الراهب

ذات يوم من سنين بعيدة، كثيرة لا يُحصيها العدد، قديمة لا تُدركها ذاكرة إنسان، كان هناك راهبٌ شاب، لم تنبت شعرات لحيته بعد، يجلس وحيدًا في غرفته في الدير المعروف بدير هيسترباخ. كان الكتاب المقدس مفتوحًا أمامه منذ ساعات، وعيناه تُتابعان الآيات المسطورة أمامه، ولكن عقله ذاهل عنها، وفكره مشغول بالعلل الأولى والأخيرة للأشياء، غارق في تأمُّل الحياة والموت والمصير. كانت هناك عبارة لم يُمَل من قراءتها، ولكنه لم يستطع أن يفهم معناها أو يصل إلى سرها: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيج من الليل».

عذَّبه التأمل والتفكير حتى ضاقت نفسه بمحنتها، وأحسَّ بالحر يكاد يخنقه، وباللهب يمتد من دماغه وقلبه فيتغلغل في جسده حتى يكاد يحرقه. هنالك نهض من مجلسه، وهبط إلى حديقة الدير، فشعر بأنسام الربيع تُنعش وجهه، وتُرفرف حول أذنيه. كان لا يزال سابحًا في ذهوله، فلم تُبصر عيناه الذاهلتان شيئًا مما يجري حوله؛ لا الرهبان العجائز المُنتشرون بين أحواض الزرع والزهور، ولا الشبان السائرون في ممرَّات الحديقة تتحرك شفاههم وهم يتلون من الكتاب المفتوح بين أيديهم، ولا السور الأجرد المبني من أحجار الجبل التي حال لونها ونمَت عليها الأعشاب والأشواك، ولكن صوتًا رقيقًا، مثل أجراس ناقوس يدقُّ وراء الأفق، بدا كأنه أعاده إلى نفسه. كان صوت غناء، شجيًّا، متقطعًا، خجولًا، كأنه صوت أجنحة طفل ملائكي يهبط من السحاب ويتجلى للآباء الصالحين والقديسين. وبحثت عيناه قليلًا بين أوراق الشجر، وهدته أذناه إلى طائرٍ صغير ينتفض على غصن شجرة الجميز العتيقة المغروسة إلى جانب السور، ويقفز من ورقة إلى ورقة كأنه يتعذب مثله بالتفكير في الأصل والمصير. كان الصوت، على الرغم من ارتعاشه وحزنه، رقيقًا وساحرًا كأنما ينبعث من ناي يلعب عليه أحد الرعاة. نسي الراهب الشاب عذابه، وغمرته فرحةٌ سماوية أبعدت عنه همه وضيقه، فراح يُتابع غناء الطائر العجيب، ويجري وراءه وهو يطير من شجرة إلى شجرة، ولا ينتهي من لحن إلا ليبدأ في لحنٍ جديد. أخذ الراهب الشاب يُتابعه بقلبه قبل عينيه، مسحورًا بغنائه الذي يتدفَّق في صدره كأنه خرير نبع الحياة الأبدية، حتى حطَّ الطائر أخيرًا فوق شجرة صنوبر وراء السور. ولما كان باب الدير مفتوحًا فقد سار الراهب الشاب في طريقه، وعبر الباب الخارجي بدون أن يشعر، وراح يُتابع الطائر الجميل وهو يقفز من شجرة إلى شجرة، ويسكب خيوطه الذهبية الصافية فيجذبه معه. ولم يُحسَّ الراهب الشاب بنفسه وهو يجوس في الغابة، مذهولًا عن الجمال الإلهي الذي أسدله الربيع على طيورها وأشجارها ونباتها ودروبها. ولم يشعر بنفسه وقد توغَّل في الغابة حتى وصل إلى وادٍ عميق مُخضر كأنه هاوية، تتكاثف فيه أعواد العليق، ويتلألأ فيه نبعٌ صافٍ تحت أشعة الشمس الذهبية.

وفجأةً أحسَّ أن الشمس قد غابت، والطائر سكت، والغابة بدأت تسحب عليها غطاءها الداكن الظلال، والبرودة تسري إليه من جوف الوادي ومن النسمات الباردة التي بدأت تلفح وجهه. كان كل شيء فيه يرتعش رعشة لم يُحسَّ بها في حياته من قبل، وإن كان في نشوة انبهاره قد عزاها إلى وحشة الغابة، ورطوبة المساء، وجلال الغروب. وازدادت الرعشة حتى أصبح كيانه كله ينتفض، فاستدار يريد العودة من حيث أتى، ولكن أعواد العليق والتنوب والأرز شبكت في بُرْدته، فراح يخلِّص نفسه منها في عناء. ولما أنقذ نفسه أخيرًا من الأذرع الخضراء التي امتدَّت لتُعانقه على الرغم منه، وسلك الطريق الذي بدا له أنه يُوصله إلى الدير، كانت الشمس قد دخلت كهفها الأبدي منذ لحظات، حتى إنه لم يكن يكاد يرى أصابع كفه حين يبسطها أمامه ولا مواضع قدميه عندما وصل إلى الدير. كان باب الحديقة مُغلَقًا، والسكون يخيِّم على الدير الذي بدا كأطلال مدينة قديمة مهجورة. ووجد الراهب الشاب أن عليه أن يدور حول السور دورةً مُضْنية قبل أن يصل إلى البوابة الرئيسية. وحين وقف أخيرًا أمامها، ولمست يداه قضبانها الحديدية العالية، منعه الخجل لحظاتٍ من أن يجذب حبل الجرس، ولكنه حين تغلَّب أخيرًا على خجله أخذ يبحث عن الحبل فلم يجده في موضعه؛ هنالك لم يجد بدًّا من الطَّرق على الباب كما يفعل الغريب.

وفُتحت البوابة، وأطلَّ منها وجه لم يتبيَّنه في أول الأمر وإن شعر أنه لا بد أن يكون وجه شيخ عجوز لن يرحمه من اللوم والتأنيب. وحاول الراهب الشاب ألا يُعطيه فرصة للعتاب والتوبيخ، فأسرع يعتذر إليه عن تأخره الشديد في صوت لا تُخطئ الأذن نغمته المتَّضعة الكسيرة. وأراد أن يمضي في طريقه الذي يعرفه جيدًا لولا أن اعترضه الشيخ العجوز، وراح يتفرَّس في وجهه ويفحصه بعينيه الغائرتين كأنما يفحص وجه حيوان مُنقرض. ولاحظ الراهب الشاب أنه لم يكن هو نفس البواب الذي تركه وراءه، كما أن البواب الجديد لم يترك له فرصة يُحاول فيها أن يتذكر وجهه؛ فقد دعاه في صوتٍ حاسم وسريع للذهاب معه إلى رئيس الدير. وحين وصلا إلى حجرته لاحظ الراهب الشاب أنه لم يرَ هذا الرئيس العجوز أيضًا من قبل. ساوَره الشك فراح يقلِّب عينيه بين سقف الحجرة وجدرانها ولوحاتها التي يعرفها، كما يعرف منها أنه لا يمكن أن يكون قد دخل ديرًا غريبًا؛ إذ ليس في المنطقة كلها وعلى مسافة مئات الأميال ديرٌ سواه. وبينما هو يقلِّب رأسه في حيرة وقعت عينه على صورته مُنعكسةً تحت ضوء الشموع الخافتة على ألواح الزجاج الذي يغطِّي صورة العذراء على الجدار المُواجه له. واقترب منها قليلًا ليتحقق مما أنكرته عيناه؛ كان الوجه الذي يُطالعه من المرآة العكرة وجه شيخ عجوز ابيضَّ شعر رأسه، وطالت لحيته حتى كادت تلمس صدره، حتى إنه لم يستطع أن يصدِّق كيف أنه لم يُحسَّ بها. وأحسَّ بألم في ظهره، فمدَّ ذراعه ليتحسَّسه، وعادت يده لتُخبره أن ظهره قد تقوَّس كما يتقوس ظهر شيخ محطَّم عجوز. ترنَّح الراهب ولم تقوَ ساقاه على حمله، وأسرع الراهبان إليه فأسنداه على مقعدٍ مُريح، وساعدهما على حمله إخوةٌ آخرون أخذوا يفِدون من قاعات الدير واحدًا بعد الآخر، والراهب يُدير عينيه بينهم فلا يعرف أحدًا ولا يعرفه أحد. وعندما سألوه عن اسمه فنطقت به الشفتان المُرتعشتان، أرسلوا في طلب سجل الدير القديم وأخذوا يقلِّبون أوراقه. ولما وصلوا إلى آخر ورقة فيه دون أن يعثروا على اسمه أو اسم عائلته أرسل رئيس الدير يطلب سجلًّا بعد سجل قُيدت فيها أسماء الرهبان على مدى ثلاثمائة عام. وعندما وجدوا اسمه بعد البحث المُضْني الذي اشترك فيه جميع الرهبان رأوا أمامه هذه الكلمات: «داخله الشك في شبابه، فغادر الدير سرًّا ولم يعُد إلى اليوم.»

عندما سمع الراهب العجوز ذلك أحسَّ بظلٍّ ثقيل يزحف على عينيه، ظل كلمات قرأها من قبل ولم يستطع أن يفهمها: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل.» عندها سقط الراهب العجوز، كما يقولون، مثلما تسقط الريح على شمعةٍ واهنة.١
١٩٦٠م
١  الفكرة عن خرافةٍ ألمانية قديمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤