عبد الحق أفندي

الساعة الثامنة «عبد الحق أفندي» الموظف بقلم الحسابات بمصلحة «…» كالثور الهائج، ضرب بقبضة يده على أول مكتب صادَفه وهو يزأر كأنه سبعٌ أفلت لساعته من القفص. أنا لن أحتمل هذا، لن أحتمل، أيجرؤ أن يقول إنني أحمق، وإني كلب، وإنني أخرف أيضًا؟ ويقولها في وجهي؟ لست أنا الذي يُقال له هذا الكلام، لست أنا. وأخذ يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، وجسده كله ينتفض، ولكن الغرفة لم تتسع لصولاته؛ فقد كانت مُزدحمةً بالمكاتب تمامًا؛ لذلك فقد وقف في وسط الغرفة وأخذ يخطب بصوت عالٍ وهو يدقُّ صدره بيده: لقد قال لي إنني أحمق، ورفع صوته في وجهي أيضًا. تجرَّأ عليَّ أمام الموظفين، وأين؟ في مقر عملي، ولكنني سأنتقم — نعم سأنتقم. سأقول له يا سيدي لقد أخطأت، إنك لم تعرف من أين تؤكل الكتف.

ويبدو أن هذا التعبير قد راقه، فأخذ يكرِّره مرارًا، وهو ما يزال يدقُّ صدره بقبضة يديه، ووجهه متشنِّج بالغضب.

كان منصور أفندي السيد جالسًا أمام مكتبه، وكان يُراجع دفتر المهايا. ويظهر أنه لم يسمع الصوت الهادر في الغرفة؛ إذ لم يرفع رأسه الأشيب عن الملف العريض. أما زميلاه محمود أفندي البنهاوي وعبد الرحيم أفندي عبد اللطيف فقد كان أحدهما يشرب قهوة الصباح ويعزم على جاره بسيجارة، ويُلح عليه قائلًا: جرب السجائر العربي؛ إنها لا تُتعب الصدر.

وعاد صوت عبد الحق أفندي يدوِّي من جديد، ويلطم الملفات الرابضة فوق المكاتب، وعاصفة من الغبار المُتراكم فوقها: إنها لمهزلةٌ مُضحكة، بل ومأساة أيضًا، أن تهدر كرامة الناس هكذا، ويُهان الرجال على هذا الوجه البشع.

لقد شاب شعري يا إخواني، شاب شعري، وكلَّت عيناي من النظر في الملفات، ثم يكون جزائي جزاء سنمار. ورأى أن العبارة الأخيرة عبارةٌ أدبية صحيحة، فأخذ يُعيدها قبل أن يستطرد، لا يا سيدي، إنني سألعنك في وجهك، سأقول لك إنك تسبُّني بغير وجه حق، لن أخاف شيئًا، نعم، لن أخاف!

الساعة الثامنة والربع.

اقترب عبد الحق أفندي من مكتب منصور أفندي السيد ووجهه الأحمر يلتهب بالغيظ، وعيناه تُنذران بالشر المحقق، وانحنى عليه وهو يقول: هل رأيت يا منصور أفندي، هل رأيت الناس تشتم وتضيع كرامتها على آخر العمر؟ ولم يرد منصور أفندي فعاد يصرخ: ولكني سأنتقم، سأنتقم.

فسأله منصور أفندي ولم يرفع وجهه عن الملف العريض.

– ماذا ستفعل يا عبد الحق أفندي؟

– ماذا أفعل؟ وهل هذا سؤال؟ وماذا يفعل رجلٌ شريف يرى شرفه في الوحل؟ قل لي بالله عليك ماذا يفعل؟

قال منصور أفندي وهو يرفع رأسه ويحكُّ ذقنه بيديه مُفكرًا: يا عبد الخالق أفندي.

– هيه؟ قالها عبد الحق أفندي وقد فرغ صبره.

– هل تسمع نصيحتي؟

– بالطبع، إنك زميلي من عشرين سنة.

– هذه الثورة لا لزوم لها.

– لا لزوم لها؟! إنكم ستتفرجون عليه، سترون كيف يعتذر إليَّ أمامكم جميعًا.

– يا عبد الحق أفندي.

– هيه؟

قالها في هدوء وهو في شوق إلى ما يقوله الرجل الحكيم.

– شوف يا عبد الحق، أنا شخصيًّا لا أحدِّث نفسي يومًا بأن أرفع وجهي في وجه رئيسي. يجب أن يعرف كل إنسان حده؛ هذا رئيس، وهذا مرءوس. لقد علَّمني أبي — ألف رحمة عليه — وهو الذي أمضى في خدمة الحكومة أربعين عامًا — كيف أعامل علية القوم. أتدري ماذا كان يقول لي؟

– ماذا كان يقول؟

– يا منصور يا ابني لا تنظر إلى فوق. انظر إلى من هم دونك دائمًا. هذه مواعظ القدماء يا منصور أفندي.

– كذب. كذب.

وهاج عبد الحق أفندي، وأخذ يذرع الغرفة الضيقة مرةً أخرى وهو يتميز من الغضب.

– هل نحن عبيد؟ لا. وإذا كان الإنسان قد اختار أن يكون عبدًا فإن له الحق في أن يطلب الحرية يومًا. أليس له الحق في ذلك؟ أليس له الحق يا عبد الرحيم أفندي؟ ولم يردَّ عبد الرحيم أفندي، فعاد يقول: أقول إن الإنسان إذا ما وُضع في السجن فله الحق في أن يفكر في الحرية.

– لا. كان هذا هو صوت محمود أفندي البنهاوي. إذا وجد الجميع أنفسهم في السجن فليس لكلمة الحرية معنًى. فزأر عبد الحق أفندي: لا، لا. إنني لا أتفق معك. الحرية لا يعرفها إلا المساجين. أليس كذلك يا محمود؟

– هيه. سبعة وخمسين وخمسة. هيه. ماذا تقول؟

– أقول إن الناس لم يُولَدوا عبيدًا.

– هيه. اثنان وسبعين وسبعة. هل قلت إن الناس عبيد؟

– قلت وسأقول دائمًا إنهم ليسوا عبيدًا، إنهم وُلدوا أحرارًا، ألم يقُل ذلك عمر بن الخطاب؟

فأجابه محمود أفندي البنهاوي الذي كان قد فرغ من شرب قهوته: بل نابليون.

وزعق عبد الحق أفندي كأنه بطلٌ مُحارب يُبارز خصمًا عنيدًا، ويجرِّد سيفه ليطعنه في صدره.

– غدًا سترون أنني رجلٌ حر. هل قلت غدًا؟ الآن سترون كل شيء، وسيصير هذا العجوز المُتعجرف مسخة للجميع! الآن سترون!

الساعة الثامنة والنصف.

اقترب عبد الحق أفندي من مكتب محمود أفندي البنهاوي، وشد كرسيًّا جلس عليه وهو يمسح العرق المتصبِّب من وجهه. لقد ضبط أعصابه عن ذي قبل، ويستطيع الآن أن يزِن الأمر في تعقُّل.

– لقد قال لي أنت أحمق. هل أنا أحمق؟ وهل توظف الحكومة الحمقى في دواوينها؟

قلب محمود أفندي غلاف الملف الذي كُتب عليه بالثلث بخطٍّ أسود كبير: «أذونات الصرف.» وما لبث أن قال: السن له حكمه. أريد أن أراجع ملف المهايا فأخطئ وأراجع الأذونات.

وعاد عبد الحق أفندي يقول: قل يا محمود أفندي، قل لي بالحق. نعم، إني أحب أن أقف إلى جانب الحقيقة ولو شنقوني.

فوضع محمود أفندي يده على خده وأنصت إليه قائلًا: هل يمكن أن ينجو الإنسان من الخطأ؟ أليست العصمة لله وحده؟ وللأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — خطأٌ بسيط في المراجعة يستحق أن يُهان من أجله رجلٌ طويل عريض مثلي؟

– وهل أهانك حقًّا؟!

– سبحان الله! ألم يقل لي إنني أحمق، وإنني كلب أيضًا؟!

– لم أسمع شيئًا من هذا؟

– تسمع؟ ألم يصرخ في وجهي أمامكم جميعًا؟

– يا عبد الحق أفندي، عندك كم ولد؟

– عندي كم ولد؟ ستة.

– في سبيل لقمة العيش، أحتمل، يا ما تحملنا.

– أنا أدافع عن شرفي، عن كرامتي. أنا رجلٌ شاب شعره في الديوان. قل لي بالله، أليس لي الحق أيضًا في أن أدافع عن شرفي؟

– يجب أن تُدافع عن رزق أولادك أولًا. خمسة وستين وسبعة. وبدأ يراجع نهرًا طويلًا من الأرقام.

الساعة التاسعة إلا ربعًا.

اقترب عبد الحق أفندي من مكتب عبد الرحيم أفندي عبد اللطيف. كان هو الوحيد في المكتب الذي يمكن أن يأخذ ويُعطي في الكلام معه؛ فقد كان ما يزال شابًّا، برغم أنه قضى عشر سنوات في الدرجة التاسعة قبل أن يشمله الإنصاف، ثم إنه يتميز بالحكمة والتعقل بالرغم من أنه — وقد تخطَّى الأربعين — ما يزال أعزب، وأنه يُنفق ماهيته على نفسه، ولا يحرمها من المتع المحرمة على رفاقه من الموظفين.

قال عبد الحق أفندي وهو يسحب الكرسي إلى جانبه: أنت رجلٌ عاقل يا عبد الرحيم أفندي، ومن صواب الرأي أن آخذ رأيك.

– فيمَ؟

– ولكن في هذه القضية، ألم يصرخ في وجهي؟ ألم يقل لي إنني أحمق، وإنني كلب؟ ألم يقل لي اغرب عن وجهي، وعلى مشهد منكم؟ ألم يفعل هذا كله؟

– أنت الملوم يا عبد الحق أفندي.

– يا ناس! إذا كنت مُخطئًا فدلُّوني على الصواب. إذا كنت …

– هل يثور العبد على السلطان؟ متى كان هذا يا صاحبي؟ أفعل مثلما فعلت؟

– ماذا فعلت يا عبد الرحيم أفندي؟

– إذا قال رئيسي هذا هو الشرق قلت له نعم يا سيدي، هذا هو الشرق. وإذا تردَّد قليلًا وفكَّر ثم قال: لا، بل هو الغرب. أجبته قائلًا: نعم، هو الغرب يا سيدي. اللباقة، اللباقة يا عبد الحق أفندي هي التي تنقص الموظفين في بلادنا.

– وماذا نفعل إذا كان الله قد خلقنا كذلك؟

– أعترف بأن جو بلادنا هو المسئول عن هذا. الحرارة هي التي تشدُّ الأعصاب، فينطق الإنسان بما لا يعرف كما نطقت أنت.

وانكبَّ عبد الرحيم أفندي على عمله، وأمر الساعي أن يُدير المروحة، ونهض عبد الحق أفندي من مكانه، وكأن الشيطان قد لبس جسده الناحل من جديد؛ فقد هاج مرةً أخرى وأخذ يصيح بصوتٍ كان أهدأ من المرة الأولى بلا مراء: ولكن يجب أن أنتقم، يجب أن أثور لشرفي. هذه سخرية والله. كيف تمنعونني من أن أثور لكرامتي؟ مرةً واحدة، مرةً واحدة يا ناس. كيف تمنعوني مرةً واحدة بعد أربعين سنة؟

ونظر إلى ساعة الحائط. كانت تُعلن التاسعة تمامًا، واتجه عبد الحق أفندي إلى مكتبه.

دخل رئيس قلم الحسابات الساعة التاسعة وخمس دقائق. لم يحيِّ أحدًا بتحية الصباح، وإنما قصد مكتبه مباشرة، فجلس على كرسيه المُريح وأخذ يدور فيه حول نفسه؛ فقد كان الكرسي مجهَّزًا بحيث يزيد في راحة الجالس عليه، ويُتيح له أن يلفَّ حول نفسه كما يشاء، وأخذ يدور بعينيه الواسعتين بين رءوس الموظفين، وأشعل سيجارًا طويلًا — كان يفضِّله على السجائر، ويُبرز ذلك دائمًا بقوله إن العامة تشرب السجائر، والإفرنج وحدهم الذين يدخنون السجائر — وكانت عيناه الواسعتان تلتمعان خلف سُحُب الدخان المتصاعدة من فمه. وتنحنح ثم نادى على عبد الرحيم أفندي.

كان عبد الحق أفندي في هذه اللحظة يفكر في الانتقام، ويُعيد في ذهنه الكلمات التي سيردِّدها على مسمع من الجميع، ولكن لمَ تهرب منه الكلمات؟ لم يُحاول أن يقبض عليها فتفلت منه كالأرانب المذعورة التي تعدو في الظلام. وشعر بقلبه يغوص في قدميه، ثم شعر به يدقُّ دقاتٍ عنيفةً كأنه قد صعد إلى مكانه مرةً ثانية، واندفع يريد أن يقفز من حلقه. ونادى رئيس القلم على محمود أفندي، وعبد الخالق أفندي يراجع الكلمات التي سيقذف بها — في شجاعة وبلا أدنى خوف — في وجه رئيس الحسابات المُتعجرف، وناجى نفسه قائلًا: لعنة الله على رئيس قلم الحسابات، وعلى جميع رؤساء أقلام الحسابات، في حكومات العالم كله، وفي حكومة فرنسا — لمَ فرنسا؟ — وهربت الكلمات منه مرةً أخرى. رآها وهي تهرب منه، وأخذ يُلاحقها وهو يلهث. كانت كالشهُب الضائعة في سديم من الضباب.

– يا عبد الحق أفندي.

ووجد نفسه يهبُّ مذعورًا من مكانه.

– هات دفتر الخصومات معك.

ولكنه كان قد غادَر مكتبه إلى مكتب الرئيس.

– أين دفتر الخصومات؟

إذن فقد نسيته يا عبد الحق، لعنة الله على النسيان! في مثل هذه الأحوال يجوز لك أن تنسى؟

وعاد مُسرعًا فالتقط الدفتر من مكانه ووضعه أمام رئيس قلم الحسابات، بدا له في هذه اللحظة كأن الموظفين جميعًا يتغامزون ويهزون رءوسهم ويشيرون إليه فالتفت وراءه. وكم كانت سعادته حين وجدهم جميعًا غارقين في دفاترهم. وحين فرغ الرئيس من مراجعة دفتر الخصومات تناوله عبد الحق أفندي وأسرع به إلى مكتب، يلوذ به كأنه مأواه.

– لا تنسَ الإذن الإضافي يا عبد الحق أفندي.

ينسى؟ وهل هذا معقول؟

عكف عبد الحق أفندي على الدفتر الكبير، وحدَّثته نفسه — ونفس الإنسان تحدِّثه بالسوء دائمًا — بأن يرفع رأسه ليرى زملاءه.

وجمع شجاعته كلها ليُدير عينيه بينهم. كانت رءوسهم محنية على الدفاتر تفحصها فحصًا دقيقًا.

وانحنى رأس عبد الحق أفندي.

١٩٥٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤