جالسة الأربعاء وهي تبكي وشعرها محلول. فلما رأَت النور يقترب من غرفتها أسرعت فضمَّت شعرها وأرسلتهُ إلى ظهرها وغطت رأسها بنقاب أسود. ولم تكد تفعل ذلك حتى دخلت العجوز وهي تقول: «خففي عنك يا قطام وارفقي بنفسك واشفقي على شبابك لقد كفاك بكاءً ونحيباً. انهضي فسلمي على سعيد الذي قلت لك أنهُ يحبك».

فقطعت قطام كلامها قائلة: «كم قلت لك لا تذكري الحب والغرام بل اذكري القتل والانتقام. إني لا أحب إلاَّ الانتقام ومن ينتقم لي فهو خليق بأن يحبني ولكن …».

فتقدم سعيد وقد أصبح بعد رؤْية قطام في تلك الحال لا يرى شيئاً غيرها ولا يبغي إلاَّ رضاها فشق عليهِ قولها «ولكن» لما ينطوي عليهِ من الاستدراك الذي يجل نفسهُ هنهُ. فقال لها: «ألا ترضين يا قطام أن أكون أنا المنتقم لك …».

قالت وهي تتظاهر بعدم الاكتراث «لا … لا أرضى أن تعرض نفسك لهذا الأمر من أجلي فإني أولى منك بركوب هذا المركب الخشن» ثم رفعت يدها وأشارت بسبابتها إلى صدرها وقالت بصوت يتخللهُ غصة البكاء «أنا أقتل قتلة أبي وأخي بيدي.. أنا أقتلهم.. أنا أقتل عليّاً وإن كنت فتاة. إن حب الانتقام يقويني ويشجعني … ولا حاجة لي إلى تعريض سواي لخطر القتل.. إنك شاب لا يهمك من أمر علي شيء فكيف تتكلف قتلهُ عبثاً.. ذلك لا يكون».

فانخدع سعيد بكلامها وحسبه صادراً عن شهامة وغيرة حقيقيتين فازداد رغبة في الإقدام على ذلك العمل. فقال لها: «كيف تقدمين يا مليحة على هذا الأمر وأنا بين يديك. العلك لا ترين فيّ الكفاءة. كيف تقولين أنهُ لا يهمني من أمر عليّ شيء وأنت تعلمين أن بني أمية كافة يطالبونهُ بدم عثمان وأنا منهم وإذا قتلتهُ فإني أرضي كل بني أمية فضلاً عن إرضاءِ قطام.. إن بذل النفس في سبيل إرضائها هين.. وإذا أذنت لي أن أدعوك حبيبتي فكل شيء يهون عليَّ …».

فلما تحققت قطام وقوعهُ في الشراك بقى عليها أن تتمكن من وعده بصكٍ تستكتبهُ إياه فأمسكت نقابها بيدها وتظاهرت بإصلاحهِ فانكشف معصمها فرأى الأساور والدمالج وبانت عيناها وقد ذبلتا من البكاء فازدادتا جمالاً ورمت إليهِ شذراً وتأَملتهُ كأَنها تزن مقدرتهُ على ما وعد بهِ. أما هو فلا تسل عن حالهِ بعد تلك النظرة فثارت عواطفهُ ونظر إلى العجوز كأنهُ يحرضها على التوسط في الأمر. فتظاهرت لبابة بأنها تساعدهُ في غرضهُ وقالت لها: «ألم يكفكِ ما قالهُ هذا الشهم ألم أقل لك إن وعدهُ صادق وفضلاً عن إرضائك بقتل علي فهو يرضي عشيرتهُ وأهلهُ أيضاً. واعلمي يا قطام أنهُ لابد من رجل يقتل هذا الخليفة ومن يسبق إلى قتلهِ فإنهُ صاحب النصيب الأوفر والأجر الأعظم».

فقطعت قطام كلام العجوز قائلة: «أنا أعلم أنهُ مقتول لا محالة وإذا لم يبق من الرجال من يفعل ذلك فعلتهُ أنا بيدي.. انظري إلى هذه الحلي في معصميَّ وأذني إني لم أنزعها ليس لأني لم أحزن على والدي وأخي.. آه رحمهما الله … بل لأني واثقة من الانتقام لهما وكأَني أحسب ثأْري حاصلاً في قبضة يدي ومتى أخذت باثأر فقد أحييت القتيلين فكيف أحزن …. أما ما قالهُ سعيد فهو فضل منهُ ولكن الإنسان يا خالة عرضة للتردد فلعل سعيد إذا خرج من عندنا يرى رأياً آخر أو يتهيب من هذا الأمر فيعدل عن الوعد. فأنا لا أريد أن أقيده في عهدِ أرى في نغمة كلامهِ ما يدلُّ على خوفهِ منهُ … لا أقول أنهُ يخاف وقتل هذا الخليفة من أهون الأمور. ولكنني لا أرى أن أكلفهُ وعداً إذا خلا بنفسهِ ربما ندم عليهِ …».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤