فيدو

ذكرت الجرائد اسمك يا فيدو.١

نشرت المجلات صورتك.

كتبت بالخط العريض — بلَون الدم — كلمات تقرؤها يا فيدو.

أنت لم ترَ المصوِّرين حين التفُّوا حولك وكانت آلاتهم تخطف كالبرق.

لأن عينيك كانتا تزدحمان بالدموع.

لأنك كنت تبكي يا فيدو.

لأنك كنت تبكي.

أنت لا تعرف أين غاب صاحبك.

لا تصدِّق أنه لن يعود.

أبدًا لن يعود يا فيدو.

منذ أربعة عشر عامًا وعيناك لا تعرفان الدموع؛ لأنك لا ترى غير صاحبك. لا تريد أن ترى سواه؛ وجهه الضامر النحيل، قامته الطويلة، ويده المعروقة كأن أصابعها من خشب، تمسح على رأسك، على شعرك الأبيض الطويل، تُراقب جسمك الصغير وهو يضمر يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام.

وحين تسأل عيناك: لمَ لا يعود صاحبي؟ لمَ لا يعود كارلو سورياني؛ العامل ذو الوجه النحيل، والقامة الطويلة، واليد المعروقة كأن أصابعها من خشب يقول لك الناس: إنه لن يعود. وتقف حائرًا يا فيدو. لا تعرف ولا تصدِّق؛ لأن منطق الناس يقول لهم إن من مات لا يعود. الموت شيء يسرق الحياة، ينفي الحركة، وأنت لا تعرف منطق البشر يا فيدو، منطقهم محدود ومنطقك أنت بلا حدود؛ لأن فكرهم يرى البداية وينتظر النهاية، وفكرك لا يعرف بداية ولا نهاية، يحتضن الأبد؛ لأنهم يرون الحب شيئًا ينمو ويزهر ثم يموت، وأنت تراه كالشمس؛ لا ينطفئ؛ لأنهم يذكرون ثم ينسون، وأنت — يا فيدو — تذكر ولا تنسى.

لذلك فأنت في كل يوم تسير حتى تكِل قدماك، إلى المحطة التي كنت تنتظر عندها صاحبك. تنتظر صاحبك الذي كان يركب هذا الأتوبيس — منذ أربعة عشر عامًا — عائدًا من المصنع، مع الرفاق عائدًا من المصنع. وتتعلق عيناك الصغيرتان يا فيدو بالباب، تنتظر أن تفتحه يدٌ حانية؛ أن يطل منه وجهٌ محبوب، أن تسمع الصوت الأليف، فيدو! تعالَ! أنا هنا! لكن الباب لا يُفتح يا فيدو. اليد الحنون لا تفتحه. الوجه الحبيب لا يطل منه. الصوت الأليف لا يصل إليك. وتنتظر يا فيدو. في البرد والريح والمطر تنتظر، بالنهار والليل. ترتعش أرجلك. ينتفض جسدك. تسعل الريح في أذنيك. وأنت وحيد يا فيدو، لا يقف معك حتى ظلك؛ لأن الليل قد أقبل وأنت لا تدري؛ لأن الليل يطمس الظل والنور؛ لأن الليل شكلٌ واحد وكبير.

لمَ لا تذهب إذن يا فيدو؟

الأتوبيس قد ذهب. هبط منه العمال — رفاق صاحبك — ثم تفرَّقوا. لم يبقَ غيرك؛ أنت وحدك. وليس معك حتى ظلك، هل بقى عندك أمل في أن يعود؟ هل تنتظر أن تحدث المعجزة؟ ألا تعرف شيئًا اسمه اليأس يعرفه البشر؟

وتخفض رأسك يا فيدو. تبكي بلا دموع. تئنُّ أنه لا يسمعها غيرك. ثم تسير عائدًا إلى بيتك. وفي الصباح تعود من جديد.

كل يوم.

كل يوم.

لأنك لم تنسَ ذلك اليوم منذ أربعة عشر عامًا؛ لأنك يا فيدو لا تعرف النسيان إذ كنت كومةً صغيرة من اللحم، مُلقاةً في شارعٍ صغير في قريتك الصغيرة. كنت ترتعش يا فيدو من البرد والجوع والوحدة، وكنت تشتاق يا فيدو، تشتاق الدفء والبيت وكسرة من الخبز.

وحين أقبل صاحبك — كان عائدًا من الحانة بعد أن شرب كأسين من النبيذ وغنَّى أغنية على اسم حبيبته — انحنى عليك. مسح أولًا على شعرك بيديه. وحين استجبت إليه بكليتك أخذك بين ذراعيه. ضمَّك إلى صدره. أعطاك الدفء والبيت وكسرة الخبز. وأعطاك اسمًا يا فيدو.

من يومها — يا فيدو — عرفت صاحبك.

صاحبك ذا القامة الطويلة، والوجه الضامر النحيل، واليدين اللتين كأن أصابعهما من خشب.

وعرفت أن اسمه كارلو.

وأنه عامل في مصنع.

يذهب إليه — مع الرفاق — كل صباح.

ويعود منه — مع الرفاق — كل مساء.

ومن يومها يا فيدو لم تنسَ شيئًا.

لم تنسَ أن تذهب كل يوم — والشقة بعيدة — إلى محطة الأتوبيس.

أن تنتظر صاحبك كل يوم، كل ليلة.

في الليالي الباردة في الشتاء، والليالي المُقمِرة في الصيف؛ أربعة عشر عامًا!

لم تنسَ الوجه الذي يطل عليك من وراء الزجاج؛ الوجه الضامر النحيل.

ولا اليد التي تمسح على رأسك كأن أصابعها من خشب، ولا الصوت الذي يهتف: فيدو! تعالَ! أنا هنا!

لأنك — يا فيدو — لا تعرف النسيان!

ولكنك لا تعرف ماذا حدث. منذ أربعة عشر عامًا وأنت لا تعرف ماذا حدث؛ حدث شيءٌ اسمه الحرب يا فيدو. ألا تدري ما هي الحرب؟ وحشٌ هائلٌ فتح فمه وابتلع الملايين، بين شباب وامرأة وشيخ وطفل. شرب بحرًا من الدم والدموع. مشى على المدينة فصارت كومة من الحجارة والأشلاء. حفر هاويةً عميقة؛ عميقة من الموت والجوع والشقاء. رقص عليها ورقصت معه أشباح الملايين، بين شيخ وامرأة وطفل وشاب.

وكان صاحبك بينهم يا فيدو.

صاحبك «كارلو سورياني» العامل في المصنع الكبير، في مدينةٍ اسمها البندقية.

أنت لا تعرف يا فيدو.

لا تعرف ولا تصدِّق.

إنه الآن شبحٌ يرقص مع ملايين الأشباح، في هاويةٍ عميقةٍ عميقة، على رنين طبلة جوفاء، يضربها شيطانٌ بغيض، على غناءٍ غامض، بربري، مُميت؛ كما يغنِّي الزنوج ويرقصون، في غابةٍ كثيفة، ومُتوحشة، وبلا حدود.

ذلك أن طائرةً صغيرة حلَّقت ذات يوم في سماء المدينة.

في ذات يوم منذ أربعة عشر عامًا وحين قاربت المصنع ضغط ربَّانها — وكان في هذه اللحظة يمضغ قطعة من اللبان اللذيذ — على زرٍّ صغير، فهبطت قنبلةٌ صغيرة، كان صاحبك يا فيدو ضحية من ضحاياها.

انطلقت شظية كأنها حشرةٌ كريهة إلى قلبه، وحين يُصاب قلب الإنسان — ذلك الشيء العميق كالبحر، الطيب كالسماء — يطفر شيءٌ أحمر على جلده — شيءٌ دافئ، مُر، مُضيء، كأنه نجمةٌ تنطفئ.

في ذلك اليوم وقفت تنتظر صاحبك، كما تفعل كل يوم يا فيدو.

ساعةً وساعتين حتى طال انتظارك.

أقبل الأتوبيس ثم ذهب.

هبط منه الرفاق ثم تفرَّقوا.

لم يطل منه الوجه الضامر النحيل.

ولم يتردَّد الصوت الأليف: فيدو! تعالَ! أنا هنا!

ولم تفتح بابه اليدان المعروقتان كأن أصابعهما من خشب.

ذلك أن صاحبك — يا فيدو — قد ذهب. ذهب ولن يعود.

هل عرفت معنى هذا: «لن يعود».

لكنك لا تعرف. لا تعرف ولا تصدِّق. منذ أربعة عشر عامًا وأنت لا تصدِّق.

في الليالي الباردة والليالي المُقمِرة، تنتظر ولا تيئس.

النساء في القرية الصغيرة عرفتك يا فيدو؛ الزوجات الغنيَّات وهنَّ ذاهبات بعد العصر إلى المدينة الكبيرة، الفلَّاحات الفقيرات وهنَّ عائدات مع أزواجهن من الحقول. الأطفال الصغار عرفوك، في كل يوم يلتفُّون حولك ويرقصون ويُغنون: فيدو! فيدو! فيدو! كلهم رأوك على الطريق وأنت ذاهب إلى صاحبك حين كنت صغيرًا تجري وتقفز كالعصفور، وحين دبَّت الشيخوخة إليك فصِرت تجرُّ ساقك الأمامية كأنها عمود من الفحم.

وأرملة صاحبك يا فيدو، رأت دموعك في أول الأمر فأحبَّتك، وكانت تسير معك إلى حيث تسير لكيلا يقول الجيران إن المرأة أقل إخلاصًا من الكلب، ثم لما تعِبت تركتك تسير وحدك، وحدك ولا شيء معك حتى ظلك؛ لأنها تريد أن تنسى يا فيدو؛ لأن التذكر يقتل الإنسان. وكم حسدتك بينها وبين نفسها! ثم لما رأت عنادك سخطت عليك. تمنَّت لو تستطيع أن تتخلص منك؛ أن تفتك بك؛ لأنها كانت صبية ما تزال، وكانت تودُّ لو يبحث عنها رجلٌ جديد، ولكنك يا فيدو كنت هناك. قاسٍ كالقدر. رهيب كالحقيقة.

وبالأمس احتفلت القرية بك.

أقبل الناس من كل مكان ليرَوك.

في صفوفٍ طويلة كمواكب الحُجاج.

أقبلوا وهم لا يصدِّقون: هل هناك حقًّا من لا ينسى؟

تقاطَر المصوِّرون حولك.

وكانت الأرملة العجوز — بعد أربعة عشر عامًا يصبح الإنسان عجوزًا — تدفن رأسك في حجرها. تتلقى دموعك ودموعها على يديها.

وفي خطواتٍ رهيبة تقدم عمدة المدينة إليك.

شيخٌ عجوز يرفل في حُلةٍ سوداء، كأنه قدِّيس.

مد يديه فطوَّق عنقك بشيءٍ لامع مُستدير.

وخطفت آلات المصوِّرين كالبرق.

وصفَّق النساء والشيوخ والشباب.

وهتف الأطفال: فيدو! فيدو! فيدو!

وذكرك الناس — يا فيدو — في كل مكان.

أما صاحبك؛ العامل كارلو سورياني، الذي قُتل في إحدى الغارات الجوية، ذات يوم منذ أربعة عشر عامًا.

أما صاحبك …

فلن يذكُره أحد يا فيدو.

لن يذكره أحد.

١٩٥٧م
١  هو اسم كلب احتفلت به الجرايد والمجلات الأوروبية منذ شهور قليلة، وجعلته عنوانًا للوفاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤