كلمة …

ضع محلَّ هذهِ النقطِ النعتَ الذي تُريدهُ، فأنا قدْ حلفتُ أنْ لا أكتبَ مقدمةً لكتابٍ من كتبي، وأبيتُ أنْ أستجدي المقدماتِ ولو من أفلاطون، وامتنعتُ عنْ أن أُقدِّمَ شاعرًا أو كاتبًا إلى القارئ، وسواء عندي أكان قد خملَ ذكرُهُ أم طارَ صيته حتى اختفى خلف الغيوم.

أعود فأقول لك هذه كلمة لا مقدِّمة، إنها كلمة أريد أن «أعترف» لك بها، فأطلعك في هذا الديوان على نزعاتي كلها، بل على دخيلة نفسي، حتى على «الأسرار» المكتومة منها.

وبعدُ، فاعلم يا عزيزي — رعاكَ اللهُ وحفظني وحفظكَ — أن ديواني هذا ليس سلَّةَ مشمشٍ «لِأوجِّهَها» لك، فلا أنا بائعٌ ولا أنت شارٍ، لا يا أخي، إنً هذا الديوان رسالة … عفوًا! هو فكرةٌ عشتُ بها زمنًا رغدًا، وما زلت أحِنُّ إليها، وأنا على هواها. حالي معها كحالِ الرجلِ معَ صاحبتهِ، قد تتنكَّر له، وقد يجفوها، ولكنَّهما في الحالينِ، حال الرضا والغضب، واليسر والعسر، حبيبانِ، ودودانِ، متيَّمان، مولَّهان، ولولا ذلك لم يتشاكسا، أؤكِّد لك أني لم «أحرد» يومًا كاملًا، أي لم تغربِ الشمسُ على غضبي؛ ولهذا ها أنا أضع بين يديك الكريمتين قصائدي، كما قلتها في وقتها، لم أحكك ولم أنقِّح إلا في قصائد معلومات، وأنت — لا شك — تعرفهنَّ بلا عناء، إِنَّ سيماءهنَّ في وجوههنَّ.

فبعض القصائد التي ترى، لك أن تسمِّيها خطبًا — إذا شئت — استخدمت لتؤدي فكرة ثائرة كانت تتَّقد في نفسي ولما تزل، ففيها الشعر وفيها النثر، وأنا أعرف منها ما ستعرف أنت، ولكنها في كل حالٍ تقضي لبانة من تعرض وصله.

فإليك إِذَنْ، مارون الشاعر في كل أطواره، بعجرِه وبجره، كما كانوا يعبِّرون، فارتع — آجرك الله وأجزل ثوابك — في هذهِ الجنَّة الغنَّاء، ولك أن تقول فيها بعدئذ ما شئت.

هذا هو مارون عبود الشاعر، أما مارون عبود الناثر فهو رجل غير هذا، افَهمْ يا صاحبي، إن الناقد يعرف الذهب ويميِّزه، وإن عجز عن خلقه، فإن رأيتَ عند هذا المارون ما لا ينطبق على آرائه في الشعر، حين ينتقد غيٍره، فكن متأكدًا أن مارون الناقد لن يرحم مارون الشاعر، فوالله، وبالله، وتالله، لأؤدبنًهُ أدبًا صارمًا، ولأحملنَّ عليهِ، كما حملتُ على غيرهِ، حملاتٍ غواشم، فهو يدَّعي أنهُ يؤدِّي رسالة منظومة لينجو من يدي، فلسوف أُرينَّهُ حين يقع ديوانهُ بين يديَّ، أن هذا الادعاء لا يعصمه ولا ينِّجِيهِ، سترى أنني سأري ذلك المارون الوقح كيف يكون النقد المرُّ، وإن يغضب فلا رحمه الله، ولتهتز عظامه في قبره، فكم أغضبت غيره من قبل، أما قيل: بالكيل الذي تكيلونَ يُكالُ لكم وأزود؟

انتظر يا قارئي، إنها ساعة لها ما بعدها في تاريخ النقد.

انتظر، انتظر، فما أقرب اليوم من غد!

يَخلقُ الشعرُ كلَّ يومٍ عَرُوسًا
مثلَما تخلقُ الخمورُ الحَبَابا
تتجلَّى لنا العَذارى فنكسُو
عريَّها من بيانِنا جلبابَا
لا تقولوا شِبْنَا، فما الشيبُ عيبٌ
إنَّ في الشِّيبِ مَنْ يبزُّ الشَّبَابا
رُبَّ شيخٍ ما انفكَّ عارضَ رمحٍ
وغلامٍ في ميعةِ العمرِ ذابا
رُبَّ شيخٍ ما شاخَ حزمًا وعزمًا
يتأبَّى لو استحالَ تُرابا
لو أَتَتْنا الحياةُ تَسْتَرْزِقُ العَزْمَ
خَلَعْنَا على الحياةِ شَبَابا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤