الفصل السابع

الصك

فهمّ سعيد بالتكلم ليؤكد لها صدق وعده فأوقفتهُ العجوز عن الكلام وتظاهرت بالدفاع عنهُ وقالت: «اسمحي لي يا قطام بكلمة أقولها لك. أنت لا تعرفين سعيداً بعد ولكنني أعرفه وأعرف صدقهُ وأنا أقول لك بالنيابة عنهُ هل تريدين أن يكتب لك صكاً على نفسهِ أنهُ يفعل كل ما قالهُ لك».

فلما سمع سعيد ذكر الصك تهيَّب وعظم الأمر عليهِ وكأَنهُ صحا من سكرتهِ لحظة تبيَّن فيها خطارة ذلك الأمر ثم عاد إلى سكرة الغرام وراده تثبيتاً في ذلك ما سمعهُ من كلام العجوز الدال على ثقتها بهِ وبوعدهِ.

أما قطام فكانت تنظر إلى كل حركة تبدو من سعيد فلم يفتها ما جال في خاطرهِ ساعتئذٍ من الندم وهو يحاول التظاهر بخلاف ذلك. فلكي تحملهُ على كتابة الصك من تلقاء نفسهِ قالت العجوز: «أراكِ أقمتِ نفسك نائبة عنهُ في أمر لا تصحُّ النيابة فيهِ وهو غير راض بهِ وفي سكوتهِ أكبر دليل على ذلك. فدعينا من هذا الموضوع ولا تعرضي سعيداً لهذا الخطر وأنت تعلمين ما قلتهُ لك عنهُ وما لهُ من المنزلة في قلبي وإن أكن قلما رأيتهُ فأفضّل أن أعرض نفسي للخطر ولا أعرضهُ».

فعظم ذلك القول على سعيد وثارت الحمية في رأسهِ فنهض بغتة وقال لها أتحسبين سكوتي يا قطام عن تردد أو خوف … لا وحبّك ما أنا ممن يضنون بالنفس في سبيل الحب وكيف تقولين أنك تفعلين ذلك عني … وربما ترددتُ في بادئ الرأي. وأما بعد أن علمت بما عندك نحوي فإني أكتب الصك ولا أرضى إلاَّ بكتابتهِ.. هاتوا رقّ ومداداً» فنهضت العجوز حالاً لاستحضار الرق والمداد والقلم وكانت قد أعدَّت كل شيء قبل مجيئهِ.

فاغتنم سعيد غيابها وأزاح مقعده وأصلحهُ بحيث يواجه قطاماً. أما هي فنظرت إليهِ وابتسمت وقالت بصوت يتخللهُ نغمة الدلال «لا تعرض نفسك للقتل يا حبيبي ومالنا وللصكوك أَلا يكفينا القول».

فما صدق سعيد أن آنس منها هذا التقرب وسمع قولها «حبيبي» فجعل يبالغ في حبهِ وغرامهِ واستهلاكهِ في سبيلها وطابت لهُ تلك الخلوة القصيرة فتبادلا فيها من عواطف الحب ما لا تفي بشرحهِ المجلدات وسعيد يحسب نفسهُ أسعد إنسان على وجه الأرض لحصولهِ على حب قطام. وهي إنما همها من كل ما جرى إغراؤُه على قتل علي وقد أضمرت في باطن سرّها أنهُ إذا انتقم لها تزوجتهُ وإن تكن غير مغرمة بهِ. وإذا فشل في مهمتهِ فلا أسف عليهِ وقُتل. فإذا كتب الصك لا يجسر على الرجوع عن وعده وأدركت العجوز أن في إبطائها وسيلة لتبادل الإشارات واللحظات وزيادة التمكن من الإغراء فأبطأت لغير داعٍ ثم عادت وبيدها رق من جلد الماعز وقلم من القصب وقرن أيل فيهِ مداد أسود. فلما رآها سعيد وتحقق كتابة الصك عاودهُ الخوف وحدثتهُ نفسهُ بالرجوع عن الوعد ولكن الحياء والحب منعاهُ. ولم يخف ترددهُ عن قطام فتلافت ذلك بابتسامة ونظرة وهو يربو إليها ويقول في نفسهِ «ما أسعد هذا اللقاء وما أجمل هذا الحبيب لولا ما اشترطهُ من العقبات» ولم تترك لهُ قطام فرصة يفكر فيها فقالت للعجوز «لمن أتيتِ بهذه الأدوات يا خالة».

قالت: أَتيت بها إلى سعيد.

قالت: «أترجين منهُ أن يكتب الصك لا لا أظنهُ يكتبهُ (وابتسمت وهي ترنو إليهِ شذراً) وكأني بهِ ندم على ما فرط منهُ لا عن جبن أو خوف لا سمح الله ولكنهُ رأَى قطاماً لا تستحق هذه العناية وأراه يقول في باطن سره أمن أَجل امرأة مثل هذه اقتحم مثل هذا الخطر الهائل …» قالت ذلك ونظرت إليهِ نظر المحب العاتب.

فلما سمع سعيد كلامها ورأَى فيها ذلك الدلال نسي كل خطر واستولى عليهِ الخجل ولم يرَ لهُ مخرجاً من خجلهِ إلاَّ بالمبادرة إلى الرق فتناولهُ من يد لبابة وأمسك القلم وقد أخذ منهُ الهيام مأخذاً عظيماً حتى توردت وجنتاه واحمرت عيناه. فوقفت العجوز إلى جانبهِ والمصباح في يدها فكتب ويده ترتعش وهو يتجلد لئلاَّ يبدو ذلك لقطام فتظنهُ خائفاً وإليك نص كتابهِ:

«أنا سعيد بن … الأموي أُعاهد قطام بنت شحنة على قتل علي بن أبي طالب مهراً لزواجي بها وإذا لم أفعل ذلك كنت لا أستحقها وعليَّ عهد الله وميثاقهُ».

كتبهُ سعيد الأموي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤