في الغابة السوداء

في الغابة السوداء طُرقٌ لا تؤدي إلى شيء، كأنها دروب في قصر التِّيه، طُرقٌ يعرفها الفلَّاحون جيدًا، ويتحاشونها في ذهابهم وعودتهم. ولم أكن أعرف هذه الحقيقة حين توغَّلت في المسير، في ذات يوم من أيام هذا الشتاء. تركت الفندق الذي أسكن فيه ورائي، وليس معي غير مِعطفي الذي أتدثَّر به، وقفازي الجلدي ومجموعة من شعر «هولدرلن». قلت في نفسي إن خير ما أفعله أن أصل إلى أعلى قمة في هذا المكان؛ فليس أجمل من أن أقرأ شاعر الوحدة وأنا معه وحيد!

كانت الجبال ترتفع حولي في كل مكان كأنها حيتانٌ رهيبة غارقة في نومها منذ الأزل، وأنا أسير بينها كالرحَّالة الذي تخلَّى عنه كل رفاقه. وكان الثلج يغمر الأشجار، ويُعانق غصونها وأوراقها في حنان، كأنه نعمةٌ بيضاء هبطت من السماء. وكلما تلفتُّ حولي وجدت حروفًا نُقشت على صدره؛ قلوبًا وسهامًا وأسماء صِبية وبنات.

لست أدري كم مضى من الزمن عليَّ وأنا أضرب في الطريق المجهول، فرِحًا أمشي على الثلج كأنني أمشي على النور. بعث البياض الناصع من حولي هذا الخيال الغريب، قلت هذه جثة معبود قديم، مات هنا منذ زمن لا يعرفه إنسان، ومدَّد جسده في كل مكان. في كل عام تنسج له الطبيعة كفنًا جديدًا، في كل عام. وأعجبني أنني الكائن الوحيد الذي يتنفس ها هنا، ويحمل في كيانه الدفء والدم والحياة، وفي يدَيه ديوانًا من الشعر!

وحين وصلت إلى قمة الجبل — أعلى قمة بين هذه الجبال — خُيِّل إليَّ كأنني ملك من الملوك الذين يعيشون في خيال الأطفال. هذه جبال الثلج ترتفع من حولي، وكم من هاوية تمتدُّ تحت قدمي، رهيبة وفاجعة ومملوءة بالأسرار. فتحت ديوان الشعر الوحيد ونسيت نفسي — والشعر يسرق العين والقلب والشعور — فلم أغلقه حتى تنبَّهت على الظلام.

كانت الشمس تجمع خيوطها الذهبية في جانب الأفق، كأنها صيَّادٌ عجوز يلمُّ شبكته، وانحدرت من على الجبل بأسرع ما أستطيع. كم من الوقت يا تُرى يلزمني لكي أعود إلى الفندق؟ لا شك أن الظلام سيقطع على الطريق. ووسعت خطاي، ورحت أجري كأنني هارب يُطارده خطرٌ مجهول. كانت أنوار الفنادق المُتناثرة في الغابة كأنها نجومٌ بعيدة قصيرة العمر، تلمع ثم تخبو في كل لحظة. والأشجار التي مررت عليها منذ قليل والثلج يطوقها بباقة من نور، ترتفع الآن من حولي كأنها أشباحٌ سُود، والأسماء المنقوشة على الثلج — وبينها اسمي — لم يعُد لها أثر. نعم لقد جاء الظلام وبعد قليل تطمس يداه كل شيء. والسهام المنصوبة في مَطلع كل طريق، لتهدي السائرين في الغابة السوداء، أصبحت أفتِّش عنها في كل مكان. إن وجدت أحدها، فكيف أرى الكتابة المنقوشة عليه؟

بعد ساعة من السير الشاق أطبق الظلام عليَّ، ووصلت إلى منعطف تذكَّرت أنني مررت به في طريقي إلى الجبل. قلت يا تُرى هل انعطف إلى اليمين أو إلى اليسار؟ ورحت أفتِّش عن علامة الطريق. كان كل شيء قد امَّحى، غرق في بحرٍ أسود. قرَّبت يدي إلى وجهي فلم أكد أميزهما. رفعت بصري إلى السماء فلمحت القمر يتَّقد بين أكوام من السحب كأنه مصباح في قاربٍ صغير، تائه في مُحيطٍ مُعتِم. وطافت بذهني قصة الطلاب السبعة الذين تاهوا في الصباح. ونظرت إلى ديوان الشعر في يدي نظرةَ عتاب؛ أهكذا يا شاعر الوحدة والعذاب؟

وتلفتُّ أبحث عن فندقٍ أقضي فيه ليلتي. لا شك أن الوصول إلى الفندق الذي أسكن فيه أبعد من المحال. كانت الأنوار تبدو من بعيد ثم تختفي، كأنها مصابيح صغيرة يعبث بها طفلٌ صغير. وكان بعضها يأتي من مرتفعٍ بعيد وبعضها كأنه يستقر في قرار الهاوية. ويمَّمتُ وجهي نحو واحد منها خُيل إليَّ أنه أوضحها وأقربها إليه. لن أقول شيئًا عما وجدته وأنا أعبُر الطريق إليه. أغمضت عيني وسِرت كأني «أورفيوس» يخترق دروب العالم السفلي!

ما كان أسعدني حين لاح البناء أمام عيني! بيت حقيقي، بناء إنسان، وله باب أستطيع أن أطرقه. تُرى ما الذي يختفي وراء هذا الباب؟ أي وجه سيُطالعني منه؟ أي مأساة وُلدت وعاشت بين جدرانه أو أي ملهاة؟ لا شك أنني سأحقِّق الليلة؟ حُلمٌ يُراودني منذ زمن طويل؛ فكم من باب مررت به، في المدينة، في القرية، في الجبل والسهل، تمنَّيت لو فتحته يدٌ سحرية، ودعتني إلى الدخول، وروت لي القصة التي ظلَّت تنسج خيطها وراء جدرانه عامًا بعد عام. كل نافذة، كل باب، كل جدار، اخترقته عيني، وتمنَّت لو تعرف السر المُختفي وراءه؛ لتُحيله بعد قليل سطورًا على الورق!

واتضح البناء أمام عيني. خرج من الظلمة فجأةً فوجدته يقف أمامي. كان بيتًا صغيرًا، يُحيط به سورٌ خشبي، وترتفع من مدخنته خيوطٌ من الدخان، استطعت أن أتبيَّنها على أشعَّة النور الدقيقة التي تتسلل من النافذة. وفتحت باب السور في حذر، وسِرت خطوات على الأوراق الجافَّة المُلقاة على الأرض حتى وصلت إلى عتبة الباب. ولم أكد أضع قدمي عليها حتى نبح كلب. أغمضت عيني وتنفَّست في هدوء، حيث يوجد الكلب يوجد الإنسان! وطرقت الباب. وأقبلت أقدامٌ خفيفة تجري، وأحسست بأنفاس تتردَّد قريبةً مني، واختفى النور من النافذة، وسمعت صوتًا يقول: سلطان، تعالَ هنا! وعوى الكلب عواءً خفيفًا، وعوى الباب وهو يفتح، وأطلَّ وجه عجوز، يكشف معالمَه مصباحٌ زيتي يحمله صاحبه في يده، وتبيَّنت رأس كلب تمتدُّ لتتعرف على القادم الغريب، من هناك؟ وظل الباب مُواربًا. فتح الباب. واقترب المصباح من وجهي.

– مساء الخير يا سيدي.

– مساء الخير.

وقبل أن يسألني الوجه العجوز عما أريده انطلقت أقول: أنا غريب هنا يا سيدي. أقبل الليل عليَّ وتهت في الغابة، هل أستطيع أن أقضي الليلة عندكم؟

وقبل أن يُجيبني سمعت صوتًا يأتي من داخل البيت: من يا إدوارد؟

والتفت الرجل العجوز وراءه وهتف: أوه! اسكتي أنت يا ماريا!

ثم قال: تفضَّلْ. تفضَّلْ. سلطان! لا تخَف منه؛ إنه كلبٌ عجوز وطيب، ثم إنه مريض لا يستطيع أن يؤذي نملة، تفضَّلْ!

وعوى الكلب عواءً مكتومًا. نظر في وجهي لحظةً كأنه كان ينتظر إنسانًا يعرفه، فلما أنكرني خفض رأسه، وأقعى على باب الغرفة.

وأقبلت امرأة عجوز حدَّقت في وجهي ثم التفتت إلى زوجها قائلةً: من يا إدوارد؟!

قلت: مساء الخير يا سيدتي.

ويبدو أنها لم تسمع؛ فقد اقترب إدوارد من أذنيها وقال في صوتٍ مرتفع: السيد يقول إنه غريب هنا، وقد تاه في الغابة (ثم التفت إليَّ): نعم يا سيدي، الغابة السوداء خطرة جدًّا، خاصة في الشتاء، تفضَّلْ هنا. قريبًا من المدفأة. هذه زوجتي ماريا.

ومددت يدي فسلَّمت على اليد النحيلة التي امتدَّت نحوي.

– أما أنا فاسمي إدوارد. الجو بارد في الخارج، أليس كذلك؟

قلت: يظهر أن العاصفة ستهبُّ الليلة.

قال: نعم، نعم. الغابة السوداء خطرة جدًّا. وكم تاه فيها شبَّانٌ مثلك! مساكين، طرقوا هذا الباب أيضًا وباتوا عندنا. هل يُعجبك المكان؟

قلت: بالطبع يا سيدي.

قال: كنا نتعشى الآن، هل تتفضل فتُشاركنا الطعام. تفضَّلْ، تفضَّلْ، طعام مُتواضع. نحن فلَّاحون، نعيش هنا منذ عشرين عامًا. ليست حياة الفلَّاحين سهلة كما يتصور الناس. هل تُحب كوبًا من الشاي؟

قلت: أشكرك يا سيدي.

قال: أعدِّي لنا الشاي يا ماري. نعم، نعم. نحن نعيش هنا منذ عشرين عامًا. هل يقول السيد إنه غريب هنا؟

قلت: نعم يا سيدي، جئت في رحلةٍ قصيرة إلى الغابة السوداء.

– لست ألمانيًّا كما أظن.

– لا يا سيدي.

– من أي البلاد؟

– من مصر.

– آه مصر، في الصحراء، أليس كذلك؟

– الصحراء تمتدُّ حولنا يا سيدي، من الشرق والغرب.

– لودفيج عاش أيضًا في الصحراء، ابني لودفيج، هذه هي صورته.

ألتفت أنظر إلى الصورة المعلَّقة على الحائط. كانت لشابٍّ في ملابس جندي، واسع العينين، دقيق الشفتين، تكسو وجهَه مسحةٌ من الحزن والتأمل.

قلت: ربما تأخَّر في المدينة يا سيدي، لا شك أنه سيعود بعد قليل.

وأشار بيده قائلًا: لا تُتعب نفسك؛ إنه لن يعود أبدًا.

أردت أن أقول شيئًا لأوجِّه الحديث وجهةً أخرى حين سمعته يقول: كثيرون ماتوا في هذه الحرب. شباب مثل لودفيج. هل عرفتم الحرب أيضًا يا سيد؟ لقد مات ابني في العلمين.

قلت: نعم يا سيدي، على حدودنا.

وأقبل الكلب فنظر في وجهي لحظةً، ثم مسح رأسه في ثياب صاحبه وأقعى عند قدميه.

– هذا هو سلطان. ابني سمَّاه سلطان. هل تدري لماذا؟

قلت: ربما كان يقرأ كثيرًا عن الشرق.

قال: نعم، كان لودفيج يقرأ كتبًا كثيرة. هذا الدولاب كله ملآن بالكتب، قرأها جميعًا، وحين عثر على هذا الكلب قال سنُسميه سلطان يا أبي.

قلت: ولمَ هذا الاسم الغريب يا لودفيج؟ قال لأن حكايته موجودة عند الإخوة «جريم». هل تدري من الإخوة جريم؟

قلت: أظن أنهما ألَّفا مجموعة من أساطير الأطفال.

قال: تمامًا. وقد روى لي لودفيج حكاية سلطان كما جاءت في هذه الأساطير. ضع قطعة من الزبد على هذه اللقمة. تفضَّلْ، تفضَّلْ، كان سلطان كلبًا عجوزًا يعيش عند فلَّاح عجوز وزوجته، مثلي أنا وماريا، وأراد الرجل أن يتخلص من الكلب العجوز بعد أن مرض وتساقطت أسنانه. أنا لا يمكن أن أفكر في هذا يا سيدي ها! ها!

وقال الفلَّاح لزوجته إنه سيقتل سلطان في الصباح، وسمع الكلب ما قاله فحزن حزنًا شديدًا، وذهب إلى صديقه الذئب ليُشير عليه ماذا يفعل.

قال له الذئب: حين يقتادك صاحبك إلى الغابة في الصباح ومعه امرأته وطفلهما فسوف أنقذك من الموت. قال له سلطان: وماذا تنوي أن تفعل؟ قال له الذئب: ستترك المرأة طفلها عند الشجرة، عندئذٍ أهجم أنا عليه وآخذه بين أسناني. قال سلطان: لا! لا تفعل! إنني أحب صاحبي وأحب الطفل. قال الذئب: انتظر، ستجري أنت ورائي، وسأترك لك الطفل فتعود به إلى أمه؛ عندئذٍ يرقُّ قلبهما لك، ويعطف الفلَّاح عليك فلا يقتلك.

قطعةٌ أخرى من الخبز؟

قلت: أشكرك يا سيدي، وماذا حدث بعد ذلك؟

قال: آه! نعم؛ إن سلطان أيضًا قد أصبح عجوزًا؛ تساقطت أسنانه ولم يعُد يصلح للحراسة، ولكن هل تدري من الذي خطف لودفيج؟ لم يخطفه الذئب؛ خطفته الحرب. الحرب ذئبٌ كبير يا سيدي، يخطف جميع الأطفال، ويترك العجائز، مثلي ومثل ماريا وحدهم، بلا أطفال. إن سلطان كلبٌ مُخلص، لم ينسَ فيلهلم أبدًا، انظر، لودفيج! لودفيج!

واشرأبَّ الكلب العجوز ورفع أذنيه. وقف لحظةً يحدِّق في الباب ويهزُّ ذيله وينتظر. ولما لم يولد من الصمت العميق صوتٌ خفض رأسه، وعوى عواءً مكتومًا ثم أقعى إلى جانب صاحبه.

قال الرجل وهو يتحسَّس الكتاب الذي وضعه على المائدة: هذا أيضًا كتاب أساطير، أليس كذلك؟

قلت: بل ديوان شعر.

قال: آه! شعر! لودفيج أيضًا كان شاعرًا. طالما جلس في مكانك وأخذ يكتب ويكتب، الليل بأكمله. ألا تنام يا لودفيج؟ إنني أكتب قصيدةً جديدة يا أبي، أردت أن أجعل منه مهندسًا أو معلمًا، ولكنه كان يقول لي: إن من يولد في الغابة السوداء يصبح شاعرًا يا أبي. القدر أراد لي هذا.

كان ولدًا مرِحًا لا يكفُّ عن الضحك، وكم دخل من هذا الباب وهو يهتف: انظر يا أبي! هذه هي قصيدتي، مكتوبة بحروف المطبعة، سيقرؤها اليوم عشرون ألفًا، سيقولون وُلد اليوم. ما هو اسم ذلك الشاعر يا ماريا؟ أكبر الشعراء عندنا؟

قلت: هل تقصد جوته يا سيدي؟

قال: آه! نعم! سيقولون وُلد جوته الجديد! وذات يوم كتب قصيدة يلعن فيها الحرب، نعم، كان يكره الحرب ويقول دائمًا: لمَ الحرب؟ لمَ الحرب؟

هل تُنبت الحرب زهرةً جديدة؟

الحرب تحرق كل الزهور.

لمَ الحرب؟

هل تُداوي الحرب طفلًا مريضًا؟

الحرب تقتل كل الأطفال.

لمَ الحرب؟ لمَ الحرب؟

ونشرت القصيدة في الجريدة المحلية، وجاء الجستابو إلى هنا، ثلاثة جنود كالأشجار العالية، فتحت لهم الباب فسألوني: والدة إدوارد؟ أين ابنك؟

قلت تفضَّلوا أيها السادة، ماذا تريدون من لودفيج؟ قالوا عندنا أمر بأن نكسر قلمه ونقبض عليه! قلت إنه في المدينة، لم يعُد بعد، ولم يعُد لودفيج حتى الآن.

قلت: وماذا حدث يا سيدي؟

قال: وماذا تنتظر أن يحدث؟ قبضوا عليه في المدينة. وبلغني بعد ذلك أنهم حكموا عليه بالسجن، ثم وصلني منه خطابٌ يقول فيه إنهم رأفوا به لصغر سنه وأرسلوه إلى الميدان، إلى «العلمين»، هل سمعت الراديو عندنا؟

قلت: بالطبع يا سيدي، وماذا في هذا؟

قال: أقصد هل سمعت الأغنية التي يطلبها الناس دائمًا؟ أغنية الجنود العائدين من الصحراء؟

قلت: لا أذكر يا سيدي تمامًا.

ورفع الرجل صوته وراح يغنِّي. كان صوتًا خشنًا مبحوحًا وحزينًا:

في رمال الصحراء المُحترقة،
بعيدًا بعيدًا عن أرض الوطن،
لا تحية ولا قلب،
لا قبلة ولا فرحة،
كل شيء بعيدٌ بعيد!
هناك حيث تزدهر الورود،
هناك حيث تخضرُّ الوديان،
كنت ذات يوم في بيتي،
وكان وطني هناك،
كل شيء بعيدٌ بعيد.
هناك حيث تزدهر الورود.

وسمعنا من الداخل صوتًا يُزمجر: إدوارد! ألا أستطيع أن أصلِّي للعذراء! والتفت الرجل إليَّ قائلًا: هذه ماريا. مسكينة. هل ترجع الصلاة ولدنا؟

ثم انطلق يغنِّي:

كنت ذات يوم في بيتي،
وكان وطني هناك،
حيث تزدهر الورود.

يقولون إنهم لا يعرفون مؤلفها، إنه جنديٌّ مجهول، أما أنا فعلى يقين من أنه هو الذي كتبها؛ ابني لودفيج.

لا بد أنه عطش، وجاع ونزف دمه فوق الرمال الساخنة. إن ماريا تصلِّي كل يوم، نعم يا سيدي! زوجتي تقيَّة جدًّا. كلَّ أحد نهبط معًا إلى المدينة. تذهب هي إلى الكنيسة لتصلِّي، وأنتظرها في الحانة فأشرب كأسين على روح ولدي، ها ها! لا شك أنك ستقول إنني كافر! لا يا سيدي! ولكن هل تُعيد الصلاة ولدي؟ هل تُعيد الصلاة؟ إن ماريا كلما رأت تمثالًا ليسوع ركعت على الأرض. كلما شاهدت صورة للعذراء قبَّلتها ورسمت علامة الصليب. كانت تصلِّي لكيلا يأخذوا لودفيج إلى الحرب، ولكنهم أخذوه. أليس الأفضل إذن أن نشرب وننسى؟!

قلت: لا أدري يا سيدي، لا يدري الإنسان ما هو الأفضل أبدًا.

قال الرجل وهو يسحب «سلطان» من سلسلته: معذرةً، لقد أطلت عليك.

تقدَّم الليل. نسيت نفسي في الحديث. يمكنك أن تنام على هذه الأريكة. معذرةً، ولكننا لا نملك سريرًا ثانيًا. مساء الخير يا سيدي. نَم في أمان.

قلت: مساء الخير يا سيدي.

وتمدَّدت على الأريكة وأغمضت عيني. كنت من التعب كأنني أدور في دوَّامة. ويظهر أنني أغفيت قليلًا ثم صحوت على شيءٍ مجهول؛ صوتٍ ضعيف كأنه طفلٌ صغير تسلَّل من الغرفة المُجاورة ولمسني لمسًا رقيقًا. تبيَّنت منه كلماتٍ مُتقطعة؛ أيتها العذراء المقدَّسة، إن كان لودفيج لا يزال حيًّا فأعيديه إليَّ، يا أم يسوع المحبوب. وإن كان قد ذهب إلى الأبد فلا تُعيدي الحرب مرةً أخرى. أنت تعرفين قلوب الأمهات، يا أيتها الأم المقدسة، آمين.

فتحت عيني، واستطعت أن أتبيَّن الوجه المعلَّق على الحائط. تُطالعني منه العينان الحزينتان الواسعتان.

وهمست: آمين!

١٩٥٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤