الست الطاهرة

نحن في عز المولد. صياح الميكروفونات والناس والعربات وحلقات الذكر يصمُّ الآذان. القزم عتريس يدخل في باب الجامع في طريقه إلى المقام. الشحَّاذون يبتسمون. الزُّوار يتلفَّتون إليه ويبتسمون. السقَّاءون الواقفون في الممر الطويل كتماثيل من الخشب ينظرون إليه بعيونهم الحزينة الجامدة ويبتسمون. عتريس يدخل المقام وينحشر وسط الزحام. وسط الأجساد والأيدي المُتشابكة تتلمس يداه الصغيرتان موضعًا على الشباك. يُريح وجهه المُكرمش العجوز عليه. تُتمتم شفتاه. يعلو صوته. لكن أصوات الدعاء والتكبير والتلاوة أعلى منه. الزُّوار يلمحونه ويعجبون. كم يكون عجبهم لو عرفوا أن الست أيضًا تُكلمه، تُكلمه وحده دون غيره؟

– من يُنادي عليَّ؟

– يا ست! نظرة! يا ست!

– عتريس يا ست، القزم عتريس.

– أنت جئت يا عتريس؟

– جئت يا ست. أبوس الأيادي. أركع عند رجليك. أشم رائحتك الطاهرة.

– الغيبة طالت يا عتريس.

– دُخْت يا ست. تُهْت في بلاد الله شرَّقت وغرَّبت. لا شغلة ولا مشغلة.

– والسيرك يا عتريس؟

– قفلوه في وجهي. قالوا لي عجزت ولا بقى فيك حيل؛ من يوم ما وقعت يا ست.

– وقعت؟

– من على ظهر الحصان. كنت أنادي على عادتي بعزم ما فيَّ، وأقول نفَسك معي يا ست. قلت أعمل حركة من حركاتي المشهورة وأضحك الناس. وقعت على الأرض رأسي تحت ورجلي فوق. الناس ضحكت لغاية ما شبعت، لكن رجلي انكسرت، ظهري انشرخ.

– وبعدها يا عتريس؟

– أخذوني على المستشفى. وضعوا رجلي وظهري في الجبس سبعين يومًا وحياتك يا ست. سبعين يومًا وحق مَقامك الطاهر.

– وبعد ما خرجت من المستشفى؟

– سألت عليهم. قالوا لي في مولد الست. يا ناس أرجع لشغلي. لأ يا عتريس. يهديكم يرضيكم. أنت عجزت يا عتريس. طيب جربوني. عمرنا ما شفنا البهلوان على عكاز. نفسي أضحك الناس. ستضحك علينا يا عتريس. يا ناس ترموني رمي الكلاب؟ رزقك على الله يا عتريس. صرخت بعزم ما فيَّ: يا طاهرة! سُقْت عليك النبي يا حبيبة.

– وسمعتك يا عتريس.

– عارف يا ست، لكن العمل؟

– العمل عمل الله يا عتريس.

– كلمة منك تفتح الأبواب. دعوة منك تحنن القلوب. لأجل الحبيب الشفيع تشفعي لي يا حبيبة.

– عند من يا عتريس؟

– عند أصحاب الأكشاك يا ست. ألعابهم كثيرة. صحيح انكسرت وما عاد فيَّ حيل، لكن أقدر أضحك الناس. أحكي لهم حكايتي. أحلف لهم إني يا ما أضحكت ناس وأبكيت ناس.

– رُح يا عتريس، ربنا يفتح لك الأبواب.

في اليوم التالي عاد القزم عتريس إلى المقام. الشحَّاذون على باب الجامع رأوه وابتسموا. الزُّوار لمحوه يتدحرج في الممر الطويل، ولولا قداسة المكان لضحكوا. السقَّاءون الواقفون كتماثيل من خشبٍ نظروا إليه بعيونهم الجامدة الحزينة وابتسموا. تزاحم عتريس وانحشر بين الناس. تحسَّس الشباك وشمَّ العطر وراح في الجلالة وقال: يا ست!

– قُل يا عتريس!

– رحت لهم يا ست. فُت عليهم واحدًا واحدًا.

– من يا عتريس؟

– كلهم يا ست؛ الساحر الأسود، شيطان الموت، الغول العظيم، الحاوي العجيب، حتى الأراجوز فُت عليه.

– ومن هو الأراجوز يا عتريس؟

– رجلٌ صغير يعلِّقونه من شعره بسلك، ويحرِّكون رجليه ويديه بسلوك. طول النهار يشتم ويلعن ويسب.

– ابعد عنه يا عتريس.

– هو الذي أبعدني يا ست.

– والباقون؟

– قلت لهم أشتغل معكم. قالوا لي راحت عليك يا عتريس. يا ناس ولو نمرة واحدة. ما عاد فيك حيل يا عتريس. يا عالم ولو تقعدوني على المسرح والناس مصيرها تضحك. الناس غيرها أيام زمان يا عتريس. طيب أقف على رأسي، مرة واحدة يا عالم. تقع تموت يا عتريس، ونروح في داهية معك.

– معهم حق يا عتريس.

– تقولين معهم حق يا ست؟

– شعرك ابيض. قلبك تعب يا عتريس.

– القلب لا يتعب من ذكرك يا ست. طيب تصدقي بالحبيب؟

– عليه أفضل الصلاة والسلام.

– لو تسمحي لي يا ست؟

– ماذا تريد يا عتريس؟

– أقف على رأسي مرةً واحدة قدَّامك؛ أثبت لك أن عتريس هو عتريس؛ بهلوان زمانه، ووحيد عصره وأوانه.

– هنا في المقام؟ يا لَلعيب يا عتريس!

– من نفسي يا ست. مرة واحدة يا حبيبة. مرة واحدة لأجل الحبيب.

– عيب يا عتريس!

دمدم الصوت المُنبعث عن المقام، زام في أذنه كالريح، غامت الدنيا في عينيه، امتدَّت يدٌ فوقعت يده عن الشباك الطاهر في عنف، زعق صاحبها الذي بدت رأسه كأنها القبة: اسعَ وصلِّ على النبي! انتبه عتريس إلى العملاق الواقف إلى جانبه وخاف أن يدوسه، يخنقه، يرميه من الباب. صرخ: والعمل يا ست؟ جاءه الصوت العميق الهادئ كأن حمامة تُوشوشه: اسعَ وصلِّ على النبي يا عتريس.

– الأبواب كلها اتقفلت في وجهي يا ست.

– إلا بابي يا عتريس. إلا بابي.

– يرضيك عتريس يصبح شحَّاذًا يا ست؟

– الأرزاق على الله يا عتريس.

يومها وقف القزم عتريس على باب الست، طول النهار وقف على باب الحبيبة بنت الحبيب؛ يصعب على واحد ويضحك عليه عشرون. الستات تُشير عليه وتقول: شوفوا خلقة ربنا! والأطفال تصرخ وتقول: شوفوا الرجل المسخوط. والمشايخ يستعيذون بالله ويقولون: امشِ من هنا ورزقك على الله. والشحَّاذون يطردونه ويقولون: ما بقي غير البهلوان يقف قدَّام صاحبة المقام. عتريس صعبت عليه نفسه، غضب ودخل المقام ورفع يديه وقال: نفَسك معي يا ست. نفَسي ضاق يا بنت بنت الحبيب.

– رجعت يا عتريس؟

– الشِّحاذة للشحَّاذين يا ست، وأنا طول عمري فنَّان.

– ما معنى فنَّان يا عتريس؟

– أمثِّل، أُضحك الناس، أدهن وجهي بودرة، أقف على رأسي. انظري.

وأحسَّ عتريس أن الشباب عاد إليه. وبحركةٍ مُفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة؛ رأسه تحت ورجلاه في السماء. وبحركةٍ مُفاجئة أيضًا هاج الناس، ورفع المشايخ وجوههم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام، فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون! وحق مقام الست الطاهرة لأشدَّك على القسم!

في الزنزانة المُعتمة، على البرش الخشن، نام عتريس وهو يفكِّر فيما جرى له، ويتذكر حياته القصيرة قِصرَ جسمه. وبالليل طلعت له الست الطاهرة؛ وجهها مُضيء كالبدر، جبهتها صافية كاللبن الحليب، ثوبها أبيض في أبيض كالملاك.

– عملتها يا عتريس؟

– أمر الله يا ست.

– وفي المقام!

– معذور وحياتك.

– الدنيا واسعة يا عتريس.

– الدنيا ضاقت في وجهي يا ست، ما بقي قدامي إلا بابك.

– وتتشقلب في المقام يا عتريس؟

– كان نفسي ألعب مرة قدَّامك، مرةً واحدة قبل ما أموت. يمكن نفوز منها نظرة، نظرة واحدة قبل ما أموت.

– هجموا عليك كلهم؟

– كلهم يا ست؛ المشايخ والعساكر، الشحَّاذون والسقَّاءون، والأفندية والفَّلاحون.

– ورموك في الزنزانة؟

– على البرش الخشن، في العتمة والرطوبة، وسط الفيران والبراغيث.

– تعبان يا عتريس؟

– كل واحد ونصيبه يا ست.

– زعلان مني يا عتريس؟

– كلك نظر يا أم العواجز.

– ألا تريد أن تُسامحني؟

– فتح القزم عتريس عينيه قبل أن يُغلقهما إلى الأبد، تنهَّد بصعوبة وقال: لا يا ست. أبدًا أبدًا.

١٩٦٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤