شجرة عيد الميلاد

يا جدي العزيز، ما أشد حنين إليك! منذ أن رحلت عن قريتنا العزيزة، وعن بيتنا القديم، وأنا أفكر في العودة إليك. لم يبقَ لنا غيرك. بعد وفاة المرحوم أبي، أما تزال غاضبًا عليَّ؟ لن أسألك الصفح عن غربتي عنك؛ فأنا أعرف أن قلبك الرحيم يغفر كل الذنوب، ولكن أسألك عن صحتك أنت، أما تزال تُعاني من ذلك المرض الكريه؟ وأم ستيتة، هذه العجوز الطيبة القلب، أما تزال تردِّد أنني ناكر للجميل؟ سامحها الله. أنا عائد في هذا الأسبوع. وعلى فكرة، نسيت أن أقول إنني سأحمل معي ولدي الوحيد «نيني». يا ليتك تراه يا جدي العزيز! إنه جميلٌ نضر كوردةٍ مندَّاة. سأُحضره معي حتمًا، وسوف يلعب معك، ويحبو على قدميه ليقبِّلك، ويُعانقك. نعم إنه كالدمية الصغيرة. شعره الأصفر المُنسدل، يا ليتك تلمسه بيدك الكريمة! سوف تُحبه كثيرًا، وسوف تضمُّه إلى صدرك، وتضعه على حجرك، وتُهدهده لينام، كما كنت تفعل معي، ولكن هل تعرف هذه المفاجأة؟ إننا سنحتفل بعيد ميلاده الثالث، في بيتنا القديم. سوف تكون حفلةً شائقة، وسوف تنوِّر بيتَنا الأنوارُ الزاهية.

سلامي إليك يا جدي العزيز، وانتظروني في قطار المساء، في يوم الأربعاء. كان هذا هو الخطاب الذي حمله ساعي البريد في ذلك الصباح.

أما ما زلت أذكر صوته المُتحشرج وهو يُنادي: جواب من مصر! جواب من مصر!

طِرت أقفز السلالم الخشبية درجاتٍ درجات، وكأني إحدى البطَّات التي نربِّيها في بيتنا حين تهرع جائعةً إلى الطعام! ونزل ساعي البريد عن حماره العجوز، وصبية الحارة الصغار يقفزون من حوله ويحاولون أن يفتحوا جرابه المُنتفخ وكأنه خزانة الأسرار. واستقبلته أنفاسي المبهورة قبل يدي، وطِرت إلى جدي وأنا ألوِّح بذراعي في الهواء. ولم أنسَ أبدًا أن ألتفت ورائي لأُلقي نظرة على صبية الحارة المذهولين الغيورين.

«جواب يا جدي. جواب من مصر.» وألقيت الخطاب في حجره، وانحنيت عليه أريد أن أضمَّه وأقبِّل لحيته الكثَّة البيضاء، كأني عائد من قلب غابة مجهولة الدروب ومعي صيدٌ ثمين. وأنصت إليَّ جدي المُقعَد وأنا أتلو عليه رسالةً أخرى، في لغةٍ ركيكة، ولسانٍ مُتلعثم.

«بالسلامة يا ابني. بالسلامة يعود.» وافترَّ ثغره العاري من الأسنان عن بسمةٍ واسعة.

أنا ما زلت أرى كل شيء أمامي. في ليلة الأربعاء كنا جلوسًا في غرفة الفرن. كانت أمامنا مدفأةٌ صدِئة، يلتهب فيها الرماد؛ فقد كان حطبنا قليلًا. أيدينا ممدودة فوق النار كأنها تريد أن تحمي بها دماءنا؛ دماءنا التي تسري في عروقنا مثلوجةً باردة. كان جدي العجوز جالسًا على مقعده الذي لا يَرِيم عنه، وكانت عيناه الضيقتان تدوران في المكان كأنهما تحسداننا على مقدرتنا على الحركة؛ فقد كان جدي مُقعَدًا، وربما لا يزيد على قصتي شيءٌ إذا قلت إنه كان مشلولًا. جاءه الشلل ذات صباح وهو يشرب القهوة، فأفلت الفنجان من بين يديه وانكسر، وشُل نصفه الأسفل. لا أريد أن أعيد قصة شلله، فما ذكرتها إلا عراني حزنٌ أليم.

وكانت أم ستيتة، مربِّيتي العجوز، جالسةً أمامي تُعالج عينيها الرامدتين، بعد أن وضعت فيهما قطرات من السائل الأحمر. كان كل شيء هادئًا في بيتنا هدأة الانتظار، حتى قطرات المطر التي تتساقط فوق السطح كانت كأنها دقات طبول عميقة، جوفاء، والسُّحب السوداء التي كانت تُغطي وجه السماء، أحسسنا كأنها جاثمة بثقلها فوق رءوسنا. كانت ليلة شتاء لا تلمع فيها نجمة حتى تنطفئ.

كانت آذاننا مُرهَفة لسماع صوت القطار؛ القطار الذي يزور قريتنا في آخر الليل فيهتزُّ بيتنا من أركانه. لم تكن بي حاجة إلى الكلام؛ فقد غامت عيناي في أفقٍ بعيد، ممتدٍّ بغير حدود، ولم أطلب من «أمي» ستيتة أن تحكي لي أسطورة من أساطير الزمان، كما كانت تفعل كل ليلة. وما كان يمكن للسندباد البحري ولا الشاطر حسن ولا الأميرة شهر زاد أن تشغلني عن خواطري، وما كان يمكن لأم ستيتة أن تُغمض عينيَّ لأنام على حلمٍ جميل؛ فأنا أنتظر مَقدم أخي الكبير لأرى فيه وجه أبي.

سيعود أخي الليلة من بلدٍ اسمها مصر. قالت لي أم ستيتة إنها بلد العجائب؛ قبابها عالية، ومآذن جوامعها مُضيئة في الليل كشجرةٍ تتدلى منها النجوم، وأبنيتها عاليةٌ تصطدم رءوسها بالسحاب. وقال لي جدي إن الناس يسيرون على أرضٍ لامعة — فلا تغرز القدم في الوحل — وإن شوارعها كالمرايا، يمكن للناس أن يروا فيها وجوههم، وإن الأولياء الصالحين يحمونها من غلوات أعدائها، ويقفون أمام سورها العظيم وهم يسبِّحون بحمد الله.

لم أكَد أمدُّ يدي ضارعًا وأنا أصيح: «يا سيدة زينب، يا سيدنا الحسين، أرجعا إلينا أخي سالمًا.» حتى سمعنا طَرقًا على الباب. وقفزت أجري على السُّلم، وأسرعت أم ستيتة الطيبة القلب تتحسَّس الطريق. وحين ضمَّني أخي إلى صدره استطعت أن ألمس بيدي بذلته الناعمة، وأن أشمَّ العطر الذي يفوح منه. قال لي وهو يضحك: هذا هو نيني، ابن أخيك، أليس جميلًا؟ سلِّم عليه يا نيني. نعم، هكذا لقد صِرت رجلًا. لمَ لا تضحك؟ أنت مُتعَب من السفر؟ تريد أن تنام؟ لا، لا. قبل أن ترى جدك؟ من؟ جدك العجوز؟ أتخاف منه؟ إنه يُحبك. هيَّا، هيَّا. أعطِني يدك، هكذا. وصعد أخي الكبير على السُّلم، والضحكات العالية تهتزُّ معه. كان يحمل في يده حقيقةً كبيرة، فقلت لنفسي لا بد أنها مملوءة بالحلوى، لن أنام في هذه الليلة! ومدَّ جدي ذراعيه ليحتضن أخي ويقول له، والصوت تخنقه الدموع: «بالسلامة يا ابني، بالسلامة عُدْت، ما لنا وما لمصر، ابقَ معنا. هذا هو ابنك؟ قرِّبه مني، ما أجمله! أتخاف مني؟ آخ! لا تشد ذقني أيها العفريت!»

وصاح أخي وهو يرحِّب بخادمتنا العجوز: لن تنامي الليلة يا أم ستيتة؟ افتحي هذه الحقيبة، ماذا؟ أتعشى؟ لا. أستريح، ولكنني غير مُتعَب. هيَّا نعد كل شيء معًا. ألا تعرفين؟ ولكنه عيد ميلاد نيني؛ نيني العزيز.

كان أخي في هذه الليلة جم النشاط. لم يكَد يجلس ليستريح، أو ليحكي لنا شيئًا عن البلد الكبير الذي عاد منه. استحال إلى طاقةٍ حية، مُندفعة، مشبوبة. إنه يجري، ويضحك، ويهزُّ رأسه، ويُثرثر بكلامٍ كثير مثل قطرات المطر التي تتساقط في الخارج سريعةً مُتلاحقة: «ضع هذه الحلوى على المائدة. لا تأكل منها شيئًا. وأنت يا نيني، أتريد أن تنام؟ أيها الشيطان الصغير. وهل تنام في عيد الميلاد؟ خذي هذا التفاح يا أم ستيتة. نعم، ضعيه إلى جانب الحلوى. ماذا؟ ولكنك ستأكلين منه الآن، وهذه الشجرة أيضًا؟ نزرعها؟ يا لك من ساذجة! ولكنها لا تُزرَع. اسمها شجرة عيد الميلاد، ألا تعرفين؟ حسنًا، ضعيها هناك. لا تقطعي منها ورقةً واحدة. أسرعي أيتها العجوز. وأنت، لمَ لا تتحرك؟ هل تقف هكذا ساكنًا؟ أتُعجبك الشموع؟ تريد أن تُشعلها؟ ولكن انتظر! سنرى كل شيء، الآن، حالًا، حالًا، كل عام وأنتم بخير.»

ما أغرب أخي! في مثل هذه الليلة الباردة من ليالي الشتاء؟ ماذا يقول جيراننا؟ ولكنهم نائمون. حسنًا فعلوا، وإلا لضحكوا علينا. آه لو رأونا ونحن جلوسٌ أمام المائدة لكنَّا أصبحنا سخرية البلد يومًا بأكمله؛ إذ كيف توقد الشموع ولم يولد في بيتنا طفل، ولم يتم زواج؟

أنا عهدي بالموالد أن يشترك فيها أهل بلدتي جميعًا؛ ففي مولد سيدنا الشيخ «دسوقي» يحقُّ لنا أن نسهر الليل بأكمله، ونأكل الحلوى، ونشتري عرائس المولد الحمراء. لنا نحن أطفال القرية في هذا المولد أن نتبرَّك بسيدنا الشيخ، ونزور ضريحه، ونلمس السور الحديدي بأيدينا، وقد يتمرَّغ بعضنا على السجاد العجمي الثمين في نشوةٍ صوفية محبَّبة. ولنا أن نسهر حتى الصباح، ندور في المرجيحة، وننتقل بين الموائد الزاخرة باللحم الشهي، ونرقص في صفوف الدراويش حتى الصباح، ولكن هذا الحفل الذي نُقيمه في بيتنا في هذه الليلة شيءٌ عجيب. أيكون نيني شيخًا صالحًا من الأولياء؟ ولكن هذا شيءٌ مُحال؛ إذ كيف يصدِّقه عقلي؟

ولم يسترح أخي الكبير حتى جلسنا إلى المائدة. إنني لم أزَل أذكرها تمامًا؛ فقد فرحت في تلك الليلة كما لم أفرح قط. أضأتُ الشموع بيدي، ووضعت الشجرة الجميلة في وسط المائدة، وناولت مربِّيتي العجوز أكثر من قطعة من الحلوى، ودعوت جدي إلى الطعام أكثر من مرة.

ولم تزَل كلمات أخي الضاحكة كأنها ترنُّ في أذني رنينًا مُضيئًا: «كل سنة وأنتم طيبون. كلكم، كلنا، وأنت يا نيني، مُدَّ يديك يا حبيبي. نعم، هكذا، ستعيش مائة عام، أليس كذلك؟ ألا يكفيك هذا؟ إذن ستعيش مائتين. تفاحة أخرى؟ ولكنك لم تأكل. أعطِه يا أم ستيتة قطعة الجاتوه. نعم، هكذا. الآن تعالَ إلى جانبي، ستُطفئ الشموع. املأ فمك بالهواء. لا، هكذا، هيَّا. ستنفخ فيها نفخةً واحدة. نعم. ثلاثة فقط؟ ولكنك لم تعِش أكثر من ثلاث سنين. تريد أن تكون لكل يوم شمعة؟ ولكن هذا كثير. أنت طمَّاع، هه! لم يبقَ غير واحدة. هكذا، انطفأت كلها.»

كنا جميعًا في نشوة من الفرح أسكرتنا؛ فأنا قد نسيت كل ما حولي، وذقت التفاح، والكمثرى، ربما لأول مرة، ومضيت ألتهم الحلوى قطعة بعد أخرى في نهم جائع، وسرحت مع خيالي لحظات وأنا أتأمل الشجرة الصغيرة التي تتوسط المائدة، وتتدلى منها أوراق مُفضضة لامعة، كالقطن الأبيض النقي. وعجبت في نفسي كيف نمت هذه الشجرة، وما لها من جذوع ولا في فروعها ثمر. وسألت عقلي كيف تختلف عن شجرات الصفصاف والتوت التي طالما تسلَّقتها وأدميت أصابعي، حتى «أم ستيتة» قد رفعت العصابة البيضاء عن عينيها الرامدتين وأخذت تنظر إليها، وتلتقط تفاحة من هنا وقطعة حلوى من هناك، وكأن الشباب قد انتفض في عروقها، والحياة قد بُعثت من جديد في روحها.

وأخي الأكبر مشغول بكل شيء، حتى الطبيعة راح يصفها — كاذبًا — بالجمال، وبأنها فرحة مع «نيني»، مع أن الليلة — والحق يُقال — كانت باردة الهواء، والوجود كله مثل زنزانة مُعتِمة تلمع البروق الخاطفة فوق جدرانها بين حين وحين.

كان جدي وحده حزينًا، لقد لبث ساهمًا مُطرِقًا برأسه إلى الأرض، صامتًا، وقورًا، مثل أبي الهول. فإذا رفع عينيه فإنما ليُثبتهما على وجه «نيني» السعيد، وليتملَّى بذلته الزاهية وشعره اللامع، ثم يعود ليخفض رأسه إلى الأرض، ويتشاغل بمسبحته الطويلة عنا.

ما لجدي وللحزن؟ هل يعرف الحزن طريقه إلى القلوب في مثل هذه الليلة؟ هل يا تُرى قد تذكر فجأةً أن أبي وأمي قد ماتا منذ عهد قريب؟ ولكني أنا أيضًا أعرف ذلك. ومع هذا فلم يشغلني الحزن عن الطعام؛ فعندي أن آكل حتى أشبع، وبعدها فلتدمع عيني كما تشاء. هل تذكر وجهيهما الشاحبين وهما يُصارعان الموت جنبًا إلى جنب، على فراشٍ واحد، ونحن أمامهما عاجزون عن كل حركة؟ أنا كذلك أكاد أراهما وهما يصرخان، ويتقيآن سائلًا أصفر بلون وجهيهما. وأنا ما زلت أذكر ما قاله لي الجيران وهم يُعزونني: لقد صرعهما الوباء. وليس للناس حيلة في الوباء يا بني.

أنا لا أشك في أن «نيني» كان يرقب جدي؛ فقد رأيته يشرد بخياله وهو ينظر إليه، ويكاد يذهب إليه ليسأله: «لماذا تبكي يا جدي؟»

هل أحسَّ جدي فجأةً أنه قد فقد كل شيء؟ وأن حياته لم تكن تستحق أن يحياها؟ أكاد أقول إن جدي، في تلك الليلة، قد التفت وراءه، ونظر بعينيه فلم يجد غير الفراغ؛ الفراغ الهائل، الساكن، الذي يحيطه العدم من كل جانب. هل يجيء على الإنسان حينٌ يلتفت فيه إلى الماضي فلا يجد حتى آثار قدميه على الطريق؟ لحظة يطرق المستقبل فيها أبوابنا، ونحن نيام في الليل، ليقول لنا: لقد نسيت أسماءكم.

ولكنني على يقين من أن جدي لو كان رجع إلى ماضيه لما ملكه شعور بالحزن. إنه قد جرَّب أكثر من حياة؛ اشتغل في أول حياته أجيرًا في مَزارع الأغنياء، ثم تجوَّل أعوامًا في أسواق التجارة ومكيلته تحت إبطه حتى أصبح في يوم من الأيام تاجرًا بين التجار. وبدا له ذات يوم أن يكون حلَّاقًا، ففتح صالونًا يتردد عليه عشرات التجار والأغنياء، وما زلنا نعيش على صيته حتى اليوم. نعم! لا يمكن أن يكون جدي حزينًا لأنه استرجع في ذهنه ذكرى ماضيه.

كل ما أذكره اليوم أن جدي كان يحدِّق طويلًا إلى شجرة عيد الميلاد. وكان كثيرًا ما يُخيَّل إليَّ كأنه يتنهد، أو كان يرى أن حياته كهذه الشجرة، ولكنها كانت شجرةً ذابلة الأوراق، جافَّة العروق مثل أشجار الخريف. أكان يدور في خلَده أنه هو أيضًا قد صار في خريف العمر؟

لم تنتهِ ليلة عيد الميلاد على خير؛ فقد أطال جدي التحديق إلى الشجرة الملعونة، واضطربت أنفاسه الواهنة في صدره، حتى رأيت دمعتين تسقطان على خدَّيه وتختفيان في شعرات لحيته. ولم يلبث أن انفجر باكيًا وهو ينشج.

أما أخي فترك ما في يديه وأسرع إليه: «ماذا؟ ما هذا يا جدي؟ أفي هذه الليلة تبكي؟ ولكن ماذا حدث؟ ماذا حدث يا أم ستيتة؟ ألا تعرفين؟ ولكن ما الذي يُبكيه؟» وجرى «نيني» ذو العينين الواسعتين إليه وارتمى على صدره وهو يُعانقه: «لماذا تبكي يا جدي؟»

أما جدي فقد أشار علينا بأن نُبعده عن ذلك المكان. كل ما استطعت أن أتبيَّنه من كلامه المُتقطع، المُختنق بالدمع: «أبعِدوني. أبعِدوني.» ثم وهو يمرُّ بيديه الراعشتين على رأس «نيني»: «لا تحزن يا نيني. معلهش، يا نيني.»

وتحامل جدي علينا، وأسند ذراعيه المنهوكتين على أكتافنا، ونحن نسير به إلى فراشه كان أخي لا يفتأ يردِّد: أهذا ممكن؟ أهذا ممكن؟ وكان «نيني» مشغولًا بدموع الشيخ العجوز الذي يضمُّه إلى صدره ويردِّد في صوته المتقطع: «أبعدوني. أبعدوني.» وأسرع أخي إلى «نيني» فانتشله من بين ذراعيه، وأشار إلى أم ستيتة التي وقفت مذهولةً تفتح عينيها الرامدتين في صعوبة، بأن تحمله بعيدًا. ما كان لهذا الصغير أن يرى الجد وهو يتحطم، ما كان له أن يفتح عينيه الزرقاوين على شيخ فيه بقية حياة تذوي وتنطفئ. والتففنا، أنا وأخي، حول جدي العجوز، نُكفكف من دموعه، ونُهدئ من ثورته التي انفجرت على غير انتظار.

لم نكن ندري ماذا نفعل؛ فقد كنا نراه يبكي أمام أعيننا، بلا سبب. وارتميت على الحصيرة البالية أمام قدميه، وشردت عيناي في السقف، ورحت أعدُّ قطرات المطر؛ واحد، اثنان، ثلاثة. أما أخي فقد تمدَّد إلى جانبه، يُربت على كتفيه ويُهدهد من حزنه، ويميل على أذنيه بكلامٍ كثير.

وكان الصمت يلفُّنا حين رأينا نيني يندفع إلى الحجرة وهو يرى، كأنه يخاف أن يردَّه عنا أحد. وأم ستيتة العجوز تجري وراءه محاولةً أن تُمسك به. «جدي، جدي.» كانت صيحاته تخرج مع أنفاسه المبهورة، متقطعةً مكتومةً كالأنين. وكان يمد يديه نحونا، ويجري حتى لينكفئ على وجهه. «خذ يا جدي. الشجرة أهيه. هي لك. الشجرة لك. ده عيد ميلادك، عيدك أنت. لا تحزن يا جدي. الليلة ليلة ميلادك. أنت، يا جدي، خذها معك؛ لأن الدنيا تُمطر.»

ولم ندرِ ماذا نصنع. أسرع إليه أبوه يحمله بين ذراعيه، وخرج به من الحجرة وهو يقبِّله ويكاد ينشج بالبكاء. وأما جدي العجوز فقد لمعت عيناه الضيقتان التماعًا غريبًا، ومدَّ يده المُرتعشة فقبض على الشجرة، وضمَّها إلى صدره وأخذ يقبِّلها.

وفي الصباح، كان جدي ما يزال راقدًا على فراشه، ولكنني حين اقتربت منه، ووضعت يدي على صدره، لم أجد فيه نفسًا يتحرك.

ومررت بيدي الخائفتين على أطرافه المثلوجة ببرودة الموت. كانت شجرة عيد الميلاد ما تزال في يديه.

وكان يضمُّها إلى صدره ضمًّا شديدًا.

١٩٥٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤