عزاء

كانت قد انقضت سبعة أيام.

«سمير» قد عدَّها يومًا بيوم. عدَّها على أصابع يديه الصغيرتين. لم تكن لديه نتيجةٌ سنوية، ولم يكن يملك تقويمًا فلكيًّا، ولكنه حسبها جميعها كأمهر الرياضيين، بأصابع يديه أو بملاليمه الصفراء المُستديرة. وجاء يوم الخميس، فهتف: متى ينتهي هذا كله؟

في مثل ذلك اليوم، كان المأتم مُقامًا في الساحة المُواجهة للدار؛ السرادق الكبير، المصابيح المُتلألئة كالنجوم الكبيرة، الزوَّار القادمون من مشارف المدينة، ومن القرى والكفور المُجاورة، الخدم يوزِّعون القهوة، وينحنون للمُعزين. وأبوه «سيد أفندي» النجَّار الإفرنجي واقف على باب السرادق ويده تُصافح الوافدين والذاهبين. وفي الداخل — في القاعة الواسعة التي طالما جلس فيها مع جدته، وأنصت إليها وهي تشرب القهوة السوداء من فنجان أبيض مُستدير. كان ذلك قبل أن يحملوها في النعش الكبير بأيام — كانت نسوةٌ كثيرات يبكين، ويبتسمن، ويأكلن، ويندبن، ويُثرثرن في أخبار الزواج والميلاد والموت.

كان الوقت ساعة الغروب، وكان الهواء هادئًا، والأشجار القائمة في جانب الطريق تستقبل الليل في خشوع، والعصافير تطير بعيدًا كأنها تريد أن تودِّع الشمس المُلتهبة فوق أسطح البيوت قبل أن تأوي إلى أعشاشها. وكان سمير يجلس على عتبة البيت. الجميع قد عادوا من المدفن ومرُّوا عليه. رأى ظلالهم السوداء تركض في الطريق كأنها كُتلٌ هاربة من مملكة الظلام، وعرف من بينها كتلتين هزيلتين تحملان النعش الخشبي وقد تدلَّى منه اللحاف والغطاء الحريري؛ أين جدي؟ أين ذهب جدي؟ ونظر إلى الناحية التي اختفت عندها الشمس منذ أمد طويل. رأى عصًا تخبط على المنحدر، وعرف أن جده هو الذي يتوكأ عليها، ولكنه أيضًا أراد أن يعبر به ولا يحدثه؛ جدي، لِم تأخَّرت؟ ولكن جده لم يردَّ عليه، بل دلف إلى الداخل وهو يقول: لكل شيء نهايةٌ؟ وحين أراد أن يسأله كيف لبث في المدافن إلى ما بعد الغروب وجده ما يزال يُتمتم: لكل شيء نهاية. لكل شيء نهاية.

كان ذلك في يوم الخميس، وقد مرَّت سبعة أيام، وما زال جده يكرِّر «لكل شيء نهاية» ولا يزيد. وسمير يسأل نفسه: ألا يمكن للحزن أن ينتهي؟ أليست سبعة أيام بلياليها الطويلة المُقمرة كافية لكي تُنسي الإنسان حزنه؟

في ذلك المساء دلف سمير إلى حجرة جده. وحين فتح بابها ارتجف قلبه رعبًا؛ فقد صرَّ صريرًا مُخيفًا، كأنه يسأل غاضبًا: لمَ تدخل غرفة جدك في غيابه؟ ولمحه الشمعدان الزجاجي الطويل القائم على رف الدولاب ذي المرآة الكبيرة، وسأله أيضًا: لِم تدخل غرفة جدك في غيابه؟ لكنه اقترب منه، وربت عليه هامسًا: لن تبوح لجدي، أليس كذلك؟ لن تبوح له. واهتزَّ الشمعدان الكبير، وانحنى أمامه حتى كاد يسقط على الأرض، ثم اتجه سمير إلى الفراش فدسَّ كيسًا من الورق تحت الوسادة وعدا هاربًا.

وفي مساء اليوم التالي عاد سمير فدخل غرفة جده، ولم يكن قد قدِم من الجامع بعد. لا بد أن صلاة المغرب والعشاء تستغرقان وقتًا طويلًا. وقد صرَّ الباب صريرًا مُخيفًا، وعاد يسأله: لمَ تدخل غرفة جدك في غيابه؟ لكنه كان شجاعًا في هذه المرة — وإن كانت قدماه قد ارتجفتا قليلًا — فصرخ فيه بصوت عالٍ: وما شأنك أنت؟! وذهب مباشرةً إلى الفراش، ودسَّ يده تحت الوسادة. ها هو كيس الورق. آه! ما أروع هذا! لقد أكله كله. أليس هذا شيئًا بديعًا؟ ودسَّ يده تحت الوسادة ووضع كيسًا جديدًا، مُمتلئًا حتى نهايته، وكاد ينسى أن يمرَّ على الشمعدان الكبير لولا أنه التفت إلى المرآة فرآه ينظر إليه مُعاتبًا. لم يسأله في هذه المرة لمَ تدخل غرفة جدك في غيابه، ولكنه حين ربت عليه في حنان حيَّاه بفرحٍ بالغ، وكأنه يقول له: لقد أصبحنا صديقين.

وفي الليلة الثالثة فتح سمير الباب فلم يصدُر عنه الصرير المُخيف، وإنما همهم بصوتٍ غامض لم يتبيَّنه، وإنما عرف منه أنه يُراقبه في حذر ويتتبع خطواته في حسدٍ بالغ. وجرى نحو الفراش، ودسَّ يده تحت الوسادة، وأخرج الكيس. كان فارغًا. برافو يا جدي! أنا مسرور منك الآن. لقد أكلته كله. انتظر؛ سوف أملؤه لك في المرة القادمة، أو هل تُفضل نوعًا آخر؟ إنك أطيب جد على الأرض، ولم ينسَ أن يمرَّ على الشمعدان الزجاجي، وأن يُلامسه برفق وحنان، ويشكره على كتمانه. اهتزَّ الشمعدان مرات، وأومأ برأسه، وابتسم في وجه، كما ابتسم شبيهه في المرآة، وطلب منه أن يعود في الغد.

لم يكَد سمير يُغلق الباب وراءه حتى رأى جسدًا طويلًا يُواجهه، واضطرَّ أن يرفع رأسه ليرى من يكون صاحبه. كان هو أبوه، لقد أغلق الورشة إذن وعاد إلى البيت، لمَ جاء مُبكرًا؟ ولم يتركه أبوه يسترسل في أحلامه.

ماذا تفعل هنا؟ فأجاب وكأنه يغوص إلى سابع أرض: أنا … كنت …

– يا شيطان، هل نسيت أن الواجب وراءك؟

– حللت المسألة. أقسم لك، أ.

فقبض أبوه على يده كما يقبض الشرطي على لصٍّ هارب، وصعد به إلى الدور الأعلى — وكان صوت حذائه الكبير وهو يرتقي السلالم يختلط بكلماته المهدِّدة: سوف أرى. سوف أرى. سوف أرى. المدرسون يشكون منك. لمَ تُخطئ في الحساب؟ لمَ تُخطئ في الحساب؟ لمَ تُخطئ؟ إني لا أفهم شيئًا، رأسي ينشق، وأنا جائع أيضًا. لا أستطيع أن تجمع عشرة وعشرة، وسوف أرى.

وفي البيت تكون أمه، ذات العيون السوداء والشعر المنفوش، هائجةً لأن الخادمة لا تسمع كلامها. وهناك تبدأ في الشجار مع أبيه الذي يصرخ بها: سوف أرى. سوف أرى. رأسي ينشق. أنا جائع. لمَ لا تضربين الخادمة؟ لمَ تضربينها؟ وتصرخ في وجهه بينما يصيح أخوه الرضيع ويصيح حتى تكاد عروق رقبته أن تنفجر.

في مساء اليوم التالي فتح سمير باب الحجرة في حذرٍ بالغ — بعد أن راقب الطريق، وعايَن وجوه الرائحين والغادين فيه. ولم يحتَج إلى فتح الباب بيديه؛ فقد وجده مُواربًا — وبدا له كأنه يرحِّب بمقدمه ويميل عليه يسأله: لمَ تأخَّرت الليلة؟

كانت الغرفة على غير عهده مُظلِمة، أطلَّ بعينيه الصغيرتين أولًا، ولو استطاع إنسان أن يرى عينيه بغير مرآة لحسبهما جمرتين تلتهبان في موقد فحم خمدت فيه النار. وبحث عن الشمعدان فلم يتبيَّنه — إما أن العفاريت اختطفته أو أن الظلام كان أقوى منه — الشيطان وحده يعلم! وهرع إلى الفراش ومد يده ليدسَّها تحت الوسادة.

– من؟

خرج الصوت من باطن الحجرة كما يخرج قطٌّ أسود من جحر الفيران.

وقف سمير مذهولًا؛ فها هو جده في نهاية الأمر.

– من بالباب؟ قلت من؟

فهمس سمير وكأن قلبه هو الذي يردِّد الكلام: أنا يا جدي.

فحشرجت حنجرة العجوز، وكأنها أوراق شجرة يابسة تهزُّها رياح الخريف: سمير؟ تعالَ يا ابني. تعالَ.

لا بد أن جده مد يده ففتح النافذة؛ فقد أغرق في طوفان من النور بَهْر عينيه، وتكشَّفت المرئيات أمامه. وها هو الشمعدان رابض أمام المرآة، الشمعدان وشبيهه. نظر سمير إليهما مَغيظًا وهتف في سره: لعنة الله على شمعدانات الدنيا كلها!

– سمير.

فاقترب سمير خائفًا من جده، ولمح نورًا ينبعث من عينيه الضيقتين، الحائرتين في مَحجريهم، كانتا تقولان له: اقترِب. اقترِب. لمَ تخاف؟ ألست أنا جدك؟

– ما هذا؟

ابتهل سمير وهو يُحاول أن يُخفي يده وراء ظهره: إنه … لا شيء يا جدي، لا شيء أبدًا.

– إذن فأنت الذي تضعه كل ليلة. ورفعه الجد بيديه الخشنتين فأجلسه على ركبته. واستطاع سمير أن يرى الشمعدان بوضوح. إنه يميِّزه الآن، وها هو يحاول أن يُخفي وجهه فلا يستطيع. وأين يهرب من جريمته؟ ألم يبُح بكل شيء؟ ألم يبُح بكل شيء؟

ومرَّت أصابع العجوز في شعر سمير، بل إنه قد مسح خده في رأسه كأنه قطٌّ هرِم: أنت الذي وضعت الكيس تحت الوسادة؟

– أنا يا جدي لم أضعه. أنا وضعته.

– لمَ فعلت هذا؟

– صدِّقني يا جدي.

– وتحرم نفسك كل يوم من الملبس؟

سأله سمير وهو يضع إصبعه على شفتيه: الشمعدان قال لك؟!

فقال جده مُستنكرًا: الشمعدان؟

فصرخ سمير في حماس: سأكسره. سأكسره حتمًا. وتنهَّد الرجل العجوز، وصار من الواضح أنه يُغالب دموعه، وأشعل سيجارة، واختنق صوته فجأةً، كأن حنجرته امتلأت بالدخان الذي لم يُرد أن يخرج منها، وسعل كثيرًا حتى بُحَّ صوته وهو يقول: أنت أشفقت على جدك. نعم يا حبيبي. لكل شيء نهايةٌ. أين جدتك المسكينة؟ عِشرة أربعين عامًا، من كان يصدِّق؟!

هتف سمير كأنه قد عثر على حل مسألة حسابية عويصة: هي عند الله. أبي قال لي ذلك.

فقرَّب العجوز وجهه منه قائلًا: نعم يا حبيبي، هي في السماء، ولكنها لن تعود. هل قال أبوك ذلك أيضًا؟ كان ينبغي أن يسبقها جدك. هل قال لك إنها لن تعود؟

لم يعرف سمير بماذا يُجيب؛ فإن كلمات جده كانت أصعب من مسائل الحساب، ولكنه ردَّد بصره بين الشمعدان المتَّهَم وهو يحاول أن يُخفي وجهه عنه عبثًا، وبين السرير النحاسي الذي تدلَّت من أحد عمده جبة وقفطان عظيمان، والنافذة التي ما يزال النور يتدفَّق منها كأنه موج البحر، ثم رفع وجهه إلى جده ورأى التجعدات الكثيرة على جبهته العريضة.

قال جده وهو يضحك: ولكن أين خبَّأت الكيس؟

فهتف سمير وهو يقفز على الأرض: إنه هنا، تحت الوسادة. قال الجد وهو يمد ذراعه: ملبس؟

فأومأ سمير برأسه مُوافقًا: وفيها طوفي أيضًا.

ووضع الجد العجوز ملبسة في فمه صار يلوكها بين فكَّيه العاطلين من الأسنان، وابتسم راضيًا، ومد يده بالكيس إلى سمير: خذ واحدة. خذ. فهتف سمير مُتحمسًا وهو يقفز على الأرض: لا يا جدي، إنها لك، كلها لك.

وانفلت يجري مسرورًا.

١٩٥٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤