العائلة

لا يتمُّ إصلاح حال المرأة بمجرَّد التربية وحدها بل يحتاج إلى تكميل نظام العائلة، نعم إن ارتقاء مدارك المرأة مما يساعد على كمال نظام العائلة، ولكن هذا النظام نفسه — على ما به من الارتباط بالعوائد والأحكام الشرعية — له هو الآخر دخل كبير في ارتقاء المرأة وانحطاطها؛ ولهذا رأينا من الضروري استلفات الذهن إلى أهمِّ المسائل التي تمسُّ بحياة العائلة وهي الزواج وتعدُّد الزوجات والطلاق، وسنتكلَّم عليها باختصار على هذا الترتيب:

(١) الزواج

رأيت في كتب الفقهاء أنهم يُعرِّفون الزواج بأنه: «عقد يملك به الرجل بضع المرأة»، وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة شيئًا آخر غير التمتُّع بقضاء الشهوة الجسدانية، وكلها خالية عن الإشارة إلى الواجبات الأدبيَّة التي هي أعظم ما يطلبه شخصان مهذَّبان كلُّ منهما من الآخر.

وقد رأيت في القرآن الشريف كلامًا ينطبق على الزواج، ويصحُّ أن يكون تعريفًا له، ولا أعلم أن شريعة من شرائع الأمم التي وصلت إلى أقصى درجات التمدُّن جاءت بأحسن منه. قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً والذي يُقارن بين التعريف الأول الذي فاض من علم الفقهاء علينا، والتعريف الثاني الذي نزل من عند الله يرى بنفسه إلى أي درجة وصل انحطاط المرأة في رأي فقهائنا، وسرى منهم إلى عامَّة المسلمين، ولا يستغرب بعد ذلك أن يرى المنزلة الوضيعة التي سقط إليها الزواج حيث صار عقدًا غايته أن يتمتَّع الرجل بجسم المرأة؛ ليتلذذ به، وتبع ذلك ما تبعه من الأحكام الفرعية التي رتَّبوها على هذا الأصل الشنيع.

فهذا النظام الجميل الذي جعل الله أساسه المودة والرحمة بين الزوجين آل أمره — بفضل علمائنا الواسع — إلى أن يكون اليوم آلة استمتاع في يدِّ الرجل، وجرى العمل على إهمال كل ما من شأنه أن يوجد المودة والرحمة، وعلى التمسُّك بكلِّ ما يخلُّ بهما.

فمن دواعي المودة ألا يقدم الزوجان على الارتباط بعقد الزواج إلَّا بعد التأكُّد من ميل كل منهما للآخر، ومن مقتضى الرحمة أن يحسن كلاهما العشرة مع بعضهما، ولكن لمَّا غفلنا عن معنى الزواج الحقيقي الشرعي استخففنا به وتهاونا بواجباته؛ وكان من نتائج ذلك أن يتمَّ عقد الزواج قبل أن يرى كلُّ من الزوجين صاحبه.

بينَّا فيما سبق أن جميع المذاهب في اتفاق على أن نظر المرأة المخطوبة مباح لخاطبها، وذكرنا حديثًا عن النبي أمر به أحد الأنصار أن ينظر إلى خطيبته وهو قوله: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما.» فما بالنا أهملنا هذه النصيحة على ما فيها من الفائدة مع أننا نتمسَّك بغيرها مما يقلُّ عنها في الأهمية؟ — ذلك لأن الجاهل من عادته أن يميل إلى ما يضرُّه وينفر مما ينفعه.

كيف يمكن لرجل وامرأة سليمي العقل قبل أن يتعارفا أن يرتبطا بعقد يلزمهما أن يعيشا معًا وأن يختلطا كمال الاختلاط؟ أرى الواحد من عامَّة الناس لا يرضى أن يشتري خروفًا أو جحشًا قبل أن يراه، ويدقِّق النظر في أوصافه، ويكون في أمن من ظهور عيب فيه. وهذا الإنسان العاقل نفسه يقدم على الزواج بخفة وطيش يحار أمامهما الفكر.

لعلك تقول إن المرأة ترى خطيبها من الشباك مرارًا، وإن الرجل يعرف بواسطة أمه أو أخته أوصاف خطيبته مثل: سواد شعرها، وبياض خدودها، وضيق فمها، واعتدال قوامها، ورزانة عقلها وما أشبه ذلك؛ فيكون عنده علم بما هي عليه من جمال وشمائل — نقول هذا قد يكون، ولكن كل هذه الصفات متفرِّقة لا تفيد صورة ما، ولا يمكن أن ينبعث عنها ميل إلى طلبها لتكون عشيرة تطمئن لصحبتها النفوس، وتتعلَّق بها وبنسلها الآمال، وإنما الذي يهمُّ الإنسان البصير هو أن يرى بنفسه خلقًا حيًّا يفتكر ويتكلَّم ويفعل، خلقًا يجمع من الشمائل والصفات ما يلائم ذوقه، ويتَّفق مع رغباته وعواطفه.

كثيرًا ما يرى الواحد شخصًا لم يكن رآه قبل ذلك، وبمجرَّد ما يقع عليه نظره تنفر منه نفسه في الحال نفورًا تامًّا ولا يعلم لذلك سببًا، وربما يستقبح الناظر شخصًا على بعد ولكنه متى دنا منه وفاض الحديث بينهما تبدَّل عنده ما وجد منه أولًا بضده، وربما زُيِّن لأول نظرة منك صورة يظهر عليها بهاء الجمال حتى إذا دنوت منها تبدَّل ذلك الإحساس بضده لأول كلمة تصدر منها، وخصوصًا أن هذا الإحساس المادي سواء كان ميلًا أو نفورًا لا يتعلَّق بجمال وقبح المنظر، ولا يحسُّ به جميع الناس على طريقة واحدة؛ فإن الإنسان الواحد يكون منظره سببًا للنفور عند شخص، وللميل عند شخص آخر.

فهذه الجاذبة الحسيَّة لا بُدَّ منها عند الزوجين، وهي إن لم تكن ضرورية بين رجل وامرأة يطلبان الزواج مع بعضهما فلا أرى في أي شيء آخر تكون لازمة.

على أن الانجذاب المادي ليس كافيًا في الزواج بل يلزم أن يوجد أيضًا توافق بين نفوس الزوجين؛ أي إنه يوجد — لا أقول اتحادًا لأنه مستحيل — ائتلاف بين ملكاتهما وأخلاقهما وعقولهما، ولا تتأتى معرفة وجود هذا التوافق وعدم وجوده إلَّا إذا خالط كل منهما صاحبه ولو قليلًا.

ولا يختلف اثنان في أن الزواج الذي يُبنَى على هذا التوافق يكون أمرًا مُحترَمًا في نفوس الزوجين، وتكون عقدته من المتانة بحيث لا يسهل انحلالها، ويكون أيضًا موجبًا للعفَّة والتصوُّن، وعندي أن كل زواج لا يُؤسَس على هذا الائتلاف فهو صفقة خاسرة لا خير فيها لأحد من الزوجين مهما طال أجل الزواج، ومهما كانت صفات الرجل والمرأة؛ ولهذا قال الأعمش: «كل تزويج يقع على غير نظر فأمره همٌّ وغمٌّ.»

ولمَّا كان الزواج لا يُراعَى فيه اليوم هذا الشرط كانت الرابطة بين الزوجين واهية العقد تنحلُّ لأول عرض يطرأ عليها، وأغلب ما يكون من ذلك لا سبب له إلَّا رغبة كلٍّ منهما في الخروج من قيد لا يرى وجهًا للمحافظة عليه، والتنصُّل من أمر لا قيمة له في نفسه.

وكل ذي ذوق سليم يرى من الصواب أن يكون للمرأة في انتخاب زوجها ما للرجل في انتخاب زوجته؛ فإنه أمر يهمُّها أكثر مما يهمُّ ذوي قرابتها، أمَّا حرمانها من النظر في كل ما يختصُّ بزواجها، وقصر الرأي في ذلك على أوليائها دون مشاركة منها لهم؛ فهو بعيد عن الصواب.

قضت العادة عندنا أن يُجتنَب الحديث مع البنت فيما يتعلَّق بالرجل الذي خطبها، فلا يصلها خبر عن صفاته وأخلاقه، ولا تُسأَلُ هل تحبُّ الاقتران به، ولا يبحث أحد عن ذوقها ورغبتها وميلها، وهي لا تجد من نفسها جرأة على أن تبدي ما في ضميرها، ويرى الناس أنه لا يليق بالمرأة أن يكون لها صوت في أهم الأشياء لديها؛ فيعطي القريب أو البعيد رأيه في زواجها ما عداها، ويظنُّون أن هذا من تمام فضيلة الحياء وكمال الأدب، وهم مخطئون فيما يظنون.

منحت شريعتنا السمحاء إلى النساء حقوقًا لا تنقص عن حقوق الرجل في الزواج؛ فلها الحق مثله في أن تتأكَّد بنفسها من إمكان تحقيق آمالها، وما علينا إلَّا أن نسمع صوت شريعتنا، ونتبع أحكام القرآن الكريم، وما صحَّ من سُنَّة النبي وأعمال الصحابة لتتمَّ لها السعادة في الزواج.

جاء في الكتاب العزيز: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وكان ابن عباس يقول اتباعًا لهذه الآية الكريمة: «إني أحبُّ أن أتزيَّن لامرأتي كما أحبُّ أن تتزيَّن لي»، وقال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقال في تعظيم حقهن: وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا وجاء عن النبي: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله»، وكان النبي يحبُّ النساء كما ورد في الحديث: «حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجُعِلَت قرَّة عيني في الصلاة»، وكان يحترم النساء احترامًا برهن للعالم على حسن خلقه حتى إنه كان يضع ركبته على الأرض لتضع زوجته عليها رجلها إذا أرادت أن تركب، وكان يتنازل إلى ملاعبتهن وممازحتهن حتى رُوِي أنه كان يسابق عائشة — رضي الله عنها — فسبقته يومًا وسبقها في بعض الأيام فقال: «هذه بتلك»، وكان يرأف بالنساء ويوصي عليهنَّ دائمًا. فمما رُوِي عنه قوله: «خياركم خياركم لنسائكم» وقوله: «استوصوا بالنساء خيرًا»، والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة كلُّها تدلُّ على أن الدين الإسلامي يحثُّ على اعتبار المرأة، واحترام حقها، ومعاملتها بالإحسان والمعروف.

ولكن ما دامت المرأة على ما هي عليه اليوم من الجهل فالزواج لا يكون — كما هو الآن — إلَّا شكلًا من الأشكال العديدة التي يستبدُّ بها الرجل على المرأة.

أمَّا إذا تعلَّمت المرأة حقوقها، وشعرت بقيمة نفسها؛ عند ذلك يكون الزواج الواسطة الطبيعيَّة لتحقيق سعادة الرجل والمرأة معًا، عند ذلك تؤسس الزوجية على انجذاب شخصين يحبُّ أحدهما الآخر حبًّا تامًّا بجسميهما وقلبيهما وعقليهما، عند ذلك تعيش المرأة تحت حكم عقلها، فتنتخب من بين الرجال مَن تحبُّه وتميل إليه، وترتبط به بعقد الزواج، ويعرف أهلها أن في كمال عقلها ما يكفي لحسن اختيارها؛ فيكونون معها على اتفاق في الرأي فلا تخشى غضبهم، ولا انتقاد الناس عليها؛ عند ذلك يعرف الرجال قيمة النساء، ويذوقون لذَّة الحب الحقيقي.

انظر إلى زوجين متحابين تجدهما من اليوم في نعيم الجنة، ماذا يهمُّهما أن يكون الصندوق خاليًا من المال، أو أن يكون على المائدة عدس وبصل؟ أما يكفيهما فرح القلب في كل دقيقة تمرُّ من اليوم؛ هذا الفرح الذي يبعث النشاط في الجسم والطمأنينة في النفس، ويحيي في القلب شعورًا بلذَّة الحياة ويزيِّنها له، ويخفف ثقلها عليه، ويجعلها منه في مكان الرضا حتى قال عمر بن الخطاب: «ما أُعطِي العبد بعد الإيمان خيرًا من امرأة صالحة.»

أين هذا من حال عائلتنا اليوم التي نرى فيها الزوجين وأحدهما أبعد الناس عن الآخر، ولو لم يكن إلَّا هذا البعد لخفَّ احتماله، لكن لمَّا كان في طبيعة الإنسان أن يجري وراء سعادته؛ كان كلُّ من الزوجين يعتقد أن صاحبه هو الحجاب الحائل بينه وبينها، ومن هذا الاعتقاد يتكوَّن في المنزل جوٌّ مشحون بالغيام والكهرباء يعيش فيه كل منهما وقلبه ملآن بعيوب الآخر، وتبدو فيه المناقشات والمخاصمات في كل آنٍ بسبب وبغير سبب في الصباح وفي المساء، حتى وفي الفراش.

وتنتهي هذه الحالة بأن تتخلَّى المرأة عن بيتها إلى الخدم يفعلون فيه ما يشاءون؛ فيستولي الاختلال على ما فيه، وتظهر فيه آثار الإهمال، فيبدو للناظر إليه كأنه غير مسكون بأهله، ويعلو التراب فراشه، والقذر موائده، وتغفل شئون الزوج والأولاد في مأكلهم ومشربهم وملابسهم، وتقضي الزوجة أوقاتها في مكان واحد تفكِّر في سوء ما وصلت إليه، أو تترك منزلها من الصباح وتطوف على جاراتها؛ لتفرِّج عن نفسها تلك الهموم.

وليس الرجل بأحسن منها حالًا؛ فإنه يهجر منزله، ويستريح إلى العيش في القهاوي، أو عند جيرانه، فإذا رجع إلى بيته طلب العزلة عن زوجته، والتزم السكوت.

نتج مما تقدَّم أن الزواج على غير نظر — كما هو حاصل الآن — إنما هو طريقة يستعملها الرجل في الغالب للاستمتاع بعدد من النساء يدخلن في حيازته دفعة واحدة، أو على التعاقب، ولا تجد فيه المرأة مزية ترضي نفسها.

وكل رجل يقصد من الزواج أن تكون له صاحبة تشاركه في السرَّاء والضرَّاء يصعب عليه بل قد يتعذَّر أن يبلغ ما يريد من ذلك؛ ولهذا السبب رأينا في هذه السنين الأخيرة كثيرًا من الشبان القادرين على الزواج لا يرغبون فيه، ولمَّا كان عدد الرجال المهذَّبين يزداد في كل سنة — لأن الشعور بوجوب تربية البنين تقدَّم وسيتقدَّم كثيرًا في المستقبل — صارت تربية المرأة على مبدأ التعليم والحرية أمرًا ضروريًّا لا يُستغنَى عنه، وإلَّا فما علينا إلَّا أن نعلن أن الثقة بالزواج قد فُقِدَت، وأن المعاملة به قد بطلت، وحق عليه الإفلاس.

ولست مبالغًا إن قلت إن رجال العصر الجديد يفضِّلون العزوبة على زواج لا يجدون فيه أمانيهم المحبوبة، فإنهم لا يرضون الارتباط بزوجة لم يروها، وإنما يطلبون صديقة يحبُّونها وتحبُّهم لا خادمة تُستعمَلُ في كل شيء، ويطلبون أن تكون أمُّ أولادهم على جانب من العلم والخبرة يسمح لها بتربية أولادها على مبادئ الأخلاق الحسنة وقواعد الصحَّة.

وكلُّ مَن تجرَّد عن التعصُّب وحبِّ التمسُّك بالعوائد القديمة لا بُدَّ أن ينشرح صدره عندما يرى نمو هذا الميل في نفوسهم، ويرى من نفسه وجوب الإصغاء إلى مقالهم، والنظر في مطالبهم، فلا يستهجنها لأول وهلة، ولا يرميهم بالتفرنج في آرائهم قبل البحث فيها، بل يزنها بميزان العقل والشرع ومتى ثبت له أن هذا التغيير الذي نطلبه ليس إلَّا رجوعًا في الحقيقة إلى أصول الدين وعوائد المسلمين السابقين، وأنه إصلاح يقضي به العقل السليم لا يتأخَّر عن مساعدتهم على تأييدها.

(٢) تعدُّد الزوجات

تعدُّد الزوجات هو من العوائد القديمة التي كانت مألوفة عند ظهور الإسلام ومنتشرة في جميع الأنحاء يوم كانت المرأة نوعًا خاصًّا مُعتبرَة في مرتبة بين الإنسان والحيوان، وهو من ضمن العوائد التي دلَّ الاختبار التاريخي على أنها تتبع حال المرأة في الهيئة الاجتماعيَّة؛ فتكون في الأمَّة غالبة عندما تكون حال المرأة فيها منحطَّة، وتقلُّ أو تزول بالمرَّة عندما تكون حالها مرتقية، اللهم إلَّا إذا كان التعدُّد لأسباب خاصة قضت به عند فرد أو أفراد مخصوصين فتقف عندهم وتُقدَّر بقدرهم، حتى في الأمَّة التي أُلِف تعدُّد الزوجات فيها نرى الرجل إذا بلغ من كمال العقل ما يشعر معه بمنزلة زوجته من أهله وأولاده، وعرف أن من حقوقها أن تكون في المرتبة التي تستحقها بمقتضى الشرع والفطرة؛ مال إلى الاكتفاء بالواحدة من الزوجات، ويمكن الاستدلال على ذلك بما نشاهده، ولا نظن أحدًا ينازعنا فيه من أن هذه العادة خفَّت في بعض الطبقات من أهل بلادنا عما كانت عليه من قبل عشرين أو ثلاثين سنة.

نعم إن منع الرقيق كان له أثر محمود في سقوط هذه العادة؛ حيث قطع ورود الجواري التي كانت تملأ بيوت أكابر القوم وأعيانهم، ولكن يظهر لي أن ترقِّي عقول الرجال وتهذيب نفوسهم له أثر مهم أيضًا في تلاشيها؛ ذلك لأن الرجل المهذَّب لا يرضى معاملة المرأة بالاستبداد، ولا تطاوعه مروءته إن همَّت شهوته بامتهانها.

وبديهي أن في تعدُّد الزوجات احتقارًا شديدًا للمرأة؛ لأنك لا تجد امرأة ترضى أن تشاركها في زوجها امرأة أخرى، كما أنك لا تجد رجلًا يقبل أن يشاركه غيره في محبَّة امرأته، وهذا النوع من حبِّ الاختصاص طبيعي للمرأة كما أنه طبيعي للرجل، ولو سلَّم أنه ليس بطبيعي كما ذهب إلى ذلك قوم استشهدوا على رأيهم بمثل الديك الواحد الذي يعيش بين العشرات من الدجاج، فأقل ما فيه أنه ميل مكتسب بلغ من النفس الإنسانيَّة بالعادة والتوارث مبلغ جميع الكمالات التي تولَّدت في نفوس أفراد هذا النوع عند ارتقائه من أدنى درجاته من الحيوانية إلى ما أُعِدَّ له من الكمال الإنساني؛ فهذا الاختصاص بما كسبه من التأصُّل في الأنفس والرسوخ فيها لا يقلُّ أثره عن أثر الغرائز الفطرية.

وعلى كل حال، فكل امرأة تحترم نفسها تتألم إذا رأت زوجها ارتبط بامرأة أخرى؛ إذ لا يخلو حالها من أحد أمرين: إمَّا أن تكون مخلصة في محبَّتها لزوجها؛ فتلتهب نيران الغيرة في قلبها وتذوق عذابها، وإمَّا ألا تكون كذلك لكنها راضية بعشرته لسبب من الأسباب؛ فهي مع ذلك ترى لنفسها مقامًا في أهله فإذا ارتبط بأخرى سواها قاست من الألم ما يبعثه إحساسها بأن ذلك المقام الذي كان باقيًا لها قد انهدم ولم يعد لها أمل في بقاء شيء من كرامتها عنده؛ فالألم لاصق بها على كل حال.

وإن قيل إن التجارب دلَّت على إمكان الجمع بين امرأتين أو أكثر مع ظهور رضاء كل منهنَّ بحالتها؛ فالجواب عنه من وجهين: الأوَّل أن ما يُدَّعى من رضا كل منهنَّ بحالها فليس بصحيح إلَّا في بعض أفراد نادرة لا حكم لها في تقدير حال أمَّة، وإن وقائع المنازعات بين النساء وأزواجهنَّ والجنايات التي تقعُ بينهم مما لا يكاد يُحصَى، وهو شاهد على أن تعدُّد الزوجات مثار للنزاع بينهنَّ وبين ضرائرهن وبين أزواجهن، ومصدر لشقاء الأهل والأقارب، فمَن يدَّعي أن نساءنا يرضين بمشاركتهنَّ في أزواجهنَّ ويعشن مع ذلك باطمئنان قلب وراحة بال فهو غير عارف بما عليه حالة النساء في البيوت.

والثاني أن ما يكون من ذلك الرضاء في القليل النادر فهو ناشئ عن أن المرأة إنما تعتبر نفسها متاعًا للرجل؛ فله أن يختصَّ بها، وله أن يشرك معها غيرها كيفما شاء. وليس لها على هواه حق تطالبه به، كما كان الرجال عندنا يعتبرون أنفسهم متاعًا للحكام في عهد ليس بعيدًا عنا.

ويظهر لي أن رجلًا مهذَّبًا عارفًا بما يفرضه عليه الشرع والعدل لا يطيق النهوض بما يضعه على عاتقه الجمع بين امرأتين فضلًا عن أكثر.

قدَّمنا أن في فطرة المرأة ميلًا إلى التسلُّط على قلب الرجل، فإذا رأت بجانبه امرأة أخرى في فطرتها ذلك الميل، ويمكنها أن تبلغ منه بضروب الوسائل ما تشتهي، تولَّاها الاضطراب والقلق، وهجرتها الراحة، وكانت حياتها عذابًا أليمًا؛ وتلك الحال لا تخفى على الرجل المهذَّب. فكيف يمكن أن تطيب نفسه بمشهد ذلك العذاب الأليم؟

ويزيد النساء قلقًا واضطرابًا ما صرَّح به الفقهاء من أنه لا يجب على الرجل أن يعدل في محبته بين نسائه، وإنما طلبوا العدل في النفقة وما شاكلها.

ولا ريب في أن شقاء المرأة بهذه الحال يكون له أثر شديد في نفس الرجل المهذَّب؛ حيث يشعر دائمًا بأنه هو السبب في هذا الشقاء.

ثمَّ إن الأولاد من أمهات مختلفات ينشئون بين عواصف الشقاق والخصام فلا يجدون ما يساعد غرائزهم على تمكين علائق المحبَّة بينهم، بل يجدون ما يعاكس تلك الغرائز وينمِّي في نفوسهم البغضاء، ولا يستطيع أحد أن يحول بين ما يشهدون من تخاصم أمهاتهم بعضهن مع بعض وتخاصمهنَّ مع والدهم وبين أثر ذلك في نفوسهم، بل يسري في أفئدتهم سمُّ الغشِّ والخدعة والشر، ويظهر أثر كل ذلك عند الفرصة؛ مثلهم كمثل الممالك الأوروباوية تظهر بحالة السلم وهي تأخذ أهبتها للحرب حتى إذا حانت الفرصة؛ وثبت كل منهم على الآخر، فمزَّق بعضهم بعضًا كما نشاهده في أغلب العائلات.

أين هذا من منظر عائلة متحدة يعيش فيها الأولاد في حضن والديهم، تجمعهم محبَّة صادقة، لا يتنافسون إلَّا في زيادة الحب، ولا يتسابقون إلَّا إلى الخير يصل من بعضهم لبعض، يربطهم ميثاق غليظ جعلهم كأعضاء جسم واحد إن فرح أحدهم فرحوا معه، وإن بكى بكوا معه. هم سعداء الدُّنيا في كل حال، أسبغ الله عليهم أكبر نعمة يتمنَّاها العاقل؛ وهي المودَّة في القربى.

فلا ريبة بعد هذا أن خير ما يعمله الرجل هو انتقاء زوجة واحدة، ذلك أدنى أن يقوم بما فرض عليه الشرع فيوفِّي زوجته وأولاده حقوقهم من النفقة والتربية والمحبَّة، وأقرب إلى الوصول إلى سعادته.

ولا يُعذَر رجل يتزوَّج أكثر من امرأة، اللهم إلَّا في حالة الضرورة المطلقة؛ كأن أُصِيبت امرأته الأولى بمرض مزمن لا يسمح لها بتأدية حقوق الزوجية. أقول ذلك ولا أحبُّ أن يتزوَّج الرجل بامرأة أخرى حتى في هذه الحالة وأمثالها؛ حيث لا ذنب للمرأة فيها. والمروءة تقضي أن يتحمَّل الرجل ما تُصَابُ به امرأته من العلل، كما يرى من الواجب أن تتحمَّل هي ما عساه كان يُصَابُ به.

وكذلك توجد حالة تسوِّغ للرجل أن يتزوَّج بثانية إمَّا مع المحافظة على الأولى إذا رضيت، أو تسريحها إن شاءت؛ وهي ما إذا كانت عاقرًا لا تلد؛ لأن كثيرًا من الرجال لا يتحمَّلون أن ينقطع النسل في عائلاتهم.

أمَّا في غير هذه الأحوال فلا أرى تعدُّد الزوجات إلَّا حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية؛ وهو علامة تدلُّ على فساد الأخلاق، واختلال الحواس، وشره في طلب اللذائذ.

والذي يطيل البحث في النصوص القرآنية التي وردت في تعدُّد الزوجات يجد أنها تحتوي إباحة وحظرًا في آن واحد. قال تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا، وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا.

ومن هذه الآيات يتَّضح أن الشارع علَّق وجوب الاكتفاء بواحدة على مجرَّد الخوف من عدم العدل، ثمَّ صرَّح بأن العدل غير مستطاع، فمَن ذا الذي يمكنه ألا يخاف عدم العدل مع ما تقرَّر من أن العدل غير مستطاع؟ وهل لا يخاف الإنسان من عدم القيام بالمحال؟ أظنُّ أن كلَّ بشر إذا أراد الشروع في عمل غير مستطاع يخاف بل يعتقد أنه يعجز عن القيام به والوقوع في ضده.

ولو أن ناظرًا في الآيتين أخذ منهما الحكم بتحريم الجمع بين الزوجات لما كان حكمه هذا بعيدًا عن معناهما لولا أن السُّنَّة والعمل جاءا بما يقتضي الإباحة في الجملة.

وكأن مجموع الآيتين قد قضى بتحليل الجمع بين الزوجات ديانة، وبأن الله تعالى وَكَلَ الناس في ذلك إلى ما يجدونه من أنفسهم. فمَن بلغت ثقته من نفسه حدًّا لا يخاف معه أن يجور إذا أراد أن يتزوَّج أكثر من واحدة؛ أُبِيح له ذلك بينه وبين الله، ومَن لم يصل إلى هذا الحدِّ من الاقتدار والتحفُّظ من الجور حُرِّمَ عليه أن يتزوَّج أكثر من واحدة. ثمَّ نبَّه مع ذلك على أن هذه الغاية من قوَّة النفس لا يمكن إدراكها؛ زيادة في التحذير.

وغاية ما يُستفاد من آية التحليل إنما هو حِلُّ تعدُّد الزوجات إذا أُمِنَ الجور، وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتَّب عليه من المفاسد والمصالح. فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات كما هو مُشاهد في أزماننا، أو نشأ عن تعدُّد الزوجات فساد في العائلات وتعدٍ للحدود الشرعية الواجب التزامها، وقيام العداوة بين أعضاء العائلة الواحدة، وشيوع ذلك إلى حدٍّ يكاد يكون عامًّا؛ جاز للحاكم — رعاية للمصلحة العامَّة — أن يمنع تعدُّد الزوجات — بشرط أو بغير شرط — على حسب ما يراه موافقًا لمصلحة الأمَّة.

وإنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدًا من أهل المستقبل يأسف على تركها؛ فإن التمتُّع بالنساء وإن قلَّ في هذه الحالة من الجهة الشهوانية فإنه يزيد من الناحية المعنويَّة التي يلزم أن تكون وجهة كل راغب في الزواج، فإن رجلًا يسوقه إلى الزواج سائق العقل، ويوجِّه رغبته إليه حادي الفكر يعلم أنه إنما يتَّخذ لنفسه بالزواج قرينًا صالحًا يمدُّه بالمعونة في شئونه، ويؤنسه في وحدته، ويشفعه في عمله، ويقوم معه على بنيه ومَن يعول من أهله؛ فهو يتخيَّر لذلك خير العقائل، وأكرم السلائل، ويصطفيها على ما يحبُّ من العقل والأدب وطهارة الظاهر وسلامة الباطن؛ فيكون له منها منظر بهي، وملمس شهي، وصورة تُعجِبُ ومعنى يُطرِبُ، فهمٌ يسبق الإشارة، وذكاء يستغني عن العبارة، لذَّة بلطف الشمائل، ومتاع بجمال الفضائل.

كل ذلك يكون له من زوجة يختارها لتكون صاحبة له مدَّة الحياة تأمن شرَّه وانقلابه، ويأمن منها المكر والخلابة، تحسن القيام على أولاده بالتربية الصالحة، وتغذِّيهم بآدابها كما غذَّتهم بلبانها؛ فتأخذ أرواحهم من روحها ما أخذته أبدانهم من بدنها، فينشئون على المحبَّة، ويشبُّون على الألفة؛ فيكون للرجل من ذلك كله مشهد ظاهره الراحة والطمأنينة وباطنه السعادة والهناء عيش ساعة مع التمتُّع به خير من حياة دهر مع الحرمان من بعضه. فأين التمتُّع بمثل هذه اللذَّة من الخلود إلى ما انحطَّ من دركات الشهوة؟

(٣) الطلاق

قال فولتير الكاتب الفرنساوي الشهير على طريقته من الفكاهة المعروفة في كثير من مؤلَّفاته: «إن الطلاق قد وُجِدَ في العالم مع الزواج في زمن واحد تقريبًا غير أني أظنُّ الزواج أقدم ببضعة أسابيع؛ بمعنى أن الرجل ناقش زوجته بعد أسبوعين من زواجه، ثمَّ ضربها بعد ثلاثة، ثمَّ فارقها بعد ستة أسابيع.» وقد أراد بذلك أن يقول إن الطلاق قديم في العالم، وإنه يكاد أن يكون من الأعراض المُلازِمة للزواج، وهو حقٌّ لا يُرتَابُ فيه؛ فقد دلَّ تاريخ الأمم على أن الطلاق كان مشروعًا عند اليهود والفرس واليونان والرومان، وأنه لم يُمنَع إلَّا في الديانة المسيحية بعد مضي زمن من نشأتها.

ولا يزال أثر ذلك المنع باقيًا إلى الآن في شرائع الأمم الغربيَّة التي وضعت الزواج على قاعدة أنه عقد لا ينحلُّ إلَّا بموت أحد الزوجين، وهذا إفراط في احترام هذا العقد ومغالاة فيه إلى حدٍّ يصعب أن يتَّفق مع راحة الإنسان.

نعم إن من أماني الأمم الصالحة أن تكون عقدة الزواج عندها عقدة لا تنحلُّ إلا بالموت، ولكن مما تجب مراعاته أن الصبر على عشرة مَن لا تمكن معاشرته فوق طاقة البشر.

ولهذا فقد شعرت الأمم الغربيَّة على ممر الأزمان بأن أحكام الكنيسة تطالب الناس بالكمال المطلق بدون مراعاة حاجاتهم وضروراتهم، وكان هذا الشعور من بواعث حركة النفوس إلى التخلُّص من رقَّة تلك الأحكام؛ فنزع الغربيون إلى وضع القوانين على حسب مصالح حياتهم وما تقتضيه الحاجات، ولقد اشتدَّ هذا الشعور في الناس حتى اضطرت الكنيسة نفسها لأن تخضع لمطالبه، وموافاة رغائب الكافة، وحملها الشحُّ بمكانتها أن تسقط على تقرير أحكام في أحوال سمتها «أحوال بطلان الزواج»، ورتَّبت على ذلك البطلان أحكامًا لا تختلف في آثارها عن أحكام الطلاق؛ فقبلت فسخ الزواج إذا أثبت أحد الزوجين أنه لم يكن عند الزواج مطلق الاختيار، أو أنه أخطأ في معرفة الآخر، أو إذا ادَّعى أحد الزوجين أن الآخر لا يستطيع القيام بحقوق الزوجية، وأخذت تتوسَّع في تأويل الحالة الثانية إلى درجة متناهية حتى أدخلت فيها كل شيء، وفي الحالة الأخيرة قد تكتفي بأن يتَّفق الزوجان على أن يدَّعي أحدهما أن الآخر لم يقم أو لم يعد في إمكانه أن يقوم بأوَّل واجب يوجبه الزواج لينالا بطلانه؛ محتجة بأن الإخلال بهذا الحق لا تمكن معرفته إلَّا من قِبَل الزوجين؛ فقولهما هو الدليل الذي يصحُّ التعويل عليه.

إلَّا أن هذا التساهل لم يفِ بحاجات الأمم في هذا الباب، فبعد أن قنعت به مدَّة من الزمان انبعثت مرَّة أخرى إلى المطالبة بتقرير أحكام كافلة للراحة، خصوصًا وقد رأت أن هذه الأسباب التي قرَّرتها الكنيسة لبطلان الزواج تغلب فيها الحيلة وقلَّ ما تتَّفق فيها الحقيقة، وأن قيام شريعة على قوائم من الحيل مما لا ترضاه النفوس المهذَّبة والأذواق السليمة.

ومن أجل ذلك اضُّطرت الحكومات إلى تقرير الطلاق والتصريح بجوازه على شروط بيَّنتها، وأوسعت له محلًّا من قوانينها، وهكذا انحسر سلطان الكنيسة عما كان يتناوله في هذه المادة، كما بطلت سيطرتها في كل ما لم تتَّفق فيه أحكامها مع مصالح تلك الأمم، وهذا هو الشأن في كل شرع أو دين لا يراعي أهله في أحكامه مقتضيات الزمان والمكان، ويغفلون عن طبيعة الإنسان، ويقفون به في مكان واحد عندما قرَّره بعض مَن سبقهم بدون إنعام نظر في أسراره وطرق تنفيذه.

دخل الطلاق في جميع الشرائع الغربيَّة تقريبًا رغمًا عن معارضة الكنيسة وإصرارها على القول بأن مَن طُلِّق بحكم القانون لا يجوز له أن يتزوَّج؛ لعدم اعتبارها ذلك الطلاق، ولكنه لم يصل إلى الدرجة التي يستحقُّها من القبول والاعتبار، ولم يستوفِ أحكامه إلَّا عند الأمَّة الأمريكانيَّة التي فاقت غيرها ببذلها المجهود في الإقدام على طلب الترقي، ففتحت أبواب شريعتها للطلاق، ولم تقيِّده بأحوال مخصوصة كما قيَّده غيرها، وكل مطَّلع على أحوال الأمم الغربيَّة يرى الميل عند جميعها إلى التوسُّع في الطلاق ولا بُدَّ أن تنتهي يومًا إلى الاعتراف بأن ما أباحته إلى الآن من الطلاق المشروط بثبوت الزنا على أحد الزوجين أو الحكم عليه بعقوبة في أحوال مخصوصة غير وافٍ بالحاجة، وعند ذلك تقرِّر إباحة الطلاق متى وجدت أسبابه في نفوس الزوجين، وتتركه إلى مشيئتهما.

نعم إن إباحة الطلاق بدون قيد لا تخلو من ضرر، ولكنَّه من المُضرَّات التي لا يُستغنَى عنها، ويكفي لتسويغه أن منافعه تزيد عن مضاره، فإن كل نظام لا يخلو من ضرر، والكمال التام في هذه الحياة الدُّنيا أمر غير مستطاع.

ونحن لا نريد البحث في هذا الموضوع الواسع؛ لأننا اجتنبنا في هذا المختصر كلَّ بحث نظري، وإنما نقول إن مَن أجال النظر في نصوص الكتاب العزيز، وما اشتمل عليه من الآيات المقرِّرة للطلاق وأحكامه يشعر بالنعم التي أفاضها الله على المسلمين، ويقتنع بأن كتاب الله قد أتى من الحكمة على منتهاها، وأنه وفَّى كل شيء حقَّه.

وأول ما يجب الالتفات إليه هو أن شرعنا الشريف قد وضع أصلًا عامًّا يجب أن تُردَّ إليه جميع الفروع في أحكام الطلاق؛ وهو أن الطلاق محظور في نفسه، مباح للضرورة، والشواهد على ذلك كثيرة في الآيات القرآنية والأحاديث النبويَّة، وما جاء في كلام الأئمة نورد منها ما يأتي:

قال تعالى: فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا.

وقال جلَّ شأنه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا.

وقال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.

وجاء في الحديث: «أبغض الحلال عند الله الطلاق.» وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تطلِّقوا النساء إلَّا من ريبة. إن الله لا يحبُّ الذواقين ولا الذواقات.» وقال علي — كرم الله وجهه: «تزوَّجوا ولا تطلِّقوا فإن الطلاق يهتزُّ منه العرش.»

وجاء في حواشي ابن عابدين: إن الأصل في الطلاق الحظر؛ بمعنى أنه محظور إلَّا لعارض يبيحه، وهو معنى قولهم الأصل فيه الحظر، والإباحة للحاجة إلى الخلاص، فإذا كان بلا سبب أصلًا لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص بل يكون حمقًا، وسفاهة رأي، ومجرَّد كفران بالنعمة، وإخلاص الإيذاء بالمرأة وبأهلها وأولادها. ولهذا قال تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا تطلبوا الفراق انتهى.١
والمطَّلع على كتب الفقه وإن كان يجد أن جميع الأئمة قد نظروا على العموم إلى هذا الأصل الجليل الذي من شأن العمل عليه تضييق دائرة الطلاق بما يصل إليه الإمكان، لكنه لا بُدَّ أن يلاحظ أيضًا أنهم لم يراعوا في التفريع تطبيق هذا الأصل على طريقة واحدة متساوية، ويرى أن الفقهاء من أتباع الأئمة قد توسَّعوا في أمر الطلاق، ولم تطَّرد طريقتهم على وتيرة واحدة في تطبيق الأحكام على الوقائع. وهذا الاختلاف يُشَاهَدُ على الخصوص في ثلاث مسائل كلها جديرة بالالتفات:
  • أوَّلها: مسألة وقوع الطلاق الصريح بدون اشتراط النيَّة؛ فقد خالف بعض الفقهاء — خصوصًا من المذهب الحنفي — في هذه المسألة الأصول العامَّة التي بُنِي عليها معظم أحكام الشريعة، وفاضت بها نصوص الكتاب والسنة كالأصل المقرَّر لعدم تكليف المُكرَه والغافل والمخطئ، وأخرج الطلاق من مشمول هذا الأصل؛ فقضى بوقوعه على المُكرَه والمخطئ والهازل والسكران مع تعريفهم السكران بأنه هو الذي لا يميِّز السماء من الأرض.

    وظاهر أن أهل هذا الرأي لم يعوِّلوا على النيَّة التي هي أساس الدين الإسلامي، كما يُستفاد من حديث «إنما الأعمال بالنيَّات»، كما أنهم لم يلتفتوا إلى قصد الشارع في أن الطلاق محظور في الأصل، وأنه أبغض الحلال عند الله، وقد عللوا نفاذ الطلاق في الأحوال التي أشرنا إليها بأسباب أذكرها للقارئ، وأترك له مسئولية الحكم عليها.

    قرأت في كتاب الزيلعي ما معناه «إن طلاق الهازل والمخطئ يقع؛ لأن لفظ الطلاق ذُكِرَ على لسان الزوج، وإن طلاق المكره يقع؛ لأنه عرف الشرين واختار أهونهما، وأمَّا السبب في وقوع طلاق السكران؛ فلأنه ارتكب معصيَّة فيكون نفاذ الطلاق زجرًا له.»٢

    ولكنا نحمد الله على أن في المذاهب الإسلاميَّة الأخرى ما يخالف ذلك ويتفق مع أصول الشريعة ومصلحة العامَّة ويمكن لمُرِيد الإصلاح أن يأخذ به فيقرِّر بعدم صحَّة الطلاق الذي يقع في تلك الأحوال.

  • ثانيها: أن الطلاق الذي نصَّ عليه القرآن هو واحد رجعي دائمًا. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ. وقال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا.

    ولكن قسَّم الفقهاء الطلاق إلى صريح وبالكناية، وقالوا بالطلاق الصريح تقع واحدة رجعية ولو نوى أكثر من واحدة أو نوى واحدة بائنة، أمَّا بالكناية فيكون الطلاق بائنًا لا تصحُّ بعده الرجعة ولا تحلُّ الزوجة إلَّا بعقد جديد إلَّا في بعض ألفاظ استثنوها، ويقع بها الطلاق ثلاثًا إن نوى الثلاث.

    إلَّا أنه يوجد في مذهب آخر كمذهب الشافعي أن الكنايات جميعها رجعية، ووجه الحق في هذا المذهب ظاهر؛ فإنما الطلاق طلاق على كل حال، وهو فصل عصمة المرأة من الرجل، فاختلاف الألفاظ بالنسبة إلى هذا المعنى إنما هو اختلاف عبارة لا يصحُّ أن يتعلَّق به اختلاف حكم، ولو سلم اختلاف الأحكام باختلاف الألفاظ في مثل هذا الباب لكان الأوجه أن يكون حكم الكناية أخفَّ من حكم الصريح.

  • ثالثها: اتَّفق أغلب المذاهب على أن الطلاق ثلاثًا متفرقة في حيض واحد أو في مرَّة واحدة وبلفظ واحد يقع ثلاثًا، على أن هذا النوع من الطلاق الذي اعترف الفقهاء أنفسهم بأنه بدعي — أي مخالف للكتاب والسُّنَّة — لا يمكن تصوُّره على الكيفية التي قررها الفقهاء ونصوص القرآن كلها تأبى تأويلهم. قال تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وجاء في تفسير هذه الآية في كتاب حسن الأسوة: «وإنما قال سبحانه مرَّتان ولم يقل طلقتان؛ إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرَّة بعد أخرى لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسِّرين.» وجاء فيه أيضًا: «قد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل تقع ثلاثًا أو واحدة فقط؛ فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني مَن عداهم وهو الحق، وقد قرَّره العلَّامة الشوكاني في مؤلَّفاته تقريرًا بالغًا وأفرده برسالة مستقلَّة، وكذا الحافظ ابن القيم في إغاثة اللهفان، وإعلام الموقِّعين.»٣

    وجاء في ابن عابدين: «وعن الإمامية لا يقع بلفظ الثلاث ولا في حالة الحيض؛ لأنه بدعة محرَّمة»، وعن ابن عباس يقع به واحدة وبه قال ابن إسحاق وطاووس وعكرمة؛ لما في مسلم أن ابن عباس قال «كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة؛ فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، وذهب جمهور الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثًا.» قال «في الفتح بعد سوق الأحاديث الدالة عليه: وهذا يعارض ما تقدَّم، وأمَّا إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفة الصحابة له، وعلمه بأنها كانت واحدة فلا يمكن إلَّا وقد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لذلك لعلمهم بإناطته بمعانٍ علموا انتفاءها في الزمن المتأخِّر.»

    وقول بعض الحنابلة تُوفِّي رسول الله عن مائة ألف عين رأته فهل صحَّ لكم عنهم أو عن عشر عشر عشرهم القول بوقوع الثلاث باطل. أمَّا أولًا فإجماعهم ظاهر؛ لأنه لم يُنقَل عن أحد منهم أنه خالف عمر حين أمضى الثلاث، ولا يلزم في نقل الحكم الإجماعي عن مائة ألف تسمية كلٍّ في مجلد كبير لحكم واحد على أنه إجماع سكوتي.٤
    وقد رُوِي في هذه المسألة من الأحاديث ما لا يدع شكًّا في أن الطلاق الثلاث في مجلس واحد لا يقع إلَّا واحدة. جاء في الزيلعي: «وقال ابن عباس أُخبِرَ رسول الله عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان ثمَّ قال: أُيلعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم.» ذكره القرطبي ورواه النسائي.٥ وجاء فيه أيضًا: «وذهب أهل الظاهر وجماعة منهم الشيعة إلى أن الطلاق الثلاث جملة لا يقع إلَّا واحدة لما رُوِي عن ابن عباس أنه قال: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر — رضي الله عنهما — واحدة فأمضاه عليهم عمر» رواه مسلم والبخاري.» وروى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: «طلَّق ركانة بن عبد يزيد زوجته ثلاثًا في مجلس واحد فحزن عليها حزنًا شديدًا» فسأله عليه الصلاة والسلام: «كيف طلَّقتها؟» قال: «طلَّقتها ثلاثًا في مجلس واحد.» قال: «إنما تلك طلقة فارتجعها.»٦

يرى القارئ من هذه العبارات التي بسطناها ليحصل لنفسه منها رأيًا أن علماء مذهب عظيم كمذهب ابن حنبل لم يعوِّلوا على قضاء عمر بل تمسَّكوا بنصوص القرآن وسُنَّة النبي، ويمكن للأمَّة إذا أرادت الإصلاح أن تأخذ بقولهم؛ لأن عمر قد بيَّن لنا سبب قضائه بقوله: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم»؛ فكأنه اجتهد في جعله عقوبة لردعهم عنه، وكلُّنا نعلم أنه لم ينشأ من اجتهاد عمر إلَّا استهتار العامَّة بلفظ الطلاق الثلاث، وتهافتهم عليه في محاوراتهم وإيمانهم.

بل لِمَ لا يأخذ مريد الإصلاح بمذهب الإمامية الذي نقله ابن عابدين وهو مذهب الأئمة من آل البيت في قولهم كما مرَّ: «إن الطلاق لا يقع بالطلاق الثلاث ولا في الحيض؛ لأنه بدعة محرَّمة.»

وإن سمح لي القارئ أن أبدي هنا كل ما أظنُّه صوابًا، أقول لا يمكنني أن أفهم أن الطلاق يقع بكلمة لمجرَّد التلفُّظ بها مهما كانت صريحة. نعم إن الأعمال الشرعية لا تستغني عن الألفاظ؛ إذ لو حللنا أي عقد لوجدناه مركبًا من ظهور إرادة، أو مطابقة إرادتين حصل الاستدلال عليها أو عليهما من ألفاظ صدرت شفاهيًا أو بالكتابة؛ ولذلك فليس الغرض الاستغناء عن الألفاظ، وإنما مرادنا أن اللفظ لا يجب الالتفات إليه في الأعمال الشرعية إلَّا من جهة كونه دليلًا على النيَّة؛ فينتج من ذلك أنه يجب أن يفهم أن الطلاق إنما هو عمل يُقصَدُ به رفع قيد الزواج، وهذا يفرض حتمًا وجود نية حقيقية عند الزوج وإرادة واضحة في أنه إنما يريد الانفصال من زوجته. لا أن يفهم كما فهمه الفقهاء وصرَّحوا به في كتبهم أن الطلاق هو التلفُّظ بحروف «ط ل ا ق».

والذي يطَّلع على كتبهم يندهش عندما يرى اشتغالهم بتأويل الألفاظ والتفنُّن في فهم معانيها في ذاتها بقطع النظر عن الأشخاص، وعندهم متى ذُكِرَ اللفظ تمَّ الأثر الشرعي؛ ولهذا قصروا أبحاثهم جميعها على الكلمات والحروف، وامتلأت الكتب بالاشتغال بفهم طلَّقتُكِ وأنتِ طالِقٌ، وأنتِ مُطَلَّقةٌ، وعليَّ الطلاق، وطلَّقت رجلك أو رأسكِ أو عرقك وما أشبه ذلك، وصارت المسألة مسألة بحث في اللفظ والتركيب ربَّما كان مفيدًا للغة والنحو، ولكنه لا يفيد مطلقًا علم الفقه بشيء.

على أننا نظنُّ أن علم الشرائع يقبل أبحاثًا أخرى غير تأويل الألفاظ، والطلاق لم يخرج عن كونه عملًا شرعيًّا يترتَّب عليه ضياع حقوق، وإنشاء حقوق جديدة وهو في حدِّ ذاته لا يقلُّ عن الزواج في الأهمية؛ حيث يتعلَّق به أعظم الحوادث المدنيَّة كالنسب، والميراث، والنفقة، والزواج. فالاستخفاف به إلى هذا الحدِّ أمر يدهش حقيقة كلَّ مَن له إلمام ولو سطحي بالوظيفة السامية التي تؤدِّيها الشرائع في العالم.

ولو ترك فقهاؤنا الاشتغال بالألفاظ وبحثوا في مآخذ الأحكام التي يقرِّرونها وعرفوا تاريخها وأسبابها، وقارنوا المذاهب بعضها ببعض وانتقدوها، وبالجملة لو اشتغلوا بعلم الفقه الحقيقي؛ لتبيَّن لهم أن الطلاق لا يكون طلاقًا إلَّا إذا كان مصحوبًا بنيَّة الانفصال.

ويمكن لناظر أن يجد في كتب الشريعة الإسلاميَّة ما يفيد عدم صحَّة الطلاق إذا فُقِدَت نيَّة الانفصال؛ فقد نُقِلَ عن شرح التلقين: «إن الرجل لو طلَّق زوجته بكلمة أو كلمات في حال الغضب أو النزاع لا يقع طلاقه.» ورووا في ذلك أحاديث مثل قول علي بن أبي طالب: «مَن فرَّق بين المرء وزوجته بطلاق الغضب أو اللجاج فرَّق الله بينه وبين أحبائه يوم القيامة. قاله الرسول عليه الصلاة والسلام.»

نعم، إن ناقل هذا القول اجتهد في ردِّه وبالغ في إبطاله، ولكن مريد الإصلاح له أن يبحث في كتب الشرع كلِّها، ويقف على آراء الفقهاء مهما كانت خصوصًا إذا كان قصده محو فساد عظيم صار ضرره عامًّا.

نحن في زمان ألِف الرجال فيه الهذر بألفاظ الطلاق فجعلوا عصم نسائهم كأنها لعب في أيديهم يتصرَّفون فيها كيف يشاءون، ولا يرعون للشرع حرمة ولا للعشرة حقًّا؛ فترى الرجل منهم يناقش آخر فيقول له إن لم تفعل كذا فزوجتي طالق فيخالفه؛ فيُقال وقع الطلاق، وانفصمت العصمة بين الحالف وزوجته وهي لا تعلم بشيء ما ولا تبغض زوجها، ولا تودُّ فراقه، بل ربما كان الفراق ضربة قاضية عليها، وكذلك الرجل ربَّما كان يحبُّ زوجته ويألم لفراقها، فإذا افترق منها بتلك الكلمة التي صدرت منه لا يقصد الانفصال من زوجته وإنما بقصد إلزام شخص آخر بالعمل الذي كان يريده كان الطلاق على غير نيَّة منه.

رُبَّ رجلٍ يناقش زوجته في بعض شئون البيت فيَرد على لسانه في وقت الغضب الحلف بالطلاق من باب التخويف والتهديد، وعلى غير قصد منه لهدم العصمة، فيُقال أيضًا وقع الطلاق، ويعقبه أيضًا ما سبق ذكره من البلاء الذي ينزل على الزوجين.

ورُبَّ فلاح يرتكب جريمة السرقة مثلًا فيسأله العمدة أو مأمور المركز عما وقع منه فينكر، فيستحلفه بالطلاق فيحلف أنه ما سرق، والحال أنه سرق، فيُقال كذلك وقع الطلاق وهو لم يقصد بيمينه إلَّا تبرئة نفسه، ولم يخطر بباله عند الحلف أنه مباغض لزوجته كارهًا لعشرتها.

فلمَ لا يجوز مع ظهور الفساد في الأخلاق، والضعف في العقول، وعدم المبالاة بالمقاصد أن يُؤخذ بقول بعض الأئمة من أن الاستشهاد شرط في صحَّة الطلاق كما هو شرط في صحَّة الزواج كما ذكره الطبرسي، وكما تشير إليه الآية الواردة في سورة الطلاق؛ حيث جاء في آخرها: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ.

أليس هذا أمرًا صريحًا بالاستشهاد يشمل كلَّ ما أتى قبله من طلاق ورجعة وإمساك وفراق؟ أليس قصد الشارع أن يكون للطلاق واقعة حال مشهورة لدى العموم ليسهل إثباته؟ لِمَ لا نقرِّر أن وجود الشهود وقت الطلاق ركن بدونه لا يكون الطلاق صحيحًا، فيمتنع بهذه الطريقة هذا النوع الكثير الوقوع من الطلاق الذي يقع الآن بكلمة خرجت على غير قصد ولا رويَّة في وقت غضب؟ نظنُّ أن في الأخذ بهذا الحكم موافقة لآية من كتاب الله، ورعاية لمصلحة الناس، وما يدرينا أن الله سبحانه وتعالى قد اطلع على ما تصل إليه الأمَّة في زمان كزماننا هذا، فأنزل تلك الآية الكريمة لتكون نظامًا لنا نرجع إليها عند مسيس الحاجة كما هو شأننا اليوم.

بل إن أرادت الحكومة أن تفعل خيرًا للأمَّة، فعليها أن تضع نظامًا للطلاق على الوجه الآتي:
  • المادة الأولى: كلُّ زوج يريد أن يطلِّق زوجته، فعليه أن يحضر أمام القاضي الشرعي أو المأذون الذي يقيم في دائرة اختصاصه، ويخبره بالشقاق الذي بينه وبين زوجته.
  • المادة الثانية: يجب على القاضي أو المأذون أن يرشد الزوج إلى ما ورد في الكتاب والسُّنَّة مما يدلُّ على أن الطلاق ممقوت عند الله، وينصحه ويبيِّن له تبعة الأمر الذي سيُقْدِمُ عليه، ويأمره أن يتروَّى مدَّة أسبوع.
  • المادة الثالثة: إذا أصرَّ الزوج بعد مضي الأسبوع على نية الطلاق فعلى القاضي أو المأذون أن يبعث حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة، أو عدلين من الأجانب إن لم يكن لهما أقارب ليصلحا بينهما.
  • المادة الرابعة: إذا لم ينجح الحكمان في الإصلاح بين الزوجين، فعليهما أن يقدِّما تقريرًا للقاضي أو المأذون، وعند ذلك يأذن القاضي أو المأذون للزوج في الطلاق.
  • المادة الخامسة: لا يصحُّ الطلاق إلَّا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون، وبحضور شاهدين، ولا يُقبَلُ إثباته إلَّا بوثيقة رسمية.

والذي يتأمَّل في الآيات التي سبق ذكرها في الاستشهاد والتحكيم يرى أن نظامًا مثل هذا ينطبق على مقاصد الشريعة ولا يخالفها في شيء، وليس لمعترض أن يحتجَّ بأن نظامًا مثل هذا يسلب الزوج حقه في الطلاق؛ لأن حقَّ الزوج في الطلاق باقٍ على ما هو عليه الآن؛ فهو الذي يملك عصمة الزواج، وأسباب الفراق لا تزال متروكة لتقديره، وغاية ما في الأمر أننا اشترطنا أن يسبق الطلاق تحكيم الحكمين، ونصيحة القاضي، وليس في هذا تعدٍّ على حق من حقوق الزوج، وإنما هو وسيلة للتروِّي والتبصُّر اتُّخذت لمصلحة المرأة وأولادها، بل ولمصلحة الزوج نفسه؛ حيث نرى كثيرًا من الأزواج يأسفون على وقوع الطلاق منهم على غير رويَّة ثمَّ يضطرون إلى استعمال الحيل الدنيئة كالمستحل مثلًا لمداواة طيشهم.

ألا يرى أفاضل الفقهاء أن مثل هذه الطريقة البسيطة تترتَّب عليها منفعة عظيمة؛ هي تقليل عدد الطلاق، فضلًا عما فيها من اتباع أوامر الله، وتنفيذ حكم مهم مثل حكم التحكيم المنصوص عنه في الآية التي ذكرناها، واتباع أمر شرعي بقي معطلًا إلى الآن؛ حيث لم نسمع بإجرائه يومًا خصوصا في أمَّة كأمتنا بلغ أمرها من فساد الأخلاق والطيش إلى حدِّ أن الرجل يحلف بالطلاق وهو يأكل ويشرب ويمشي ويضحك ويتشاجر ويسكر وامرأته جالسة في بيتها لا تعلم شيئًا مما جرى في الخارج بينه وبين غيره.

دلَّت إحصائية الطلاق عن مدينة القاهرة في مدَّة الثماني عشرة سنة الأخيرة على أن كل أربع زوجات يُطلَّق منهن ثلاث وتبقى واحدة فقط. وإليك بيانها بالتفصيل:

سنة (ﻫ) زواج طلاق
١٢٩٨ ١٣٦٠١ ٦٩٠٢
١٢٩٩ ٤٩٠٠ ٤١٥٢
١٣٠٠ ٤٣٥٠ ٤٦٤٨
١٣٠١ ٣٤٠٠ ٤٠٠٠
١٣٠٢ ٤٧٠٠ ٥٢٥٠
١٣٠٣ ٤٧٤٩ ٥٥٠٠
١٣٠٤ ٤٨٥٠ ٤٦٩٨
١٣٠٥ ٤٧٤٩ ٥٣٥٠
١٣٠٦ ٥٠٠٠ ٥٨٥٠
١٣٠٧ ٥٧٠٠ ٤٧٠٠
١٣٠٨ ٦٧٥٠ ٥٩٠٠
١٣٠٩ ٦٩٠٠ ٥٥٤٨
١٣١٠ ٧١٠٠ ٥٨٤٧
١٣١١ ٧٤٠٠ ٥٢٨١
١٣١٢ ٨٢٥٠ ٤٦٥٠
١٣١٣ ١٤٢٥٠ ٤٦٠٠
١٣١٤ ٨١٥٠ ٤٣٠٠
١٣١٥ ٨١٤٨ ٤٠٠٠

وأذكر هنا إحصائية أخرى عمومية عن عدد الطلاق والزواج الذي حصل في عموم القطر المصري في سنة ١٨٩٨:

سنة (ﻫ) زواج طلاق
١٨٩٨ ١٢٠٠٠٠ ٣٣٠٠٠*
هذه الإحصائية استخرجها من دفاتر المحاكم الشرعية حضرة عامر أفندي إسماعيل الموظَّف بنظارة الحقانية والمنتدب الآن بالمحكمة الشرعية الكبرى.

ومنها يظهر أن كل أربع زوجات تُطلَّق منهن واحدة وتبقى ثلاث؛ وهذه النتيجة وإن كانت أحسن من الأولى بسبب أنها تشمل سكان الأرياف الذين لا يطلَّقون مثل أهل مصر إلَّا أن كليهما من أقوى الحجج على اضمحلال حال العائلات عندنا وسهولة تهدُّم بنائها.

ومن الغني عن البيان أن المرأة إذا ترقَّت وشعرت بجميع ما لها من الحقوق؛ فإنها لا تقبل أن تُعامَل بطرق القسوة والإهانة التي تُعامَلُ بها وهي جاهلة، وعند ذلك يحسُّ الرجال أنفسهم بأنه ليس من اللائق بهم أن يستعملوا حق الطلاق الذي وكَّله الله بأمانتهم إلَّا عند الضرورة التي شُرِعَ الطلاق لأجلها؛ فتربية النساء مما يساعد على إصلاح أخلاقنا وتأديب ألسنتنا؛ فإن الرجل يحتقر المرأة الجاهلة ولكنه يشعر رغمًا عن إرادته باحترام المرأة إذا وجد منها عقلًا ومعرفة وعلوًّا في الأخلاق؛ فيعفُّ لسانه عن ذكر ما لا يليق بها، ويؤدِّي لها حقوقها.

ولكن لا يجمل بنا أن ننتظر ذلك الزمان الذي يبلغ فيه النساء بالتربية والتهذيب ما يملأ قلوب الرجال من توقيرهنَّ واحترامهنَّ بل يجب على كلِّ مَن يهتمُّ بشأن أمته أن ينظر في الطرق التي تخفف من مضار الطلاق إلى أن يأذن الله بتلك الغاية التي هي منتهى كل غاية، وقد بيَّنا أن مجموع المذاهب الإسلاميَّة قد حوى من الأحكام ما يساعد على وضع حدود تقف عندها العامَّة، وتكون مراعاتها من الوسائل إلى تقدُّمنا في طريق الصلاح. وأقل ما يكون من أثرها ألا تجد المفاسد سبيلًا من الشرع إلى ظهورها؛ فبذلك يكمل نظام العائلة، وتعيش المرأة في طمأنينة وراحة بال، ولا تكون في كل آنٍ مُهدَّدة بفقد مكانتها من العائلة بسبب وبلا سبب.

ولكن لنا أن نلاحظ أنه مهما ضيَّقنا حدود الطلاق فلا يمكن أن تنال المرأة ما تستحق من الاعتبار والكرامة إلَّا إذا مُنِحَت حقَّ الطلاق، ومن حسن الحظ أن شريعتنا النفيسة لا تعوقنا في شيء مما نراه لازمًا لتقدُّم المرأة، والوصول إلى منح المرأة حق الطلاق يكون بإحدى طريقتين:
  • الطريقة الأولى: أن يجري العمل بمذهب غير مذهب الحنفية؛ الذي حرم المرأة في كل حال من حق الطلاق؛ حيث قال الفقهاء من أهله: «إن الطلاق مُنع عن النساء لاختصاصهنَّ بنقصان العقل ونقصان الدين، وغلبة الهوى.» مع أن هذه الأسباب باطلة؛ لأن ذلك إن كان حال المرأة في الماضي فلا يمكن أن يكون حالها في المستقبل؛ ولأن كثيرًا من الرجال أحطُّ من النساء في نقصان الدين، والعقل، وغلبة الهوى، واستدلَّ على ذلك بملاحظة وردت عليَّ عند اطلاعي على إحصائية الطلاق في فرنسا؛ فقد رأيت أنه في سنة ١٨٩٥ حكمت المحاكم الفرنساويَّة بالطلاق في ٩٧٨٥ قضية منها سبعة آلاف تقريبًا حُكِمَ فيها بالحق للنساء؛ حيث ثبت أمام المحاكم أن العيب كان من الرجال.

    ولا يصحُّ في الحق أن شريعة سمحاء عادلة كشريعتنا تسلب المرأة جميع الوسائل التي تبيح لها التخلُّص من زوج لا تستطيع المعيشة معه كأن كان شريرًا، أو من أرباب الجرائم، أو فاسقًا، أو غير ذلك مما لا يمكن معه لامرأة سليمة الذوق والأخلاق أن ترضى بعشرته.

    وقد وفَّى مذهب الإمام مالك للمرأة بحقِّها في ذلك، وقرَّر أن لها أن ترفع أمرها إلى القاضي في كل حالة يصل لها من الرجل ضرر.

    جاء في كتاب البهجة في شرح التحفة لأبي الحسن التسولي ما يأتي:

    إن الزوجة التي في العصمة إذا أثبتت ضرر زوجها بها بشيء من الوجوه المتقدِّمة، والحال أنها لم يكن لها بالضرر شرط في عقد النكاح من أنه إن أضرَّ بها فأمرها بيدها فقيل لها أن تطلق نفسها بعد ثبوت الضرر عند الحاكم من غير أن تستأذنه في إيقاع الطلاق المذكور؛ أي لا يتوقَّف «تطليقها نفسها على إذنه لها فيه»، وإن كان ثبوت الضرر لا يكون إلَّا عنده، كما أن الطلاق المشترط في عقد النكاح أي المعلَّق على وجود ضررها لها أن توقِّعه أيضًا بعد ثبوته بغير إذنه وظاهره اتفاقًا، وقيل حيث لم يكن لها شرط به لها أن توقع الطلاق أيضًا لكن بعد رفعها إيَّاه للحاكم.

    وبعد أن يزجره القاضي بما يقتضيه اجتهاده من ضرب أو سجن أو توبيخ ونحو ذلك ولم يرجع عن أضرارها، ولا تطلِّق نفسها قبل الرفع والزجر. ومنهم مَن قوله إن الطلاق بيد الحاكم فهو الذي يتولَّى إيقاعه إن طلبته الزوجة، وامتنع منه الزوج، وإن شاء الحاكم أمرها أن توقعه. فعلى هذا القول لا بُدَّ أن يوقعه الحاكم أو يأمرها به فتوقعه، وإذا أمرها به فهي نائبة عنه في الحقيقة، كما أنه هو نائب عن الزوج شرعًا حيث امتنع منه، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنها توقع الطلاق دون أمر الإمام. قال بعض الموثَّقين: والأول أصوب.

  • الطريقة الثانية: أن يستمرَّ العمل على مذهب أبي حنيفة، ولكن تشترط كل امرأة تتزوَّج أن يكون لها الحق في أن تطلِّق نفسها متى شاءت أو تحت شرط من الشروط؛ وهو شرط مقبول في جميع المذاهب.

    وهذه الطريقة أفضل من الأولى من بعض الوجوه؛ فإن المضار الحقيقية التي تتَّفق كلُّ النساء في التحفُّظ منها، وبذل المستطاع في اتقائها ما لا يكون سببًا يسمح للقاضي أن يحكم بالطلاق في مذهب مالك؛ وذلك كتزوُّج الرجل بامرأة أخرى وزوجته الأولى في عصمته، فإن الزوجة الأولى لو رفعت شكواها إلى القاضي وطلبت منه أن يطلِّقها لم يَجُز للقاضي أن يجيب طلبها، فلو اشترطت أن تطلِّق نفسها متى شاءت أو عندما يتزوَّج زوجها عليها كان الأمر بيدها، ولكن العمل على الطريقة الأولى أحكم وأحزم؛ فإن وضع الطلاق تحت سلطة القاضي أدعى إلى تضييق دائرته، وأدنى إلى المحافظة على نظام الزواج.

    ولمَّا كان تخويل الطلاق للنساء مما تقتضيه العدالة والإنسانية لشدَّة الظلم الواقع عليهنَّ من فئة غير قليلة من الرجال لم تتحلَّ أرواحهم بالوجدانات الإنسانيَّة السليمة كان لي الأمل الشديد في أن يحرِّك صوتي الضعيف همَّة كلِّ رجل محبٍّ للحق من أبناء وطني خصوصًا من أولياء الأمور إلى إغاثة هؤلاء الضعيفات المقهورات الصابرات.

١  صحيفة ٥٧٢ جزء ٢.
٢  صحيفة ١٩٥ جزء ٢.
٣  صحيفة ١٦.
٤  صحيفة ٥٧٦ جزء ثانٍ.
٥  صحيفة ١٩٠ جزء ثانٍ.
٦  صحيفة ١٩١ جزء ثانٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤